أثر الصور (غير المنضبطة) في دمار الأسرة
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
أثر الصور (غير المنضبطة) في دمار الأسرةإنَّ الحمد لله، نحمده ونشكره ونستعين به، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، ونصلِّي ونسلِّم على خير خلقِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
خلَق الله سبحانه الخلقَ ووضع له سننًا يَسير عليها، وطبع الوجودَ بطابعٍ لا يتبدَّل ولا يتغيَّر ما دامتِ السماوات والأرض، إلى أن يرِث الله الوجودَ، فتشاء حكمتُه أن يبدِّل الأرض غير الأرض والسَّماوات، ويبرز الخلق أمامَ خالقهم، لتبدأ مَرحلةٌ جديدة، ووجودٌ جديد، وسنن جديدة.
والإنسان - كمخلوق في هذا الوجود - لا يشذُّ عن هذه القاعدة، فهو جزء منه، له سنن وطبائع لا تتبدَّل ولا تتغيَّر؛ ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30].
• والشَّهوة الجنسيَّةُ جزءٌ مِن طبيعته البشريَّة، تتجاوب في النَّفس مع رغباتها وميولِها، كلَّما تهيَّأت مقتضياها وأسبابها ودوافعها، وأي تغافل عن هذه الطَّبيعة، هو محاولةٌ لمعارضةِ أقوى ما في الطِّباع بأضعفِ ما فيها.
ومكلِّف الأشياءِ ضدَّ طباعها ♦♦♦ متطلِّبٌ في الماء جَذْوَةَ نار
ومع أنَّ هذه الحقيقة واضِحة كلَّ الوضوح، وبارِزة للعيان أمام مَن لديه أدنى مَعرفة بدين الله أو بطبائع البشر، فإنَّنا نجِد قومًا في هذا الزمان وفي كلِّ زمان لا يَستقيمون إلَّا على اعوِجاج، ولا تستقرُّ نفوسهم إلَّا على مُعارضة الآخرين، ولا يرَون الحقَّ إلَّا إذا خالَف معارضهم، وأصبحوا هم في وادٍ والناس في وادٍ آخَرَ، لا يعجبهم إجماعُ الأمَّة، ولا يأخذون بأقوال مَن سبَقهم، إلَّا إذا وافقَتْ أهواءهم وجماعتهم وحزبَهم، وسارت وَفْقَ مقتضياتهم، بعد أن يَضعوا عقولَهم في قوالب حديديَّة؛ ﴿ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [الروم: 29].
يقول الإمام ابن تيميَّة رحمه الله في كتابه القيِّم المفيد (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ص 8:
• "وهذا يُبتلى به كثيرٌ من المنتسِبين إلى طائفة معيَّنة في العلم، أو الدِّين، مِن المتفقِّهة، أو المتصوِّفة أو غيرهم، أو إلى رئيس معظَّم عندهم في الدين (غير النَّبي صلى الله عليه وسلم)؛ فإنَّهم لا يَقبلون مِن الدِّين - لا فقهًا ولا رواية - إلَّا ما جاءت به طائفتُهم، ثمَّ إنَّهم لا يعملون ما توجِبُه طائفتهم، مع أنَّ دين الإسلام يوجب اتِّباعَ الحقِّ مُطلقًا، رواية وفقهًا، من غير تَعيين شخص أو طائفة"[1].
وكلُّ العلماء في تاريخ هذه الأمَّة قد مَضوا على أنَّ مِقياس الحقِّ ما وافَقَ كتابَ الله وسنَّة رسوله وفهْمَ السَّلَف الصالح، حتى إنَّ كِبار الفقهاء مِن أصحاب المذاهب المعتبَرة ما كان يتجرَّأ أحدهم أن يَبتدع قولًا نَصَّ السلفُ الصالح على خِلافه، فكان يتخيَّر من أقوال الصحابة وغيرهم - الرأيَ الذي يَراه أقرب إلى الصَّواب، ثمَّ يجتهد في المسائل المستجدَّة، فما بالنا اليوم في قومٍ ولَغوا في الجَهْل يتجرَّؤون على أقوالٍ لم يسبقهم بها أحدٌ من أمَّة الإسلام - على اختلاف آرائها ومذاهبِها ومشاربها - ترتعد لها فرائصُ مَن في قلبه مِثقالُ ذرَّةٍ مِن إيمان، بل لا يَقبلها كافرٌ فيه غَيرةُ الرجال؟!
ونحن الآن أمام قضيَّة النَّظر إلى الصوَر الخليعة، والأفلام الهابِطة، التي أدخلَها قومٌ - أصلحهم الله - في دائرة الجدَل والخِلاف، مع أنَّها قضيَّة مَحسومة في هذا الدِّين، ولا ينبغي لِمن لدَيه أثارة مِن عِلمٍ أن يضعها على طاولة الجدل.
والفِطرة السَّليمة تدرِك مِن أعماقها أنَّ هذه الصور هي مِن أشد العوامل فَتْكًا في النفس البشرية، وأنَّها كلاليبُ لخَطْف الشباب إلى ساحة الرَّذيلة وميدان الفجور، ولكنَّ القوم مصرُّون - ببلادةِ إحساسهم، وسذاجة تفكيرهم، وميولهم بالطبع إلى الانغماس في الشهوات - على استحلالها؛ ﴿ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].
وهم بذلك يتَغافلون عن طَبيعة النَّفس البشريَّة، والغرائزِ الرَّاسخة في طِباع البشر، وميول الجنسين بعضهم لبعضٍ عند أدنى احتِكاك، والنظر هو الصَّاعق الذي يفجِّر هذه الطاقات، وصدَق الشاعرُ حين قال:
كلُّ البَلايا مَبدَاها مِن النَّظرِ ♦♦♦ ومُعظمُ النارِ مِن مُستصغَر الشَّررِ
هذه سنَّةُ الله في خَلْقه، وهذه الطَّبيعة راسِخة في آدم وحوَّاء وذريَّتهما، إلى أن يرِثَ الله الأرضَ ومَن عليها، ومَن كان في شكٍّ مِن هذا، فليطَّلِعْ على ما أحدَثتْه هذه الصور مِن دَمار في أوروبا وأمريكا، سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمعات بعمومها، وما تُحدثه اليوم في مجتمعاتنا عبر الفضائيات.
لقد نَشرَتْ صحيفةُ القدس على صفحاتها إحصائيَّات وآثارًا مدمِّرة - فتكت بالأسرة العربيَّة المسلمة والشباب عمومًا - يَشيب لها الوِلدان؛ ففي يوم الاثنين بتاريخ 26/ 3/ 2007م نشَرتِ الجريدةُ المذكورة أنَّ سبعين ألف حادِثة طلاق في مصر سجِّلتْ بسبب رؤية الأزواج لعدَد من الفنَّانات على شاشة التلفاز، وذلك كله في فترة محدودة! وتؤكِّد الدراسةُ أنَّ الفضائيات سرَقتْ كثيرًا من الأزواج مِن زوجاتهم، وكانت سببًا للخِلاف والتمزُّق الأُسري والعائلي داخلَ بيوت كثير من المسلمين؛ بل إلى هروب جَماعي للأزواج إلى شاشات الفضائيات كما ذكرتِ الصحيفة[2].
إنَّ كثيرًا مِن الشباب العربي والإسلامي يُمضون معظمَ أوقاتهم، ويستغلُّون فراغَهم في المكوث المتواصِل على شاشات أجهزة التكنولوجيا الحديثة، سواء على الكمبيوتر أو الهواتف النقَّالة المتطورة، أو على شبكات التواصل الاجتماعي، يُحرقون أوقاتهم في مشاهدة الصور المتهتكة، والأفلامِ الجنسية، ثم يبقى طيلةَ ليلته أو نهاره في حالةٍ مرتبكة ومتوترة، وشرود ذِهني، وربما يدفعه التفكير والوساوس الشيطانيَّة إلى التهوُّر والاندفاع نحوَ طُرق أو قنوات غير شرعية؛ لتفريغ طاقته التي ظلَّ فترة طويلة يستفزُّها ويغذِّيها ويوقد نارَها، بمشاهدة هذه المناظر التي سلَبتْ عقلَه وتفكيره.
إنَّ الصور الفوتوغرافية والفيديو والمجلَّات والمواد على الإنترنت - تشكِّل أداةً قوية تعمل على إحداث تغيرات مدمِّرة عند الشباب وأفرادِ الأسرة، وبالتالي على سلوكيَّات الشباب ونظرتهم تجاه المرأة، ولها آثارها السلبية على الأزواج وعلاقاتهم الزوجية[3].
ولا تقتصر آثارُ مشاهدة المناظر الإباحية على التدمير الخُلُقي والنَّفسي والسلوكي والعائلي؛ بل يصِل بها إلى أبعد من ذلك؛ "فقد نُشرتْ دراسةٌ طبية في جامعة (كامبريدج) أكَّدتْ أنَّ مُشاهدة هذه المناظر يسبِّب ارتفاعًا في نِسبة الغباء عند مَن يشاهدها ويدمِن عليها"[4].
ومع هذه الآثار المدمِّرة التي تُحدثُها الصور والأفلام الإباحية في الجنس البشري، على مستوى الأفراد والأسَر والعائلات، وبالتالي على المجتمع بشكلٍ عام، فإنه - مع الأسف الشديد - لم يحتلَّ هذا الموضوع مكانتَه التي يستحقُّها في كتابات الباحثين وعلماء المسلمين.
ومما أذهَلني أنني لم أرَ - حتى الآن - كتبًا مستقلَّةً تعالج هذا الموضوع مِن جميع جوانبه، وتضع له حلولًا عمليَّة للحدِّ من هذه الجريمة.
وسبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
د.
أحمد عزام
عضو الهيئة التدريسية في جامعة القدس المفتوحة / فلسطين، جنين
18 - 4 - 2017م
[1] كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)؛ لابن تيمية، ص 8.
[2] جريدة القدس العربية، يوم الاثنين بتاريخ 26/ 3/ 2007م.
[3] "منتديات الأسرة" الاستشارات النفسية والاجتماعية.