أرشيف المقالات

الطاعمون لحوم الموتى

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
الطاعمون لحوم الموتى

يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 11، 12].
 
حدَّد الله - سبحانه وتعالى - للمؤمن حُرماتٍ مقدَّسة، حرَّم انتهاكها من غيره، أو النيل منها؛ لأن في تحقيرها وانتهاكها تحقيرًا لصاحبها واستصغارًا لشأنه، الذي كرَّمه الله وفضَّله، وذلك ما يَغضب الله له، ولا يرضاه - سبحانه وتعالى.
 
غير أن بعض الأقوام يَنزعون إلى انتهاك هذه الحُرمات، والتعدي عليها باللفظ أو بالفعل، متغافلين عن تحذير الله لهم؛ حيث تَفشو في المجتمع أحيانًا ظواهرُ مَرَضيَّةٌ، تدبُّ على صفحة النفوس الصافية، فتجرُّ عليها ركائب البغضاء، ومواكب الأحقاد، فيَخترمها الهمُّ، ويَعتصرها الغم، ويُضنيها التمزُّق والشَّتات.
 
فإذا كانت السخرية واللَّمز والتنابز بالألقاب، فسوقًا بعد إيمان، وظلمًا مبينًا، فإن التجسس والغيبة، والْتماس العيب للبُرآء، من أبغض الأمراض الاجتماعية، التي تؤدي إلى الهُزال في كِيان الأمم، وتخريب النفوس، وحَشْوها بالغل والحقد، والكراهية والبغضاء؛ ذلك أنها لا تصدر إلا عن منافقٍ ضارب في أعماق النفاق؛ لأنه حين يظن ظنَّ السَّوء بالمؤمنين، يشفع ذلك الظنَّ بأَمانيه الحارَّة أن يُصدق ظنَّه الحالُ، ويُتْبع أمانيه بالتجسس والتحسس عليهم، والتنقيب عن خباياهم وسرائر أخبارهم؛ كي ينشرَها بين الناس، وصدق الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر مَن آمَن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عَوْراتِهم؛ فإنه مَن يتَّبع عوراتهم، يتَّبع الله عورته، ومَن يتَّبع الله عورته، يَفضَحه في بيته))، وفي رواية: ((في جوف بيته))، وفي رواية: ((في جوف رَحْله)).
 
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعِرضه ودمه، بحسب امرئ من الشر أن يَحقر أخاه المسلم))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إيَّاكم والظنَّ؛ فإن الظن أكذبُ الحديث، ولا تجسَّسوا ولا تحسَّسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسَدوا، ولا تباغَضوا ولا تدابَروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)).
 
ولا يدفع الإنسان إلى ذلك الصنيع سوى ضَعفِ يقينه باليوم الآخر، وعداوته الأكيدة لأهل الإيمان؛ إذ لو كان هناك في ضميره انتظارٌ لليوم الآخر، حين يُنصب ميزانُ الحق، ويَفترق الناس إلى يمين وشمال، ما كان ليُقدم على ما أقدم عليه من بثِّ سمومه المُهلكات للنَّيل من أقدار المؤمنين وغيبتهم!
 
وإذا كان في قلبه إيمان، فإنه - ولا ريب - إيمان هَشٌّ، يفتقد البعدَ الاجتماعي للإيمان النقي، الذي يحرص على سلامة الجماعة الإسلامية من الأمراض، وصحة الكتلة المؤمنة من التشوُّهات، ورعاية حُرمات المؤمنين وأقدارهم من مسيس الرذيلة والفاحشة، فمن ثَمَّ يقوم الظالمون بإيذاء المؤمنين وخَدش كرامتهم، والبحث عن مَعايبهم، وغيبتهم بالحطِّ من أقدارهم، والنيل من حُرماتهم، وصدق الحقُّ - تبارك وتعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58].
 
وإن أبلَغ وصفٍ وصَفه الله لأهل الغِيبة، هو وصفهم بآكِلي لحوم إخوانهم الموتى؛ لأنهم يتناولون سيرتهم بالتشويه والانتقاص في غيبتهم؛ حيث لا يدافعون عن أنفسهم ولا يردُّون على الطَّعن فيهم، فهم بالنسبة لهم كأموات لا يدفعون عن أنفسهم، فهو تصوير مُعجز لما تَعافُه الفطرة، وترفضه الطباع السليمة؛ ولأن طباع أهل الغيبة والافتراء ليست سليمة، فإنهم يُقدمون على ذلك، ومن هنا صدَق عليهم وصفُ ربِّهم، فهم كالخنازير بين الحيوانات؛ لانكبابهم على النجاسات والجِيَف والقاذورات!
 
إن الغيبة فوق أنها تعبير عن جُبن وخِسَّة، فهي استرواح لهبات النفاق الباحثة عن ضَعفٍ في صفوف المؤمنين، ووهَن في بُنيانهم، وحتى لا يجد المغتاب ذريعة للغيبة؛ بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدود الغيبة، حين سأله أحد صحابته قائلاً: يا رسول الله، ما الغيبة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ذِكرُك أخاك بما يكره))، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن كان فيه ما تقول، فقد اغْتَبتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بَهتَّه))؛ أي: افتَريت عليه كذبًا.
 
وكم من مُفترٍ كاذبٍ، لا يفرِّق لسانه بين الحق والباطل؛ وإنما كل همِّه هو النيل من أقدار الناس والحطُّ من شأنهم؛ ليعطي انطباعًا بطهارته وبراءته من العيوب، وغفل عن فضح النبي - صلى الله عليه وسلم - له ولأمثاله حين قال: (مَن قال: هلَك الناس، فهو أهلكهم)).
ونسأل الله العلي القدير أن يَهدينا سبيل الرشاد.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير