من دقائق الإحسان

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
من دقائق الإحسان
 
الْإِحْسَانُ مَرْتَبَةُ الدِّينِ الْعَالِيَةُ الَّتِي عَرَّفَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[1].

وَحِكْمَةُ رَبِّنَا في ابتلائِنا اقتضت أن جُبِلْنَا على طبائعَ تنافي مُرَادَهُ الشرعي منا؛ وذلك لِيَتَحَقَّقَ الْامْتِحَانُ وَالْابْتِلَاءُ، وَتَكُونَ الْمُجَاهَدَةُ؛ فالأنفسُ مجبولةٌ على الشُّـحِّ، والشارعُ أرادَ مِنها الإنفاقَ، والأنفسُ مجبولةٌ على الجُبْنِ، والشارعُ أرادَ مِنها الجهادَ، والأنفسُ مجبولةٌ على حُبِّ الراحةِ والكَسَلِ، والشارعُ أرادَ مِنها الجِدَّ والعَمَلَ، والأنفسُ مجبولةٌ على الجَهْلِ والعَجَلَةِ، والشارعُ أرادَ مِنها الحِلْمَ والأناةَ، والأنفسُ مجبولةٌ على الأَنَفَةِ والتعاظُمِ، والشارعُ أرادَ مِنها الطاعةَ والتواضعَ وتسليمَ القيادِ...
وهكذا.

فَمِن دقائق الإحسان: التغلبُ على ما ينافي مرادَ الشارعِ مِنَّا مِن الطبائعِ والأهواءِ، وحَمْلُ النفسِ على مرادِ الربِّ -جَلَّ جَلَالُهُ- ولو خالفَ طَبْعَ النفسِ وهواها.

فَيَالَسَعَادَةِ عبدٍ غَالَبَ طبعَه فَغَلَبَه، وَجَاهَدَ هواه فَمَلَكَه، إنه لعبدٌ صالحٌ مُوَفَّقٌ، قد بَلَغَ مرتبةَ الإحسانِ، وَنَالَ مَعِيَّةَ الرَّحْمَنِ، وَفَازَ مِنْهُ بِالرِّضْوَانِ.
 






جَاهِدْ هَوَاكَ وَغَالِبْ طَبْعَكَ الشَّيْن
كَمْ فِي الظُّنُونِ مِنَ الآثَامِ وَالمَيْنِ


غَالِبْ طِبَاعَ السُّوءِ والإحَنَ التي
شَغَفَتْ فؤادًا أسْوَدًا شانَتْهُ بِالرَّيْنِ


لا يَغْلِبَنَّكَ طَبْعُ السُّوءِ تَأتِ مُكَبَّلًا
جَرَّاءَ ما حَمَلَتْهُ النَّفْسُ عَلَيْكَ مِن دَيْنِ


قُدْ أنتَ طَبْعَكَ أحكِمْ حَوْلَهُ عُقُلًا
إنَّ السديدَ يسوقُ الطَّبْعَ لِلْقَيْنِ


مَن يَرْتَجِي نَصْرَ الْإلَهِ هِدَايَتَه
فَلْيَجْتَهِدْ فِي حَمْلِ النَّفْسِ لِلزَّيْنِ






 
وَأَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلُ رَبِّي: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ‌لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

إنَّ السعادةَ الحقيقيةَ في مُخَالَفَةِ الطَّبْعِ والهوى، والانتِصَارِ عَلَى النَّفْسِ، استجابةً لله ولرسوله، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ‌وَلِلرَّسُولِ ‌إِذَا ‌دَعَاكُمْ ‌لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24].

وإذا لم يُجَاهِدِ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، وَيُخَالِفْ هَوَاهُ، فاستَجَابَ لِدَاعِي الهَوَى كُلَّمَا دَعَاهُ، فَقَدِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، قال الله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ ‌عَلَيْهِ ‌وَكِيلًا ﴾ [الفرقان: 43].

قال قتادة - رحمه الله -: ((إنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ كُلَّمَا هَوِيَ شَيْئًا رَكِبَهُ، وَكُلَّمَا اشْتَهَى شَيْئًا أَتَاهُ، لَا يَحْجُزُهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَعٌ وَلَا تَقْوَى، فَقَدْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ))[2].
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِي، قال: ((لا تغضب))، فَرَدَّدَ، قال: ((لا تغضب))[3].
 
وقد كان مِن دعائِهِ صلى الله عليه وسلم: ((...أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ ‌فِي ‌الْغَضَبِ ‌وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى...))[4].

وعَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ أعَجَبْنَنِي: الْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَاءِ، وَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْخَشْيَةُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ أهْلَكَتْهُ: ‌شُحٌّ ‌مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَأَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلَبٌ شَاكِرٌ، وَبَدَنٌ صَابِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُوَافِقَةٌ - أَوْ قَالَ: مُوَاتِيَةٌ))[5].
 
وقال بعض الحكماء: "مَنِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ صَارَ أَسِيرًا فِي حُبِّ شَهَوَاتِهَا، مَحْصُورًا فِي سِجْنِ هَوَاهَا، مَقْهُورًا، مَغْلُولًا، زِمَامُهُ فِي يَدِهَا، تَجُرُّهُ حَيْثُ شَاءَتْ، فَتَمْنَعُ قَلْبَهُ مِنَ الفَوَائِدِ"[6].
 
اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ، ‌لَا ‌يَهْدِي ‌لِأَحْسَنِهَا ‌إِلَّا ‌أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
 



[1] البخاري: 50، ومسلم: 9.


[2] أضواء البيان، للشنقيطي: 6/ 330.


[3] البخاري: 5765.


[4] مسند أحمد: 18325.


[5] جامع معمر بن راشد: 20606.


[6] إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/ 66.

شارك المقال

مشكاة أسفل ٢