ابدءوا بالتوحيد


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه ربه بالهدى، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين من الأنصار والمهاجرين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:-

فأحييكم بتحية الإسلام؛ فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته .. ثم أشكر للإخوة الذين رتبوا لهذه الدورة ترتيبهم، كما أشكر لهم دعوتهم وإتاحتهم الفرصة لِلَّقاء بهذه الوجوه الطيبة في هذه البقعة المباركة، في هذا البيت من بيوت الله، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسنات الجميع.

أيها الإخوة: الموضوع -كما سمعتم- ابدءوا بالتوحيد.

ومعلوم أن الموضوع ليس بجديد، والحديث فيه قد كثر، ولا أقول: إنه متكرر أو مردد كثيراً، ولكنه متتابع، وينبغي أن يتتابع الحديث فيه لأمور سوف تتبين -إن شاء الله- من خلال ما سألقي عليكم من أفكار وعناصر في الموضوع، وفيما بين يدي من عناصر سوف أتكلم عن التوحيد من حيث تعريفه وإثباته، ومن حيث احتفاء كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم به، ومن حيث جلائه فيما يسمى بآيات الأحكام أو أحاديث الأحكام، أو حتى ما يسمى بالفروع، وهذا يستدعي الحديث عن الضد، وهو الشرك والخوف منه، وكذلك قد نتحدث -إذا كان في الوقت متسع- عن طريقة تعليم التوحيد.

وسوف أبدأ بموضوع ما يسمى بأصول الدين وفروعه، وإن كانت العادة والمتبع في الترتيب العلمي أن يُبدأ بالتعريف أولاً، ثم تتدرج المعلومات في ابتناء بعضها على بعض، ولكن يبدو أن الحديث عما يسمى بأصول الدين وفروعه هو الذي يتجلى فيه.

لماذا نتحدث عن التوحيد؟

ولماذا نبدأ بالتوحيد؟

المتبع في ترتيب علمائنا -رحمهم الله- المتقدمين منهم والمتأخرين، والناظر في مناهج التاريخ أنهم يقسمون العلوم إلى: أصول الدين وفروع الدين، ويعتبرون أصول الدين هو الحديث عن التوحيد، ويسمونه -أيضاً- في بعض المصطلحات علم الكلام والعقائد .. وفروع الدين تعني الحديث عن الأحكام وقضايا الفقه والتشريع.

وانبنى على هذا قولهم: إن القرآن حينما تنزل في مكة كانت عنايته بالعقيدة وما يثبت العقيدة من قصص وأحوال الأنبياء مع أقوامهم، وما حل بالأقوام من عقوبات لمخالفتهم لأنبياء الله عز وجل.

ثم قالوا: إنه بعدما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أصبح الكلام عن التشريع والأحكام، وتنزلت الفرائض.

وهذا الكلام لا شك أن له ما يسنده وما يستدل له، من حيث أن الأحكام لم تتنزل إلا في المدينة ، ما عدا الصلاة فإنها شرعت في مكة بعد عشر سنين، أما سائر الأحكام فإنها ما شرعت إلا في المدينة ، وهذا كلام واضح وجلي ومعلوم من تتبع تاريخ التشريع.

ولكن -وهذا هو المهم- هل توقف الحديث عن التوحيد؟ وكيف تحدث القرآن عن التوحيد في كل مراحل تنزله خلال ثلاث وعشرين عاماً؟ وكذلك كيف كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومسيرته منذ بعث إلى أن توفي؟ أين محل التوحيد من سيرته عليه الصلاة والسلام؟

هذه القضية -يا إخواني- جديرة بالبحث وبالتأمل .. لماذا؟ لأن الحديث عن التوحيد هو لب الدين، في كل وقت، بل في كل ظرف، والمخاطبون بالتوحيد ليس الكفار فقط، بل إن المسلمين يخاطبون بالتوحيد، ويخاطبون بالحديث عن التوحيد، ويخاطبون بتقرير وتثبيت التوحيد.

وذلك لأننا سوف نرى -من خلال تتبع التشريع- أن القضية ليست مجال تردد لمن أنار الله بصيرته، ولو ذكرت لكم بعض قضايا سريعة تعرفونها: حينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) هذه آخر لحظة من حياة الإنسان، (لا إله إلا الله) و(من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) الخطاب لمن؟ إنه للمسلمين .. وحينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، كان يقول: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ).. في مرضه الذي مات فيه.

إذاً: حينما أتحدث عن التوحيد، فليس الأمر كما يقول بعض الناس -خاصة في خارج هذه البلاد، أو الذين لم يعرفوا طريقة القرآن- يقول: إنكم تتهمون الناس في عقائدهم .. أو نحو هذا الكلام.

الحديث عن التوحيد هو طريقة القرآن الكريم

إن الحديث عن التوحيد هو طريقة القرآن، وقد خوطب به المؤمنون، بل خوطب به الأنبياء عليهم السلام جميعاً، وحاشاهم أن يشركوا، وخوطب به حتى الملائكة، ولا شك أنه خوطب به الناس جميعاً بما فيهم الكفار.

حينما يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. .. الآية [محمد:19] فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه قال: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] لأنه وإن كان الخطاب في البلاغة بضمير المخاطب، لكنه -كما يقولون- لمن يصلح له .. بمعنى أنه إذا لم يكن هناك مخاطب معين يقول البلاغيون: هذا خطاب لمن يصلح له، مثل قوله تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً [الإسراء:22] يصلح أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، ويصلح أن يكون لمن يصلح له، فهو خطاب لمن يصلح له.

لكن قوله سبحانه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19] معلوم أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] فدل على أن المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم .. وحينما خوطب النبي صلى الله عليه وسلم هل كان محل شك في توحيده؟! لا. بل هو الأسوة والقدوة، وهو حامي حمى التوحيد، وهو الذي سد كل طريق يوصل إلى الشرك عليه الصلاة والسلام، ومع هذا قال الله له: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].

خطاب الله تعالى للملائكة بالتوحيد

ولهذا سنذكر -إن شاء الله- بعض الآيات التي تتعلق بكل هذه الفئات .. بالملائكة والأنبياء وبالمؤمنين والكفار، فيما يتعلق بالتوحيد وفيما يتعلق بالتحذير من الشرك .. يقول الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وهي قضية في التوحيد ظاهرة، والسياق في سورة الأنبياء، وحديثه عن التوحيد غليظ جداً، وحتى ما قبل هذه الآيات كلها في التوحيد، لكن نقتصر على محل الشاهد، يقول الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:25-29].

وهذا خطاب وتهديد ووعيد للملائكة .. فمع أن الملائكة عباد مكرمون أثنى الله عز وجل عليهم، وفي مقام آخر قال: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6] وقال: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] ومع هذا قال: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء:29] مما يدل على عظم قضية التوحيد، وعلى غيرة الله سبحانه وتعالى على التوحيد، وعلى حقه سبحانه؛ لأن التوحيد محض حقه سبحانه: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29].

خطاب الله تعالى للأنبياء بالتوحيد

أما الحديث عن الأنبياء فطويل جداً، سواء فيما يتعلق بالأنبياء على جهة الأفراد .. موسى وإبراهيم ونوح وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء، أو على جهة العموم كل الأنبياء .. فمن الآيات التي تتعلق بالأنبياء جميعاً قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الزمر:65]. الذين أوحي إليهم هم الأنبياء، والحديث مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأنبياء الله جميعاً، فإنهم هم المختصون بأنهم يوحى إليهم .. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] وحاشاه عليه الصلاة والسلام وحاشا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الشرك.

لكن فيه ما يدل على أن هذه هي القضية الكبرى، وسنرى بعد قليل كيف أن الخلل تطرق إلى الناس في التوحيد، حتى ولو كانوا مسلمين، ولو كانوا في ديار مسلمين؛ وذلك أن التوحيد حقيقته إفراد الله عز وجل بما يختص به، فإن كان توحيد الألوهية فهو إفراده بالعبادة، وإن كان توحيد الربوبية فهو إفراده بأفعاله في الخلق والرزق والملك والتدبير ... إلى آخره، وإن كان توحيد الأسماء والصفات فهو إفراده بما يختص به من أسماء وصفات سبحانه وتعالى.

إذاً: التوحيد هو إفراد الله بما يختص به، فأي خلل في توحيد الربوبية .. ومع الأسف أن الماديين الآن دخلوا حتى في شرك الربوبية، وهذا الذي لم تفعله الأمة السابقة .. أو في الألوهية، وسوف نتعرض لبعض الصور في ذلك .. أو في الأسماء والصفات، فإنها محل نزاع شديد بين المعطلة والمشبهة ، وتنزيه الله وحدود التنزيه والوصف، وإن كان هذا غالباً أكثره بين الفرق المختصة، وإن كانت العامة قد لا تدخل فيه كثيراً، فما يتعلق بالأسماء والصفات، فهو غالباً بين المختصين أكثر، وإنما العامة تتلقى ما يقوله العلماء .. فيما يتعلق بوحدة الوجود، أو فيما يتعلق بالتنزيه، وفيما يتعلق بطريقة التنزيه وطريقة التكييف، فالتنزيه أحياناً يكون عدماً، والعامة تتلقى أن التنزيه يعني العدم .. والحديث في هذا يطول، والوقت لا يسمح أن نخوض فيه كثيراً .. لكن مقصودنا هو الحديث عن التوحيد، الذي هو حق الله عز وجل، وإفراده بما يختص به من أفعاله سبحانه وتعالى، وأفعال العباد والأسماء والصفات؛ ولهذا كان حديث القرآن كله عن هذا الموضوع، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66].

آية أخرى تتعلق بالأنبياء جميعاً في سورة الأنعام .. لما ذكر الله جملة من الأنبياء -وهي أحصى آية ذكرت الأنبياء- قال الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:83-88].

يقول ابن كثير رحمه الله في كلام ما معناه: إذا كان هذا الحديث مع أنبياء الله -وحاشاهم أن يشركوا- فلماذا لا يكون الخوف من الشرك، فإن الله عز وجل يقول: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] وهؤلاء هم الأنبياء، وفيهم أولو العزم؟!

هذا فيما يتعلق ببعض الآيات التي تدل على ما يتعلق بالتوحيد مع الأنبياء في الجملة، أما الخاصة ببعض الأنبياء، فمن أظهرها ما يتعلق بإبراهيم عليه السلام، فإبراهيم هو صاحب الملة الحنيفية، وقد أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123] إبراهيم خاطبه الله عز وجل بقوله: وإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود [الحج:26] وهو الذي حكى الله عز وجل عنه قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:35-36].

والحديث في هذا لن نقف عنده طويلاً، وإنما نورد بعض الأمثلة، لنرى أن الحديث عن التوحيد لا يختص بالكفار، ولا يختص بمتهمين إن وجد متهمون، وإنما الحديث عن التوحيد غيرة على حق الله عز وجل.

ويقول الله عز وجل في حق عيسى عليه السلام -وهذا من أكثر ما ذكر أيضاً-: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116] وغيرها من الآيات التي ذكرت في قصة عيسى مع قومه بني إسرائيل فيما يتعلق بالشرك.

وفيما يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هناك آيات كثيرة، يقول الله تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص:87] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

إلى غيرها من الآيات التي تتحدث عن التحذير من الشرك في حقه عليه الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106] وليس الموضوع استعراض للآيات بقدر أن المقصود هو التمثيل.

ونشير إلى آيات أخرى أيضاً

خطاب الله تعالى للمؤمنين بالتوحيد

فيما يتعلق بالخطاب للمؤمنين، يقول الله عز وجل في صفات عباد الرحمن: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] صفات هي منتهى الالتزام ومنتهى الأدب ومنتهى الدين ومنتهى القيام لله عز وجل، ثم قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] مع أنه قبلها قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67].

آية أخرى، وهي من أجمل الآيات فيما نحن بصدده، وهي آية التمكين، الذين يمكن الله عز وجل لهم في الأرض، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور:55] وسيكون لنا وقفة عند قوله: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وذلك بعد الانتهاء من الحديث عن خطابات الفئات كلها .. الملائكة والأنبياء والمؤمنين والكفار، نعود إلى قضية (شيئاً).

خطاب الله تعالى للكفار بالتوحيد

وفيما يتعلق بالكفار هناك آيات كثيرة، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21] ويقول تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [يونس:31] والأصل أن الخطاب فيها للمشركين، بالتوحيد والدعوة إلى التوحيد وإثباته، لكن نحن تكلمنا عما يتعلق بهؤلاء الذي هم ليسوا محل شك، بل خوطب المؤمنون منهم بوصف الإيمان، ومع هذا قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] وقال: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور:55].

إن الحديث عن التوحيد هو طريقة القرآن، وقد خوطب به المؤمنون، بل خوطب به الأنبياء عليهم السلام جميعاً، وحاشاهم أن يشركوا، وخوطب به حتى الملائكة، ولا شك أنه خوطب به الناس جميعاً بما فيهم الكفار.

حينما يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. .. الآية [محمد:19] فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه قال: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] لأنه وإن كان الخطاب في البلاغة بضمير المخاطب، لكنه -كما يقولون- لمن يصلح له .. بمعنى أنه إذا لم يكن هناك مخاطب معين يقول البلاغيون: هذا خطاب لمن يصلح له، مثل قوله تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً [الإسراء:22] يصلح أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، ويصلح أن يكون لمن يصلح له، فهو خطاب لمن يصلح له.

لكن قوله سبحانه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19] معلوم أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] فدل على أن المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم .. وحينما خوطب النبي صلى الله عليه وسلم هل كان محل شك في توحيده؟! لا. بل هو الأسوة والقدوة، وهو حامي حمى التوحيد، وهو الذي سد كل طريق يوصل إلى الشرك عليه الصلاة والسلام، ومع هذا قال الله له: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].

ولهذا سنذكر -إن شاء الله- بعض الآيات التي تتعلق بكل هذه الفئات .. بالملائكة والأنبياء وبالمؤمنين والكفار، فيما يتعلق بالتوحيد وفيما يتعلق بالتحذير من الشرك .. يقول الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وهي قضية في التوحيد ظاهرة، والسياق في سورة الأنبياء، وحديثه عن التوحيد غليظ جداً، وحتى ما قبل هذه الآيات كلها في التوحيد، لكن نقتصر على محل الشاهد، يقول الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:25-29].

وهذا خطاب وتهديد ووعيد للملائكة .. فمع أن الملائكة عباد مكرمون أثنى الله عز وجل عليهم، وفي مقام آخر قال: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6] وقال: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] ومع هذا قال: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء:29] مما يدل على عظم قضية التوحيد، وعلى غيرة الله سبحانه وتعالى على التوحيد، وعلى حقه سبحانه؛ لأن التوحيد محض حقه سبحانه: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29].

أما الحديث عن الأنبياء فطويل جداً، سواء فيما يتعلق بالأنبياء على جهة الأفراد .. موسى وإبراهيم ونوح وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء، أو على جهة العموم كل الأنبياء .. فمن الآيات التي تتعلق بالأنبياء جميعاً قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الزمر:65]. الذين أوحي إليهم هم الأنبياء، والحديث مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأنبياء الله جميعاً، فإنهم هم المختصون بأنهم يوحى إليهم .. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] وحاشاه عليه الصلاة والسلام وحاشا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الشرك.

لكن فيه ما يدل على أن هذه هي القضية الكبرى، وسنرى بعد قليل كيف أن الخلل تطرق إلى الناس في التوحيد، حتى ولو كانوا مسلمين، ولو كانوا في ديار مسلمين؛ وذلك أن التوحيد حقيقته إفراد الله عز وجل بما يختص به، فإن كان توحيد الألوهية فهو إفراده بالعبادة، وإن كان توحيد الربوبية فهو إفراده بأفعاله في الخلق والرزق والملك والتدبير ... إلى آخره، وإن كان توحيد الأسماء والصفات فهو إفراده بما يختص به من أسماء وصفات سبحانه وتعالى.

إذاً: التوحيد هو إفراد الله بما يختص به، فأي خلل في توحيد الربوبية .. ومع الأسف أن الماديين الآن دخلوا حتى في شرك الربوبية، وهذا الذي لم تفعله الأمة السابقة .. أو في الألوهية، وسوف نتعرض لبعض الصور في ذلك .. أو في الأسماء والصفات، فإنها محل نزاع شديد بين المعطلة والمشبهة ، وتنزيه الله وحدود التنزيه والوصف، وإن كان هذا غالباً أكثره بين الفرق المختصة، وإن كانت العامة قد لا تدخل فيه كثيراً، فما يتعلق بالأسماء والصفات، فهو غالباً بين المختصين أكثر، وإنما العامة تتلقى ما يقوله العلماء .. فيما يتعلق بوحدة الوجود، أو فيما يتعلق بالتنزيه، وفيما يتعلق بطريقة التنزيه وطريقة التكييف، فالتنزيه أحياناً يكون عدماً، والعامة تتلقى أن التنزيه يعني العدم .. والحديث في هذا يطول، والوقت لا يسمح أن نخوض فيه كثيراً .. لكن مقصودنا هو الحديث عن التوحيد، الذي هو حق الله عز وجل، وإفراده بما يختص به من أفعاله سبحانه وتعالى، وأفعال العباد والأسماء والصفات؛ ولهذا كان حديث القرآن كله عن هذا الموضوع، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66].

آية أخرى تتعلق بالأنبياء جميعاً في سورة الأنعام .. لما ذكر الله جملة من الأنبياء -وهي أحصى آية ذكرت الأنبياء- قال الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:83-88].

يقول ابن كثير رحمه الله في كلام ما معناه: إذا كان هذا الحديث مع أنبياء الله -وحاشاهم أن يشركوا- فلماذا لا يكون الخوف من الشرك، فإن الله عز وجل يقول: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] وهؤلاء هم الأنبياء، وفيهم أولو العزم؟!

هذا فيما يتعلق ببعض الآيات التي تدل على ما يتعلق بالتوحيد مع الأنبياء في الجملة، أما الخاصة ببعض الأنبياء، فمن أظهرها ما يتعلق بإبراهيم عليه السلام، فإبراهيم هو صاحب الملة الحنيفية، وقد أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123] إبراهيم خاطبه الله عز وجل بقوله: وإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود [الحج:26] وهو الذي حكى الله عز وجل عنه قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:35-36].

والحديث في هذا لن نقف عنده طويلاً، وإنما نورد بعض الأمثلة، لنرى أن الحديث عن التوحيد لا يختص بالكفار، ولا يختص بمتهمين إن وجد متهمون، وإنما الحديث عن التوحيد غيرة على حق الله عز وجل.

ويقول الله عز وجل في حق عيسى عليه السلام -وهذا من أكثر ما ذكر أيضاً-: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116] وغيرها من الآيات التي ذكرت في قصة عيسى مع قومه بني إسرائيل فيما يتعلق بالشرك.

وفيما يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هناك آيات كثيرة، يقول الله تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص:87] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

إلى غيرها من الآيات التي تتحدث عن التحذير من الشرك في حقه عليه الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106] وليس الموضوع استعراض للآيات بقدر أن المقصود هو التمثيل.

ونشير إلى آيات أخرى أيضاً

فيما يتعلق بالخطاب للمؤمنين، يقول الله عز وجل في صفات عباد الرحمن: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] صفات هي منتهى الالتزام ومنتهى الأدب ومنتهى الدين ومنتهى القيام لله عز وجل، ثم قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] مع أنه قبلها قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67].

آية أخرى، وهي من أجمل الآيات فيما نحن بصدده، وهي آية التمكين، الذين يمكن الله عز وجل لهم في الأرض، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور:55] وسيكون لنا وقفة عند قوله: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وذلك بعد الانتهاء من الحديث عن خطابات الفئات كلها .. الملائكة والأنبياء والمؤمنين والكفار، نعود إلى قضية (شيئاً).

وفيما يتعلق بالكفار هناك آيات كثيرة، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21] ويقول تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [يونس:31] والأصل أن الخطاب فيها للمشركين، بالتوحيد والدعوة إلى التوحيد وإثباته، لكن نحن تكلمنا عما يتعلق بهؤلاء الذي هم ليسوا محل شك، بل خوطب المؤمنون منهم بوصف الإيمان، ومع هذا قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] وقال: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور:55].




استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة اسٌتمع
حق الطريق وآداب المرور 3698 استماع
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم 3089 استماع
اللغة .. عنوان سيادة الأمة 3073 استماع
الطلاق وآثاره 3015 استماع
لعلكم تتقون 3000 استماع
الماء سر الحياة 2957 استماع
من أسس العمل الصالح 2934 استماع
الزموا سفينة النجاة 2883 استماع
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل 2873 استماع
بين السلام وإباء الضيم 2852 استماع