عنوان الفتوى : حكم الاعتقاد بوجود أشياء في الدنيا أفضل مما في الجنة
ما حكم الاعتقاد بأنه توجد أشياء في الدنيا أفضل منها في الجنة (مثل: النوم؛ حيث لا يوجد نوم في الآخرة)؟ وكاعتقاد أن نساء الدنيا أجمل بكثير من الحور العين؟ ما حكم هذا الاعتقاد؟ وهل هو معصية يترتب عليها عقوبة في الدنيا أو في الآخرة؟ حيث إني أرى بأن الإنسان له حق الاختيار بين المباحات؛ فمثلًا: لو دخل الشخص الجنة له إمكانية الاختيار بين النوم وعدمه، وهذا مصداق لقوله تعالى: {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون}. وجزاكم الله خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعتقاد أن في الدنيا شيئًا أفضل من الجنة اعتقاد باطل مخالف لنص القرآن؛ قال تعالى: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]، وقال: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(35) }[الزخرف: 35:33].
قال الإمام الطبري في تفسيره: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور يقول: وما لذات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينتها وزخارفها، إلا متاع الغرور، يقول: إلا متعة يمتعكموها الغرور والخداع المضمحل الذي لا حقيقة له عند الامتحان، ولا صحة له عند الاختيار، فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره: وقوله تعالى: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور: تصغير لشأن الدنيا، وتحقير لأمرها، وأنها دنيئة فانية، قليلة زائلة، كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وقال تعالى: وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ. وفي الحديث: والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع إليه. وقال قتادة في قوله تعالى: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، قال: هي متاع، هي متاع متروكة أوشكت -والله الذي لا إله إلا هو- أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله. اهـ.
بل نبه العلماء أن الطاعات في الدنيا لا يقال: إنها أفضل من نعيم الجنة؛ قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: وقد ظن طوائف من الفقهاء والصوفية أن ما يوجد في الدنيا من هذه العبادات أفضل مما يوجد في الجنة من النعيم، قالوا: لأن نعيم الجنة حظ العبد، والعبادات في الدنيا حق الرب، وحق الرب أفضل من حظ العبد، وهذا غلط، ويقوي غلطهم قول كثير من المفسرين في قوله: {من جاء بالحسنة فله خير منها} [النمل: 89] [النمل: 89] قالوا: الحسنة: لا إله إلا الله، وليس شيء خيرًا منها. ولكن الكلام على التقديم والتأخير، والمراد: فله منها خير، أي: له خير بسببها ولأجلها.
والصواب: إطلاق ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة أن الآخرة خير من الأولى مطلقًا. وفي "صحيح الحاكم" عن المستورد بن شداد، قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فتذكروا الدنيا والآخرة؛ فقال بعضهم: إنما الدنيا بلاغ للآخرة، وفيها العمل، وفيها الصلاة، وفيها الزكاة. وقالت طائفة منهم: الآخرة فيها الجنة، وقالوا ما شاء الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم، فأدخل أصبعه فيه، فما خرج منه فهو الدنيا». فهذا نص بتفضيل الآخرة على الدنيا، وما فيها من الأعمال. ووجه ذلك أن كمال الدنيا إنما هو في العلم والعمل، والعلم مقصود الأعمال، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبة لما في الدنيا إليه، فإن العلم أصله العلم بالله وأسمائه وصفاته، وفي الآخرة ينكشف الغطاء، ويصير الخبر عيانًا، ويصير علم اليقين عين اليقين، وتصير المعرفة بالله رؤية له ومشاهدة، فأين هذا مما في الدنيا؟ وأما الأعمال البدنية: فإن لها في الدنيا مقصدين:
أحدهما: اشتغال الجوارح بالطاعة، وكدها بالعبادة.
والثاني: اتصال القلوب بالله وتنويرها بذكره.
فالأول قد رفع عن أهل الجنة، ولهذا روي أنهم إذا هموا بالسجود لله عند تجليه لهم يقال لهم: ارفعوا رءوسكم فإنكم لستم في دار مجاهدة.
وأما المقصود الثاني فحاصل لأهل الجنة على أكمل الوجوه وأتمها، ولا نسبة لما حصل لقلوبهم في الدنيا من لطائف القرب والأنس والاتصال إلى ما يشاهدونه في الآخرة عيانًا، فتتنعم قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم بقرب الله ورؤيته، وسماع كلامه، ولا سيما في أوقات الصلوات في الدنيا، كالجمع والأعياد، والمقربون منهم يحصل ذلك لهم كل يوم مرتين بكرة وعشيًّا في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر، ولهذا لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أهل الجنة يرون ربهم، حض عقيب ذلك على المحافظة على صلاة العصر وصلاة الفجر؛ لأن وقت هاتين الصلاتين وقت لرؤية خواص أهل الجنة ربهم وزيارتهم له، وكذلك نعيم الذكر وتلاوة القرآن لا ينقطع عنهم أبدًا، فيلهمون التسبيح كما يلهمون النفس. قال ابن عيينة: لا إله إلا الله لأهل الجنة، كالماء البارد لأهل الدنيا، فأين لذة الذكر للعارفين في الدنيا من لذتهم به في الجنة. فتبين بهذا أن قوله: {من جاء بالحسنة فله خير منها} [النمل: 89] [النمل: 89] على ظاهره، فإن ثواب كلمة التوحيد في الدنيا أن يصل صاحبها إلى قولها في الجنة على الوجه الذي يختص به أهل الجنة. انتهى.
وعلى هذا؛ فمن ظن ذلك فقد أخطأ خطأ كبيرًا حيث تصور الحور العين على صورة ناقصة، وتمنى لو نقل إلى نساء الدنيا بحالهن في الدنيا، وغفل عن قول الله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25].
وفي حديث الصحيحين: لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض.
فهذا من تمام الصفاء الذي يدرك العقلاء أنه في غاية الحسن حتى أن بعض أهل زماننا شيدوا مصاعد زجاجية لصفاء الزجاج، فليثق تمامًا أنه لا مقارنة بين الحالين؛ قال القسطلاني: (يرى) بضم أوله مبنيًّا للمفعول (مخ سوقهما) بضم الميم وتشديد الخاء المعجمة والرفع مفعولًا ناب عن فاعله ما في داخل العظم (من وراء اللحم) والجلد (من الحسن) والصفاء البالغ ورقة البشرة ونعومة الأعضاء. وفي حديث أبي سعيد المروي عند أحمد ينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة. وفي حديث ابن مسعود عند ابن حبان في صحيحه مرفوعًا: "إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها". انتهى.
وأما نوم أهل الدنيا فليس فيه مزية لهم؛ لأن النوم نقص يسببه التعب، وهو أخو الموت؛ فقد روى البزار، والطبراني، والبيهقي، بإسناد صحيح عن جابر قال: قيل: يا رسول الله، أينام أهل الجنة؟ قال: لا؛ النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا يموتون، ولا ينامون.
واعلم أن أهل الجنة لهم ما يشتهون، ولكنهم يوفقون لاشتهاء ما يتوافق مع الفطر السوية من المباحات، كما بيّنّا بالفتويين: 269236، 216193.
فهم لا يختارون النقائص، وليسوا في حاجة إلى النوم؛ فالنوم متعة للمتعب لا لغيره، وانظر الفتوى رقم: 128446.
والواجب أن تشتغل بالعمل للجنة، وسؤال الله دخولها دون التوسع في مثل هذا السؤال، وفي تفاصيل النعيم، وكأن الواحد منّا له ضمانة بدخول الجنة، وانظر الفتوى رقم: 226228، والفتوى رقم: 35124.
والله أعلم.