عنوان الفتوى : حكم من يتعمد الصلاة في المساجد التي تجمع الصوات لعذر المطر
ما حكم من يتعمد الذهاب لبعض المساجد ويتخير منها من يجمع الصلاة بعذر المطر، أو أن يترك مصلى العمل ليذهب للمسجد من أجل الجمع؟ وهل رخصة الجمع ثابتة في حقه أم يعد ممن يتتبع الرخص؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فاعلم أخي السائل أولًا أن الرخصة نوعان ذكرهما ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقال:
الرُّخْصَةُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الرُّخْصَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ الْمَعْلُومَةُ مِنَ الشَّرْعِ نَصًّا، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، عِنْدَ الضَّرُورَةِ ... وَكَفِطْرِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَصَلَاةِ الْمَرِيضِ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ قَاعِدًا، وَفِطْرِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ خَوْفًا عَلَى وَلَدَيْهِمَا ... فَلَيْسَ فِي تَعَاطِي هَذِهِ الرُّخَصِ مَا يُوهِنُ رَغْبَتَهُ. وَلَا يَرُدُّ إِلَى غَثَاثَةٍ. وَلَا يُنْقِصُ طَلَبَهُ وَإِرَادَتَهُ أَلْبَتَّةَ... فَفِعْلُ هَذِهِ الرُّخَصِ أَرْجَحُ وَأَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: رُخَصُ التَّأْوِيلَاتِ، وَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ. فَهَذِهِ تَتَبُّعُهَا حَرَامٌ يُنْقِصُ الرَّغْبَةَ، وَيُوهِنُ الطَّلَبَ، وَيَرْجِعُ بِالْمُتَرَخِّصِ إِلَى غَثَاثَةِ الرُّخَصِ. ... اهـ مختصرًا من مدارج السالكين.
إذا تبين لك هذا؛ فإن الجمع عند المطر إذا توافرت شروطه يعتبر رخصة شرعية من النوع الأول الذي ذكره ابن القيم، ولا حرج على من قصد المساجد التي تجمع لأجل أن يجمع معها، وليس هذا داخلًا في النوع الثاني المذموم، وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ. وفي مسند أحمد مرفوعًا: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ.
فما دام أن الجمع رخصة شرعية، فإن تتبعه ليس داخلًا في تتبع الرخص المذموم، وتتبع الرخص المذموم معناه أن يأخذ المكلف بالأسهل حيث وجد وفي أي المذاهب كان من غير نظر إلى الدليل، بل اتباعًا للهوى واختيارًا بمجرد التشهي، وهذا ولا شك أمر مذموم؛ لأنه يؤدي إلى انخلاع ربقة التكاليف وانحلال عقدة الدين، ولذا قال فيه السلف: من تتبع رخصة كل عالم فقد جمع الشر كله، وسئلت اللجنة الدائمة: هل الأخذ بالرخص في الدين يعتبر تجاوزًا وتهاونًا؟
فأجابت بقولها: الأخذ بالرخصة في الدين إن كان المقصود بها الرخصة الشرعية التي شرعها الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كالرخصة للمسافر الصائم أن يفطر وقت سفره، وأن يقصر المسافر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، وأن يجمع بين صلاة الظهر والعصر أو بين صلاة المغرب والعشاء في وقت إحداهما جمع تقديم أو تأخير أثناء سفره، وكالرخصة في المسح على الخفين ونحو ذلك: فإن الأخذ بهذه الرخصة الشرعية في حق هؤلاء أفضل، وإن لم يأخذ بها، بل صام أثناء سفره ولم يقصر الصلاة ولم يجمع بين الصلوات المذكورة ولم يمسح على الخفين، بل خلعهما وغسل الرجلين، فلا حرج ولا إثم عليه، لكنه ترك الأفضل والأولى، ويدل لذلك ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله تبارك وتعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته » رواه الإمام أحمد، والبزار، والطبراني في (الأوسط). وفي رواية لابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» رواه الطبراني في (الكبير)، والبزار، ورجاله ثقات.
أما إن كان المراد بالأخذ بالرخص في الدين هو الأخذ بالأسهل وما يوافق هوى الإنسان من فتاوى وأقوال العلماء: فإن ذلك غير جائز، والواجب على الإنسان أن يحتاط لدينه، وأن يحرص على إبراء ذمته، فلا يتبع إلا ما صح به الدليل من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان جاهلًا بالحكم فإنه يسأل أهل الذكر ممن يوثق بعلمه وفتواه، ولا يكثر من سؤال العلماء في المسألة الواحدة فيتبع الأسهل له وما يوافق هواه، فإن ذلك دليل على تفريطه وإهماله لأمور دينه، وقد أثر عن بعض السلف قوله: (من تتبع رخص العلماء فقد تزندق). اهـ.
وانظر لبيان شروط مشروعية الجمع في المطر الفتوى رقم: 224839.
والله تعالى أعلم.