الشاعر و الملك الجائر
مدة
قراءة القصيدة :
6 دقائق
.
1 | |
أمر السلطان بالشاعر يوما فأتاه | في كساء حائل الصّبغة واه جانباه |
و حذاء أوشكت تفلت منه قدماه | قال : صف جاهي ، ففي وصفك لي للشعر جاه |
إنّ لي القصر الذي لا تبلغ الطير ذراه | و لي الروض الذي يعبق بالمسك ثراه |
و لي الجبش الذي ترشح بالموت ظباه | و لي الغابات و الشمذ الرواسي و المياه |
و لي الناس ... و بؤس الناس منّي و الرفاه | إنّ هذا الكون ملكي ، أنا في الكون إله ! |
2 | |
ضحك الشاعر ممّا سمعته أذناه | و تمنّى إنّ يداجي فعصته شفتاه |
قال: إنّي لا أرى كما أنت تراه | إنّ ملكي قد طوى ملكك عنّي و محاه |
*** | |
ألقصر ينبيء عن مهارة شاعر | لبق ، و يخبر بعده عنّكا |
هو الألى يدرون كنه جماله | فإذا مضوا فكأنّه دكّا |
ستزول أنت و لا يزول جلاله | كالفلك تبقى ، إن خلت ، فلكا |
*** | |
و الرّوض ؟ إنّ الروض صنعه شاعر | سمح ، طروب ، رائق ، جزل |
وشّى حواشيه وزيّن أرضه | بروائع الألوان و الظلّ |
لفراشة تحيا له ، و لنحلة | تحيا به ، و لشاعر مثلي ! |
و لديمة تذري عليه دموعها | كيما تقيه غوائل المحل |
و لبلبل غرد يساجل بلبلا | غردا ، و للنسمات و الطلّ |
فإذا مضى زمن الربيع أضعته | و أقام في قلبي و في عقلي ! |
*** | |
و الجيش معقود لواؤك فوقه | ما دمت تكسوه و تطعمه |
للخبز طاعته و حسن ولائه | هو " لاته " الكبرى و " برهمه " |
فإذا يجوع بظلّ عرشك ليلة | فهو الذي بيديه يحطّمه |
لك منه أسيفه ، و لكن في غد | لسواك أسيفه و أسهمه |
أتراه سار إلى الوغى متعلّلا | لولا الذي الشعراء تنظمه ؟ |
و إذا ترنّم هل بغير قصيدة | من شاعر مثلي ترنّمه ؟ |
*** | |
و البحر ، قد ظفرت يداك بدرّه | و حصاه ، لكن هل ملكت هديره ؟ |
هو للدجى يلقي عليه خشوعه | و الصّبح يسكب ، و هو يضحك ، نوره |
أمرجت أنت مياهه ؟ أصبغت أن | ت رماله ؟ أجبلت أنت صخوره |
هو للرياح تهزّه و تثيره | و الشهب تسمع في الظلام زئيره |
للطير هائمة به مفتونة | لا للذين يروّعون طيوره |
للشاعر المفتون يخلق لاهيا | من موجة حورا و يعشق حوره |
و لمن فيه رمز كيانه | و لمن يجيد لغيره تصويره |
يا من يصيد الدرّ من أعماقه | أخذت يداك من الجليل حقيره |
لا تدّعيه ... فليس يملك ، إنّه | كالرّوض جهدك أن تشمّ عبيره |
*** | |
و مررت بالجبل الأشمّ فما زوى | عنّي محاسنه و لست أميرا |
و مررت أنت فما رأيت صخوره | ضحكت و لا رقصت لديك حبورا |
و لقد نقلت لنملة ما تدّعي | فتعجّبت ، ممّا حكيت ، كثيرا |
قالت : صديقك ما يكون ؟ أقشعما | أو أرقما ؟ أم ضيغما هيصورا ؟ |
أيحوك مثل العنكبوت بيوته | حوكا ؟ و يبني كالنسور و كورا ؟ |
هل يملأ الأعوار تبرا كالضّحى | و يردّ كالغيث الموات نضيرا ؟ |
أيلفّ كاللّيل الأباطح و الرّبى | و المنزل المعمور و المهجورا ؟ |
فأجبتها : كلّا ! فقالت : سمّه | في غير خوف " كائنا مغرورا ! " |
3 | |
فاحتدم السّلطان أيّ احتدام | و لاح حبّ البطش في مقلتيه |
وصاح بالجلّاد : هات الحسام ! | فأسرع الجلّاد يسعى إليه |
فقال: دحرج رأس هذا الغلام | فرأسه عبء على منكبيه |
*** | |
قد طبع السّيف لحزّ الرّقاب | و هذه رقبة ثرثار |
أقتله ...و اطرح جسمه للكلاب | و لتذهب الروح إلى النّار |
*** | |
سمعا و طوعا ، سيّدي !.. و انتضى | عضبا يموج الموت في شفرتيه |
و لم يكن إلاّ كبرق أضا | حتّى أطار الرأس عن منكبيه |
فسقط الشاعر معرورضا | يخدّش الأرض بكلتا يديه |
كأنّما يبحث عن رأسه | فاستضحك السلطان من سجدته |
ثمّ استوى يهمس في نفسه | " ذو جنّة " أمسى بلا جنّته |
*** | |
أجل ، هكذا هلك الشاعر | كما يهلك الآثم المذنب |
فما غضّ في روضة طائر | و لم ينطفيء في السّما كوكب |
و لا جزع الشّجر الناضر | و لا اكتأب المطرب |
و كوفيء عن قتله القاتل | بمال جزيل وخدّ أسيل |
فقال له خلقه السّافل : | ألا ليت لي كلّ يوم قتيل ! |
4 | |
في ليلة طامسة الأنجم | تسلّل الموت إلى القصر |
بين حراب الجند و الأسهم | و الأسيف الهنديّة الحمر |
إلى سرير الملك الأعظم | إلى أمير البرّ و البحر !! |
ففارق الدنيا و لمّا تزل | فيها خمور و أغاريد |
فلم يمد حزنا عليه الجبل | و لا ذوى في الرّوض أملود |
5 | |
في حومة الموت و ظلّ البلى | قد التقى السّلطان و الشاعر |
هذا بلا مجد ، و هذا بلا | ذلّ ، فلا باغ و لا ثائر |
عانقت الأسمال تلك الحلى | واصطحب المقهور و القاهر |
* | |
لا يجزع الشاعر أن يقتلا | ليس وراء القبر سيف و رمح |
و لا يبالي ذاك أن يعذلا | سيّان عند الميّت ذمّ و مدح |
6 | |
و توالت الأجيال تطّرد | جيل يغيب و آخر يفد |
أخنت على القصر المنيف فلا | الجدران قائمة و لا العمد |
و مشت على الجيش الكثيف فلا | خيل مسوّمة و لا زرد |
ذهبت بمن صلحوا و من فسدوا | و مضت بمن تعسوا و من سعدوا |
و بمن أذاب الحبّ مهجته | و بمن تأكّل قلبه الحسد |
و طوت ملوكا ما لهم عدد | فكأنّهم في الأرض ما وجدوا |
و الشاعر المقتول باقية | أقواله فكأنّها الأبد |
ألشيخ يلمس في جوانبها | صور الهوى و الحكمة الوله |