شروط الدعوة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعــد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

ثم أيها الإخوة: هذا هو الدرس الواحد بعد التسعين من سلسلة الدروس العلمية العامة.. يستأنف في هذه الليلة المباركة إن شاء الله، ليلة الإثنين آخر المحرم (29 / 1414 هـ) وقد حدث انقطاع في الفترة الماضية بسبب الحج، ثم الاستعداد للامتحانات، وها نحن نستأنف بحمد الله تعالى في مطلع هذه الإجازة، وإنني في مستهل هذا اللقاء المبارك أزجي الشكر والدعاء للقائمين على هذا المسجد، على مجهودهم وعنايتهم وما جرى فيه من التعديلات والإصلاحات، جعل الله تعالى ذلك في ميزان الجميع.

ثم إن بعض الإخوة، يحرصون على معرفة بعض الدروس والمحاضرات السابقة، فأحب أن أقول: إنه في تلك الفترة لم يكن ثمة درس أو محاضرة للأسباب السابقة، اللهم إلا في الأسبوع الماضي، حيث قامت محاضرة بعنوان: (حديث الهجرة) وكان ذلك في مدينة ينبع ليلة الثلاثاء السابق.

أما حديث هذه الليلة فهو بعنوان: (شروط الدعوة).

أولاً: ما هي الدعوة؟

قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] من هذه الآية الكريمة؛ يتضح أن الدعوة هي حث الناس كافة على الرجوع إلى الله تعالى، وطاعة شريعته واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام.

وحين نتحدث عن الدعوة، وهي بهذا شريعة ربانية يجب ألا نتحدث بشيءٍ من عند أنفسنا؛ بل من دلائل الوحي وإرشاداته وتوجيهاته، وحين أقول: شروط الدعوة؛ فإنني لا أعني بها ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يتبادر إلى الذهن، حينما نقول مثلاً: شروط الصلاة أو شروط الوضوء، أو شروط الإيمان، أو ما شابه ذلك، كلا! بل أعني بها المعنى اللغوي.

فالشرط في اللغة: هو العلامة، كما ذكر ذلك ابن فارس في المعجم وغيره من اللغويين.

إنها معالم يهتدي بها الداعون وحسب، وليس المعنى ألا يدعو الإنسان إلا وقد تكاملت فيه الشروط والأوصاف.

فلو لم يعظ في الناس من هو مذنب      فمن يعظ العاصين بعد محمد

عليه الصلاة والسلام.

هذه الكلمات التي أقولها لكم اليوم -أيها الإخوة- لم أنقلها من كتاب، ولم ألتقطها من دراسة، وإنما مرجعها أحد شيئين: إما القرآن الكريم، أو سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأقواله وأفعاله. وهي استنباط اجتهادي قابل للخطأ والصواب، فما كان فيه من صواب فمن الله تعالى، وله الحمد والشكر وهو لذلك أهل، وما كان فيها من خطأٍ فمني ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله من ذلك بريئان.

قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] من هذه الآية الكريمة؛ يتضح أن الدعوة هي حث الناس كافة على الرجوع إلى الله تعالى، وطاعة شريعته واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام.

وحين نتحدث عن الدعوة، وهي بهذا شريعة ربانية يجب ألا نتحدث بشيءٍ من عند أنفسنا؛ بل من دلائل الوحي وإرشاداته وتوجيهاته، وحين أقول: شروط الدعوة؛ فإنني لا أعني بها ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يتبادر إلى الذهن، حينما نقول مثلاً: شروط الصلاة أو شروط الوضوء، أو شروط الإيمان، أو ما شابه ذلك، كلا! بل أعني بها المعنى اللغوي.

فالشرط في اللغة: هو العلامة، كما ذكر ذلك ابن فارس في المعجم وغيره من اللغويين.

إنها معالم يهتدي بها الداعون وحسب، وليس المعنى ألا يدعو الإنسان إلا وقد تكاملت فيه الشروط والأوصاف.

فلو لم يعظ في الناس من هو مذنب      فمن يعظ العاصين بعد محمد

عليه الصلاة والسلام.

هذه الكلمات التي أقولها لكم اليوم -أيها الإخوة- لم أنقلها من كتاب، ولم ألتقطها من دراسة، وإنما مرجعها أحد شيئين: إما القرآن الكريم، أو سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأقواله وأفعاله. وهي استنباط اجتهادي قابل للخطأ والصواب، فما كان فيه من صواب فمن الله تعالى، وله الحمد والشكر وهو لذلك أهل، وما كان فيها من خطأٍ فمني ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله من ذلك بريئان.

ثانياً: خصائص الدعوة.

من الآية الكريمة السابقة؛ تبدو خصائص الدعوة التي سوف نتفيء ظلها الآن، ونتحدث عنها.

تغيير حال المدعوين

الخصيصة الأولى: أن الدعوة انتقال بالمدعوين من حال إلى حال؛ من الكفر إلى الإسلام، أو من الضلال إلى الهدى، أو من المعصية إلى الطاعة، أو من الغفلة والرقود إلى التيقظ والانتباه.

فالداعية كالسليم. يقول العرب: السليم لا ينام ولا ينيم، أي الملدوغ لا ينام ولا يدع أحداً ينام من صياحه وأنينه. فالداعية لا ينام ولا ينيم، قد غلبه هم الدعوة وأقلقه، وهذا القلق الذي يحدث للداعية -حرصاً على الناس- يصيب الآخرين، فيحدث عندهم قلق، والقلق الذي يحدثه الداعية في نفس المدعو؛ هو سبب من أسباب القبول والتصحيح، فالإنسان الراضي المطمئن بحاله، القانع بما هو عليه؛ قد لا يُطمع في انتقاله ولا قبوله، وأول مراحل قبول الدعوة هو تذمر الإنسان مما هو عليه، وتطلعه إلى حال أفضل وأحسن.

مثال: الكافر الموسع عليه في الدنيا، الراضي بحياته، المعرض عن التفكير؛ هو بعيد عن الهداية، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:8].

مثال آخر: النصراني الذي بدأ يضيق ذرعاً بتناقضات النصرانية المحرفة واختلافاتها، ويتبرم من تصرفات رجال الكنيسة وأَلاَعيبهم، ويتقلب على فراشه فلا ينام، لأنه يشعر أنه ليس على شيء؛ هذا مرشح للهداية وقبول الحق بإذن العزيز الحميد، وهذا القلق والتوتر هو أول آية وعلامة على قبول الهداية والتطلع إليها والشغف بها.

وإذا كان الكفر موتاً ونوماً وعمىً؛ فإن الإيمان حياة ويقظة وإبصار. قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:23] وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت} وما يستوي الأحياء ولا الأموات، فالذاكر ربه هو المؤمن، وهو المسلم المطيع القائم القانت الذاكر، والغافل الذي لا يذكر ربه؛ هو الكافر أو المنافق أو المعرض أو البعيد عن الهداية.

إن دبيب الروح في الجسد الخاوي؛ يحدث الارتعاش والانتعاش والتوتر، كما أن خروج الروح من الجسد يستتبع الآلام العظام والكربات الجسام، هذا يقع في عالم الماديات كما يقع في عالم المعنويات.

في مستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان بسند على شرط الإمام مسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{لما نفخ الله الروح في آدم، فبلغ الروح رأسه، عطس فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له ربه تبارك وتعالى: يرحمك الله} وهذا الحديث له شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عند الترمذي والحاكم وغيرهما، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

لماذا عطس؟

لأن الروح بلغت رأسه، والعطاس له معنى، فدبيب الروح -دبيب الحياة في الجسد- يحدث في الجسد زلزالاً.. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في زاد المعاد ما معناه: "العطاس زلزلة البدن، وهي كزلزلة الأرض؛ ولهذا شرع التشميت أو التسميت للعاطس، أن يقال له: يرحمك الله". {وإذا عطس فحمد الله فشمته أو فسمته} ما معنى التشميت أو التسميت؟ أي دعوة إلى رجوع هذا الإنسان إلى حالته من الدعة والسكون؛ فإن العطاس -كما يقول ابن القيم- يحدث في الأعضاء حركةً وانـزعاجاً. والعرب تعتقد أن العطاس أمان من الموت للصبي بإذن الله تعالى؛ ولهذا تقول امرأة عن ولدها: أخذته بالفطسة، بالتثاؤب والعطسة؛ ويعتقد العوام أن الصبي إذا عطس ما فطس، أي: ما مات، وفطس أي: مات، وهذه لغة عربية صحيحة.

إذاً: العطاس زلزال للبدن، ومن أسبابه تغلغل الروح وتخلخلها في البدن.

قد تخللت مسلك الروح مني     ولذ سمي الخليل خليلا

فدخول الروح يحدث حركة وانـزعاجاً، وكذلك دخول روح الإيمان أو روح البحث عن الحق، أو روح حب الخير، وحب الرجوع إلى الله تعالى والرغبة في التوبة؛ هي تحدث في العقل والبدن والقلب زلزالاً يقلق الإنسان، حتى يجد مستقره في الهداية بين صفوف التائبين، وبالمقابل: فإن خروج الروح ومغادرتها البدن يحدث أشد من ذلك وأعظم، وقد روت عائشة رضي الله عنها، كما في الصحيحين قصة موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: {إن من نعم الله علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري؛ وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، ثم قالت: وكان بين يديه صلى الله عليه وسلم ركوة فيها ماء -إناء فيه ماء- فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله. إن للموت سكرات. ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى... حتى قبض صلى الله عليه وسلم فمالت يده} وفي رواية لها رضي الله عنها قالت: {والله ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكان صلى الله عليه وسلم يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه} إنها معاناة خروج الروح من البدن، وما يستتبع ذلك من الآلام.

وإذا كان هذا وذاك في دخول الروح وخروجها من الجسد فإن المادة واحدة، ولذلك يشعر الذين بدأ الإيمان يدب في قلوبهم، وبدأت التوبة تحادث عقولهم وأرواحهم؛ يشعرون بتلك الحركة وذاك الانـزعاج، ويسرعون إلى الخير وقائلهم يقول:وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] كما يشعر أولئك الذين سلبوا الإيمان، أو سلبوا جزءاً منه، فنقص إيمانهم وقل يقينهم؛ يشعرون بهم عظيم وشقاء مرير؛ لأن الإيمان روح، قال الله سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

ولهذا لما جاء الملك بالوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ غطه وضغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله وقال: اقرأ فعل ذلك ثلاثاً، ولما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خديجة؛ رجع متغيراً منتقع اللون، يقول: {زملوني دثروني، يا خديجة! لقد خشيت على نفسي}.

الدعوة في الناس كالروح في البدن

إن الدعوة نقلة روح تسري في البدن، فيتبعها قلق وهم وتوتر وحركة وانـزعاج في نفوس المدعوين.. وهذا يتفرع عنه عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: أن الداعية قلِقٌ لحال الناس، من غير يأس ولا قنوط، فهو لا يهدأ ولا يستقر. فمن جالسه أعداه، وصار يقلق لنفسه ويهتم لها؛ ولهذا قيل للحسن البصري رحمه الله تعالى: [[إنا نجالس أقواماً يخوفوننا. قال: لأن تجالس أقواماً يخوفونك حتى تبلغ المأمن؛ خيرٌ من أن تجالس أقواماً يؤمنونك حتى تبلغ المخاف]] ولو رأى لقيط بن يعمر الإيادي حال الداعية الصادق وحرصه على الناس؛ لعلم أنه أحق بقوله إذ يقول:

لا منـزفاً إن رخاء العيش داخله      ولا إذا عض مكروه به خشع

مسهد النوم تعنيه أموركم      يروم منها إلى الأعداء مطلعا

ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره      يكون متبِعا طوراً ومتبَعا

لا يطعم النوم إلا ريث يحفزه      هم تكاد حشاه تحطم الضلعا

حتى استمرت على شزر مريرته      مستحكم الرأي لا قحماً ولا جزعاً

الملاحظة الثانية: إن الطريق -طريق الدعوة والإيمان- يحفل بالمتراجعين والمتلونين والناكصين والناكثين والمترددين، فهذا النائم الذي أغراه وثير الفراش، واستغرق في حلم لذيذ؛ تأتيه يد تهزه وتقول له: استيقظ، كم سيكره هذه اليد، ويتمنى لو أسلمته لنومه الهادئ، وخلت بينه وبين إخلاده الهنيء؟!

البعض يوقظه أبوه أو أمه ولهم عنده أرفع المكانة؛ فيصرخ في وجوههم بعنف ويتصرف بعصبية، وهكذا حال بعض المدعوين مع من يدعونهم، وآخرون قد يقومون من نومهم ويعركون عيونهم ويقتربون من أنبوب الماء؛ فإذا وجدوا أدنى مسوغ إلى معاودة النوم فعلوا. فقد يقول: بقي من الوقت خمس دقائق أو عشر، وقد يقول: دورة المياه مشغولة، أو الرقيب قد ذهب؛ فيرجع أدراجه، ويعود إلى فراشه.

إنها حال بعض المدعوين الذين يحملهم الحنين إلى الماضي، إلى معاودة ما كانوا عليه؛ وهذا حال دعاة ومدعوين آخرين، وما أجمل بالداعي أن يصبر على ضعف الناس وتراجعهم، وأن يطيل النفس معهم، وألا يحملهم على ما لا تطيقه إمكانياتهم وطبائعهم! قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو داع يصدع بين أظهر قريش بـمكة، قال له: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199] قال الإمام الطبري رحمه الله: "اختلف أهل التأويل في ذلك: فمنهم من قال: خذ العفو من أخلاق الناس، وخذ الفضل وما لا يجهدهم. ومنهم من قال: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199] أي: الفضل الزائد من أموال الناس. ومنهم من قال: بل ذلك أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين، وترك الغلظة عليهم قبل أن يفرض عليهم القتال. قال رحمه الله: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: خذ العفو من أخلاق الناس واترك الغلظة عليهم. ثم قال: أمر الله بذلك نبيه في شأن المشركين، ولا دلالة على أن ذلك منسوخ، وإنما هو في حق من لم يؤمر بقتاله من المشركين؛ إذ لا يجب استعمال الشدة والغلظة في حق جميعهم". هذا معنى ما قاله رحمه الله.

إن العفو هو ما جاء بلا مشقة ولا عسر ولا تكلف، فالتيسير والسماحة والصبر والتغاظي؛ هي من المروءات التي يجب أن يلتزمها الداعية، والتي لا نجاح له إلا بها. فأنت حينما توقظ نائماً؛ حبذا أن تأتيه بلطف، وتحركه بهدوء وتصبر عليه ما دام النوم يثقل جفنه، وأنت ليس لك عليه سلطان، فإذا عاد ونام؛ فتلطف معه وعد إليه مرة أخرى، ولا يغلب جهله حلمك بحال من الأحوال!.

الملاحظة الثالثة: ومما يتعلق بهذا: أن مهمة الداعية ليست تبكيت الناس بالضرورة ولا تقريعهم، ولا يلزم أن يبدأ بعيبهم وذمهم؛ لأنه بهذا قد يثير حمية الانتصار لأنفسهم، أو لعاداتهم ومذاهبهم، وأقوالهم، ويعين الشيطان عليهم؛. وهذا مما تختلف فيه الأحوال، فمن الناس من يعرف أنه مخطئ، وأن ما يفعله ضلال أو معصية أو مخالفة، وأنه منحرف عن سواء القصد، فهذا تبدأ معه من حيث انتهى، وتبين له عواقب ما هو فيه، وأسباب الخروج منه، وتعينه على نفسه بكافة الوسائل.

مثال: شارب الخمر يعلم أنه حرام، وأن الله تعالى قال: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] وأن العربي في جاهليته كان يسميها الإثم.

سقوني الإثم ثم تكنفوني      عداة الله من كذب وزور

وأن العربي العاقل كان يتجنب الخمر؛ لأنها تذهب بلبه وعقله وتجعله كالصبيان أو كالمجانين. إذاً هو يعرف أنها حرام، وأنها إثم وزور، وأنها معصية لله عز وجل؛ وإنما غلبه هواه أو عادته أو شهوته أو إغراء قرناء السوء؛ فحينئذ هو قطع مرحلة، وعليك أن تأخذه من هذا؛ لتحمله على ترك هذا الحرام ومجانبته والعياذ بالله من شرها وإثمها.

ومن الناس من يظن نفسه على صواب، وقد امتلأ قلبه وعقله بتصويب ما هو عليه؛ إما لأنه أُشرب الهوى وهو لا يدري، وإما أنه يقلد من هو أكبر منه وأعلم وأوسع، أو لغير ذلك من الأسباب، وبعضهم قد يتعصب لاسم أو لشيخ أو لمذهب أو لطريقة، وهو لا يعرف حقيقة هذا المذهب، ولا ماذا عليه ذلك الشيخ، وإنما أمرٌ ورثه. فمثل هذا قد ينفع فيه بيان الحق، فيكشف بنفسه زيف الباطل ولو لم تشر إليه بإصبعك.

مثال: أعلم أن جماعات كثيرة من شباب طائفة الإسماعيلية ذكوراً وإناثاً، يزيد عددهم على أربعمائة أو خمسمائة، كل هؤلاء قد تسننوا وتركوا مذهبهم الفاسد. وأعتقد أن المذهب الإسماعيلي -حيث كان- يعاني في هذا الزمان انهياراً يهدد باندراس المذهب وانقراضه، والحمد لله تعالى على ذلك كثيراً.

تتساقط من هذا المذهب لا أقول: لبنات بل جدران ولوائح بأكملها، هذا مع الخلاف العميق الذي يعيشونه اليوم، ويعيشونه عبر التاريخ بعد وفاة كل زعيم من زعمائهم، أو مبايع من أئمتهم المتبوعين -كما يحدث الآن تماماً- والملاحظ أن أتباع المذهب الإسماعيلي يغلب عليهم الجهل بالمذهب؛ فالعصبية لهذا المذهب تثور حين تبدأ أن تعرفه بمذهبه، وتقول له: هل أنت إسماعيلي مثلاً؟

إذاً: مذهبكم يقول كذا ويقول كذا... فتعلمه من المذهب ما لم يكن يعلم، وربما أشرب حب التعصب؛ فأخذ هذه الأشياء التي تقول واعتقدها وآمن بها تكبراً وعناداً وهوىً. إذاً فمن المناسب ألا تفعل ذلك، بل تبين له الحق وتعظم الله تعالى في عينه، وتذكر أسماءه وصفاته؛ وتبين له مكانة الرسل عليهم السلام، وتعرفه بالإيمان والإسلام، وذلك هو المدخل الملائم، فإذا عرف الحق؛ انكشف له زيف الباطل وبان له عواره.

وهذا -بلا شك- لا يعارض نقد المذهب علانية على المستوى العلمي والمستوى العام، إذ نقد المذهب ينفع طائفة أخرى ممن يعرفون المذهب ويبحثون عن الحق حيثما كان.

إننا نريد نمطاً من الدعاة يتسلل إلى قلوب الناس وإلى عقولهم، ويدخل إليهم دخول الهواء البارد العليل، يلفح وجوههم برفق وسكينة، ويعمل على إيصال الحق كاملاً غير منقوص، دون أن يتعمد إثارة مشاعر الرفض أو الكراهية، أو استنفار عوامل التعصب والحمية الجاهلية عند المدعوين.

الملاحظة الرابعة: إن طريق الدعوة مليء بالصعاب، قال الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] وفي صحيح البخاري ومسند أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن حبان واللفظ له، عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: {أتينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا وقد لقينا من المشركين شدة: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟ فجلس مغضباً محمراً وجهه، فقال: إن من كان قبلكم ليُسأل الكلمة فما يعطيها -رجل من المؤمنين يعذب على كلمة سوء أو باطل أن يقولها؛ فيرفض ويصر ولا يعطيهم تلك الكلمة- فيوضع عليه المنشار فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وإن كان أحدهم ليمشط ما دون عظامه من لحم أو عصب بأمشاط الحديد ما يصرفه ذلك عن دينه، ولكنكم تعجلون، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه}.

سؤال: هذا الخبر: هل هو خاص بمن كانوا قبلنا من الأمم السالفة؟

كلا! وكيف يكون خاصاً وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به خباباً وأصحابه، وهم يلقون عنت قريش وأذاها؛ ليصطبروا ويعتبروا.

هل هو خاص بالصحابة رضي الله عنهم؟

كلا! ولم يكن خاصاً بهم، فرسالته صلى الله عليه وسلم للعالمين، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] وكما أن هذا البلاء يتعرض له كل داعية، فكذلك الوعد الرباني بالتمكين؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت.. من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب؛ هو قرينه وملازمه، فالعبد لا يُمَكَّنْ حتى يبتلى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والخراج بالضمان} شرط بشرط، فمن وفى بشرطه؛ وفى الله تعالى له بوعده، وأنجز له ما وعد.

إذاً: فما هو الصبر؟

إنه ثلاث مسائل:

أولها: ألا يشك ولا يرتاب في الحق الذي يحمل.

ثانيها: أن يرضى لله تعالى ويسلم، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] فيرضى بقضاء الله تعالى وقدره.

الثالثة: ألا يوافق المبطلين على مذاهبهم وما هم عليه من الزيف والضلال.

إخلاص الدعوة لله عز وجل

الخصيصة الثانية: أن الدعوة دعوة لله تعالى، كما قال سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] وقال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ [الحج:67].

إنها دعوة تتبرأ من وصمة الدعوة القومية، أو الإقليمية أو المحلية، ليست دعوة إلى مذهب خاص، ولا إلى هدف دنيوي، بل هدفها واضح، دعوة إلى الله تعالى، فهي دعوته وهي بضاعته سبحانه وتعالى وسلعته؛ أما الداعية فهو دلَّال يعلن على تلك السلعة، وليس مالكاً لها، ينادي عليها وله -فقط- السعي والسمسرة؛ هذا إن صدق وأخلص.

فهذا هو الداعية الأول محمد صلى الله عليه وسلم يُخاطب في القرآن الكريم، ومن ورائه كل داعية مخلص في الدنيا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويقال له كما قال الله عز وجل: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188] وكما قال سبحانه: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الجن:22] وكما قال أيضاً: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس:49] ويخاطب بقول الله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68].

فبكى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نـزلت هذه الآية بالتهديد والوعيد بالعذاب العظيم، ويخاطب بقوله سبحانه وتعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] ويخاطب بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الأحزاب:1] ويخاطب بقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2] لأنه صلى الله عليه وسلم عبس وتولى أي: أعرض أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا [عبس:2-10] ويُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37].

هكذا يُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فيقرأ هذه الآيات على أصحابه، وتسطر في المصحف لتتلى إلى يوم القيامة: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37].

وكان من دعائه الذي عَلَّمَه صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما في الصحيحين: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} مغفرة من عندك ليس لي فيها يد ولا استحقاق إلا محض فضلك وإنعامك ونوالك.

وهكذا ورث هذا السمت العظيم، ورثه وارثوا الدعوة عبر العصور؛ فكانوا في غاية التواضع لله تعالى والانكسار له؛ لا تختلط بدعوتهم شائبة من طمع شخصي، بل هم عبيد متواضعون، كلما زاد قبول دعوتهم زادوا انكساراً وتواضعاً وذلاً لله تعالى، وهذا نموذج لهم:

الإمام ابن القيم رحمة الله تعالى عليه ذكر صاحب الوافي وصاحب الدرر الكامنة، وغيرهما.. من بديع شعره وعظيم نظمه في الضراعة لله تعالى والتواضع وهضم النفس، وقال الصفديp: أنشدني إياها ابن القيم من لفظه لنفسه، هو قائلها، وحقيقةً فكل داعية -شاعراً كان أو غير شاعر- ينبغي أن يقول هذه الكلمات؛ تعبيراً عن نفسه قبل أن تكون تعبيراً عن الإمام ابن القيم رحمه الله:

بني أبي بكر كثير ذنوبه      فليس على من نال من عرضه إثم

بني أبي بكر جهول بنفسه      جهول بأمر الله أنى له العلم

بني أبي بكر غدا متصدراً      يعلم علماً وهو ليس له علم

بني أبي بكر غدا متمنياً      وصال المعالي والذنوب له هم

بني أبي بكر يروم ترقياً      إلى جنة المأوى وليس له عزم

بني أبي بكر يرى العزم في الذي      يزول ويفنى والذي تركه غنم

بني أبي بكر لقد خاب سعيه      إذا لم يكن في الصالحات له سهم

بني أبي بكر كما قال ربه     هلوع كنود وصفه الجهل والظلم

بني أبي بكر وأمثاله غدا     بفتواهم هذي الخليقة تأتم

وليس لهم في العلم باع ولا التقى      ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم

فوالله لو أن الصحابة شاهدوا     أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم

ماذا تظن؟

هل تعتقد أن ابن القيم قال خلاف ما يدور في قلبه؟

كلا والله!..

بل كان صادقاً مع نفسه، يتحدث عن حقيقة مشاعره، وإن كنا نحن نرى له من العلم والفضل والجلالة والإمامة ما لا يرى هو لنفسه.

إنها الصورة التي يجب أن يقولها كل صادق عن نفسه، فلا تغره المظاهر والظواهر عما يعلم من حقيقة ذاته، ولا يجعل شخصه مقياساً، من أحبه ووافقه فهو على هدى وصواب، ومن خالفه أو نافسه فهو بضد ذلك. إن الدعاة وطلبة العلم هم أولى الناس وأحراهم بالبراءة من الحظوظ الشخصية بالكلية، يكفيهم ما عند الله تعالى؛ هذا إن كانوا صادقين. أما إن كانوا كاذبين؛ فما يصيبهم في الدنيا -مهما عظم- هو أقل مما يستحقون، والله تعالى هو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إن الدعوة -أيها الأحبة- ليست حظوظا شخصية، ولا مكاسب آنية، والذي يريد الدنيا وجاهها وزخرفها وزينتها ومناصبها وبهارجها فليختر طريق الدنيا، إذ الدنيا والآخرة ضرتان، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:29].

وهذه الخصيصة يتفرع عنها ملاحظات:

الأولى: هدف الدعوة يجب أن يكون واضحاً.

إن الدعوة لها هدف واضح المعالم، بينٌ لا خفاء فيه ولا غموض. فبعض الناس تعلم أنه يعيش بلا هدف، فإذا أراد أن يعير شخصاً قال: فلان له أهداف.. وهذه نفسها كلمات السابقين أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] أي إن الباطن غير الظاهر. والآخرون يقولون: يجب عدم خلط الدعوة بالسياسة، والدعوة ليس لها أهداف سياسية... وهذا مقبول. نعم مقبول أن يُسمع من العلمانيين، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه، أو يكفرون بالكتاب كله؛ لكن لا يتصور صدوره من مسلم يؤمن بشمولية الإسلام، ويعترف بفرضية الجهاد، ويقر بضرورة الحكم بشريعة الله تعالى، ويعلم أنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه: لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88] ويكفر بالطاغوت -كل الطاغوت- ومن الطاغوت: الحكم بغير شريعة الله تعالى.

إذاً: فالدعوة الربانية في أي مكان أو بلد وجدت، وبأي صوت سمعت، وبأي أسلوب صيغت؛ هي دعوة ذات أهداف، وأهدافها شاملة للحياة كلها: في الاعتقاد والتشريع، والاجتماع والاقتصاد، والسياسة والتعليم والإعلام، وكل شيء، قال الله سبحانه وتعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وقال: وَنـزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].

إن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت واضحة الأهداف شاملة المقاصد؛ حتى يوم كانت في مكة محصورة بين جدرانها وحدودها هي لم تكن دعوةً ذات مطامع شخصية ولا مطامع ذاتية؛ لكنها لم تأت أبداً لتتوارى في جانب -فقط- من جوانب الحياة، ولا لتعالج جزءاً من أجزاء الوجود؛ لا لتعالج الأمن المتردي -مثلاً- في الجزيرة، ولا لتحل بعض المشكلات الاجتماعية؛ بل جاءت منذ أولها وبدايتها لتتدخل في كل شيء، وتنظم كل شيء، وترد كل شيء إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].

وإن أي خطة تريد أن تستأثر بجزء من الحياة -مهم أو غير مهم- وتعتبره حراماً على الدعوة لا يجوز القرب منه؛ فهي محاولة لسلب الدعوة مضمونها الشرعي، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] ويقول سبحانه: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول، كما في الحديث الذي رواه السبعة، عن عائشة رضي الله عنها:{إنما أهلك الذين من قبلكم؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت؛ لقطعت يدها}.

وإنَّ أي اجتهاد في مثل هذا الأمر هو تدخل في مضمون الدعوة وإن من الممكن أن نجتهد في اختيار الأساليب والوسائل والطرق المناسبة، وتنظيم الدعوة من خلالها؛ ولكن ليس لأحد أياً كان لا داعية ولا عالماً ولا فرداً ولا جماعة ولا جهة ولا أمة ليس لأحد أن يتحكم في مضمون الدعوة؛ لأن مضمون الدعوة رباني إلهي لا دخل للبشر فيه، فالمطلوب شيء واحد فقط هو ألا تخرج الدعوة في مضمونها عن إطار الكتاب والسنة.

إنها دعوة التوحيد، كما يشير إليه قوله تعالى: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] وهو إفراد الله تعالى بالعبادة والدينونة المطلقة له في كل شيء، فلا يعبد إلا الله ولا يصلى إلا له، ولا يصام ويحج لغيره، والذبح له وحده، والنذر له وحده والحب له وفيه والبغض فيه، والأخذ والعطاء والمنع والقبض، وكل شيء هو لله تعالى وفي سبيله.

والحياة كلها؛ فنها واقتصادها وأدبها وأخلاقها الرجل والمرأة، الكبير والصغير، الفرد والجماعة، الكل تحت ظلال الدعوة؛ فهي دعوة شمولية المضمون، لا يملك أحد أن يحد من شموليتها أو أن يمنع جزءاً منها.

الملاحظة الثانية: يجب عدم ربط الدعوة بالأشخاص أياً كانو. فهذا خطيب مفوه، وهذا داعية متحدث، وهذا عالم فقيه، وهذا مفتٍ كبير، وهذا محتسب، وهذا مجاهد، كل هؤلاء -مهما جلوا وعظموا- رجال يخطئون ويصيبون، ويستقيمون وينحرفون، ويحيون ويموتون، ويتكلمون ويسكتون، ويتأثرون بالترغيب والترهيب والخوف والرجاء، وينظرون للمصالح من زاويتهم الخاصة ووفق اجتهادهم الذاتي. والدعوة تستفيد منهم جميعاً، لكنها ليست دعوتهم؛ إنها دعوة الله تعالى، وميدان المسابقة والمنافسة والمسارعة مفتوح، لا يملك أحد غلقه أبداً.

إن من المشكلات التي نعانيها: ربط الدعوة بالأشخاص، كما لو كان هؤلاء الأشخاص قوامين عليها. وجودها مستمد من وجودهم، وانتصارهم انتصار لها. هذا خطأ يجب أن نعرف للدعاة قدرهم؛ فلا نعطيهم أكبر مما يستحقون، ولا نتجاوز بهم حدودهم.

إن الداعية -أيها الأحبة- قد ينجح وقد يفشل، أما الدعوة فنجاحها مضمون، إن لم يقم بها هذا قام بها غيره، كما قال سبحانه: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89] والمفترض أن يكون لكل غيور شرف المشاركة في الدعوة والتفكير لها والتخطيط، والاحتساب على الجميع؛ الاحتساب على الدعاة بالنصيحة بكل أسلوب، والاحتساب على طلبة العلم، والاحتساب على المجتمع، كل بحسبه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

أيها الأحبة.. سؤال: متى نفلح في استبعاد الجانب الشخصي من الدعوة، والإيمان بأن هذه البضاعة الربانية لا يقبل أن تحصر أبداً في أشخاص أو جماعات أو هيئات أو أنشطة بعينها؟

وإن كانت كل هذه الأشياء قد تساهم في خدمتها أو نشرها؟!

متى نتخلص من ظن: أن ليس في البلد إلا هذا الولد، وأن الدعوة لا تنجح إلا إذا قام بها فلان وفلان؟

إذا كان في الميدان الآن عشرون من الدعاة؛ فاعلم علم اليقين أن الأمة تحتاج ألفين من الدعاة، فإذا زلَّ واحد من ألفين؛ كانت نسبة الخطأ واحد بالألف بل نصف بالألف، وهذا لا يضر.

أما إذا كان الدعاة معدودين على الأصابع فزل واحد منهم؛ قال الناس: زل الدعاة وأخطئوا وقالوا وفعلوا. فبالله عليكم -أيها الأحبة- متى نعي هذا وندركه جيداً حق الإدراك؟!

الملاحظة الثالثة: كما أن الدعوة ليس هدفها إبراز الأشخاص، ولا تحقيق المكاسب الذاتية لهؤلاء أو أولئك؛ فليس هدفها -أيضاً- تحطيم الآخرين أو إسقاطهم. فموسى صلى الله عليه وسلم بعث إلى فرعون، فلم يعلن نقده لشخص فرعون إلا حينما رأى إصراره وكفره وعناده، ومع ذلك كان هذا أم

الخصيصة الأولى: أن الدعوة انتقال بالمدعوين من حال إلى حال؛ من الكفر إلى الإسلام، أو من الضلال إلى الهدى، أو من المعصية إلى الطاعة، أو من الغفلة والرقود إلى التيقظ والانتباه.

فالداعية كالسليم. يقول العرب: السليم لا ينام ولا ينيم، أي الملدوغ لا ينام ولا يدع أحداً ينام من صياحه وأنينه. فالداعية لا ينام ولا ينيم، قد غلبه هم الدعوة وأقلقه، وهذا القلق الذي يحدث للداعية -حرصاً على الناس- يصيب الآخرين، فيحدث عندهم قلق، والقلق الذي يحدثه الداعية في نفس المدعو؛ هو سبب من أسباب القبول والتصحيح، فالإنسان الراضي المطمئن بحاله، القانع بما هو عليه؛ قد لا يُطمع في انتقاله ولا قبوله، وأول مراحل قبول الدعوة هو تذمر الإنسان مما هو عليه، وتطلعه إلى حال أفضل وأحسن.

مثال: الكافر الموسع عليه في الدنيا، الراضي بحياته، المعرض عن التفكير؛ هو بعيد عن الهداية، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:8].

مثال آخر: النصراني الذي بدأ يضيق ذرعاً بتناقضات النصرانية المحرفة واختلافاتها، ويتبرم من تصرفات رجال الكنيسة وأَلاَعيبهم، ويتقلب على فراشه فلا ينام، لأنه يشعر أنه ليس على شيء؛ هذا مرشح للهداية وقبول الحق بإذن العزيز الحميد، وهذا القلق والتوتر هو أول آية وعلامة على قبول الهداية والتطلع إليها والشغف بها.

وإذا كان الكفر موتاً ونوماً وعمىً؛ فإن الإيمان حياة ويقظة وإبصار. قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:23] وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت} وما يستوي الأحياء ولا الأموات، فالذاكر ربه هو المؤمن، وهو المسلم المطيع القائم القانت الذاكر، والغافل الذي لا يذكر ربه؛ هو الكافر أو المنافق أو المعرض أو البعيد عن الهداية.

إن دبيب الروح في الجسد الخاوي؛ يحدث الارتعاش والانتعاش والتوتر، كما أن خروج الروح من الجسد يستتبع الآلام العظام والكربات الجسام، هذا يقع في عالم الماديات كما يقع في عالم المعنويات.

في مستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان بسند على شرط الإمام مسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{لما نفخ الله الروح في آدم، فبلغ الروح رأسه، عطس فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له ربه تبارك وتعالى: يرحمك الله} وهذا الحديث له شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عند الترمذي والحاكم وغيرهما، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

لماذا عطس؟

لأن الروح بلغت رأسه، والعطاس له معنى، فدبيب الروح -دبيب الحياة في الجسد- يحدث في الجسد زلزالاً.. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في زاد المعاد ما معناه: "العطاس زلزلة البدن، وهي كزلزلة الأرض؛ ولهذا شرع التشميت أو التسميت للعاطس، أن يقال له: يرحمك الله". {وإذا عطس فحمد الله فشمته أو فسمته} ما معنى التشميت أو التسميت؟ أي دعوة إلى رجوع هذا الإنسان إلى حالته من الدعة والسكون؛ فإن العطاس -كما يقول ابن القيم- يحدث في الأعضاء حركةً وانـزعاجاً. والعرب تعتقد أن العطاس أمان من الموت للصبي بإذن الله تعالى؛ ولهذا تقول امرأة عن ولدها: أخذته بالفطسة، بالتثاؤب والعطسة؛ ويعتقد العوام أن الصبي إذا عطس ما فطس، أي: ما مات، وفطس أي: مات، وهذه لغة عربية صحيحة.

إذاً: العطاس زلزال للبدن، ومن أسبابه تغلغل الروح وتخلخلها في البدن.

قد تخللت مسلك الروح مني     ولذ سمي الخليل خليلا

فدخول الروح يحدث حركة وانـزعاجاً، وكذلك دخول روح الإيمان أو روح البحث عن الحق، أو روح حب الخير، وحب الرجوع إلى الله تعالى والرغبة في التوبة؛ هي تحدث في العقل والبدن والقلب زلزالاً يقلق الإنسان، حتى يجد مستقره في الهداية بين صفوف التائبين، وبالمقابل: فإن خروج الروح ومغادرتها البدن يحدث أشد من ذلك وأعظم، وقد روت عائشة رضي الله عنها، كما في الصحيحين قصة موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: {إن من نعم الله علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري؛ وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، ثم قالت: وكان بين يديه صلى الله عليه وسلم ركوة فيها ماء -إناء فيه ماء- فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله. إن للموت سكرات. ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى... حتى قبض صلى الله عليه وسلم فمالت يده} وفي رواية لها رضي الله عنها قالت: {والله ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكان صلى الله عليه وسلم يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه} إنها معاناة خروج الروح من البدن، وما يستتبع ذلك من الآلام.

وإذا كان هذا وذاك في دخول الروح وخروجها من الجسد فإن المادة واحدة، ولذلك يشعر الذين بدأ الإيمان يدب في قلوبهم، وبدأت التوبة تحادث عقولهم وأرواحهم؛ يشعرون بتلك الحركة وذاك الانـزعاج، ويسرعون إلى الخير وقائلهم يقول:وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] كما يشعر أولئك الذين سلبوا الإيمان، أو سلبوا جزءاً منه، فنقص إيمانهم وقل يقينهم؛ يشعرون بهم عظيم وشقاء مرير؛ لأن الإيمان روح، قال الله سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

ولهذا لما جاء الملك بالوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ غطه وضغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله وقال: اقرأ فعل ذلك ثلاثاً، ولما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خديجة؛ رجع متغيراً منتقع اللون، يقول: {زملوني دثروني، يا خديجة! لقد خشيت على نفسي}.

إن الدعوة نقلة روح تسري في البدن، فيتبعها قلق وهم وتوتر وحركة وانـزعاج في نفوس المدعوين.. وهذا يتفرع عنه عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: أن الداعية قلِقٌ لحال الناس، من غير يأس ولا قنوط، فهو لا يهدأ ولا يستقر. فمن جالسه أعداه، وصار يقلق لنفسه ويهتم لها؛ ولهذا قيل للحسن البصري رحمه الله تعالى: [[إنا نجالس أقواماً يخوفوننا. قال: لأن تجالس أقواماً يخوفونك حتى تبلغ المأمن؛ خيرٌ من أن تجالس أقواماً يؤمنونك حتى تبلغ المخاف]] ولو رأى لقيط بن يعمر الإيادي حال الداعية الصادق وحرصه على الناس؛ لعلم أنه أحق بقوله إذ يقول:

لا منـزفاً إن رخاء العيش داخله      ولا إذا عض مكروه به خشع

مسهد النوم تعنيه أموركم      يروم منها إلى الأعداء مطلعا

ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره      يكون متبِعا طوراً ومتبَعا

لا يطعم النوم إلا ريث يحفزه      هم تكاد حشاه تحطم الضلعا

حتى استمرت على شزر مريرته      مستحكم الرأي لا قحماً ولا جزعاً

الملاحظة الثانية: إن الطريق -طريق الدعوة والإيمان- يحفل بالمتراجعين والمتلونين والناكصين والناكثين والمترددين، فهذا النائم الذي أغراه وثير الفراش، واستغرق في حلم لذيذ؛ تأتيه يد تهزه وتقول له: استيقظ، كم سيكره هذه اليد، ويتمنى لو أسلمته لنومه الهادئ، وخلت بينه وبين إخلاده الهنيء؟!

البعض يوقظه أبوه أو أمه ولهم عنده أرفع المكانة؛ فيصرخ في وجوههم بعنف ويتصرف بعصبية، وهكذا حال بعض المدعوين مع من يدعونهم، وآخرون قد يقومون من نومهم ويعركون عيونهم ويقتربون من أنبوب الماء؛ فإذا وجدوا أدنى مسوغ إلى معاودة النوم فعلوا. فقد يقول: بقي من الوقت خمس دقائق أو عشر، وقد يقول: دورة المياه مشغولة، أو الرقيب قد ذهب؛ فيرجع أدراجه، ويعود إلى فراشه.

إنها حال بعض المدعوين الذين يحملهم الحنين إلى الماضي، إلى معاودة ما كانوا عليه؛ وهذا حال دعاة ومدعوين آخرين، وما أجمل بالداعي أن يصبر على ضعف الناس وتراجعهم، وأن يطيل النفس معهم، وألا يحملهم على ما لا تطيقه إمكانياتهم وطبائعهم! قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو داع يصدع بين أظهر قريش بـمكة، قال له: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199] قال الإمام الطبري رحمه الله: "اختلف أهل التأويل في ذلك: فمنهم من قال: خذ العفو من أخلاق الناس، وخذ الفضل وما لا يجهدهم. ومنهم من قال: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199] أي: الفضل الزائد من أموال الناس. ومنهم من قال: بل ذلك أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين، وترك الغلظة عليهم قبل أن يفرض عليهم القتال. قال رحمه الله: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: خذ العفو من أخلاق الناس واترك الغلظة عليهم. ثم قال: أمر الله بذلك نبيه في شأن المشركين، ولا دلالة على أن ذلك منسوخ، وإنما هو في حق من لم يؤمر بقتاله من المشركين؛ إذ لا يجب استعمال الشدة والغلظة في حق جميعهم". هذا معنى ما قاله رحمه الله.

إن العفو هو ما جاء بلا مشقة ولا عسر ولا تكلف، فالتيسير والسماحة والصبر والتغاظي؛ هي من المروءات التي يجب أن يلتزمها الداعية، والتي لا نجاح له إلا بها. فأنت حينما توقظ نائماً؛ حبذا أن تأتيه بلطف، وتحركه بهدوء وتصبر عليه ما دام النوم يثقل جفنه، وأنت ليس لك عليه سلطان، فإذا عاد ونام؛ فتلطف معه وعد إليه مرة أخرى، ولا يغلب جهله حلمك بحال من الأحوال!.

الملاحظة الثالثة: ومما يتعلق بهذا: أن مهمة الداعية ليست تبكيت الناس بالضرورة ولا تقريعهم، ولا يلزم أن يبدأ بعيبهم وذمهم؛ لأنه بهذا قد يثير حمية الانتصار لأنفسهم، أو لعاداتهم ومذاهبهم، وأقوالهم، ويعين الشيطان عليهم؛. وهذا مما تختلف فيه الأحوال، فمن الناس من يعرف أنه مخطئ، وأن ما يفعله ضلال أو معصية أو مخالفة، وأنه منحرف عن سواء القصد، فهذا تبدأ معه من حيث انتهى، وتبين له عواقب ما هو فيه، وأسباب الخروج منه، وتعينه على نفسه بكافة الوسائل.

مثال: شارب الخمر يعلم أنه حرام، وأن الله تعالى قال: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] وأن العربي في جاهليته كان يسميها الإثم.

سقوني الإثم ثم تكنفوني      عداة الله من كذب وزور

وأن العربي العاقل كان يتجنب الخمر؛ لأنها تذهب بلبه وعقله وتجعله كالصبيان أو كالمجانين. إذاً هو يعرف أنها حرام، وأنها إثم وزور، وأنها معصية لله عز وجل؛ وإنما غلبه هواه أو عادته أو شهوته أو إغراء قرناء السوء؛ فحينئذ هو قطع مرحلة، وعليك أن تأخذه من هذا؛ لتحمله على ترك هذا الحرام ومجانبته والعياذ بالله من شرها وإثمها.

ومن الناس من يظن نفسه على صواب، وقد امتلأ قلبه وعقله بتصويب ما هو عليه؛ إما لأنه أُشرب الهوى وهو لا يدري، وإما أنه يقلد من هو أكبر منه وأعلم وأوسع، أو لغير ذلك من الأسباب، وبعضهم قد يتعصب لاسم أو لشيخ أو لمذهب أو لطريقة، وهو لا يعرف حقيقة هذا المذهب، ولا ماذا عليه ذلك الشيخ، وإنما أمرٌ ورثه. فمثل هذا قد ينفع فيه بيان الحق، فيكشف بنفسه زيف الباطل ولو لم تشر إليه بإصبعك.

مثال: أعلم أن جماعات كثيرة من شباب طائفة الإسماعيلية ذكوراً وإناثاً، يزيد عددهم على أربعمائة أو خمسمائة، كل هؤلاء قد تسننوا وتركوا مذهبهم الفاسد. وأعتقد أن المذهب الإسماعيلي -حيث كان- يعاني في هذا الزمان انهياراً يهدد باندراس المذهب وانقراضه، والحمد لله تعالى على ذلك كثيراً.

تتساقط من هذا المذهب لا أقول: لبنات بل جدران ولوائح بأكملها، هذا مع الخلاف العميق الذي يعيشونه اليوم، ويعيشونه عبر التاريخ بعد وفاة كل زعيم من زعمائهم، أو مبايع من أئمتهم المتبوعين -كما يحدث الآن تماماً- والملاحظ أن أتباع المذهب الإسماعيلي يغلب عليهم الجهل بالمذهب؛ فالعصبية لهذا المذهب تثور حين تبدأ أن تعرفه بمذهبه، وتقول له: هل أنت إسماعيلي مثلاً؟

إذاً: مذهبكم يقول كذا ويقول كذا... فتعلمه من المذهب ما لم يكن يعلم، وربما أشرب حب التعصب؛ فأخذ هذه الأشياء التي تقول واعتقدها وآمن بها تكبراً وعناداً وهوىً. إذاً فمن المناسب ألا تفعل ذلك، بل تبين له الحق وتعظم الله تعالى في عينه، وتذكر أسماءه وصفاته؛ وتبين له مكانة الرسل عليهم السلام، وتعرفه بالإيمان والإسلام، وذلك هو المدخل الملائم، فإذا عرف الحق؛ انكشف له زيف الباطل وبان له عواره.

وهذا -بلا شك- لا يعارض نقد المذهب علانية على المستوى العلمي والمستوى العام، إذ نقد المذهب ينفع طائفة أخرى ممن يعرفون المذهب ويبحثون عن الحق حيثما كان.

إننا نريد نمطاً من الدعاة يتسلل إلى قلوب الناس وإلى عقولهم، ويدخل إليهم دخول الهواء البارد العليل، يلفح وجوههم برفق وسكينة، ويعمل على إيصال الحق كاملاً غير منقوص، دون أن يتعمد إثارة مشاعر الرفض أو الكراهية، أو استنفار عوامل التعصب والحمية الجاهلية عند المدعوين.

الملاحظة الرابعة: إن طريق الدعوة مليء بالصعاب، قال الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] وفي صحيح البخاري ومسند أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن حبان واللفظ له، عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: {أتينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا وقد لقينا من المشركين شدة: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟ فجلس مغضباً محمراً وجهه، فقال: إن من كان قبلكم ليُسأل الكلمة فما يعطيها -رجل من المؤمنين يعذب على كلمة سوء أو باطل أن يقولها؛ فيرفض ويصر ولا يعطيهم تلك الكلمة- فيوضع عليه المنشار فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وإن كان أحدهم ليمشط ما دون عظامه من لحم أو عصب بأمشاط الحديد ما يصرفه ذلك عن دينه، ولكنكم تعجلون، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه}.

سؤال: هذا الخبر: هل هو خاص بمن كانوا قبلنا من الأمم السالفة؟

كلا! وكيف يكون خاصاً وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به خباباً وأصحابه، وهم يلقون عنت قريش وأذاها؛ ليصطبروا ويعتبروا.

هل هو خاص بالصحابة رضي الله عنهم؟

كلا! ولم يكن خاصاً بهم، فرسالته صلى الله عليه وسلم للعالمين، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] وكما أن هذا البلاء يتعرض له كل داعية، فكذلك الوعد الرباني بالتمكين؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت.. من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب؛ هو قرينه وملازمه، فالعبد لا يُمَكَّنْ حتى يبتلى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والخراج بالضمان} شرط بشرط، فمن وفى بشرطه؛ وفى الله تعالى له بوعده، وأنجز له ما وعد.

إذاً: فما هو الصبر؟

إنه ثلاث مسائل:

أولها: ألا يشك ولا يرتاب في الحق الذي يحمل.

ثانيها: أن يرضى لله تعالى ويسلم، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] فيرضى بقضاء الله تعالى وقدره.

الثالثة: ألا يوافق المبطلين على مذاهبهم وما هم عليه من الزيف والضلال.

الخصيصة الثانية: أن الدعوة دعوة لله تعالى، كما قال سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] وقال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ [الحج:67].

إنها دعوة تتبرأ من وصمة الدعوة القومية، أو الإقليمية أو المحلية، ليست دعوة إلى مذهب خاص، ولا إلى هدف دنيوي، بل هدفها واضح، دعوة إلى الله تعالى، فهي دعوته وهي بضاعته سبحانه وتعالى وسلعته؛ أما الداعية فهو دلَّال يعلن على تلك السلعة، وليس مالكاً لها، ينادي عليها وله -فقط- السعي والسمسرة؛ هذا إن صدق وأخلص.

فهذا هو الداعية الأول محمد صلى الله عليه وسلم يُخاطب في القرآن الكريم، ومن ورائه كل داعية مخلص في الدنيا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويقال له كما قال الله عز وجل: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188] وكما قال سبحانه: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الجن:22] وكما قال أيضاً: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس:49] ويخاطب بقول الله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68].

فبكى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نـزلت هذه الآية بالتهديد والوعيد بالعذاب العظيم، ويخاطب بقوله سبحانه وتعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] ويخاطب بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الأحزاب:1] ويخاطب بقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2] لأنه صلى الله عليه وسلم عبس وتولى أي: أعرض أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا [عبس:2-10] ويُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37].

هكذا يُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فيقرأ هذه الآيات على أصحابه، وتسطر في المصحف لتتلى إلى يوم القيامة: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37].

وكان من دعائه الذي عَلَّمَه صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما في الصحيحين: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} مغفرة من عندك ليس لي فيها يد ولا استحقاق إلا محض فضلك وإنعامك ونوالك.

وهكذا ورث هذا السمت العظيم، ورثه وارثوا الدعوة عبر العصور؛ فكانوا في غاية التواضع لله تعالى والانكسار له؛ لا تختلط بدعوتهم شائبة من طمع شخصي، بل هم عبيد متواضعون، كلما زاد قبول دعوتهم زادوا انكساراً وتواضعاً وذلاً لله تعالى، وهذا نموذج لهم:

الإمام ابن القيم رحمة الله تعالى عليه ذكر صاحب الوافي وصاحب الدرر الكامنة، وغيرهما.. من بديع شعره وعظيم نظمه في الضراعة لله تعالى والتواضع وهضم النفس، وقال الصفديp: أنشدني إياها ابن القيم من لفظه لنفسه، هو قائلها، وحقيقةً فكل داعية -شاعراً كان أو غير شاعر- ينبغي أن يقول هذه الكلمات؛ تعبيراً عن نفسه قبل أن تكون تعبيراً عن الإمام ابن القيم رحمه الله:

بني أبي بكر كثير ذنوبه      فليس على من نال من عرضه إثم

بني أبي بكر جهول بنفسه      جهول بأمر الله أنى له العلم

بني أبي بكر غدا متصدراً      يعلم علماً وهو ليس له علم

بني أبي بكر غدا متمنياً      وصال المعالي والذنوب له هم

بني أبي بكر يروم ترقياً      إلى جنة المأوى وليس له عزم

بني أبي بكر يرى العزم في الذي      يزول ويفنى والذي تركه غنم

بني أبي بكر لقد خاب سعيه      إذا لم يكن في الصالحات له سهم

بني أبي بكر كما قال ربه     هلوع كنود وصفه الجهل والظلم

بني أبي بكر وأمثاله غدا     بفتواهم هذي الخليقة تأتم

وليس لهم في العلم باع ولا التقى      ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم

فوالله لو أن الصحابة شاهدوا     أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم

ماذا تظن؟

هل تعتقد أن ابن القيم قال خلاف ما يدور في قلبه؟

كلا والله!..

بل كان صادقاً مع نفسه، يتحدث عن حقيقة مشاعره، وإن كنا نحن نرى له من العلم والفضل والجلالة والإمامة ما لا يرى هو لنفسه.

إنها الصورة التي يجب أن يقولها كل صادق عن نفسه، فلا تغره المظاهر والظواهر عما يعلم من حقيقة ذاته، ولا يجعل شخصه مقياساً، من أحبه ووافقه فهو على هدى وصواب، ومن خالفه أو نافسه فهو بضد ذلك. إن الدعاة وطلبة العلم هم أولى الناس وأحراهم بالبراءة من الحظوظ الشخصية بالكلية، يكفيهم ما عند الله تعالى؛ هذا إن كانوا صادقين. أما إن كانوا كاذبين؛ فما يصيبهم في الدنيا -مهما عظم- هو أقل مما يستحقون، والله تعالى هو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إن الدعوة -أيها الأحبة- ليست حظوظا شخصية، ولا مكاسب آنية، والذي يريد الدنيا وجاهها وزخرفها وزينتها ومناصبها وبهارجها فليختر طريق الدنيا، إذ الدنيا والآخرة ضرتان، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:29].

وهذه الخصيصة يتفرع عنها ملاحظات:

الأولى: هدف الدعوة يجب أن يكون واضحاً.

إن الدعوة لها هدف واضح المعالم، بينٌ لا خفاء فيه ولا غموض. فبعض الناس تعلم أنه يعيش بلا هدف، فإذا أراد أن يعير شخصاً قال: فلان له أهداف.. وهذه نفسها كلمات السابقين أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] أي إن الباطن غير الظاهر. والآخرون يقولون: يجب عدم خلط الدعوة بالسياسة، والدعوة ليس لها أهداف سياسية... وهذا مقبول. نعم مقبول أن يُسمع من العلمانيين، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه، أو يكفرون بالكتاب كله؛ لكن لا يتصور صدوره من مسلم يؤمن بشمولية الإسلام، ويعترف بفرضية الجهاد، ويقر بضرورة الحكم بشريعة الله تعالى، ويعلم أنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه: لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88] ويكفر بالطاغوت -كل الطاغوت- ومن الطاغوت: الحكم بغير شريعة الله تعالى.

إذاً: فالدعوة الربانية في أي مكان أو بلد وجدت، وبأي صوت سمعت، وبأي أسلوب صيغت؛ هي دعوة ذات أهداف، وأهدافها شاملة للحياة كلها: في الاعتقاد والتشريع، والاجتماع والاقتصاد، والسياسة والتعليم والإعلام، وكل شيء، قال الله سبحانه وتعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وقال: وَنـزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].

إن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت واضحة الأهداف شاملة المقاصد؛ حتى يوم كانت في مكة محصورة بين جدرانها وحدودها هي لم تكن دعوةً ذات مطامع شخصية ولا مطامع ذاتية؛ لكنها لم تأت أبداً لتتوارى في جانب -فقط- من جوانب الحياة، ولا لتعالج جزءاً من أجزاء الوجود؛ لا لتعالج الأمن المتردي -مثلاً- في الجزيرة، ولا لتحل بعض المشكلات الاجتماعية؛ بل جاءت منذ أولها وبدايتها لتتدخل في كل شيء، وتنظم كل شيء، وترد كل شيء إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].

وإن أي خطة تريد أن تستأثر بجزء من الحياة -مهم أو غير مهم- وتعتبره حراماً على الدعوة لا يجوز القرب منه؛ فهي محاولة لسلب الدعوة مضمونها الشرعي، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] ويقول سبحانه: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول، كما في الحديث الذي رواه السبعة، عن عائشة رضي الله عنها:{إنما أهلك الذين من قبلكم؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت؛ لقطعت يدها}.

وإنَّ أي اجتهاد في مثل هذا الأمر هو تدخل في مضمون الدعوة وإن من الممكن أن نجتهد في اختيار الأساليب والوسائل والطرق المناسبة، وتنظيم الدعوة من خلالها؛ ولكن ليس لأحد أياً كان لا داعية ولا عالماً ولا فرداً ولا جماعة ولا جهة ولا أمة ليس لأحد أن يتحكم في مضمون الدعوة؛ لأن مضمون الدعوة رباني إلهي لا دخل للبشر فيه، فالمطلوب شيء واحد فقط هو ألا تخرج الدعوة في مضمونها عن إطار الكتاب والسنة.

إنها دعوة التوحيد، كما يشير إليه قوله تعالى: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] وهو إفراد الله تعالى بالعبادة والدينونة المطلقة له في كل شيء، فلا يعبد إلا الله ولا يصلى إلا له، ولا يصام ويحج لغيره، والذبح له وحده، والنذر له وحده والحب له وفيه والبغض فيه، والأخذ والعطاء والمنع والقبض، وكل شيء هو لله تعالى وفي سبيله.

والحياة كلها؛ فنها واقتصادها وأدبها وأخلاقها الرجل والمرأة، الكبير والصغير، الفرد والجماعة، الكل تحت ظلال الدعوة؛ فهي دعوة شمولية المضمون، لا يملك أحد أن يحد من شموليتها أو أن يمنع جزءاً منها.

الملاحظة الثانية: يجب عدم ربط الدعوة بالأشخاص أياً كانو. فهذا خطيب مفوه، وهذا داعية متحدث، وهذا عالم فقيه، وهذا مفتٍ كبير، وهذا محتسب، وهذا مجاهد، كل هؤلاء -مهما جلوا وعظموا- رجال يخطئون ويصيبون، ويستقيمون وينحرفون، ويحيون ويموتون، ويتكلمون ويسكتون، ويتأثرون بالترغيب والترهيب والخوف والرجاء، وينظرون للمصالح من زاويتهم الخاصة ووفق اجتهادهم الذاتي. والدعوة تستفيد منهم جميعاً، لكنها ليست دعوتهم؛ إنها دعوة الله تعالى، وميدان المسابقة والمنافسة والمسارعة مفتوح، لا يملك أحد غلقه أبداً.

إن من المشكلات التي نعانيها: ربط الدعوة بالأشخاص، كما لو كان هؤلاء الأشخاص قوامين عليها. وجودها مستمد من وجودهم، وانتصارهم انتصار لها. هذا خطأ يجب أن نعرف للدعاة قدرهم؛ فلا نعطيهم أكبر مما يستحقون، ولا نتجاوز بهم حدودهم.

إن الداعية -أيها الأحبة- قد ينجح وقد يفشل، أما الدعوة فنجاحها مضمون، إن لم يقم بها هذا قام بها غيره، كما قال سبحانه: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89] والمفترض أن يكون لكل غيور شرف المشاركة في الدعوة والتفكير لها والتخطيط، والاحتساب على الجميع؛ الاحتساب على الدعاة بالنصيحة بكل أسلوب، والاحتساب على طلبة العلم، والاحتساب على المجتمع، كل بحسبه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

أيها الأحبة.. سؤال: متى نفلح في استبعاد الجانب الشخصي من الدعوة، والإيمان بأن هذه البضاعة الربانية لا يقبل أن تحصر أبداً في أشخاص أو جماعات أو هيئات أو أنشطة بعينها؟

وإن كانت كل هذه الأشياء قد تساهم في خدمتها أو نشرها؟!

متى نتخلص من ظن: أن ليس في البلد إلا هذا الولد، وأن الدعوة لا تنجح إلا إذا قام بها فلان وفلان؟

إذا كان في الميدان الآن عشرون من الدعاة؛ فاعلم علم اليقين أن الأمة تحتاج ألفين من الدعاة، فإذا زلَّ واحد من ألفين؛ كانت نسبة الخطأ واحد بالألف بل نصف بالألف، وهذا لا يضر.

أما إذا كان الدعاة معدودين على الأصابع فزل واحد منهم؛ قال الناس: زل الدعاة وأخطئوا وقالوا وفعلوا. فبالله عليكم -أيها الأحبة- متى نعي هذا وندركه جيداً حق الإدراك؟!

الملاحظة الثالثة: كما أن الدعوة ليس هدفها إبراز الأشخاص، ولا تحقيق المكاسب الذاتية لهؤلاء أو أولئك؛ فليس هدفها -أيضاً- تحطيم الآخرين أو إسقاطهم. فموسى صلى الله عليه وسلم بعث إلى فرعون، فلم يعلن نقده لشخص فرعون إلا حينما رأى إصراره وكفره وعناده، ومع ذلك كان هذا أمامه وفي مجلسه: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102] ومع ذلك تأمل كم عدد الكلمات والخطب والعبارات التي قالها موسى في حق فرعون، وذكرها الله تعالى لنا؟!

إنني لا أذكر أشد ولا أقوى من تلك الكلمة التي ألقى بها في وجهه غير هياب ولا وجل: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102] ثم أعرض عنه موسى وانهمك في دعوة بني إسرائيل، وتربيتهم والصبر عليهم، والانتقال بهم من موقع إلى آخر؛ لأن هَمَّ موسى لم يكن القضاء على فرعون فقط، وإنما كان همُّ موسى إخراج الناس من العبودية لفرعون إلى العبودية لله تعالى رب العالمين.

ومحمد صلى الله عليه وسلم، كم خطبة وكلمة ألقاها في شخص أبي جهل وفضحه والكلام عنه، وخططه وأساليبه وألاعيبه وأحواله وأعماله وأقواله؟!

وهو فرعون هذه الأمة، الذي حارب الله ورسوله وسقط في المعركة وهو يناضل عن الشرك، ويسأل: لمن الدائرة اليوم؟

كم خطبة ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه؟

عن زياد بن علاقة أنه سمع المغيرة بن شعبة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء} رواه أحمد وابن حبان والطبراني وإسناده صحيح.

فالسب والشتم ليس من طرق الدعوة ولا أساليبها ولا خططها، والدعوة لم تأت لإسقاط أفراد بأعينهم؛ وإنما جاءت لإسقاط الباطل، وبسقوطه يسقط من يحملونه.

إن الأمر أكبر من شخوص عابرة لا قرار لها؛ هو أمر دعوة تجتاز السنين وتعبر القرون، وتنازل ألوان الانحراف عن دين الله تعالى، وإن كان هناك أشخاص عرفوا بأنهم حملة الباطل ودعاته، فزوالهم فيه خير كثير.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع