عنوان الفتوى : الحكمة في جعل الدنيا دار ابتلاء لا دار جنة ونعيم

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

أنا والحمد الله شاب مؤمن بالله، وثقتي بربي كبيرة. والحمد الله، وهذه إحدى النعم التي رزقني ربي إياها. لدي مشكلة للأمانة غيرت حياتي للأسوأ في حياتي الأسرية، وأيضا العملية، وأيضا النفسية. دعوت ربي دعوة أن يحققها لي في الدنيا، وتحريت كل أوقات استجابة الدعاء منذ سنين، وإلى الآن لم تتحقق. المشكلة ليست هنا، ولكن المشكلة أني أصبحت أهمل حياتي الأسرية والعملية، ومنتطر لهذه الدعوة بكل ثقة، وأنها سوف تتحقق، وأنا لا أعلم الغيب، ولكن بداخلي إحساس وفرح أكيد أن دعوتي ستتحقق قريبا. وفي أكثر من مرة أقول لنفسي: لو جاءت هذه الصورة في التلفزيون الآن، أو أقول: لو وصلني شيء معين -أذكر اسمه- الآن في وقتها، فهذا معناه أن دعوتي سوف تستجاب لي في الدنيا، ويكون موعدها قريبا، وسبحان الله يحصل هذا الشيء. تعبت كثيرا جدا، وأنا أفكر في هذه الدعوة. أمنية حياتي أن أنسى هذه الدعوة؛ لكي أريح دماغي من التفكير، وأنظر إلى المستقبل، ولكن للأسف لم أستطع. أريد حلا ينهي معاناتي مع هذه الدعوة.

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فنسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يقيك شر نفسك.

ونبدأ بالكلام على سؤالك الثاني: الذي مؤداه: لِمَ جعل الله الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ولم يجعلها جنة الخلد، ويعطي عباده فيها كل ما يشتهون!!  فيا للعجب كيف يسأل مؤمن مثل هذا السؤال الفاسد!

والجواب الأوحد عنه هو أن حكمة الله جل وعلا البالغة، هي التي اقتضت ذلك، لما في ذلك من المصالح العظيمة التي لا تحيط بها عقول البشر، وننقل كلاما نفيسا رائقا لابن القيم في مناقشة هذا السؤال.

قال: ومن اعترض بقوله: فهلا جعل القلوب على قلب واحد، فهو من أَجهل الناس وأضَلهم وأسفههم، وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الأَضداد، وهلا جعلها كلها شيئاً واحداً، فلم خلق الليل والنهار، والفوق والتحت، والحر والبرد، والدواءَ والداءَ، والشياطين والملائكة، والروائح الطيبة والكريهة، والحلو والمر، والحسن والقبيح؟

وهل يسمح خاطر من له أَدنى مسكة من عقل بمثل هذا السؤال، الدَّالَّ على حمق سائله وفساد عقله؟

وهل ذلك إلا موجب ربوبيته وإلهيته، وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته، ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها؟ وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياءِ وإهانة الأَعداءِ؟

وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إِلا بخلق المتضادات والمختلفات، وترتيب آثارها عليها، وإِيصال ما يليق بكل منها إِليه؟ وهل ظهور آثار أَسمائه وصفاته في العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فهل يكون رزّاقاً وغفاراً، وعفوّاً ورحيماً وحليماً ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له ويعفو عنه ويحلم عنه ويرحمه؟ وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم، ويري أولياءه كمال نعمته عليهم، واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه؟ وهل في الحكمة الإلهية تعطيل الخير الكثير لأجل شر جزئي يكون من لوازمه؟

فهذا الغيث الذي يحيي به الله البلاد والعباد، والشجر والدواب. كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصاد، ويهدم من بناءٍ، ويعوق عن مصلحة؟ ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟ وهل هذه المفاسد في جنب مصالحه إلا كتفلة في بحر؟ وهل تعطيله لئلا تحصل به هذه المفاسد، إلا موجباً لأعظم المفاسد والهلاك؟

 فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير، شر كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذي تنزه الله سبحانه عنه.
قلت لشيخ الإسلام: فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجردة عن المفاسد، مشتملة على المصلحة الخالصة؟ فقال: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولو خلقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالماً آخر غير هذا.

والشر الوجودي هو من خلقه تعالى؛ إذ لا خالق سواه، وهو خالق كل شيء، لكن كل ما خلقه الله فلا بد أن يكون له في خلقه حكمة لأجلها خلقه، لو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة، وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة التي هي أحب إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإن في وجودها من الحكمة والغايات التي يحمد عليها سبحانه، أضعاف ما في عدمها من ذلك، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة العظيمة، لأجل ما يحصل للنفس من الشر، مع ما حصل من الخيرات التي لم تكن تحصل بدون هذا الشر، ووجود الشيء لا يكون إلا مع وجود لوازمه وانتفاء أضداده، فانتفاء لوازمه يكون ممتنعاً لغيره .اهـ. باختصار من طريق الهجرتين.

وأما سؤالك الأول: فالحل هو في أن تعلم أن استجابة الدعاء، لا تعني إعطاء الداعي عين ما سأل، أو أن يجاب في الوقت الذي عينه في دعائه، بل استجابة الدعاء تكون بإحدى ثلاث وردت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذاً نكثر، قال: الله أكثر. رواه أحمد وصححه الحاكم.
قال ملا قاري: الإجابة على أنواع:

منها: تحصيل عين المطلوب في الوقت المطلوب.
ومنها: وجوده في وقت آخر لحكمة اقتضت تأخيره.

ومنها: دفع شر بدله، أو إعطاء خير آخر خير من مطلوبه.

ومنها: ادخاره ليوم يكون أحوج إلى ثوابه. اهـ. من مرقاة المفاتيح.

فقد يمنع الله سبحانه العبد مطلوبه ويعوضه عنه، لطفا به ورحمة، لحكمة يعلمها الله تعالى، فعلى المسلم أن يكون حسن الظن بربه عز وجل، وأن يرضى بقسمة الله، فاختيار الله لعبده المؤمن، خير من اختيار العبد لنفسه ، ثم إن المؤمن الصادق يتهم نفسه ويتخوف أن يحال بينه وبين الإجابة لمانع منه.

مع التنبيه إلى أن النفس الأمارة بالسوء قد تزين للعبد أن تعلق قلبه بأمر دنيوي معين، وإلحاحه في حصوله، وجزعه من فواته أنه ثقة بالله وإيمان بالله، وهذا من تلبيس إبليس، بل هو من ضعف الإيمان وقلة اليقين بالله، وفساد القلب.

وقولك: (المشكلة أني أصبحت أهمل حياتي الأسرية والعملية، ومنتطر لهذه الدعوه بكل ثقه).

فإذا كان إهمالك هذا فيه ترك لواجب شرعي عليك تجاه نفسك، أو أسرتك، فهو موجب للإثم، وقد يكون سببا لرد دعائك وعدم قبوله.

ثم إن من العجز الظاهر أن يهمل المرء حياته وأسرته، ويترك ما ينبغي له فعله، ركونا إلى دعوة إجابتها في علم الغيب!

والصادق في دعائه وتوكله، يجمع بين الدعاء وبين فعل ما ينبغي له فعله من الأسباب.

قال ابن القيم: للتوكل علل، إحداها: أن يترك ما أمر به من الأسباب، استغناء بالتوكل عنها، فهذا توكل عجز وتفريط وإضاعة، لا توكل عبودية وتوحيد، كمن يترك الأعمال التي هي سبب النجاة، ويتوكل في حصولها، ويترك القيام بأسباب الرزق -من العمل والحراثة والتجارة ونحوها- ويتوكل في حصوله، ويترك طلب العلم، ويتوكل في حصوله، فهذا توكله عجز وتفريط، كما قال بعض السلف: لا تكن ممن يجعل توكله عجزا، وعجزه توكلا. اهـ. من مدارج السالكين.

والله أعلم.