سامراء...
مدة
قراءة القصيدة :
5 دقائق
.
ودَّعتُ شرخَ صِبايَ قبلَ رحيلِهِ | ونَصَلتُ منه ولاتَ حَينَ نُصولِهِ |
وَنفَضتُ كفّيَ من شبابٍ مُخلِفٍ | إيراقهُ للعين مِثلُ ذبوله |
وأرى الصِّبا عَجِلاً يَمُرُّ وإنني | ساعدتُ عاجلَهُ على تعجيله |
سَعُدَ الفتى متقّبلاً مِن دهره | مقسومَه بقبيحهِ وجميله |
وأظُنّني قد كنتُ أرْوَحَ خاطراً | بالخطبِ لو لم أُعنَ في تأويله |
لكن شُغِفْتُ بأن أُقابلَ بينه | أبداً وبين خِلافه ومثيله |
وَشَغَلتُ بالي والمصيبَةُ أنني | أجني فراغَ العُمرِ مِن مشغوله ! |
يأسٌ تجاوزَ حَدَّه حتى لقد | أمسيتُ أخشى الشرَّ قبلَ حُلوله |
وبَلُدْتُ حتى لا ألَذُّ بمُفْرحٍ | حَّذَرَ انتكاستهِ وخوفَ عُدوله! |
إيهٍ أحبَّايَ الذينَ ترعرعوا | ما بين أوضاحِ الصِّبا وحُجوله |
إني وإنْ غَلبَ السلُّو صَبابتي | واعتضتُ عن نجم الهوى بأُفوله |
لتَشوقُني ذكراكُمُ ويهُزُّني | طَربٌ إلى قالِ الشباب وقِيِله |
أحبابَنا بين الفُرات تمتَّعوا | بالعيش بين مياهه ونخيله |
وتذكَّروا كَلفَ امرئٍ متشوّقٍ | منزوفِ صبرٍ بالفراق ، قتيله |
حرّانَ ، مدفونِ الميولِ ، وعنَدكم | إطفاءُ غُلَّتِه وبعثُ ميوله |
حَييْتُ " سامَرّا " تحيَّةَ مُعجَبٍ | بروُاءِ مُتَّسِعِ الفِناء ظَليله |
بَلدٌ تساوَى الحسنُ فيه ، فليلُهُ | كنهاره ، وضَّحاؤه كأصيله |
ساجي الرياحِ كأنما حلَفَ الصَّبا | أن لا يمُرَّ عليه غيرُ عليله |
طَلْقُ الضواحي كاد يُربي مُقفِرٌ | منه بنُزهتهِ على مأهوله |
وكفاكَ من بلدٍ جَمالاً أنَّه | حَدِبٌ على إنعاش قلبِ نزيله |
عَجَبي بزَهْوِ صُخوره وجباله | عَجَبي بمنحَدرَاته وسُهوله |
بالماءِ منساباً على حَصبائه | بالشَّمسِ طالعةً وراء تُلوله |
بالشاطئِ الأدنى وبَسطةِ رملِهِ | بالشاطئِ الأعلى وبَردِ مَقيله |
بجماله ، والبدرُ يَملؤه سناً | بجلالهِ رهنَ الدُّجى وسُدوله |
بالنهر فيَّاضَ الجوانبِ يزدهي | بالمُطْربَينِ : خريرهِ وصليله |
ذي جانبْينِ ، فجانب مُتطامِنٌ | يقسو النسيمُ عليه في تقبيله |
بإزاءِ آخَرَ جائشٍ متلاطمٍ | يَرغو إذا ما انصبَّ نحوَ مَسيله |
فصلتهما " الجُزُرُ " اللِّطافُ نواتئاً | كلٌّ تحفَّزَ ماثلاً لعديله |
وجرتْ على الماءِ القوارِبُ عُورضت | بالجري فهي كراسفٍ بكبوله |
فإذا التَوت لمسيلهِ فكأنَّما | تبغي الوصولَ إليه قبلَ وصوله |
وإذا نظرتَ رأيتَ ثَمَّةَ قارَباً | تَمتازُه بالضوء مِن قِنديله |
أو صوتِ مِجدافٍ يُبينُ بوقعه | فوقَ الحصى عن شجوه وعويله |
سادَ السكونُ على العوالم كُلَّها | وتَجلبب الوادي رِداءَ خموله |
وتنبَّهتْ بين الصخورِ حَمامةٌ | تُصغي لصوت مُطارِحٍ بهديله |
وأشاعَ شجواً في الضفاف ورقَّةً | إيقاظُ نُوتيًّ بها لزميله |
ولقد رأيتُ فُويقَ دجلةَ مَنظراً | الَشِعرُ لا يقوى على تحليله |
شَفَقاً على الماءِ استفاضَ شُعاعُه | ذَهَباً على شُطآنه وحُقوله |
حتى إذا حكَم المغيبُ بدا له | شفقٌ يُحيطُ البدرَ حين مُثوله |
فتحالفَ الشفقانِ ، هذا فائرٌ | صُعُداً وهذا ذائبٌ بنزوله |
ثُمَّ استوى فِضّيُّ نُورٍ عابثٍ | بالمائِجَيْنِ : مِياههِ ورموله |
فاذا الشواطئُ والمساحبُ والرُّبى | والشطُّ والوادي وكلُّ فُضوله |
قمراءُ ، راقصةُ الأشعَّةِ ، جُلّلت | بخفيِّ سِرٍّ رائعٍ مجهوله |
والجوُّ أفرطَ في الصفاءِ فلو جرى | نَفَسٌ عليه لَبانَ في مصقوله |
هذي الحياةُ لِمِثلها يحنو الفتى | حِرصاً وإشفاقاً على مأموله |
وإذا أسِفتُ لمؤسِفٍ فلأنَّه | خِصْبُ الثَّرى يُشجيكَ فرطُ مُحوله |
قد كانَ في خَفْضِ النَّعيم فبالغتْ | كفُّ الليالي السودِ في تحويله |
بَدَتِ القصورُ الغامراتُ حزينةً | من كلّ منهوبِ الفِناءِ ذليله |
كالجيشِ مهزومَ الكتائبِ فلَّه | ظَفَرٌ ورَقَّ عدوَه لفلوله |
" العاشقُ " المهجورُ قُوّضَ رُكنُهُ | كالعاشق الآسي لفقدِ خليله |
" والجعفريُّ " ولم يقصِّررسمُهُ | الباقي برغُم الدَّهر عن تمثيله |
بادي الشحوبِ تَكادُ تقرأ لوعةً | لنعيمه المسلوبِ فوقَ طلوله |
وكأنَّما هو لم يجِدْ عن " جعفرٍ " | بدلآ يُسَرُّ به ولاً عن جِيله |
فُضَّتْ مَجالسُهُ به وخلَوْنَ مِن | شعر " الوليدِ بها ومن ترتيله |
إن الفحُولَ السالفينَ تعهَّدوا | عصرَ القريضِ وأُعجبوا بفحوله |
يتفاخرونَ بشاعرٍ فكأنَّما | تحصيلُ معنى الحُكْمِ في تحصيله ! |
فجزَوْهُمُ حُلوَ الكلامِ وطرَّزوا | إكليلَ ربِّ المُلْك مِن إكليله |
كانوا إذا راموا السكوتَ تذكَّروا | فَضلَ المليكِ الجمَّ في تنويله |
من صائنٍ للنفس غيرِ مُذيلها | شُحُاً ومُعطي المالِ غيرِ مُديله |
وإذا شَدَوا فكما تغنَّى طائرٌ | أثرُ النعيمِ يَبينُ في تهليله |
ولقد شجتني عَبرةٌ رَقراقةٌ | حَيرانةٌ في العين عند دُخوله |
إني سألتُ الدهرَ عن تخطيطهِ | عن سَطحه، عن عَرضه ، عن طُوله |
فأجابني : هذي الخريبةُ صدرُه | والبلقعُ الخالي مَجرُّ ذيوله |
وَسَلِ الرياحَ السافياتِ فانَّها | أدرى بكلِّ فروعه وأصوله |
وتعلَّمَنْ أنَّ الزمانَ إذا انتحى | شُهُبَ السَّما كانت مداسَ خُيوله |
مدَّت بنو العبَّاس كفَّ مُطاوِلٍ | فمشى الزمانُ لهم بكفِّ مَغوله |
واجتاحَ صادقَ مُلكهِمْ لما طَغوا | بدعيِّ مُلكٍ كاذبٍ مَنحوله |
وكذا السياسةُ في التقاضي عندَه | تسليمُ فاضلهِ الى مفضوله |
خُلِّدْتِ سامراءُ ، لم أوصِلْكِ مِن | فَضْلٍ حَشَدتِ عليَّ غيرَ قليله |
يا فرحةَ القلبِ الذي لم تتركي | أثراً لِلاعجِ همّه ودخيله |
وافاكِ مُلتهِبَ الغليلِ وراح عن | مغناكِ يَحمَدُ منكِ بردَ غليله |
أنعشتِهِ ونَفَيْتِ عنه هواجساً | ضايقْنَه ، وأثرتِ من تخييله |
وصدقته أملاً رآكِ لِمثله | أهلاً فكنتِ ، وزدتِ في تأميله |
هذا الجميلُ الغضُّ سوف يردُّه | شِعري إليكِ مُضاعفاً بجميله |
ولقد غَلوتُ فكمْ يقلبي خاطرٌ | عَجزتْ مَعاني الشعر عن تمثيله |
وَلطيفِ معنىً فيك ضاقَ بليدُها | بذكِّيهِ ، ودقيقُها بجَليله |
ولعلَّ منقولَ الكلامِ محوَّلٌ | في عالَمٍ آتٍ إلى مَعقوله |
فهُناكَ يتَّسِع التخلّصُ لامرِئٍ | من مُجمَل المعنى إلى تفصيله |