عنوان الفتوى : الحكمة من منع إجابة الدعاء مع الإلحاح في الطلب
أدعو الله منذ اثني عشرة سنة كاملة مكملة، ولم يستجب دعائي حتى الآن، وطيلة هذه السنوات وأنا أحاول وأحاول وأحاول, خسرت مالا كثيرا, تأخر زواجي, ساءت نفسيتي لدرجة أنني فصلت من عدة وظائف بسبب هذه المحاولات، وما زلت مستمرا في المحاولة، والآن أقول بأنه ربما الخير في المنع، وربما الاستجابة في ادخار الدعاء للآخرة، وربما صرف الله عني به من السوء مثله، فما الحاجة للاستمرار في المحاولة؟ فقد تعبت من كثرة المحاولات، وتعبت في الاستثمارات الفاشلة التي أكلت مالي، أصدقائي تزوجوا وأنجبوا واقتنوا منازل، وأنا بسبب محاولاتي واستثماراتي ما زلت في مكاني، ولو كنت ادخرت مالي بدلا من السعي وراء ما أدعو الله به لكنت الآن متزوجا ولدي أطفال وفي منزلي. فإذا قررت أن أتوقف عن المحاولة وأركن إلى عيشة دونية في أي وظيفة تسد حاجتي وانتهى الموضوع، فهل أكون بذلك تركت الدعاء؟. يصعب علي فهم مراد الله، ويصعب علي تفسير آياته، وإن كان هناك احتمال أن الله لا يستجيب دعاءنا بالطريقة التي نريد وإنما قد يدخره للآخرة، فلماذا نحاول؟ ولماذا نقتل أنفسنا نفسيا؟ ولماذا نتحمل الأذى؟ لما لا ندعو وننتظر الإجابة في الآخرة وانتهى الموضوع؟. سئمت من كثرة المحاولات الفاشلة، 12 سنة كافية جدا للتوقف عن المحاولة، ثم أطمئن نفسي وأقول إن هذه الدنيا ليست مكاننا وإنما مكاننا الجنة، فتأتيني فكرة ومن يضمن لك الجنة أصلا فتصيبني هذه الفكرة بالقرف والاكتئاب. ما الفائدة من الاستمرار في المحاولة؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنوصيك أيها السائل الكريم ـ أولا ـ بالشفقة على نفسك، وطرد وساوس الشيطان التي يوسوس لك بها لينكد عليك حياتك، ويفسد دينك، ويزعزع ثقتك بربك..
ثم نؤكد لك أن الدعاء إذا اجتمعت فيه الشروط المطلوبة وانتفت عنه الموانع فإنه يستجاب لصاحبه لا محالة؛ لوعد الله سبحانه بذلك، والله لا يخلف وعده كما قال: .. لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {الروم:6}، وقد سبق لنا بيان شروط وموانع إجابة الدعاء، وكذلك آداب الدعاء بما في ذلك أوقات الإجابة في الفتاوى التالية أرقامها: 2150 ، 32655 ، 120715،فلتراجعها
ونؤكد لك أيضا بأن من يدعو ربه بإخلاص وصدق وفق الضوابط المبينة في الفتاوى المحال عليها لا يخيب مسعاه أبدا فله واحدة من ثلاث، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحاح، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذا نكثر، قال الله أكثر. رواه أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استجيب له، فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل. قالوا: يا رسول الله؛ وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ربي فما استجاب لي. قال الشيخ الألباني: صحيح دون قوله : وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا.
وبهذا تعلم أن المرء مأمور بالدعاء وموعود بالإجابة، لكنه ليس هو من يختار الكيفية التي يستجاب له بها، فالذي يختار ذلك هو الله سبحانه وهو الأعلم بمصلحة العبد، وبما يليق به ويناسبه، وكثيرا ما تتعلق النفس بأشياء قد لا يكون الخير فيها، فيصرفها الله برحمته وحسن تدبيره للعبد، وبعض الناس لقصر نظرهم لا يشعرون أن النعمة في المنع أحيانا تكون أعظم مما هي في العطاء، بل قد يكون هلاك الإنسان في أن يعطى وخيره في أن يمنع، وقد قال سبحانه: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {البقرة:216}، وقال في آية أخرى: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا {الإسراء:11}،
يقول الرازي في تفسيره: أقول: يحتمل أن يكون المراد: أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أن خيره فيه، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغتراً بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها. اهـ
ويقول السعدي في تفسيره: الغالب على العبد المؤمن أنه إذا أحب أمرا من الأمور، فقيض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له، فالأوفق له في ذلك، أن يشكر الله، ويجعل الخير في الواقع، لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأقدر على مصلحة عبده منه، وأعلم بمصلحته منه؛ كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره، سواء سرتكم أو ساءتكم. اهـ
فإذا وعيت هذا كله فاعلم أنه ينبغي لك التحلي بأمور، منها:
1- تسليم أمرك لمولاك سبحانه، والرضا بما قسمه لك، والاعتقاد الجازم بأن ما يختاره لك هو الخير والمصلحة لك في الدنيا والآخرة.
2- الاستمرار في الدعاء، فهو عبادة عظيمة ينبغي لكل مسلم أن يكثر منها، مع الرضا بما يقضي الله به على كل حال سواء حصل ما تريد أم لم يحصل.
3- تحري أوقات الإجابة، وقد بيناها قبلُ في الفتاوى المحال عليها.
4- التفكر فيما أنت فيه من نعم الله، ثم النظر إلى غيرك ممن ابتلوا بأنواع المصائب والعاهات المختلفة كمن فقدوا أبصارهم أو أسماعهم أو نطقهم، أو أصيبوا بأمراض لا علاج لها ـ والعياذ بالله ـ لتعلم عظيم فضل الله عليك وتشكره على ذلك، ثم تدرك أن ما تشكوه وتضجر منه قد وقيت ما هو أعظم منه أضعافا مضاعفة، فعليك ـ إذن ـ أن تحمد الله تعالى فأنت في نعمة عظيمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا. رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني.
5- العلم بأن الدنيا لا تساوي كل هذا العناء، وأنك ستتركها عاجلا أو آجلا إلى دار البقاء، ولن يذهب منها معك إلا ما قدمت من صالح العمل، فخذ ما تيسر لك منها وارض بما قسم الله لك من المال والوظيفة، وتزوج وابن أسرتك، ولا تربط كل حياتك بمشروعات وأمور ليست في يدك، بل انطلق من واقعك وما أنت فيه، وابحث عن الرزق الحلال بالسبل المتاحة، ثم إن تيسر لك بعد ذلك الاستثمار بشكل لا يتنافى مع الشرع ولا يشغلك عن ما كلفك الله به من واجبات فذاك، وإلا فدعه عنك وعش بما تيسر لك متوكلا على ربك فهو الرزاق الكريم، يرزق من توكل عليه واتقاه من حيث لا يحتسب، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ {الطلاق:2 -3}، وقال صلى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله حق توكله لزرقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. رواه الترمذي.
6- اطرد عنك الأفكار الخاطئة من قبيل: "ومن يضمن لك الجنة .."، و"فلماذا نحاول؟ ولماذا نقتل أنفسنا نفسيا؟ ولماذا نتحمل الأذى؟ لماذا لا ندعو وننتظر الإجابة في الآخرة وانتهى الموضوع؟"
فهذه كلها وساوس شيطانية لا فائدة منها، فلو ركنت إليها أفسدت عليك دينك، ولربما جعلتك ـ لا قدر الله ـ تترك كل أعمال الشرع من صلاة وصيام وحج وغيرها.. إذ ـ بهذا المنطق ـ قد يقول لك الشيطان: لماذا تصلي وتتعب نفسك وأنت لست ضامنا الجنة أصلا.
فعلاج هذا كله أن تعرض عن تلك الوساوس والأفكار كلية، وتعمل كما أمرت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. متفق عليه.
والله أعلم.