عنوان الفتوى : أهمية وأثر الدعاء في حصول المطلوب
جزاكم الله خيرا، لو تفضلتم بفك الإشكال الذي أصبحت لا أستطيع فهمه، تراودني وساوس لا أستطيع سوى الاقتناع بها، ولم أعد أقوى على التخلص منها، رغم علمي بضلالها. أعلم أن الدعاء سبب ييسر الله سبحانه به للعبد مطلوبه في الدنيا، والثواب في الآخرة. وأعلم أن من الأقدار ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ، وهذا لا يتغير بحال، ومنها ما قد كتب في الصحف عند الملائكة، فهذا يدخل في حديث تعارك القدر، والدعاء، والمسألة التفصيلية فيه. وأعلم أن الدعاء عبادة، ينال بها العبد المنزلة عند الله، ومن لا يأتيها يناله غضب من الله تعالى، وأعلم أن الصبر من أسمى العبادات. سؤالي: أليس من الممكن أن يكون قد قدر لنا الدعاء دون حصول المطلوب؟ وهنا -أستغفر الله-ألن تفوت عبادة حسن الظن بالله تعالى، والتوكل، واليقين، والثقة بالإجابة، وتسليم الأمر كله لله. فمهما استشعرنا ذلك، يبقى جانب آخر أن ما سيحصل محتم وقوعه فعلنا أم لم نفعل، استشعرنا أم لا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، يضعف اللجأ لله، والافتقار إليه، وانتظار الفرج بعد الصبر، فلم الانتظار وقد يكون مقدرا عدم وقوع المطلوب؟ أليس الاعتقاد، والإيمان أن الأرزاق واقعة لا محالة، يبعث في النفس التكاسل عن الاجتهاد، والإلحاح بالدعاء، والتفاؤل بما بعد الصبر، أنا لا أقول لم الدعاء؟ بل أقول هذا الاعتقاد -أن الأقدار محتمة واقعة- يخلق فجوة بين العبد وربه، ويضعف صلته به سبحانه، واستشعاره معية الله له، فعندما يدعو في أمور الرزق، أو في أمور يومه الصغيرة وهي مقدرة فمثلاً: في الطريق يدعو أن يصل في الوقت، يدعو أن يوفق في عمله، يدعو أن يوفق في دراسته، ينجو من موقف، أن يتم له أمره، أن يسخر له فلان. فمع هذا الاعتقاد، فإن استشعاره بأن لدعائه أثرا يضعف، ويعتقد أنه قد يكون مقدرا له الدعاء دون تحقق ما يدعو به! الدعاء سبب، لكن ليس في كل حال؟ لا أعلم هل استطعت إيصال تلك الأفكار بما يكفي لتفهم، وأستغفر الله، لولا الحاجة للإرشاد والتوجيه، لما أظهرت هذه الوساوس، فقد استعذت بالله من الشيطان، واستغفرت الله العظيم، وحاولت طردها وتحاشيها، لكن لا زلت بحاجة للتفسير الشافي الذي يقوي إيماني، وأخشى البحث في الكتب؛ فتقع عيني على نقول أهل البدع، والشرك؛ فتستقر في ذهني، وتقوى الأفكار. ربما تهاونت في إعمال عقلي، وينبغي على التسليم، لكن فجأة أصبحت تغلبني هذه الوساوس، بالقدر الذي لا أستطيع معه ردعها، بل وصل بي الحال للتصديق، والاعتقاد بها. وأعتذر بشدة عن الإطالة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالدعاء سبب من أسباب حصول المقدور، فإن الله قدر حصول المقدور بأسباب من أقواها الدعاء، كما قدر حصول الشبع والري، بالأكل والشرب، ولا يقول عاقل إن الأكل والشرب، أثر ضعيف في حصول الشبع والري بسبب تخلفهما في بعض الأحيان، بسبب علة في الأكل والشرب، أو بسبب قِلَّتِهِمَا؛ فكذلك تخلف حصول المطلوب، لا يدل على ضعف أثر الدعاء في حصول المطلوب، بل قد يكون لوجود مانع منع حصوله.
ودعاء المرء ربه عز وجل بتضرع وإنابة وانكسار، وصدق التجاء واضطرار، وغيرها من العبادات التي تنال بها مرضاة الله، من أعظم أسباب تحقق المطلوب؛ فإن رضا الله، والتقرب إليه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، ومن علم ذلك، قوّى في قلبه -لا محالة- الالتجاء إلى الله، والافتقار إليه، والطمع فيما عنده سبحانه وتعالى.
وكذلك نحن نعلم أن كثيرا من الناس قد اضطروا إلى الدعاء، فاستجاب الله لهم، ودفع عنهم ضرهم، وكشف عنهم كربهم، فكيف يستشعر المسلم بعد ذلك ضعف أثر الدعاء.
وقد بيّن ذلك كله ابن القيم ـرحمه الله ـ أعظم بيان في الداء والدواء، حيث قال رحمه الله: وَهَاهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ: أَنَّ الْمَدْعُوَّ بِهِ، إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وُقُوعِهِ، دَعَا بِهِ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَقَعْ، سَوَاءٌ سَأَلَهُ الْعَبْدُ، أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ. فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ هَذَا السُّؤَالِ، فَتَرَكَتِ الدُّعَاءَ، وَقَالَتْ: لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَؤُلَاءِ مَعَ فَرْطِ جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، مُتَنَاقِضُونَ. فَإِنَّ طَرْدَ مَذْهَبِهِمْ، يُوجِبُ تَعْطِيلَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ، فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ: إِنْ كَانَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ قَدْ قُدِّرَا لَكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِمَا، أَكَلْتَ أَوْ لَمْ تَأْكُلْ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرَا لَمْ يَقَعَا أَكَلْتَ، أَوْ لَمْ تَأْكُلْ. وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قُدِّرَ لَكَ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَطِئْتَ الزَّوْجَةَ، أَوِ الْأَمَةَ أَوْ لَمْ تَطَأْ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَكُنْ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّزْوِيجِ وَالتَّسَرِّي، وَهَلُمَّ جَرَّا. فَهَلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ أَوْ آدَمِيٌّ؟ بَلِ الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ مَفْطُورٌ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَحَيَاتُهُ، فَالْحَيَوَانَاتُ أَعْقَلُ وَأَفْهَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ كَالْأَنْعَامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ...
وَالصَّوَاب أَنَّ هَاهُنَا قِسْمًا ثَالِثًا، غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمَقْدُورَ قُدِّرَ بِأَسْبَابٍ، وَمِنْ أَسْبَابِهِ الدُّعَاءُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ مُجَرَّدًا عَنْ سَبَبِهِ، وَلَكِنْ قُدِّرَ بِسَبَبِهِ، فَمَتَى أَتَى الْعَبْدُ بِالسَّبَبِ، وَقَعَ الْمَقْدُورُ، وَمَتَى لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ انْتَفَى الْمَقْدُورُ، وَهَذَا كَمَا قُدِّرَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَقُدِّرَ الْوَلَدُ بِالْوَطْءِ، وَقُدِّرَ حُصُولُ الزَّرْعِ بِالْبَذْرِ، وَقُدِّرَ خُرُوجُ نَفْسِ الْحَيَوَانِ بِذَبْحِهِ، وَكَذَلِكَ قُدِّرَ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِالْأَعْمَالِ، وَدُخُولُ النَّارِ بِالْأَعْمَالِ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْحَقُّ، وَهَذَا الَّذِي حُرِمَهُ السَّائِلُ، وَلَمْ يُوَفَّقْ لَهُ. وَحِينَئِذٍ فَالدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ، كَمَا لَا يُقَالُ: لَا فَائِدَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَجَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ أَنْفَعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَلَا أَبْلَغَ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ. وَلَمَّا كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَعْلَمَ الْأُمَّةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَفْقَهَهُمْ فِي دِينِهِ، كَانُوا أَقْوَمَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَشُرُوطِهِ، وَآدَابِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَسْتَنْصِرُ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَكَانَ أَعْظَمَ جُنْدَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَسْتُمْ تُنْصَرُونَ بِكَثْرَةٍ، وَإِنَّمَا تُنْصَرُونَ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ، وَلَكِنْ هَمَّ الدُّعَاءِ، فَإِذَا أُلْهِمْتُمُ الدُّعَاءَ، فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ، وَأَخَذَ الشَّاعِرُ هَذَا الْمَعْنَى فَنَظَمَهُ، فَقَالَ:
لَوْ لَمْ تُرِدْ نَيْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ مِنْ جُودِ كَفَّيْكَ مَا عَلَّمْتَنِي الطَّلَبَا
فَمَنْ أُلْهِمَ الدُّعَاءَ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْإِجَابَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ سُورَةُ غَافِرٍ : 60 ]. وَقَالَ: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [ ص: 18 ]. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِضَاءَهُ فِي سُؤَالِهِ وَطَاعَتِهِ، وَإِذَا رَضِيَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَكُلُّ خَيْرٍ فِي رِضَاهُ، كَمَا أَنَّ كُلَّ بَلَاءٍ وَمُصِيبَةٍ فِي غَضَبِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ أَثَرًا: أَنَا اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، إِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ، وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي مُنْتَهًى. وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ، وَلَعْنَتِي تَبْلُغُ السَّابِعَ مِنَ الْوَلَدِ.
وَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ، وَالنَّقْلُ، وَالْفِطْرَةُ، وَتَجَارِبُ الْأُمَمِ -عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا، وَمِلَلِهَا، وَنِحَلِهَا- عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَأَضْدَادَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِكُلِّ شَرٍّ، فَمَا اسْتُجْلِبَتْ نِعَمُ اللَّهِ، وَاسْتُدْفِعَتْ نِقْمَتُهُ، بِمِثْلِ طَاعَتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ.
وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حُصُولَ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحُصُولَ السُّرُورِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْأَعْمَالِ، تُرَتُّبَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَالْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ مَوْضِعٍ. انتهى.
وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتوى رقم: 51601.
والله أعلم.