دولتهم المدنية: عسكرية ديكتاتورية نخبوية! - عبد المنعم الشحات
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فرغم أن لنا تحفظاتٍ على وثيقة الأزهر إلا أنها قدمت حلاً جيدًا لقضية مصطلح الدولة المدنية الذي تصر عليه بعض القوى التي تُسمي نفسها: (بالمدنية) في مقابل رفض الإسلاميين له مِن باب أن مصطلح (الدولة المدنية) كمصطلح مركب يساوي مصطلح (الدولة العلمانية ).
وفي هذا الصدد حاول دعاة تلك الدولة المدنية أن يقنعونا أنهم ما قصدوا بها إلا رفض نموذج الدولة الثيوقراطية، ونموذج الحكم العسكري، ونموذج الحكم الديكتاتوري، وأنهم لا يريدون قط ترسيخ العلمانية، ولا يرغبون في العدوان على (المادة الثانية) ومِن ثَمَّ خرجت وثيقة الأزهر مِن هذا المأزق بعبارة: " مصر دولة دستورية ديمقراطية حديثة".
وهذه العبارة تفي -كما هو واضح- بجميع الأغراض المعلنة التي يرددها دعاة الدولة المدنية، بينما لا تفي بأغراض الإسلاميين -ومِن ورائهم الجموع الشعبية الهادرة- إلا بضميمة (المادة الثانية) ومع هذا فاصل وماطل وساوم مَن حضر مناقشة تلك الوثيقة مِن العلمانيين مطالبًا باختصار وضم هذه الكلمات الثلاث مرة أخرى تحت مصطلح: (الدولة المدنية) مع القسَم بأغلظ الأيمان بأنهم لا يريدون، ولم ولن يحاولوا أن يمرروا العلمانية تحت مسمى المدنية.
ودارت عجلة الأحداث وأُجل الدستور إلى حينه، وعندما جاء ذلك الحين، وجدنا أن القوم لا يريدون مِن ذلك المصطلح إلا العلمانية ليس إلا، وأن كل المضامين الأخرى هم ما بيْن مؤيد لضدها أو مستجيز لاستعماله على الأقل!
فأثاروا قضية الهيئة التأسيسية، وهل ينبغي أن تكون من أعضاء البرلمان أم مِن خارجه؟ ومال معظمهم إلى أنها يجب أن تكون من خارجه لحاجة في نفوسهم، وأقرت الأغلبية في البرلمان أن تكون اللجنة مناصفة بين الداخل والخارج، وطمع العلمانيون في أن يأخذوا 12% من الداخل، وكل الـ 50% التي بالخارج، فلما جاءت قائمة المائة يغلب عليها ذوو التوجه الإسلامي بنسبة ضعيفة جدًا لا تعبِّر عن نسبة حقيقية للإسلاميين داخل البرلمان وخارجه، خلع العلمانيون كل برقع، وظهرت النوايا الحقيقة، وأنهم ضد أن ينفرد تيار واحد بكتابة الدستور -يعنون التيار الإسلامي-.
وإذا علمتَ أن التيار الإسلامي لا يملك إلا أغلبية طفيفة جدًا مِن اللجنة، علمت أن عدم انفراد التيار الإسلامي بكتابة الدستور في عرف هؤلاء تساوي أن يكون لهم هم -ومِن ثَمَّ كالأغلبية- وأن ينفردوا بكتابة الدستور، وأن يكتبوا دولة مدنية -واللي مش عاجبه يخبط رأسه في الحيط، كما قال جورج إسحاق قبل ذلك-.
والأدهى مِن ذلك: المسالك (الديمقراطية الليبرالية الحديثة) التي سلكها دعاة الدولة المدنية، والتي أكدت لنا بما لا يدع أي مجال للشك أنهم لا يعرفون مِن معاني المدنية إلا (العلمانية) وأن ممارستهم العملية أقرب إلى العلمانية (الفاشية الشمولية القمعية النخبوية التسلطية العسكرية...) إلى آخر ما شئت مِن أوصاف، وحتى لا تظن أنني أتجنى على القوم، فإليك شيئًا مِن ردود أفعالهم:
ومحطتنا الأولى عند الثائر العظيم: المهندس (ممدوح حمزة) الذي موَّل وأشرف على مظاهرات كان شعارها: "يسقط يسقط حكم العسكر!" دعك مِن التهم الأخرى المنظورة أمام القضاء، والتسجيلات التي ادعى أنها مفبركة عليه، هذا المجلس العسكري الذي قالوا لنا: "إنهم يريدون إسقاطه" يُطلب منه الآن أن ينقلب على الديمقراطية، ويلغي تأسيسية الدستور، بل أن يحل مجلس الشعب! وهذا مما يؤكد أن بعض الرموز يريدون الحكم لهم، وحينئذ سوف يصفونه بأنه مدني رشيد!
فإذا لم يمكن هذا ولم يبقَ بد إلا حُكم مَن يختاره الشعب برلمانًا ورئاسة، أو حكم العسكر، فليكن حكم العسكر إلى أن يستطيعوا الإيقاع بهم في فخ آخر يهتفون بعده: "يسقط يسقط حكم العسكر" بشرط أن يسقط في أيديهم، وهم يحاصرون مبنى وزارة الدفاع، ومِن هنا تعلم: الفرق بين مصطلح (تسليم السلطة لسلطة مدنية منتخبة) وبيْن (يسقط يسقط حكم العسكر) التي ما فتئ المهندس (ممدوح حمزة) يرددها هو وآخرون، لكن الأهم مِن هذا: أن ندرك أن دعاة الدولة المدنية لا مانع عندهم مِن فرضها بالقوة العسكرية!
فإن عجبتَ لموقف المهندس (ممدوح حمزة) قيراطًا فاعجب لموقف الأستاذ (سامح عاشور) نقيب المحامين أربعة وعشرين قيراطًا، وهو رجل القانون ويترأس نقابة كانت تمثِّل رئة الحرية في عصر المخلوع، وهو ومع ذلك يطالب العسكري بإصدار إعلان دستوري بتشكيل هيئة أخرى للدستور، ولم يذكر حتى أي استفتاء دستوري، وكأن الشعب لا علاقة له بما يحدث، وأنه يمكن نسخ إعلان دستوري مبني على استفتاء شعبي بإعلان دستوري ديكتاتوري من المجلس العسكري بصفته قائم بدور (الرئيس).
وهذا أمر لم يحدث حتى أيام المخلوع، وأظن أن هذا الطلب لا ينقصه إلا طلب آخر إلى أمن الدولة -أقصد: الأمن الوطني- باعتقال كل مَن يعترض على ذلك الإعلان الدستوري المزعوم، بل قد طالب البعض فعليًا بهذا! وقد تقول: إن التيار الناصري الذي ينتمي إليه الأستاذ (سامح) مِن الوارد أن يستجيز أحيانًا صورًا من الديكتاتورية والشمولية، وثقافة الأخ الأكبر التي تولد منها الأخ العقيد والزعيم الملهم، ونحوها من التجارب الإنسانية...
ولكن ماذا تقول في الدكتور (عمرو حمزاوي)؟! وهو رمز ليبرالي كبير أثار لغطًا كبيرًا حينما قال: إنه إذا أراد أن يكون ليبراليًا حقًا فلا بد وأن ينادي بالزواج المدني، وزواج المسلمة مِن المسيحي! ثم عاد واعتذر وبيَّن في مواطن متعددة -منها: مناظرة بيني وبينه- أنه مع مرجعية الشريعة الإسلامية، بل قال: "إنه إذا كانت هناك مادة تستحق أن توصف بأنها فوق دستورية، فهي: المادة الثانية" كما أكد في حواره مع الشيخ (خالد عبد الله) نفس المعنى، بل قال: "إنه لو عرض قانون مخالف للشريعة فسيكون أول المصوتين: بلا" وقال: "إنه إذا عرض قانون حجب المواقع الجنسية سيكون أول المصوتين: بنعم".
لقد انسحب مبررًا انسحابه بأن أبناء دائرته لم يختاروه إلا ليدافع عن مدنية الدولة، وأنه رغم اختياره في الهيئة التأسيسية فإنه مع كون أنصار الدولة المدنية أقلية في تلك الهيئة، فإنه لا بد وأن يرجع إلى أهل دائرته ليستشيرهم، وبالفعل قام بعمل استبيان على صفحته على (الفيس بوك) وفي اللحظة التي كانت نتيجة الاستبيان أن الغالبية مع الاستمرار أعلن انسحابه من الهيئة التأسيسية، وكان قبل انسحابه قد أعلن عن عدم ممانعته من تشكيل لجنة دستور موازية.
وهذا الموقف يستوجب أن نوجه له عدة أسئلة:
1- برر كثير مِن العلمانيين موقفهم الرافض لدخول أعضاء البرلمان في اللجنة بأن الشعب اختارهم كأعضاء في البرلمان، وليس ليكتبوا الدستور.
وتصريحات الدكتور (حمزاوي) تنسف هذه الشبهة تمامًا، وتؤكد أن أهل دائرته اختاروه مِن أجل الدستور، وإذا صح هذا في حق الأفراد فهو في حق الأحزاب مِن باب أولى، مما يدل على أن المعيار الأول الذي فاضل فيه الناخب بين اختيار وآخر هو رؤيته للدستور، اللهم إلا إذا كان يرى أن أهل دائرته هم فقط الذين يفهمون في السياسة، ومِن ثَمَّ يجب على نائبهم أن يحقق لهم ما طلبوه منه، وأن باقي الدوائر التي يعيش فيها الشعب المصري ليس لهم هذا الحق! وهذا يقودنا إلى النقطة الثانية، وهي:
2- إذا سلمنا بأن الناخب الذي يريد دستورًا علمانيًا اختار أحزابًا وأفرادًا علمانية، والناخب الذي يريد دستورًا يجعل الشريعة هي مصدر التشريع، وضابطة الحقوق والواجبات، اختار أحزابًا وأفرادًا إسلاميين، ثم إن النواب الإسلاميين رغم امتلاكهم أغلبية تمكنهم من قصر لجنة المائة عليهم، إلا إنهم اختاروا هم بأنفسهم عددًا مِن المرشحين المخالفين -لتوجههم ولتوجه ناخبيهم بالطبع- وأعطوا لهؤلاء نسبة تفوق نسبتهم في البرلمان، إلا أن الأقلية العلمانية -ومنهم الدكتور- لم ترضَ، وطالبوا بنسبة في الهيئة تُمكِّنهم مِن فرض إرادة ناخبيهم!
إن لازم كلامه وفعله هو عين ما قاله أحدهم: "ألف صوت بلا بمائة ألف نعم" وهذا معناه: أن الناخب ذا التوجه العلماني ناخب -على رأسه ريشة- يكفي أن يصل بعدد محدود من النواب لينتزع هؤلاء رئاسة لجان، وصياغة بيانات، ثم صياغة دستور رغمًا عن الأغلبية الحقيقية!
أعلم أن الدكتور مهموم بحماية الأقلية مِن ديكتاتورية الأغلبية إلا أنه بهذه الصورة يمارس أبشع صور ديكتاتورية الأقلية النابعة من شعور بالفوقية والعلو لمن يبتعدون عن الأمة ودينها، وثقافتها شرقًا أو غربًا، وهو أمر في غاية الخطورة، لقد سبق للدكتور أن لمز شعب مصر عندما أعلن أنه اختار الترشح في دائرة مصر الجديدة، لأن المستوى التعليمي والثقافي فيها يجعل أهلها يتفهمون أفكاره ويتقبلونها، مما يعني أن باقي الدوائر ليست كذلك!
لقد أثبتت الأحداث أنها لم تكن كلمة عابرة، وإنما عقيدة راسخة لدى كثير مِن الليبراليين، ومع اعتراف الدكتور أن الدوائر التي يمكن أن يكون ذوو التوجه الليبرالي فيها أكثرية تكاد تكون منعدمة -وهو ما أكدته الصناديق- إلا أنه يرى أن مِن حق ناخبه عليه أن يفرض وجهة نظره، وليس مجرد عرضها، وإذا ما رفضت الأغلبية التي أتت بأصوات عامة الشعب فيا ويلها!
فالقنوات الفضائية هي الأخرى لا ترى إلا مَن هم مِن نوعية الدكتور وناخبيه! وهذه القنوات رغم ترفعهم عن كثير من العادات المصرية -على اعتبار أنها عادات شعبية- إلا أنهم يجيدون تمامًا الندب والنياحة التي لم يبرحوها منذ 19 مارس، وحتى تاريخه! بيد أن هذه الفضائيات ليست بالخطر الداهم، فمعلوم للقاصي والداني أن برامج القناة تتلون بلون مالكها، لكن الآفة في بدعة الموازي، وهو ما نطرحه في النقطة التالية:
3- ثقافة الاحتجاج السلمي جديدة على الشعب المصري، ومنها:
إنشاء كيانات موازية للكيانات المستبدة، ولكن: هل يمكن أن يكون العكس؟ فإذا أسفرت الانتخابات عن برلمان ذي أغلبية إسلامية، شكلت الأقلية برلمانًا موازيًا بأغلبية علمانية، أم أن هذا مِن باب تصحيح الخطأ للشعب الجاهل الأمي الذي لا يحسن الاختيار؟!
وإذا تفهمنا أن البرلمان الموازي، وحكومة الظل يمكن للأقلية أن تقدم مِن خلالهما أداءً تقارن الناس بينه وبين أداء الأغلبية، فماذا عن الدستور الموازي؟ هل سيتم استفتاء موازي عليه؟ وهل سيكون هذا الاستفتاء الموازي لعموم الشعب أم للعلمانيين فقط؟! وهل سيحتاج إلى جيش وشرطة موازيين لتأمينه أم ماذا؟!
4- أخيرًا -وهو في الواقع أهم سؤال-: ما الذي أزعج الدكتور على مدنية الدولة، فجعله يفر مِن اللجنة فراره مِن الأسد؟ ثم يستشير أهل الدائرة، ورغم أن الأغلبية أشاروا عليه بعدم الانسحاب، إلا أنه أصر أن ينفد بجلده؟! ما الذي أزعجه إذا كان يرى مرجعية الشريعة، ويدافع عن الحرية المنضبطة بها، كما كانت صورته التي خاض الانتخابات بها؟! حبذا لو تفضل الدكتور ببيان نقاط خوفه وفزعه مِن الامتثال لنتائج عملية ديمقراطية.
بالمناسبة ماذا لو لم يتبرأ الدكتور مِن ليبرالية أمريكا وإنجلترا، ويعلن احترامه للشريعة؟ هل كان سيفوز في الانتخابات حتى لو ترشح في مصر الجديدة؟!