المحرقة
مدة
قراءة القصيدة :
5 دقائق
.
ء | |
أَحاوِلُ خرقاً في الحياةِ فما أجرا | وآسَفُ أن أمضي ولم أُبقِ لي ذكرا |
ويُؤلمني فرطُ افتكاري بأنَّني | سأذهبُ لا نفعاً جلبتُ ولا ضُرّا |
مضتْ حِججٌ عَشْرٌ ونفسي كأنها | من الغيظ سيلٌ سُدَّ في وجهه المجرى |
خيَرْتُ بها ما لو تخلَّدتُ بعدَه | لمَا ازدَدْتُ عِلماً بالحياةِ ولا خُبرا |
وأبصرتُ ما أهوى على مثلهِ العمى | وأُسمعتُ ما أهوى على مثلهِ الوَقْرا |
وقد أبقتِ البلوى على الوجهِ طابَعاً | وخلَّفَتِ الشحناءُ في كبِدي نَغرا |
تأمَّلْ إلى عيني تجدْ خَزَراً بها | ووجهي تُشاهِدْه عن الناس مُزورّا |
ألم تَرَني من فرطِ شكٍّ ورِيبةٍ | أُري الناسِ ، حتى صاحبي ، نظراً شزرا |
لبستُ لباسَ الثعلبيِّينَ مُكرهاً | وغطَّيتُ نفساً إنَّما خُلقت نَسرا |
ومسَّحتُ من ذيلِ الحَمامِ تملّقاً | وأنزلتُ من عَليا مكانتهِ صقرا |
وعُدتُ مليء الصدَّرِ حِقداً وقُرحةً | وعادت يدي من كلِّ ما أمَّلَتْ صِفرا |
أقولُ اضطراراً قد صبَرتُ على الأذى | على أنني لا أعرِفُ الحُرَّ مُضطرّا |
وليس بحُرٍّ مَن إذا رامَ غايةً | تخوَّفَ أن ترمي به مَسلكاً وعْرا |
وما أنتَ بالمُعطي التمرُّدِ حقَّه | إذا كنت تخشى أن تجوعَ وأن تَعرى |
وهل غيرَ هذا ترتجي من مَواطنٍ | تُريد على أوضاعها ثورةً كبرى |
مشى الدهرُ نحوي مستثيراً خطوبَه | كأني بعينِ الدهر قيصرُ أو كسرى |
وقد كانَ يكفي واحدٌ من صروفهِ | لقد أسرفتْ إذ أقبلتْ زُمراً تترى |
مشى لي كعاداتِ المخانيثِ دارعاً | يُنازِل قِرْناً مُثخَناً حاسِراً صدرا |
خليّاً من الأعوانِ لا ذُخرَ عندَه | سوى الصبرِ أوحشْ بالذي صحبَ الصَّبرا |
وما كانَ ذنبي عندَه غيرَ أنني | إذا مسَّني بالخيرِ لم أُطِلِ الشكرا |
ولم أتكفَّفْ باليسيرِ ولم أكنْ | كمستأنِسٍ بالقُلِّ مستكثِرٍ نَزْرا |
طموحٌ يريني كلَّ شيءٍ أنالُه | وإنْ جلَّ قَدرْاً دونَ ما أبتغي قدرا |
حلَبتُ كِلا شطرَيْ زماني تمعّناً | فلم أحمَدِ الشطر الذي فَضَلَ الشطرا |
شرِبتُ على الحالينِ بؤسٍ ونعمةٍ | وكابدتُ في الحالينِ ما نغَّصَ السكرا |
حُبيتُ بنَدمانٍ وخمرٍ فغاظني | بأنيَ لا مُلكاً حُبيتُ ولا قصرا |
ولو بهما مُتّعتُ ما زلتُ ساخطاً | على الدهر إذ لم يَحْبُني حاجةً أُخرى |
فما انفكَّ حتَّى استرجعَ الدهرُ حُلوَه | وحتَّى أراني أنني لم أذُق مرّا |
وجوزِيتُ شرّاً عن طُموحي فها أنا | برغميَ لا خِلاًّ تخِذتُ ولا خمرا |
فانْ يُشمِتِ الأقوامَ أخذي فلم أكن | بأوَّلِ مأخوذٍ على غِرَّةٍ غدرا |
وإنْ تفترِسْني الآكلاتُ فبعدَ ما | وثِقتُ بها فاستلَّتِ النابَ والظُفرا |
وإن تُلهبِ الشكوى قوافيَّ حُرقةً | وغيظاً فاني قادحٌ كبِداً حرّى |
وكنتُ متى أغضبْ على الدَّهر أرتجلْ | مُحرَّقةَ الأبياتِ قاذفةً جمرا |
كشأنِ " زيادٍ " حين أُحرجَ صدرُهُ | وضُويقَ حتى قال خُطبتَه البترا |
أو المتنبّي حينَ قالَ تذمُّراً | " أفيقا خُمارُ الهمِّ بغَّضني الخمرا" |
وما زلتُ ذاك المرءَ يوسِعُ دهرَه | وأوضاعَه ، والناسَ كلَّهمُ كفرا |
تحولتُ من طبعٍٍ لآخرَ ضدِّه | من الشيمةِ الحسناءِ للشيمةِ النَكرا |
وكنتُ وَديعاً طيب النفسِ هادئاً | فاصبحتُ وحشاً والِغاً في دمٍ نَمرا |
فلَو دَبَّر الباغونَ للكيدِ خطةً | رأوا أنَّني منهُمْ بَتدبيرِها أحرى |
وَلو ملكَ قارونٍ ملكتُ دَفعتُه | على كرهِ بعض الناسِ بعضَهم أجرا |
وِشجَّعتُ ما أقوى يراعةَ كاتبٍ | يُزيحُ بها عن كلِّ ذي عورةٍ سِترا |
وَمجَّدتُ من بَثَّ الدعايةَ ضدَّهم | ومن قالَ في تَسخيفِ آرائهم شعرا |
وِلو حُمَّ لي أنْ أحكمَ الناسَ ساعةً | وأن أتوَلى فيهُمُ النهىَ والأمرا |
لمزَّقتُ وَجهاً بالخديعةِ باسِماً | ولا شيتُ ثَغراً بالضَغينةِ مُفترّا |
وَقَطَّعتُ كفَّيْ من يمدُّ يمينَهُ | يَصافحني في حين تَطعنُني اليسرى |
وَعاتَبتُ سراً من يضِلُّ لنفسةِ | ومن ضلَّلَ الجمهورَ أخزيتهُ جَهْرا |
رأيتُ من الإِنسانِ يُطغيه عُجْبُه | من الخزي ما تأباهُ وحشيَّةٌ تَضرى |
إذا أُغرِيتْ هذي بأكلِ فريسةٍ | فهذا بأنْ يلهو بتعذيبها مُغرى |
أتعرفُ كم من أصيَدٍ مُمتلٍ قهرا | وكم حُرَّةٍ تشكو ومَن حولَها ، الفقرا |
لينعُمَ مَن إنْ عاشَ لم يُدرَ نفعُه | وإنْ ماتَ لم يعرِف له أحدٌ قبرا |
أتعرفُ ما يأتيه في السرِّ ناصبٌ | على العينِ منظاراً على الناسِ مغترّا |
يُقلِّبهُ بينَ الجموعِ دلالةً | على أنه أذكى من الناس أو أثرى |
وما ميَّزتْهُ عن سواه فوارقٌ | سوى أنه قد أتقنَ الرَّقصَ والزمرا |
وهذا الذي إحدى يديهِ بجيبهِ | وأُخراهما تلهو بشاربه كِبرا |
ولو فتَّشوا منه السَّبالينِ شاهدوا | خلالَهما العاهاتِ محشورةً حشرا |
وهذا الذي رغمَ النعيم وشرخهِ | يُرى حاملاٍ وجهاً من الحقدِ مُصفرّا |
وهذا الذي إنْ أعجبَ الناسَ قولهُ | مشى ليُريهمْ أنه فاتحٌ مِصرا.. |
وهذا الذي قد فخَّمتْه شهادةٌ | خلاصتُها أنَّ الفتى قارئٌ سطرا |
ويكفيكَ منه ساعةٌ لاختباره | لتعلمَ منها أنه لم يزل غِرّا |
وهَبْ أنه قد أُلهِمَ العلمَ كلَّه | وحلَّلَ حتى الجوهرَ الفردَ والذرّا |
وكانَ " شكسبيرٌ " خويدمَ شعره | وكانت لُغى الأكوان تخدمُه نثرا |
فهل كانَ حتماً أنني أنحني له | وتصطكُ مني الركبتانِ إذا مرّا..! |
ألمْ يدرِ هذا " الكوكب ! " الفذ أنه | كما كان حُرّاً كان كلُّ امرئٍ حرّا |
ذممتُ مُقامي في العراقِ وعلَّني | متى أعتزمْ مسرايَ أن أحمَدَ المسري |
لَعلي أرى شِبْراً من الغَدر خالياً | كفاني اضطهاداً أنني طالبٌ شِبْرا |