عنوان الفتوى : لا حرج في الحزن على المعصية ما لم يؤد إلى اليأس والقنوط من رحمة الله
أقضي معظم أوقاتي في القراءة عن التوبة، واستشارة الذين يريدون التوبة، لدرجة أنني أصبحت أبحث في الموضوع لثلاث سنوات؛ لأنني تائب وأريد من الله أن يقبلني ولا يعذبني. ولكن في مرات أحس أنني لو قضيت وقتي في القراءة عن مواضيع إسلامية أخرى لكان أنسب وأصح لكي أعرف المزيد عن الفتاوى والدين. فماذا أفعل لأنني كل ما أحزن، وأتذكر ذنوبي أبحث في مواضيع التوبة، وهذا إن لم يكن يوميا كان على الأقل أسبوعيا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الخوف من الله سبحانه وتعالى علامة على صدق الإيمان وأمارة على الإحسان، كما قال سبحانه: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]. وإن الأمن من مكر الله عز وجل وأليم عقابه هو شأن الخاسرين، كما قال سبحانه: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [لأعراف:99]. والمؤمن الحق لا ينسى ذنبه، ويشفق من مؤاخذة الله تعالى له؛ فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- أنه قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار.
فأبشر أيها الأخ الكريم بخوفك من ربك ومن مقامه وحسابه؛ فهذا أمارة من أمارات الخير، وإقبال الله تعالى على العبد؛ لأنه لو لم يكن يريد أن يرحمك ويتجاوز عنك لما وفقك للتوبة؛ وانظر الفتوى رقم: 5646.
ومع ذلك فإن عليك أن تحذر أشد الحذر من خروج الأمر عن حده لينقلب إلى صورة من صور اليأس والقنوط، فإن هذا باب من أبواب الشيطان ليفسد على الشخص حاله، وليقعده عن طاعة ربه, فإن الشيطان يأتي للعبد التائب فيذكره بذنوبه، ويسرد عليه غدراته وفجراته, ويقنطه من رحمة ربه ويقول له: متى يغفر الله لك وأنت الذي صنعت وصنعت؟ كل ذلك ليحزنه وليصرفه عن عبادة ربه، وليملأ قلبه بالوساوس والأوهام الباطلة، حتى ييأس من رحمة أرحم الراحمين, واليأس من رحمة الله صفة الكافرين والعياذ بالله؛ فقد قال سبحانه: وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف:87} وقال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {العنكبوت:23}.
فإذا أحس المرء ذلك من نفسه فليبادر إلى الالتجاء بالله سبحانه, والاستعاذة به من الشيطان ومن نزغه، وهمزه، ونفخه، ونفثه, وليذكر سعة رحمة الله سبحانه, وأنه سبحانه هو الغفور الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء, وهو سبحانه قد كتب كتابا فهو عنده فوق العرش أن رحمته سبقت غضبه, فعن أَنَس بْن مَالِكٍ- رضي الله تعالى عنه- أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً. رواه الترمذي وحسَّنه.
واعلم أن من أعظم أسباب علاج الوساوس والأوهام بعد الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه هو الإعراض عنها وعدم الاسترسال معها، ثم الاشتغال بعد ذلك بما يفيد وينفع من أمور الدين والدنيا, واتخاذ رفقة صالحة من الشباب المؤمن المتوضئ الذين يتعاونون معك على الخير، ففتش عنهم، وانخرط في سلكهم، واعبد الله معهم، وشاركهم في طلب العلم النافع، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ {الكهف:28}. واشهد الصلاة في جماعة، واجعل لك ورداً يومياً من كتاب الله تقرؤه بتدبر، فإنه شفاء لجميع أمراض القلوب والأبدان، قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا {الإسراء:82}، وحافظ على ذكر الله تعالى، وخصوصاً الأذكار الموظفة التي تقال في الصباح والمساء، وأدبار الصلوات، وعند النوم، وتجدها وغيرها في كتاب (حصن المسلم) للقحطاني، وأكثر من سماع الأشرطة الإسلامية، واتخذ برنامجًا لطلب العلم الشرعي الذي تصحح به عقيدتك وعبادتك؛ وانظر برنامجًا مقترحًا لطلب العلم في الفتوى رقم: 56544.
والله أعلم.