أرشيف المقالات

الدعاء والذكر (6)

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
الدعاء والذكر (6)

الدُّعاء هو حَياة الرُّوح، والسعيدُ مَن كان لسانُه رطبًا بذِكر الله في كلِّ حِين؛ لأنَّه عندئذٍ يكونُ مُقتديًا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - دائمَ الذِّكرِ لله - تبارك وتعالى - يستغفرُه ويتوبُ إليه في اليومِ أكثرَ من سبعين مرَّةً؛ كما جاء في حديث أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقولُ: ((والله إنِّي لأستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم الواحدِ أكثرَ من سبعين مرَّةً))؛ رواه البخاري[1].
 
وكما جاءَ في حديثِ الأغرِّ بن يَسارٍ المزني - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أيُّها الناسُ، تُوبوا إلى الله واستَغفِروه؛ فإنِّي أتوبُ إلى الله في اليوم مائة مرَّة))[2].
 
وهو - صلواتُ الله وسلامه عليه - المعصومُ الذي غفَر الله ما تقدَّم من ذَنبِه وما تأخَّر، وهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - القدوةُ للمسلمين؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
 
يفعلُ ذلك رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - امتِثالاً لأمرِ الله سبحانه في الآيات التي أمَرَتْ بالدُّعاء من نحو قولِه تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، وقولِه: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
 
إنَّ ما تقدَّمَ من الآياتِ الكريمةِ والأحاديثِ الشريفةِ في فضل الدُّعاء، وما عرَفْنا في سِيرة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في شأن التوبةِ والاستغفارِ والدعاءِ - لَيَدعُونا إلى أنْ تكون ألسنتُنا رطبةً بذِكر اللهِ آناءَ الليلِ وأطراف النهارِ، وإلى أنْ نُقبِلَ على الله تائبين مُستغفِرين ندعوه ليغفرَ لنا ذُنوبَنا، وإسرافَنا في أمرِنا، ونحن مُقصِّرون مُذنِبون:






إِلَهِي لا تُعَذِّبْنِي فَإِنِّي
مُقِرٌّ بِالَّذِي قَدْ كَانَ مِنِّي


فَمَا لِي حِيلَةٌ إِلاَّ رَجَائِي
لِعَفْوِكَ إِنْ عَفَوْتَ وَحُسْنِ ظَنِّي


فَكَمْ مِنْ زَلَّةٍ لِي فِي الخَطَايَا
وَأَنْتَ عَلَيَّ ذُو فَضْلٍ وَمَنِّ


إِذَا فَكَّرْتُ فِي نَدَمِي عَلَيْهَا
عَضَضْتُ أَنَامِلِي وَقَرَعْتُ سِنِّي


يَظُّنُ النَّاسُ بِي خَيْرًا وَإِنِّي
لَشَرُّ النَّاسِ إِنْ لَمْ تَعْفُ عَنِّي






 
وعلى المسلمِ أنْ يحذَرَ من الاغتِرار بما مَنَّ اللهُ عليه من النِّعَمِ التي لا تُحصَى، من العافية والغنى عن الناس، فيقول: أنا لست بحاجةٍ إلى الدعاء، إنَّه عندئذٍ يكونُ قد وقَع في الانحِراف - والعياذُ بالله تعالى - إنَّ العبد بحاجةٍ دائمة إلى مَعُونة الله واللجوءِ إليه ورعايته، وسؤاله إتمامَ نِعَمِه واستمرارَها؛ فهو وحدَه المعطي والرَّازق، والعبادُ لا يملكون من أمرِ أنفُسِهم شيئًا، فكم من عزيزٍ ذلَّ، وكم من غنيٍّ افتقَرَ، وكم من قويٍّ ضعُف وأصبَح من العاجزين! إنَّ دَوامَ الحالِ من المحال، ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [النحل: 96]، فلا المالُ يبقَى، ولا الشبابُ يبقى، ولا القوَّة تبقى، كلُّ ذلك إلى زَوال، وبالشُّكر تدومُ النِّعَمُ؛ ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].






لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ
فَلاَ يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إِنْسَانُ


هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ
مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ


وَهَذِهِ الدَّارُ لا تُبْقِي عَلَى أَحَدٍ
وَلا يَدُومُ عَلَى حَالٍ لَهَا شَانُ[3]






 
فالناس فُقَراءُ إلى اللهِ مهما ملَكُوا من الأموالِ؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، فلنعدْ إلى اللهِ، ولنَلجَأْ إلى رِحابِه، ولنسأَلْه العافيةَ في الدِّين والدُّنيا، وأنْ يُباعِد بيننا وبين المعاصي؛ ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50].
 
سؤالُ الله - تبارك وتعالى - عِزٌّ، وسؤالُ غيرِه هَوانٌ وذُلٌّ، فإذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستَعِنْ بالله.
 
نعم؛ سؤالُ غيرِ الله هوانٌ وذلٌّ، إنْ أعطَى وإنْ منَع؛ لأنَّ السائلَ مُعرَّضٌ للمَنِّ أو الاحتِقارِ والمنعِ؛ فعلى المسلمِ أنْ يدعو اللهَ، ويسألَه من فضلِه، إنَّه ملكُ الملوك، له ما في السَّموات وما في الأرضِ، وخَزائنه لا تنفدُ، قال محمود الوراق:






شَادَ المُلُوكُ قُصُورَهُمْ وَتَحَصَّنُوا
مِنْ كُلِّ طَالِبِ حَاجَةٍ أَوْ رَاغِبِ


غَالَوْا بِأَبْوَابِ الحَدِيدِ لِعِزِّهَا
وَتَنَافَسُوا فِي قُبْحِ وَجْهِ الحَاجِبِ


فَإِذَا تَلَطَّفَ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمُ
رَاجٍ تَلَقَّوْهُ بِعُذْرٍ كَاذِبِ


فَاطْلُبْ إِلَى مَلِكِ المُلُوكِ وَلا تَكُنْ
بَادِي الضَّرَاعَةِ طَالِبًا مِنْ طَالِبِ






 
وسألَ حكيمُ بن حِزامٍ - رضِي الله عنه - رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأعطاه، ثم سألَه فأعطاه، ثم سأله فأعطاه...
فوعظَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - موعظةً مُؤثِّرة، وكان فيما قال له: ((اليدُ العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى))، وتأثَّر حكيم - رضِي الله عنه - بهذه الموعظة فقال: والذي بعثَك بالحق لا أرزَأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أُفارق الدنيا، فلم يسألْ أحدًا، ولم يأخُذْ من أحدٍ شيئًا حتى تُوفِّي[4].
 
إنَّه سبحانه مالكُ الملكِ، خَزائنه لا تنفدُ، وهو سبحانه يحبُّ المتضرِّعين إليه الذين يدعونَه وحدَه.
 






لا تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً
وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لا تُحْجَبُ


اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ
وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ






 
للحديثة صلةٌ.



[1] "صحيح البخاري" برقم 6307.


[2] "صحيح مسلم" برقم 2702.


[3] هذه الأبيات لأبي البقاء الرندي، وانظر: "أقوال مأثورة" 3/368.


[4] انظر الحديث في البخاري برقم 1472، ومسلم برقم 1035.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣