عنوان الفتوى : شروط التوبة مِن أخذ أموال العباد بغير حق
أنا شاب كنت لا أصلي أي غير مسلم، وعاص لله، أسأل الله أن يغفر لنا ويتجاوز عني، وقبل التوبة كنت آخذ بعض ما ليس لي، وتمتد يدي إلى ما لا يحق لي، ثم تبت إلى الله، وحججت ذاك العام، أسأل الله أن يتقبل منا، ولكن هناك مشكلتان؛ الأولى: أن هذه المظالم تؤرقني جداً جداً جداً ، وأنني لا بد من أن أرجعها لأهلها؛ رغم أني أعلم بعض أصحابها، والبعض لا أعلمه، والبعض أخشى من أن أخبره وأنا لا أعلم قيمة هذا المال أو الشيء، وأخشى أن لا يتقبل الله مني دعائي؛ لأنني أكلت حراما ولبست حراما، وهذا يجعلني حتى في دعائي أشعر بقليل من اليأس، وحاولت أن أرجع بعض ما أخذت من المال وأتحلل من بعضهم، ولكن هذه المظالم قتلتني، ولا أدري كيف السبيل إلى الخلاص منها، والأمر الآخر: هو أنني دائما يأتي إلي رزق من الله كثير، ولكن يذهب دون أن أحصل عليه بمعنى أن يأتي إلي أحدهم ويتفق معي على عمل معين، ثم سرعان ما يعتذر، أو تحدث مشكلة، ولا يتم العمل. لا أدري ما هو السبب حقيقة، رغم أني أصلي الصلوات ومحافظ عليها جماعة. وأكثر من ذكر الله، ولكن المظالم هي التي أتوقع أنها السبب. أفتوني، بارك الله فيكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يتقبل توبتك، وأن يمحو حوبتك، وأن يثبتك على الهدى، وينبغي لك أن تحسن الظن بالله، وأن تؤمل في عظيم فضله، ولتعلم أن من حيل الشيطان أن يملأ قلب العبد بالقنوط واليأس من رحمة الله، ولو بطريق تعظيمه لذنوبه السالفة ومبالغته في الحزن عليها ، فاحذر أن يتسلط عليك عدوك بهذه الحيلة، وانظر في هذا الفتوى رقم: 216739 .
وأما مظالم العباد: فإن من شروط التوبة مِن أخذ أموال العباد بغير حق التحلل من أصحابها: برد الحق إليهم، أو بنيل العفو والسماح منهم، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. أخرجه البخاري.
فمن كنت تعرفه من أصحاب الحقوق: فإنه يجب عليك أن ترد إليهم قدر ما أخذته منهم، وتجتهد في تقديره بما يغلب على ظنك براءة ذمتك به، والواجب أن يصل الحق إليهم بأي طريق، ولا يلزمك أن توصله لهم بنفسك، ولا أن تخبرهم بما صنعت. ولك كذلك أن تطلب العفو والصفح من الذين أخذت أموالهم، ولو دون أن تخبرهم بشخصك - كأن ترسل لهم رسالة بأن شخصا سرق منهم ويطلب منهم العفو -، فإن سامحوا فقد برئت ذمتك بذلك أيضا.
وأما من لم تعرفه ممن أخذت أموالهم: فإنك تتصدق عنهم بتلك الأموال، مع ضمانها لهم إذا عرفتهم يوما من الدهر.
ومتى فعلت ذلك صحت توبتك، وسلمت من تبعة الذنب في العاجل والآجل -إن شاء الله-، فلا تعاقب برد دعوتك، ولا بغير ذلك من أنواع العقوبات. جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح: وقال القرطبي في تفسيره حكاية عن العلماء: فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه، والخروج عنه عينا كان، أو غيره إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا عليه فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وهذا يدل على الاكتفاء بهذا، وأنه لا عقاب عليه للعذر والعجز، وقد أفتى بهذا بعض الفقهاء في هذا العصر من الحنفية والمالكية والشافعية وأصحابنا. اهـ. وانظر الفتوى رقم: 270721، والفتوى رقم: 109625.
واعلم أنه لا يلزم لإجابة الدعاء تحقق عين المدعو به؛ كما بيناه في الفتوى رقم: 201994.
واعلم كذلك أن على المؤمن أن يحاسب نفسه، ويتهمها، ويخشى أن يكون ما يصيبه مما يسوء عقابا له بمعاص اجترحها لم يصدق في التوبة منها، لكنه يقتصد في محاسبته لنفسه، ولا يغلو في تقريعها وتأنيبها، فإن ذلك قد ينتهي إلى به اليأس والقنوط، وهذا من حيل الشيطان ومكره بابن آدم.
وأما الشق الآخر من سؤالك: فما لم تنله لا يسمى رزقا لك أصلا، وما يدريك لعل صَرْف تلك الأعمال عنك خير لك، ولعل الله يعوضك ما هو خير لك منها، وفي إبطاء الرزق عن العبد امتحان لإيمانه، هل يصبر ويرضى، ويستعين بالله ويتوكل عليه في انتظار الرزق، أم يسخط ويجزع من القدر، ويقنط من رحمة الله فلا يسأل الله الرزق، ولا يتوكل عليه في جلبه؟.
وقد سبق أن بينا أسباب جلب الرزق، والحكمة من تفاوت الخلق في أرزاقهم، ووجه التوسعة على الفجار في الدنيا، وذكرنا ما يعين المسلم على الرضا بما قسمه الله له، فراجع ذلك كله في الفتاوى: 105462، 341872، 334846، 47005، 17831.
والله أعلم.