عنوان الفتوى : رؤية المؤمنين لله في الجنة مقابلة
هل يصح ويجوز أن يقال ويعتقد أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة مقابلة؟ وهل تجوز كلمة مقابلة لتحقيق رؤية الله ولا بأس بزيادتها واعتمادها؟ وهل علي شيء في تلك الزيادة المفسرة؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم يخطئ من استعمل هذه اللفظة لتقرير حقيقة رؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى في الآخرة، بل إن هذا اللفظ من اللوازم الصحيحة لإثبات رؤية الله تعالى بالبصر في الآخرة، وقد نفاها المعتزلة جملة وتفصيلا، وقاربهم بعض المبتدعة في المعنى وخالفهم في اللفظ! فأثبت رؤية الله تعالى في الآخرة، ونفى علوه على خلقه واستواءه على عرشه، فقال: هي رؤية بلا مقابلة ولا مواجهة، أو: رؤية لا من جهة!!! وأما أهل السنة فأثبتوا علو الله تعالى ورؤية المؤمنين له من جهة العلو، قال السجزي في رسالته إلى أهل زبيد: وقال الأشعري: إنّ الله سبحانه يرى يوم القيامة على الحقيقة ـ وأظهر الرد على من أنكرها، وأفصح في بعض كتبه أنه يُرى بالأبصار، وقال في موضع آخر: لا تختص الرؤية بالبصر، ولا تكون عن مقابلة، لأنّ ما يرى مقابلة كان جسماً!!! فهو إذا قال: إنه يرى بالأبصار لم يجز في العقل أن تكون عن غير مقابلة، وإن قال: إن الرؤية لا تختص البصر عاد إلى قول المعتزلة، وصارت الرؤية في معنى العلم الضروري، وقد حكي عن بعض متأخريهم أنه قال: لولا الحياء من مخالفة شيوخنا لقلتُ: إنّ الرؤية هي العلم لا غير. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: أهل الحديث والسنة المحضة متفقون على إثبات العلو والمباينة، وإثبات الرؤية. اهـ.
وقال قبل ذلك: أما إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، فهو قول سلف الأمة وأئمتها، وجماهير المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرها، وقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند علماء الحديث، وجمهور القائلين بالرؤية يقولون: يرى عيانا مواجهة، كما هو المعروف بالعقل. اهـ.
وقال: الذين قالوا: إن الله يرى بلا مقابلة! هم الذين قالوا: إن الله ليس فوق العالم، فلما كانوا مثبتين للرؤية نافين للعلو احتاجوا إلى الجمع بين هاتين المسألتين، وهذا قول طائفة من الكلابية والأشعرية، وليس هو قولهم كلهم، بل ولا قول أئمتهم، بل أئمة القوم يقولون: إن الله بذاته فوق العرش، ومن نفى ذلك منهم فإنما نفاه لموافقته المعتزلة في نفي ذلك ونفي ملزوماته. اهـ.
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: ليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيها لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه، وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟ ومن قال: يرى لا في جهة، فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابرا لعقله، أو في عقله شيء، وإلا فإذا قال: يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته، رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة، ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية، وقالوا: كيف تعقل رؤية بغير جهة؟!... وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه. اهـ.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء: المؤمنون يرون ربهم يوم القيامة في الجنة في جهة العلو، وأما القول بأنه يرى لا في جهة، فهو قول المبتدعة، وهو قول باطل يخالف ما ثبت في الأدلة من علو الله على خلقه. اهـ.
ومما يستدل به على أن رؤية الله تعالى تحصل مواجهة ومقابلة، قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا {الكهف: 110}.
قال ابن الوزير في العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم: قال علي بن المديني: سألت عبد الله بن المبارك، عن قوله تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ـ قال عبد الله: من أراد النظر إلى وجه خالقه، فليعمل عملا صالحا.. اهـ.
وقال ابن عثيمين في شرح كتاب التوحيد: وفي هذه الآية دليل على ملاقاة الله تعالى، وقد استدل بها بعض أهل العلم على ثبوت رؤية الله، لأن الملاقاة معناها المواجهة. اهـ.
وقال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية: تفسير اللقاء بأنه رؤية ليس فيها مواجهة ولا مقاربة، تفسير للفظ ما لا يعرف في شيء من لغات العرب أصلاً، ومن المعلوم أن التأويل لا يمكن إلا إذا كان اللفظ دالاً على المعنى في اللغة، وهذا اللفظ لا يدل على هذا المعنى في اللغة أصلاً. اهـ.
ومن ذلك حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحا.. الحديث. رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وحسنه الألباني.
وقوله: كِفاحًا ـ أي: مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول. قاله ابن الأثير في النهاية، والسندي في حاشيته.
والله أعلم.