أرشيف المقالات

بيان عدم جواز تقديم الحلق على رمي جمرة العقبة

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
بيان عدم جواز تقديم الحلق على رمي جمرة العقبة
 
أعمال يوم العيد التي تَجِبُ على الحاجِّ: الرميُّ والذبح والحَلْق، والطواف والسعي، والأفضل ترتيبها هكذا، ويجوز أن يُقدَّم بعضها على بعض، إلا الحَلْق لا يُقدَّم على الرمي في أصح أقوال العلماء كما سيأتي بيانه، فإذا رَمَى الحاج ثم حَلَقَ فقد تحلَّل التحلُّلَ الأول عند جميع العلماء، واختلف العلماء فيما يحصل به التحلل الأول؛ فمذهب الشافعية والحنابلة أنه إذا عمل اثنين من الرمي والحلق والطواف، فقد تحلَّل التحلُّل الأول، ورجَّحه ابن حجر العسقلاني وابن باز، ومذهب مالك أن التحلل الأول يحصُل برمي جمرة العقبة، ورجَّحه ابن قدامة والألباني، ومذهب الحنفية ورواية عن أحمد أن التحلل الأول يحصل بالرمي ثم الحلق، ولا يتحلل بمجرد الرمي حتى يحلِقَ، ورجَّحه من العلماء المعاصرين الشنقيطي وابن عثيمين؛ [يُنظر: الشرح الكبير على المقنع للمقدسي (9/ 217، 218)، المجموع للنووي (8/ 224 - 229)، شرح العمدة لابن تيمية - كتاب الحج (2/ 539 - 545)، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (9/ 217، 218)، ملخص أحكام الحج من الموسوعة الفقهية التابعة لمؤسسة الدرر السَّنية (ص: 95، 96)].
 
وإن بعض العلماء المعاصرين وطلاب العلم يُفْتُون الحجيج بجواز تعمُّد تقديم بعض أعمال يوم العيد، ولا يستثنون الحَلْقَ الذي لا يجوز تقديمه على الرمي عند كثير من العلماء كما سيأتي بيانه، ويَسْتَدِلُّ من يُجيز تقديم الحلق على الرمي بما رواه مسلم (1306) عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال: ((يا رسول الله، إني حلقتُ قبل أن أرميَ، فقال: ارْمِ وَلَا حَرَجَ، وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي قال: ارْمِ وَلَا حَرَجَ، وأتاه آخر، فقال: إني أفَضْتُ إلى البيت قبل أن أرمي، قال: ارْمِ وَلَا حَرَجَ، قال: فما رأيته سُئِل يومئذٍ عن شيء، إلا قال: افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ))، وهذا الحديث رواه مسلم بعدة روايات ليس في أكثرها ذِكْرُ الحلق قبل الرمي، ورواه البخاري في خمسة مواضع في صحيحه (83) و(124) و(1736) و(1737) و(6665)، ليس في شيء منها تصريح السائل بقوله: حلقتُ قبل أن أرمي، لكن فيها أنه ما سُئِل يومئذ عن شيء إلا قال: ((افْعَلْ وَلا حَرَجَ))، وقد شكَّ بعض العلماء المتقدمين في ثبوت قول السائل: حلقت قبل أن أرمي؛ كالقاضي إسماعيل المالكي؛ قال ابن عبدالبر في التمهيد (7/ 275): "اللفظ الذي أنكره إسماعيل في هذا الحديث على من ذكره وزاده وأتى به، هو قوله: (حلقت قبل أن أرمي)، وهو محفوظ في الأحاديث"، وقال المازري المالكي في شرح صحيح مسلم (2/ 99): "الذي يفعله الحاج في مِنًى ثلاثة أشياء: رمي، ونحر، وحلق، فإن قدَّم من ذلك واحدًا على صاحبه، فلا فديةَ عليه، إلا في تقديم الحِلاق على الرمي، فإن عليه الفدية عندنا؛ لأنه حَلَقَ قبل حصول شيء من التحلُّل، فأشبه من حلق عقب الإحرام، وعند المخالف لا فدية عليه؛ لِما وقع في بعض طرق هذا الحديث أنه قال: ((ارمِ ولا حرج))، ومَحْمَلُ هذا عندنا على نفي الإثم لا الفدية، وحمله المخالف على نفيهما جميعًا".
 
قال أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار (4/ 394، 395): "أجمع العلماء أن هذه سنة الحاج؛ أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم ينحر هَدْيًا إن كان معه، ثم يحلق رأسه، فمن شاء قدَّم شيئًا من ذلك عن رتبته، فللعلماء في ذلك ما أصفه إن شاء الله، قال مالك: من حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة فعليه الفدية، قال أبو عمر: لأنه حرام عليه أن يَمَسَّ من شعره شيئًا، أو يلبَس، أو يمس طيبًا، حتى يرمي جمرة العقبة، وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على من حلق رأسه قبل محله من ضرورة بالفدية، فكيف من غير ضرورة؟!...
رُوِيَ عن إبراهيم وجابر بن زيد مثل قول مالك في إيجاب الفدية على من حلق قبل أن يرمي؛ وهو قول الكوفيين، وقال الشافعي وأبو ثور، وأحمد بن حنبل وإسحاق، وداود والطبري: لا شيء على من حلق قبل أن يرمي، ولا على من قدَّم شيئًا أو أخَّره؛ من رميٍ أو نحر، أو حِلاق أو طواف، ساهيًا مما يُفعَل يوم النحر، وحجتهم حديث عبدالله بن عمرو المذكور...
ورُوِيَ ذلك عن سعيد بن جبير وطاوس، ومجاهد وعكرمة وقتادة".
 
وعن أحمد بن حنبل رواية أن من حلق قبل أن يرمي متعمدًا فعليه ذبح شاة؛ قال القاضي أبو يعلى في كتابه المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 286، 287): "نقل أبو مسعود عن أحمد وقد حُكي له قول مالك: من حلق قبل أن يرمي فعليه الفدية، فقال أحمد: إن كان جاهلًا فلا شيء عليه، وإن كان عالمًا فعليه دم، فظاهر هذا وجوب الترتيب والدم جميعًا...
وإذا قلنا: يجب الدم - وهو أصح - فوجهه أن هذا ترتيب واجب؛ يدل عليه قوله تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ﴾ [الحج: 28، 29]، فأمر بقضاء التَّفَثِ؛ وهو الحِلاق بعد الذبح"، وقال ابن قدامة في المغني (3/ 395، 396): "في يوم النحر أربعة أشياء: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، والسنة ترتيبها هكذا...
فإن أخلَّ بترتيبها ناسيًا أو جاهلًا بالسنة فيها، فلا شيء عليه في قول كثير من أهل العلم...
فإن فَعَلَهُ عمدًا عالمًا بمخالفة السنة في ذلك، ففيه روايتان؛ إحداهما: لا دم عليه؛ وهو قول عطاء وإسحاق؛ لإطلاق حديث: ((لا حرج))، والثانية: عليه دم؛ رُوِيَ نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وجابر بن زيد، وقتادة، والنخعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتَّب، وقال: ((خذوا عني مناسككم))، والحديث المطلق قد جاء مقيدًا بأن السائل كان جاهلًا، فيُحمل المطلق على المقيد...
وقال مالك: إن قدَّم الحلق على الرمي فعليه دم، وإن قدَّمه على النحر أو النحر على الرمي، فلا شيء عليه؛ لأنه بالإجماع ممنوع من حَلَقَ شعره قبل التحلُّل الأول، ولا يحصل إلا برمي الجمرة، فأما النحر قبل الرمي فجائز؛ لأن الهَدْيَ قد بلغ محله...
ولا نعلم خلافًا بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تُخْرِج هذه الأفعال عن الإجزاء، ولا يمنع وقوعها موقعها، وإنما اختلفوا في وجوب الدم، على ما ذكرنا، والله أعلم"؛ [انتهى باختصار وتصرف].
 
وقال ابن العربي في المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 441، 442): "اختلف العلماء فيمن حلق قبل أن ينحر أو قبل أن يرمي؟ فقال مالك: إذا حلق قبل أن يرمي فعليه دم، وإن حلق قبل أن ينحر فلا شيء عليه، وقال الشافعي: إذا حلق قبل أن يرمي أو قبل أن ينحر فلا شيء عليه، وقال أبو حنيفة والثوري: إن حلق قبل أن ينحر أو يرمي فعليه دم، وإن كان قارنًا فعليه دمان".
 
ونقل النووي في المجموع (8/ 207، 208) عن الشافعية "ثلاثة أوجه فيمن حلق قبل الرمي والطواف؛ أحدها: لا دم، والثاني: يجب، وأصحها - وهو المذهب المشهور - إن قلنا: الحلق ليس بنُسُكٍ وجب الدم، وإلا فلا، والله أعلم"، والمعتمد عند الشافعية أن الحلق نسك، وأنه لا يجب الدم على من قدَّم الحلق على الرمي؛ [يُنظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني (2/ 269، 271)].
 
وقال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 92): "اختلفوا فيما لو تقدم بعضها على بعض؛ فاختار الشافعي جواز التقديم، وجعل الترتيب مستحبًّا، ومالك وأبو حنيفة يمنعان تقديم الحلق على الرمي؛ لأنه حينئذٍ يكون حلقًا قبل وجود التحللين...
ونُقِل عن أحمد أنه إن قدَّم بعض هذه الأشياء على بعض فلا شيء عليه إن كان جاهلًا، وإن كان عالمًا ففي وجوب الدم روايتان، وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي دون العامد قويٌّ، من جهة أن الدليل دلَّ على وجوب اتباع أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج؛ بقوله: ((خذوا عني مناسككم))، وهذه الأحاديث المرخِّصة في التقديم لما وقع السؤال عنه، إنما قُرِنت بقول السائل: (لم أشْعُر)، فيُخصَّص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب اتباع الرسول في أعمال الحج، ومن قال بوجوب الدم في العمد والنسيان عند تقدُّم الحلق على الرمي، فإنه يَحْمِلُ قوله عليه السلام: ((لا حرج)) على نفي الإثم في التقديم مع النسيان، ولا يلزم من نفي الإثم نفي وجوب الدم".
 
وقال ابن حجر في فتح الباري (3/ 571): "قال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، إلا أنه يحتمل أن يكون قوله: ((لا حرج))؛ أي: لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيًا أو جاهلًا، وأما من تعمَّد المخالفة فتجب عليه الفدية، وتُعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبًا لبيَّنه صلى الله عليه وسلم حينئذٍ؛ لأنه وقت الحاجة، ولا يجوز تأخيره...
والعجب ممن يحمل قوله: ((ولا حرج)) على نفي الإثم فقط، ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن كان الترتيب واجبًا يجب بتركه دمٌ، فليكن في الجميع، وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض، مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج؟".
 
وتقدم أنه لا خلاف بين العلماء أن التحلُّل الأول يحصل بالرمي ثم الحلق، وأنهم اختلفوا في حصوله بمجرد الرمي، أو بمجرد الطواف والرمي، أو بمجرد الطواف والحلق، وبناء على القول الأحوط أن التحلل الأول يحصل بالرمي ثم الحلق، فالظاهر أنه لا يجوز تعمد تقديم الحلق على الرمي، لا سيما وأكثر روايات حديث: ((افعل ولا حرج)) ليس فيها السؤال عن تقديم الحلق على الرمي؛ وتأمل قول ابن باز في مجموع فتاواه (17/ 355)، وهو ممن يرجِّح أن التحلل الأول يحصل بفعل اثنين من الرمي والحلق والطواف: "الأفضل والأحوط ألَّا يتحلل التحلل الأول إلا بعد أن يرمي وحتى يحلق أو يُقصِّر"، فلا ينبغي التساهل في هذا الأمر، فمن تعمَّد تقديم الحلق على الرمي، فقد أساء عند كثير من العلماء، وبعضهم أوجب عليه الفدية؛ قال المقري في الكليات الفقهية (ص: 19): "كل ما يُفعل بمنًى يوم النحر فلا شيء في تقديم بعضه على بعض، إلا الحلق قبل الرمي، ففيه الدم"، والقول بوجوب الدم على من قدَّم الحلق على الرمي هو قول مالك وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل في رواية صححها من أصحابه القاضي أبو يعلى كما تقدم، وإن كان المعتمد عند الحنابلة عدم وجوب الدم؛ [يُنظر: الروض المربع شرح زاد المستقنع (ص: 280)]، وتقدم أن مذهب عطاء أنه ليس عليه دم، ولعله الأقرب، فعلى الحاج أن يحرص على البدء بالرمي ثم الحلق، وهو الأفضل بالإجماع، ومن قدَّم الحلق على الرمي متعمدًا، فقد أساء عند كثير من العلماء، وإن كان جاهلًا أو ناسيًا، فلا حرج عليه، والله أعلم.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢