عنوان الفتوى : مذاهب العلماء في استرقاق العرب
عندي بعض الأسئلة لو تكرمتم: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزولوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها ـ قال ثور وهو أحد رواة الحديث ـ لا أعلمه إلا قال: الذي في البحر، ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا فبينما يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون ـ فهل يعتبر فتح محمد الفاتح ـ رحمه الله ـ للقسطنطنية تحقيقا للبشارة النبوية؟ فهذا الحديث يبين فتح القسطنطنية في المستقبل لكن أريد التساؤل حول قول النبي صلى الله عليه وسلم ـ ولم يرموا بسهم ـ فالناس الآن يستخدمون البنادق والمسدسات والقاذفات، فما معنى قول النبي عليه السلام: لم يرموا بسهم؟ كما أريد أن أسأل بعيدا عن الحديث: هل كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عنصريا تجاه العجم؟ فهل يثبت هذا القول عن عمر رضي الله عنه: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب؟ وقوله: ليس على عربي ملك ـ الأموال ص197 و198ـ ويقول: إنّي كرهت أن يصير السبي سنة على العرب ـ تاريخ اليعقوبي ج2 ص139ـ وقد أعتق سبي اليمن وهن حبالى، وفرق بينهن وبين من اشتراهن ـ الإيضاح ص249ـ وأعتق كل مصل من سبي العرب، وشرط عليهم: أن يخدموا الخليفة من بعده ثلاث سنين، راجع: المصنف لعبدالرزاق ج8 ص380 و381 وج9 ص168ـ وكان في وصيته: أن يعتق كل عربي في مال الله، وللأمير من بعده عليهم ثلاث سنوات، يليهم مثلما كان يليهم عمر ـ راجع المصنف للصنعاني ج8 ص380 و381 وج9 ص168ـ وآسف على الإطالة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحديث المذكور رواه مسلم في صحيحه، وما ورد فيه من فتح القسطنطينية ليس هو الفتح الذي وقع على يد الأتراك بقيادة السلطان محمد الفاتح ـ كما قال بعض أهل العلم ـ وإنما هو فتح بدون قتال لم يقع بعد، وسيقع في آخر الزمان، وقد تكلم على ذلك ابن كثير في النهاية في الفتن والملاحم، فقال: وهذا يدل على أن الروم يسلمون في آخر الزمان, ولعل فتح القسطنطينية يكون على يدي طائفة منهم، كما نطق به الحديث المتقدم أنه يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق, والروم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل, فمنهم أولاد عم بني إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق، فالروم يكونون في آخر الزمان خيرا من بني إسرائيل, فإن الدجال يتبعه سبعون ألفا من يهود أصبهان، فهم أنصار الدجال, وهؤلاء ـ أعني الروم ـ قد مدحوا في هذا الحديث فلعلهم يسلمون على يدي المسيح ابن مريم. والله أعلم. اهـ.
وقال الشيخ أحمد شاكر: فتح القسطنطينية المبشر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد يعلمه الله عز وجل، وهو الفتح الصحيح لها حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه، وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا هذا فإنه كان تمهيداً للفتح الأعظم.
وانظر الفتويين رقم: 46524، ورقم: 39642.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم ـ أن المسلمين لم يحتاجوا في فتحها إلى قتال، بل يقذف الله الرعب في قلوب أعدائهم ولو احتاجوا إلى قتال لقاتلوهم، وقد ذهب بعض الشراح لاحتمال أن تكون هذه المدينة غير القسطنطينية المشهورة، قال الملا علي قاري في شرح المشكاة: هذه المدينة في الروم، وقيل الظاهر أنها قسطنطينية، ففي القاموس قسطنطينية دار ملك الروم وفتحها من أشراط الساعة وتسمى بالرومية بوزنطيا وارتفاع سوره أحد وعشرون ذراعا وكنيستها مستطيلة وبجانبها..... ويحتمل أنها مدينة غيرها، بل هو الظاهر، لأن قسطنطينية تفتح بالقتال الكثير، وهذه المدينة تفتح بمجرد التهليل والتكبير ... اهـ.
وأما سؤالك الثاني: هل كان عمر ـ رضي الله عنه ـ عنصريا.. فإنه ـ رضي الله عنه ـ لم يكن يوما من الأيام عنصريا، وإنما كان سياسيا محنكا، وقائدا ملهما شديدا على أعداء الإسلام من العرب والعجم.. وهذه المقالة: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب ـ كان لها سبب، قالها عند ما أرسل إليه المثنى بن حارثة ـ أحد قادته ـ أن ملوك العجم قد اجتمعوا وتوحدوا على حرب المسلمين، فأرسل إلى عماله على الأمصار ـ وكانوا في ذلك الوقت من العرب ـ أن لا يدعوا من له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي إلا وجهوه إليه، فلم يدع رئيساً ولا ذا رأي وذا شرف وبسطة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا أرسلوه إليه، فرماهم بوجوه الناس، فكان هذا سبب المقالة المذكورة، انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير وغيره.
ولذلك، فليس في هذه المقالة ما يدل على العنصرية.. وإنما هو رد على موقف، وعمر هو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عند ما استشارالصحابة في أسرى قريش: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكني من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين.
وكل ما ذكرته مما لا يتسع المقام لتتبعه -إن صح عنه- فهو من باب السياسة الشرعية، ولا علاقة له بالعنصرية..
وأما ما ذكره اليعقوبي فقد ذكره من دون إسناد ولم نجد كذلك سندا لما عزوته للإيضاح، فينبغي البحث عما يثبته أولا قبل الاستدلال به على الكلام في الخليفة الراشد عمر ـ رضي الله عنه ـ
وأما ما روى عبد الرزاق: فقد ورد عنه ـ رضي الله عنه ـ بسند رجاله ثقات أنه أعتق كل المسلمين، وبذلك جزم ابنه عبد الله ـ رضي الله عنه ـ فقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني موسى بن عقبة عن نافع أنه كان في وصية عمر بن الخطاب أن يعتق كل عربي في مال الله، وللأمير من بعده عليهم ثلاث سنوات يلونهم نحو ما كان يليهم عمر، قال نافع: كان عبد الله يقول: بل أعتق كل مسلم من رقيق المال، وأخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: أعتق عمر بن الخطاب كل مسلم من رقيق المال. اهـ.
وكان يعتق غير المسلمين أيضا، كما في مصنف ابن أبي شيبة في باب عتق اليهودي والنصراني: أن عمر أعتق يهوديا أو نصرانيا. اهـ.
وأما ما يعزى له من قوله: قوله: ليس على عربي ملك ـ فإنه لم يصح عنه وذلك لأنه من رواية الشعبي عنه وهي منقطعة مع أنه يحتمل، فقد قال: قال العلائي في جامع التحصيل: عامر بن شراحيل الشعبي أحد الأئمة روى عن علي ـ رضي الله عنه ـ وذلك في صحيح البخاري وهو لا يكتفي بمجرد إمكان اللقاء كما تقدم، وعن طائفة كثيرة من الصحابة لقيهم وأرسل عن عمر وطلحة بن عبيد الله وابن مسعود وعائشة وعبادة بن الصامت ـ رضي الله عنهم ـ قال أبو زرعة الشعبي عن عمر مرسل وعن معاذ بن جبل كذلك....اهـ.
وقد عارض هذا الأثر أهل العلم بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من أسرهم، قال المجد بن تيمية في المنتقى: باب جواز استرقاق العرب، ثم ذكر أحاديث في ذلك وذكر قول الإمام أحمد: لا أذهب إلى قول عمر: ليس على عربي ملك, قد سبى النبي صلى الله عليه وسلم العرب في غير حديث وأبو بكر وعلي حين سبى بني ناجية. اهـ.
وقال الصنعاني في شرح حديث جويرية: في قوله: فسبى ذراريهم ـ دليل على جواز استرقاق العرب، لأن بني المصطلق عرب من خزاعة, وإليه ذهب جمهور العلماء وقال به مالك وأصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي، وذهب آخرون إلى عدم جواز استرقاقهم وليس لهم دليل ناهض، ومن طالع كتب السير والمغازي علم يقينا استرقاقه صلى الله عليه وسلم للعرب غير الكتابيين كهوازن وبني المصطلق، وقال لأهل مكة: اذهبوا فأنتم الطلقاء وفادى أهل بدر، والظاهر أنه لا فرق بين الفداء والقتل والاسترقاق لثبوتها في غير العرب مطلقا، وقد ثبت فيهم ولم يصح تخصيص ولا نسخ، قال أحمد بن حنبل: لا أذهب إلى قول عمر: ليس على عربي ملك، وقد سبى النبي صلى الله عليه وسلم من العرب كما ورد في غير حديث، وأبو بكر وعلي ـ رضي الله عنهما ـ سبيا بني ناجية. اهـ.
وقال شيخ الاسلام في الفتاوى: والصحيح أنه يجوز استرقاق العرب والعجم, لما ثبت في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل ـ ففي هذا الحديث أن بني إسماعيل يعتقون, فدل على ثبوت الرق عليهم، كما أمر عائشة أن تعتق عن المحرر الذي كان عليها من بني إسماعيل, وفيه من بني تميم لأنهم من ولد إسماعيل..... وهذه الأحاديث ونحوها مشهور، بل متواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبي العرب, وكذلك خلفاؤه بعده, كما قال الأئمة وغيرهم: سبى النبي صلى الله عليه وسلم العرب, وسبى أبو بكر بني ناجية, وقد تبين مما ذكرناه أن الصحيح جواز استرقاق العرب, وأما الأثر المذكور عن عمر إذا كان صحيحا صريحا في محل النزاع, فقد خالفه أبو بكر وعلي, فإنهم سبوا العرب، ويحتمل أن يكون قول عمر محمولا على أن العرب أسلموا قبل أن يسترق رجالهم, فلا يضرب عليهم رق, كما أن قريشا أسلموا كلهم, فلم يضرب عليهم رق, لأجل إسلامهم لا لأجل النسب, ولم يتمكن الصحابة من سبي نساء قريش, كما تمكنوا من سبي نساء طوائف من العرب, ولهذا لم يسترق منهم أحد, ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن سبيهم شيء... اهـ.
هذا، ويحتمل أن يكون عمر ـ رضي الله عنه ـ رأى في حينها أن المصلحة للإسلام والمسلمين في عدم استرقاقهم، والإمام مخير فيما يراه أصلح للأمة فيفعله ولا يعتبر ذلك عنصرية.
والله أعلم.