عنوان الفتوى : موقف الموسوس من اختلاف العلماء والأخذ بالأرجح أو الأحوط
توكلت علي الحي القيوم: مشكلتي أنني متعب من التفكير كثيراً بسبب ما قرأته في الفتوى رقم: 207349، وما فيها من تتبع عالم ثقة، وأنا لأ أقصد الفتوى في حد ذاتها ـ فأنا غير متزوج ـ واللفظ بالتحديد هو: إن كنت غير مطمئنة لفتوى المفتي ويغلب على ظنك عدم صحتها فلا يلزمك العمل بها، بل لا يجوز لك العمل بها والحال هكذا ـ كنت أفكر في حالي كثيراً بخصوص اختلاف العلماء في كل شيء، فأنا مثلأ أوفر اللحية وآخذ بالأقوال الراجحة قدر ما أستطيع، لأن الأخذ بها واجب، وقد آخذ بالمرجوح في بعض المسائل المعدودة عندما أرى أن من أفتى في ذلك من أهل العلم والمعرفة والاطلاع، لكنني أرجع وأقول إنني غير مطمئن لها، مع أنني أرى صحتها وقد أفتي بها من هم من أهل العلم، فماذا علي أن أفعل أكثر من ذلك؟ فبهذه الطريقة لن أستطيع أن آخذ بالقول المرجوح حتى وإن احتجت إليه، وإن كان القول الراجح ليس الأحوط أقول لا يجب الأخذ بالقول الراجح، بل بالمرجوح، ومثال على ذلك فتوى زكاة الذهب للزينة، فالراجح أنه ليست عليه زكاة لكن هناك من قال عليه زكاة، وهذا هو الأحوط، وسأظل أثقل على نفسي وأضغط عليها بوسواس داخلي جعلني أعيش في تفكير دائم لدرجة أنني أقوم بأخذ علاج مضاد للوسواس، فقد يكون العلاج السلوكي عندكم؟ حتى تساندوني نفسياًُ، فمن منا اليوم يستطيع الترجيح بين أقوال العلماء كما قلتم؟ فاجتهاداتنا تنصب في اختيار من هو مؤهل للفتوى وليس لنا النظر والترجيح بين الأدلة، لأن الاجتهاد ليس بالأمر السهل كما يعتقد البعض، فله أموره الشرعية ودراسته ومناهجه.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكرنا أنه يجوز للعامي تقليد مذهب معين أو سؤال من يثق في علمه دون اتباع للهوى أو تتبّع للرخص، وفرقنا بين عامي يعقل ويفهم وبين غيره من سائر العوام، وحتى يتضح لك الأمر فلابد أن تعلم أن العامي الذي يحال إلى اطمئنان نفسه والترجيح بين أقوال المفتين هو من كان في المرتبة الأولى من مرتبتي المستفتي اللتين ذكرهما الخطيب البغدادي في كلامه المنقول في الفتوى التي أشرت إليها، وهو قوله في الفقيه والمتفقه: فإن قال قائل فكيف في المستفتى من العامة إذا أفتاه الرجلان واختلفا؟ فهل له التقليد؟ قيل: إن كان العامي يتسع عقله، ويكمل فهمه إذا عقِّل أن يعقل، وإذا فُهِّم أن يفهم، فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم، وعن حججهم، فيأخذ بأرجحها عنده، فإن كان له عقل يقصر عن هذا، وفهمه لا يكمل له، وسعه التقليد لأفضلهما عنده. انتهى.
أما إذا لم يطمئن قلب المستفتي الذي يعقل ويفهم لمذهب المفتي وحجته، فلا يسعه العمل به لمجرد أنه قول عالم مجتهد، قال ابن القيم رحمه الله: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمُجَرَّدِ فَتْوَى الْمُفْتِي إذَا لَمْ تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ مِنْ قَبُولِهِ وَتَرَدَّدَ فِيهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ـ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ نَفْسَهُ أَوَّلًا، وَلَا تُخَلِّصُهُ فَتْوَى الْمُفْتِي مِنْ اللَّهِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ مَا أَفْتَاهُ، كَمَا لَا يَنْفَعُهُ قَضَاءُ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ ـ وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَلَا يَظُنُّ الْمُسْتَفْتِي أَنَّ مُجَرَّدَ فَتْوَى الْفَقِيهِ تُبِيحُ لَهُ مَا سَأَلَ عَنْهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ فِي الْبَاطِنِ، سَوَاءٌ تَرَدَّدَ أَوْ حَاكَ فِي صَدْرِهِ، لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ لِشَكِّهِ فِيهِ، أَوْ لِجَهْلِهِ بِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ جَهْلَ الْمُفْتِي أَوْ مُحَابَاتِهِ فِي فَتْوَاهُ، أَوْ عَدَمَ تَقْيِيدِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْفَتْوَى بِالْحِيَلِ وَالرُّخَصِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ الثِّقَةِ بِفَتْوَاهُ وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ عَدَمُ الثِّقَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ لِأَجْلِ الْمُفْتِي يَسْأَلُ ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ الطُّمَأْنِينَةُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلَا يُكَلِّفْ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَالْوَاجِبُ تَقْوَى اللَّهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ.
لكن ننبه إلى أن الموسوس يجوز له أن يأخذ بأيسر الأقوال وأرفقها بحاله ولا يعتبر ذلك من الترخص المذموم، كما بيناه في الفتوى رقم: 181305.
وننصح السائل بالتواصل مع قسم الاستشارات بموقعنا.
والله أعلم.