أرشيف المقالات

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
النداء الرابع عشر للمؤمنين في القرآن

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].
 
البطانة خلاف الظهارة، وبطنتُ ثوبي بآخر: جعلته تحته، وقد بطن فلان بفلان بطونًا، وتستعار البطانة لمن تختصُّه بالاطلاع على باطن أمرك.
 
قال - عز وجل -: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾؛ أي: مختصًّا بكم يستبطن أموركم، وذلك استعارة من بطانة الثوب، بدلالة قولهم: لبست فلانًا؛ إذا اختصصته، وفلان شعاري ودثاري[1].
 
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا كان له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، فمن وُقي بطانة السوء، فقد وقي))[2].
 
(يألو): يقصر، والخبال: الفساد.
 
(عنتم) العنت: المشقة.
 
﴿ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ﴾؛ أي: أحبُّوا مشقَّتكم.
 
معنى الآية الكريمة:
لَمَّا أخبر الله تعالى عن مصير الكافرين في الآخرة فيما سبق هذه الآية، وأن المصير المظلم كان نتيجةَ كفرِهم وظلمِهم - حذَّر الله تعالى المؤمنين من موالاتِهم دون المؤمنين، وخاصة أولئك الذين يحملون في صدورهم الغيظ والبغضاء للمسلمين، الذين لا يقصرون في العمل على إفساد المسلمين، والذين يسُوءهم أن يروا المسلمين متآلفين متحابين أقوياء، ظاهرين منصورين على أهل الشرك والكفر، ويسرهم أيضًا أن يروا المسلمين مختلفين أو ضعفاء منكسرين مغلوبين، فنادى الله تعالى المؤمنين: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾؛ أي: أفرادًا من دونكم[3]؛ أي: من غير أهل دينكم؛ كاليهود، والنصارى، والمنافقين، والمشركين، تستشيرونهم وتُطلِعونهم على أسرار وبواطن أموركم، ووصفهم الله تعالى تعريفًا بهم، فقال: ﴿ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ﴾؛ يعني: لا يُقصِّرون في إفساد أمورِكم، وما يسبب لكم الكوارث والمصائب في حياتكم.
 
وقوله: ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ وصفٌ آخر مشخِّص لهؤلاء الأعداء المحرَّمِ اتخاذُهم بطانةً، ألا وهو ظهور البغضاء من أفواههم[4] بما تنطق ألسنتهم من كلمات الكفر والعداء للإسلام وأهله، وما يُخفُونه من ذلك في صدورهم هو أكبر مما يتفلَّت من ألسنتهم، ويُؤكِّد - عز وجل - تحذير المؤمنين، فيقول: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ﴾ المتضمِّنة لبيان أعدائكم وأحوالهم وصفاتهم؛ لتعتبروا ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾؛ أي الخطاب، وما يُتلى عليكم ويقال لكم.
 
ثم يقول تعالى محذرًا: ها أنتم أيها المسلمون، تحبونهم ولا يحبونكم، قد علم الله تعالى أن مِن بين المؤمنين مَن يحب بعض الكافرين لعَلاقة الإحسان الظاهرة بينهم، فأخبر تعالى عن هؤلاء، وكما أن رحمةَ المؤمنين وشفقتهم قد تتعدَّى حتى أعداءهم، فلذا ذكر الله تعالى هذا وأخبر به، وهو الحق[5].
 
فوائد من الآية الكريمة:
1- حرمة اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة، وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية والأمور التي يُخفِيها المسلمون على أعدائهم؛ لما في ذلك من الضرر الكبير.
 
2- بيان رحمة المؤمنين وفضلهم على الكافرين.
 
3- بيان نفسيات الكافرين وما يحملونه من إرادة الشر والفساد للمسلمين.
 
فلذا يجب على المسلمين بغض هؤلاء الكفرة والحسدة، الذين يحقدون على الإسلام وأهله، والبراءة منهم، وبغضهم من سويداء القلب، فهذا ما أمر الله به وحذَّر منه، ويعتبر بُغْض الكفَّار عامة وعدم موالاتهم من أعظم مراتب الإيمان التي تقوم على أساس الحب في الله والبغض في الله، ولنا وقفة أخرى مفصَّلة - إن شاء الله تعالى - في سورة النساء والمائدة عن ذلك.

[1] المفردات في غريب القرآن - الراغب الأصفهاني.

[2] رواه النسائي - رحمه الله تعالى - عن أبي أيوب رضي الله عنه، صحيح الجامع للألباني رقم 5580.

[3] قيل لعمر رضي الله عنه: إن ها هنا رجلاً من نصارى الحِيرة لا أحدَ أكْتَبُ منه، ولا أخط منه بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين.
وجاء أبو موسى الأشعري بحساب نصراني لعمر رضي الله عنه فانتهره، وقال: لا تُدنِهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمِّنهم وقد خوَّنهم الله.

[4] خُصَّت الأفواه بالذكر دون الألسن؛ إشارة إلى أنهم يتشدقون بالكلام إيهامًا وتضليلاً.

[5] أيسر التفاسير - الجزائري، ج1 ص 200.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١