توحيد العبادة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، أشكره ولا أكفره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ورفع أركان الملة، ودل على التوحيد ومعالمه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فبتحية الإسلام أحييكم أيها الإخوة: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

ثم أشكر مكتب الدعوة بشمال الرياض لدعوته وإتاحة الفرصة للقاء بكم في هذا المحل الطاهر المبارك، وهذا البيت من بيوت الله عز وجل، وفي سلسلة الدروس التي عقدوها بمناسبة موسم الحج حيث إن اليوم هو الثامن والعشرون من الشهر الحادي عشر من سنة سبعة عشرة وأربعمائة وألف من هجرة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

والموضوع الذي اختاره الإخوة المنظمون لهذه الدروس هو: (توحيد العبادة وعظم شأنه).

وأخي فضيلة الشيخ ابن محسن قال عنه: إنه يحسبه مهماً بل إنه أهم المهمات، وكما أشار فضيلته أنه هو الغاية التي خلق الله لها الجن والإنس على حد قوله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: ليوحدون، ومن هنا فإن الحديث فيه يجب أن يكون متوافراً وألا يغفل الناس عنه؛ وسوف نرى -إن شاء الله- في ثنايا عناصر هذا الموضوع أن الغفلة عنه ولو للحظاتٍ يسيرة في حساب الزمن؛ فإنها تؤدي مباشرة إلى انحراف الأمة.

ويكفي إشارة إلى ذلك في أهمية الموضوع أن خليل الله إبراهيم عليه السلام وهو إمام الحنفاء والذي أمر نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم باتباعه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً [النحل:123] وهو إمام الموحدين، هو الذي قال فيما أخبر الله عز وجل عنه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:35-36].

وتأكدوا يا إخواني أن هذا الإضلال -نسأل الله السلامة ونسأله ألا يزيغ قلوبنا- في كل زمان ومكان، والحديث سوف يكون منتظم العناصر، ولعلي أستطيع أن آتي عليها كلها وإن كان بعضها يدل على بعض وبعضها يفيد بعض؛ لأن الحقيقة أن كل حديثٍ عن الدين فهو عن التوحيد إما عن حقيقته أو غايته أو مآله، أو كماله، أو عن ضده، وسوف نرى ذلك جلياً، ولهذا فإن العناصر التي تتضمنها هذه الكلمة هي:

الأول: تعريف وإثبات.

والثاني: التوحيد في القرآن والسنة، وحينما نقول السنة سوف نشير إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مكيها ومدنيها.

الثالث: التوحيد وأركان الإسلام.

الرابع: التوحيد والحج، (بمناسبة الدروس المعقودة).

الخامس: المتابعة، يعني: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تمثل جانباً كبيراً جداً في تحقيق التوحيد، ونعني به الاتباع الذي هو مضادٌ للابتداع.

سادساً: الخوف من الشرك.

سابعاً: صور جديدة من الخلل في العقيدة.

ثامناً: طريقة تعليم التوحيد.

التوحيد كما هو -والحمد لله- في مناهجنا جلي وواضح، وهذه البلاد -ولله الحمد- بعلمائها وولاتها تهتم بهذا اهتماماً منقطع النظير، وما ذلك إلا لما أراده الله عز وجل بها من الخير حينما هيأ لها الإمام المجدد شيخ الإسلام وعلم الأعلام الإمام/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثم عضده الإمام/ محمد بن سعود ، فقامت هذه الدولة على التوحيد مجددة دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ثم تلاميذ أو أئمة هذه الدعوة تلاميذ؛ سواء شيخ الإسلام من نفسه أو من ذريته، أو ممن تتلمذوا عليه، فهؤلاء علمونا التوحيد، وبينوه لنا.

تعريف التوحيد بأنواعه الثلاثة

من مسلماتنا -أيها الإخوة- التي نعرفها في هذه البلاد ولا يكاد يعرفها كثيرٌ من أبناء المسلمين انقسام التوحيد إلى أنواعه الثلاثة:

توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وكلها تعود إلى توحيد الألوهية، ولهذا إذا أردنا أن نعرفها جميعاً بتعريفٍ يجمعها كلها بما يشمل توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فنقول: هي إفراد الله عز وجل بما يختص به.

فإذا ما جئنا إلى توحيد الربوبية وهو الذي نعرفه بأنه: توحيد الله بأفعاله؛ من الخلق والرزق والإحياء والممات نقول هو: إفراد الله بالخلق والملك والتدبير.

وهذه الصفات الثلاث تجمع جميع خصائص الله عز وجل في أفعاله سبحانه وتعالى، سواء كان إنزال غيث أو كان إحياء، كلها في خلقه وملكه وتدبيره، والتدبير كل تصريف، والملك الهيمنة على هذا الكون سبحانه وتعالى، فهو له وحده، ولهذا قال: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26] كلها داخلة في الملك، فإذاً توحيد الربوبية هو: توحيده من حيث إنه إفراد الله عز وجل بالخلق والملك والتدبير، وإذا ما نسبنا الملك والتدبير والتصرف إلى غيره فهي إضافية، وإلا فإن الله عز وجل نسب لنا ملكاً وذكر أننا نملك وقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] فهي إضافية بحدود ما أعطانا الله سبحانه وتعالى، أما الملك الحقيقي والتصرف الحقيقي فهو لله سبحانه وتعالى، ومن هنا لا بد أن نفرد الله عز وجل بما يختص به.

وتوحيد الألوهية هو: إفراده سبحانه بالعبادة، وفي أصله: هو توحيد الله بأفعال العباد، بمعنى: أفعالنا نحن التي تصدر منا، من دعاء واستغاثة واستعانة وذبحٍ ونذر هي أفعالنا نحن نفردها لله سبحانه وتعالى، ونخصه بها، ولهذا نقول: إن التوحيد هو: إفراد الله بالعبادة، ولاحظوا أننا نستصحب كلمة إفراد لأننا نعرف التوحيد.

وتوحيد الأسماء والصفات هو: إفراده سبحانه وتعالى وتفرده بما سمى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.

إذاً: بهذا ندرك معنى التوحيد كله، وهو: إفراد الله بما يختص به، إن كان في أفعاله سبحانه، وإن كان في أفعالنا، وإن كان في أسمائه وصفاته، وإذا أردتم المزيد لتعريف التوحيد؛ لاحظوا تعريف ضده وهو الشرك.

تعريف الشرك

الشرك: هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، هذا هو الشرك.

ولا أحب أن أقف حقيقة عند التعريف؛ فبالشرك يتجلى التوحيد، والشرك مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، لكن نقف عند صفتين تبين كيف يتجلى توحيد العبادة.

الله عز وجل قال في الكفار: بسم الله الرحمن الرحيم : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] أي: يساوون، يساوونه بماذا؟ معلوم أنهم لم يساووه بالخلق، فلم يعتقدوا أن آلهتهم تخلق وترزق، وإنما يساوونه بأفعالهم، يصرفونها لغير الله عز وجل، وبخاصة المحبة والتعظيم والتذلل والخضوع.

وكذلك أيضاً في قوله تعالى حينما يتحاج أهل النار في النار ومع معبوداتهم من دون الله: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] فهم ما ساووهم بالخلق ولا بالرزق وإنما ساووهم بالعبادة والمحبة والخضوع.

وإذا كان الأمر كذلك ولأجل أن نميز حينما قلنا إن الشرك هو: مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله نقول: الإنسان يحب ويخاف، والله وضع فينا غرائز الحب، وغرائز الخوف، فالله قال في حق نبيه وكليمه موسى عليه السلام: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67] وقال في حق إبراهيم وهو صاحب الملة الحنفية وهو القدوة: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود:70] هذه خيفة فطرية لا تدخل فيما قلنا من أنه من خصائص الله، فالخوف الجبلي والفطري أن تخاف من السبع والأسد، وأحياناً قد تخاف من آخر الليل أو تخاف من البرية تستوحش، هذا خوف جبلي ليس له علاقة بالتوحيد، وأنت لست ملوماً في هذا.

وكذلك الحب، فالإنسان يحب أهله وأولاده وزوجه، ويحب أباه وأمه، ويحب أمواله كما قال عز وجل في كثيرٍ من المحبوبات: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا [التوبة:24] هذا بطبيعة أننا نحبها، فمحبتنا لها محبة فطرية وجبلية، والله وضعها فينا؛ لأجل أن تقوم الحياة حينما خلقنا واستخلفنا في هذه الأرض واستعمرنا فيها وطلب عمارتها، جعل فينا هذه الغرائز حتى نتعلم ونتشبث بقدر من نقوم من المهمة التي استخلفنا الله عز وجل فيها.

فهذا الحب فطري، كأن يحب الإنسان أهله ...إلخ، لكن حينما يرقى وينازع حق الله عز وجل في الحب، وحق الله في الخوف، وحق الله في الخضوع وحق الله في التذلل والانقياد والرغبة والرهبة، حينئذ تأتي خصائص الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] والآية التي تلوناها قبل قليل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا [التوبة:23-24].

إذاً: القضية موازنة، والخوف الفطري والحب الفطري لا إشكال فيه، لكن أن ينازع أو أن يغلب أو أن يطغى على حب الله عز وجل وعلى الخوف منه وعلى تعظيمه وإجلاله سبحانه وتعالى؛ حينئذ يدخل الإنسان في دائرة الخطر، ومن هنا يا إخواني جاء التحذير من الشرك في كثيرٍ من الآيات التي سوف نراها إن شاء الله.

ولهذا إذا لاحظتم المنحرفين في عقائدهم -وخاصة في بعض المنتسبين للإسلام في كثيرٍ من الأقطار- من خلال تعلقهم بالقبور والأضرحة، ترون أنه حب وخوف وتعلق وتعظيم، وتعليق في نفعٍ وضر وتعلق ولهان، لو كانوا يعلمون حق المعرفة ويعتقدون صحة الاعتقاد بأن الله هو النافع الضار، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يجب إفراده في التعظيم والمحبة والإجلال؛ لما كان ذلك منهم، ومن هنا سوف نرى -إن شاء الله- طريقة تعليم التوحيد.

إذاً: يا إخواني! هذا هو التوحيد من حيث تعريفه، ومن حيث بيان ضده كذلك الذي هو الشرك؛ لأن بضدها تتبين الأشياء.

ثم أيضاً من أسماء هذا التوحيد: الفقه الأكبر، ولاشك أن المسلم المطلوب منه أن يتفقه في دينه كما في قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين } فأولى الفقه وأهمه وأعظمه وأكبره فقه التوحيد، بمعنى فقه العقيدة، ولاشك أن الأحكام يجب أن تعرفها؛ لتقيم بها دينك؛ لأنها هي أيضاً من وسائل تحقيق التوحيد ولاشك.

لكن أهمية الفقه الأكبر كما عرفه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: [[معرفة النفس ما لها وما عليها ]] فأولاها هو فقه العقيدة والتوحيد.

إثبات التوحيد عن طريق القرآن

نأتي إلى العنصر الثاني: التوحيد في القرآن والسنة، قبل أن نأتي إلى الكلام عن التوحيد في القرآن والسنة نأتي إلى إثبات التوحيد، وليس هناك طريق لمعرفة التوحيد ولا لتعليمه ولا لإثباته ولا لبيانه للناس حق البيان إلا عن طريق القرآن؛ القرآن كتاب هداية، بيَّن التوحيد بشكل جلي وعجيب وسهل وميسور، ليس على الطريقة التعليمية -مع الأسف- التي انحرف بها كثيرٌ من المتقدمين من باب المنطق وعلم الكلام والعقليات المحضة التي لم تجد شيئاً ولم تفد التوحيد الحقيقي، وإنما إثبات التوحيد بطريق القرآن.

ولهذا نقول: إن الطريق الفطري لإثبات التوحيد -ونعني به توحيد الألوهية بخاصة- هو: الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فأي إنسان تريد أن تبين له التوحيد ائته عن طريق توحيد الربوبية.

وتوحيد الربوبية تقريباً لا يكاد ينكره أحد، إلا مع الأسف في وقتنا الحاضر وإلا فالأمم كلها تعرف توحيد الربوبية، وتعلم أن الله عز وجل هو الخالق والرازق والمحيي والمميت والمدبر والمصرف سبحانه وتعالى وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، هذا هو توحيد الربوبية الذي تعرفه كل الأمم ولا يكاد ينكره إلا فئام قليلة من الدهرية أو غيرها، لكن -مع الأسف- مع الماديات المعاصرة صار هناك خلل كبير، وسوف نشير إليه إن شاء الله.

فالقرآن أثبت توحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية؛ لأن طبيعة قلب الإنسان يتعلق بالمصدر الذي خلقه والشيء الذي يعتقد أنه مصدر نفعه وضره، فإذا كان هذا مسلماً في النفوس -لأن القلب بطبيعته يتعلق بهذا- معترفاً بالخلق وبالرزق وبمصدر النفع والضر؛ فهذا هو المدخل الوحيد والقريب والذي لا يقبل الجدل.

ولهذا حينما تتأمل بعض الآيات مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] أمر بالعبادة والتوحيد، ما هي العلة؟ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22] وهذا خطاب لشيء مقبول تطيقه النفوس وتؤمن به.

بل حتى أحياناً قد يكون هناك بعض العقول غير مسلمة وعندها غفلة، وحينما تذكرهم بآيات الكون مباشرة يرجعون، ولهذا الله عز وجل قال: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] وقال بعدها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] فسبقها بالقضية ثم أتى ببرهانها، ففي الآية الأولى في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] نقول مثلاً: فجعل تفرده بالربوبية حينما قال: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] فجعل تفرده بالربوبية خلقاً للحاضرين والماضين، أنتم ومن قبلكم، وتمهيد الأرض ورفع السماء، وإنزال المطر ليحيي الأرض بعد موتها، ويخرج الرزق لعباده جعل كل ذلك آية على توحيد الإلهية واستحقاقه وحده للعبادة وتفرده بذلك وتنزيهه عن الأنداد والشركاء: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22].

هذه طريقة سهلة وواضحة في أن قضية إنكار وجود الله لا تكاد تقبلها الفطر، نعم قد تصيبها غفلة لكن مِن السهولة إثباتها، فما دام أنها مستقرة يترتب عليها توحيد الألوهية، مثلاً في قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس:31-32] آيات كثيرةٍ إلى أن قال: فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [يونس:35].

فقررهم سبحانه بما لم يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة والبذل والإعانة: أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [النمل:64] والإرشاد والهداية: أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [يونس:35] ولذا يقيم عليهم الحجة في وجوب تقواه: (أفلا تتقون)، دون من سواه، ولا ينكر عليهم حكمهم الخاطئ، وشركهم الفاضح، وعكوفهم على من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

وهناك آيات طويلة مثل آية النمل: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:59-60] تسلسل طويل جداً يمر بكل المعارف البشرية وبكل الأحوال التي تمر على البشرية: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:60] يعني: يعدلون به غيره.

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:61-62] وهذه قضية كبيرة جداً، وكثيراً ما ينبه إليها القرآن: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَ

من مسلماتنا -أيها الإخوة- التي نعرفها في هذه البلاد ولا يكاد يعرفها كثيرٌ من أبناء المسلمين انقسام التوحيد إلى أنواعه الثلاثة:

توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وكلها تعود إلى توحيد الألوهية، ولهذا إذا أردنا أن نعرفها جميعاً بتعريفٍ يجمعها كلها بما يشمل توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فنقول: هي إفراد الله عز وجل بما يختص به.

فإذا ما جئنا إلى توحيد الربوبية وهو الذي نعرفه بأنه: توحيد الله بأفعاله؛ من الخلق والرزق والإحياء والممات نقول هو: إفراد الله بالخلق والملك والتدبير.

وهذه الصفات الثلاث تجمع جميع خصائص الله عز وجل في أفعاله سبحانه وتعالى، سواء كان إنزال غيث أو كان إحياء، كلها في خلقه وملكه وتدبيره، والتدبير كل تصريف، والملك الهيمنة على هذا الكون سبحانه وتعالى، فهو له وحده، ولهذا قال: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26] كلها داخلة في الملك، فإذاً توحيد الربوبية هو: توحيده من حيث إنه إفراد الله عز وجل بالخلق والملك والتدبير، وإذا ما نسبنا الملك والتدبير والتصرف إلى غيره فهي إضافية، وإلا فإن الله عز وجل نسب لنا ملكاً وذكر أننا نملك وقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] فهي إضافية بحدود ما أعطانا الله سبحانه وتعالى، أما الملك الحقيقي والتصرف الحقيقي فهو لله سبحانه وتعالى، ومن هنا لا بد أن نفرد الله عز وجل بما يختص به.

وتوحيد الألوهية هو: إفراده سبحانه بالعبادة، وفي أصله: هو توحيد الله بأفعال العباد، بمعنى: أفعالنا نحن التي تصدر منا، من دعاء واستغاثة واستعانة وذبحٍ ونذر هي أفعالنا نحن نفردها لله سبحانه وتعالى، ونخصه بها، ولهذا نقول: إن التوحيد هو: إفراد الله بالعبادة، ولاحظوا أننا نستصحب كلمة إفراد لأننا نعرف التوحيد.

وتوحيد الأسماء والصفات هو: إفراده سبحانه وتعالى وتفرده بما سمى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.

إذاً: بهذا ندرك معنى التوحيد كله، وهو: إفراد الله بما يختص به، إن كان في أفعاله سبحانه، وإن كان في أفعالنا، وإن كان في أسمائه وصفاته، وإذا أردتم المزيد لتعريف التوحيد؛ لاحظوا تعريف ضده وهو الشرك.

الشرك: هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، هذا هو الشرك.

ولا أحب أن أقف حقيقة عند التعريف؛ فبالشرك يتجلى التوحيد، والشرك مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، لكن نقف عند صفتين تبين كيف يتجلى توحيد العبادة.

الله عز وجل قال في الكفار: بسم الله الرحمن الرحيم : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] أي: يساوون، يساوونه بماذا؟ معلوم أنهم لم يساووه بالخلق، فلم يعتقدوا أن آلهتهم تخلق وترزق، وإنما يساوونه بأفعالهم، يصرفونها لغير الله عز وجل، وبخاصة المحبة والتعظيم والتذلل والخضوع.

وكذلك أيضاً في قوله تعالى حينما يتحاج أهل النار في النار ومع معبوداتهم من دون الله: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] فهم ما ساووهم بالخلق ولا بالرزق وإنما ساووهم بالعبادة والمحبة والخضوع.

وإذا كان الأمر كذلك ولأجل أن نميز حينما قلنا إن الشرك هو: مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله نقول: الإنسان يحب ويخاف، والله وضع فينا غرائز الحب، وغرائز الخوف، فالله قال في حق نبيه وكليمه موسى عليه السلام: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67] وقال في حق إبراهيم وهو صاحب الملة الحنفية وهو القدوة: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود:70] هذه خيفة فطرية لا تدخل فيما قلنا من أنه من خصائص الله، فالخوف الجبلي والفطري أن تخاف من السبع والأسد، وأحياناً قد تخاف من آخر الليل أو تخاف من البرية تستوحش، هذا خوف جبلي ليس له علاقة بالتوحيد، وأنت لست ملوماً في هذا.

وكذلك الحب، فالإنسان يحب أهله وأولاده وزوجه، ويحب أباه وأمه، ويحب أمواله كما قال عز وجل في كثيرٍ من المحبوبات: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا [التوبة:24] هذا بطبيعة أننا نحبها، فمحبتنا لها محبة فطرية وجبلية، والله وضعها فينا؛ لأجل أن تقوم الحياة حينما خلقنا واستخلفنا في هذه الأرض واستعمرنا فيها وطلب عمارتها، جعل فينا هذه الغرائز حتى نتعلم ونتشبث بقدر من نقوم من المهمة التي استخلفنا الله عز وجل فيها.

فهذا الحب فطري، كأن يحب الإنسان أهله ...إلخ، لكن حينما يرقى وينازع حق الله عز وجل في الحب، وحق الله في الخوف، وحق الله في الخضوع وحق الله في التذلل والانقياد والرغبة والرهبة، حينئذ تأتي خصائص الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] والآية التي تلوناها قبل قليل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا [التوبة:23-24].

إذاً: القضية موازنة، والخوف الفطري والحب الفطري لا إشكال فيه، لكن أن ينازع أو أن يغلب أو أن يطغى على حب الله عز وجل وعلى الخوف منه وعلى تعظيمه وإجلاله سبحانه وتعالى؛ حينئذ يدخل الإنسان في دائرة الخطر، ومن هنا يا إخواني جاء التحذير من الشرك في كثيرٍ من الآيات التي سوف نراها إن شاء الله.

ولهذا إذا لاحظتم المنحرفين في عقائدهم -وخاصة في بعض المنتسبين للإسلام في كثيرٍ من الأقطار- من خلال تعلقهم بالقبور والأضرحة، ترون أنه حب وخوف وتعلق وتعظيم، وتعليق في نفعٍ وضر وتعلق ولهان، لو كانوا يعلمون حق المعرفة ويعتقدون صحة الاعتقاد بأن الله هو النافع الضار، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يجب إفراده في التعظيم والمحبة والإجلال؛ لما كان ذلك منهم، ومن هنا سوف نرى -إن شاء الله- طريقة تعليم التوحيد.

إذاً: يا إخواني! هذا هو التوحيد من حيث تعريفه، ومن حيث بيان ضده كذلك الذي هو الشرك؛ لأن بضدها تتبين الأشياء.

ثم أيضاً من أسماء هذا التوحيد: الفقه الأكبر، ولاشك أن المسلم المطلوب منه أن يتفقه في دينه كما في قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين } فأولى الفقه وأهمه وأعظمه وأكبره فقه التوحيد، بمعنى فقه العقيدة، ولاشك أن الأحكام يجب أن تعرفها؛ لتقيم بها دينك؛ لأنها هي أيضاً من وسائل تحقيق التوحيد ولاشك.

لكن أهمية الفقه الأكبر كما عرفه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: [[معرفة النفس ما لها وما عليها ]] فأولاها هو فقه العقيدة والتوحيد.

نأتي إلى العنصر الثاني: التوحيد في القرآن والسنة، قبل أن نأتي إلى الكلام عن التوحيد في القرآن والسنة نأتي إلى إثبات التوحيد، وليس هناك طريق لمعرفة التوحيد ولا لتعليمه ولا لإثباته ولا لبيانه للناس حق البيان إلا عن طريق القرآن؛ القرآن كتاب هداية، بيَّن التوحيد بشكل جلي وعجيب وسهل وميسور، ليس على الطريقة التعليمية -مع الأسف- التي انحرف بها كثيرٌ من المتقدمين من باب المنطق وعلم الكلام والعقليات المحضة التي لم تجد شيئاً ولم تفد التوحيد الحقيقي، وإنما إثبات التوحيد بطريق القرآن.

ولهذا نقول: إن الطريق الفطري لإثبات التوحيد -ونعني به توحيد الألوهية بخاصة- هو: الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فأي إنسان تريد أن تبين له التوحيد ائته عن طريق توحيد الربوبية.

وتوحيد الربوبية تقريباً لا يكاد ينكره أحد، إلا مع الأسف في وقتنا الحاضر وإلا فالأمم كلها تعرف توحيد الربوبية، وتعلم أن الله عز وجل هو الخالق والرازق والمحيي والمميت والمدبر والمصرف سبحانه وتعالى وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، هذا هو توحيد الربوبية الذي تعرفه كل الأمم ولا يكاد ينكره إلا فئام قليلة من الدهرية أو غيرها، لكن -مع الأسف- مع الماديات المعاصرة صار هناك خلل كبير، وسوف نشير إليه إن شاء الله.

فالقرآن أثبت توحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية؛ لأن طبيعة قلب الإنسان يتعلق بالمصدر الذي خلقه والشيء الذي يعتقد أنه مصدر نفعه وضره، فإذا كان هذا مسلماً في النفوس -لأن القلب بطبيعته يتعلق بهذا- معترفاً بالخلق وبالرزق وبمصدر النفع والضر؛ فهذا هو المدخل الوحيد والقريب والذي لا يقبل الجدل.

ولهذا حينما تتأمل بعض الآيات مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] أمر بالعبادة والتوحيد، ما هي العلة؟ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22] وهذا خطاب لشيء مقبول تطيقه النفوس وتؤمن به.

بل حتى أحياناً قد يكون هناك بعض العقول غير مسلمة وعندها غفلة، وحينما تذكرهم بآيات الكون مباشرة يرجعون، ولهذا الله عز وجل قال: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] وقال بعدها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] فسبقها بالقضية ثم أتى ببرهانها، ففي الآية الأولى في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] نقول مثلاً: فجعل تفرده بالربوبية حينما قال: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] فجعل تفرده بالربوبية خلقاً للحاضرين والماضين، أنتم ومن قبلكم، وتمهيد الأرض ورفع السماء، وإنزال المطر ليحيي الأرض بعد موتها، ويخرج الرزق لعباده جعل كل ذلك آية على توحيد الإلهية واستحقاقه وحده للعبادة وتفرده بذلك وتنزيهه عن الأنداد والشركاء: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22].

هذه طريقة سهلة وواضحة في أن قضية إنكار وجود الله لا تكاد تقبلها الفطر، نعم قد تصيبها غفلة لكن مِن السهولة إثباتها، فما دام أنها مستقرة يترتب عليها توحيد الألوهية، مثلاً في قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس:31-32] آيات كثيرةٍ إلى أن قال: فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [يونس:35].

فقررهم سبحانه بما لم يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة والبذل والإعانة: أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [النمل:64] والإرشاد والهداية: أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [يونس:35] ولذا يقيم عليهم الحجة في وجوب تقواه: (أفلا تتقون)، دون من سواه، ولا ينكر عليهم حكمهم الخاطئ، وشركهم الفاضح، وعكوفهم على من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

وهناك آيات طويلة مثل آية النمل: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:59-60] تسلسل طويل جداً يمر بكل المعارف البشرية وبكل الأحوال التي تمر على البشرية: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:60] يعني: يعدلون به غيره.

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:61-62] وهذه قضية كبيرة جداً، وكثيراً ما ينبه إليها القرآن: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَ

التوحيد في القرآن

القرآن كله أحاديث عن التوحيد -كما فصل ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله- وبيان حقيقته، والدعوة إليه، وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه، حديث عن جزاء أهله وكرامتهم على ربهم، كما أنه حديثٌ عن ضده من الشرك بالله، وبيان حال أهله وسوء منقلبه في الدنيا وعذابهم في الأخرى.

ولو حاولنا أن نقسم الآيات التي تخاطب الناس في التوحيد، لوجدنا أن الله عز وجل خاطب الكفار وخاطب المؤمنين وخاطب الأنبياء، فهناك شيء عجيب من عناية القرآن بالتوحيد، فكل القرآن العظيم خاطب الكفار بالتوحيد؛ ليعرفوه وليؤمنوا ويعتنوا به، فالله عز وجل يقول للناس: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21] ويقول: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50-51] في آيات كثيرة جداً.

وكل نبي يقول لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى كل نبي يقول: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] والله عز وجل يخبر عن نبيه في آيات إيمانية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] كل الأمم منهم الكفار خوطبوا في التوحيد ليعرفوه ويؤمنوا به.

وخوطب به المؤمنون، سواء حينما كانوا في مكة أو كانوا في المدينة ، وبعض العلماء الذين يكتبون في التاريخ يقولون: إن من مظاهر القرآن المكي أنه يتحدث عن العقيدة والتوحيد، والحقيقة أن المكي والمدني كله يتحدث عن التوحيد، فهذا أمر يحتاج إلى نظر، وإن كانت -ولاشك- طريقة المخاطبة اختلفت، لكن الأحكام كلها في أركان الإسلام الكبرى، سوف نرى أنها أيضاً لب التوحيد وهي أحكام.

فالله عز وجل يخاطب المؤمنين بالتوحيد ليزدادوا إيماناً، وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم، وليحذروا النقص والخلل فيه، فلهذا قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً [النساء:136] بل عباد الرحمن من صفاتهم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] مع أنهم عباد الرحمن والله أثنى عليهم، وذكر من صفاتهم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68].

مما يدل على أن القضية كبيرة وليست خاصة بخطاب بالكفار، أن الله عز وجل خاطب بها حتى المسلم، وسوف نرى في فقرة الخوف من الشرك شيء عجيب، فالأمر ليس سهلاً.

وكما قلنا لكم: اجتهدوا وأنتم تقرءون القرآن، وتأملوا كيف يكاد يكون في كل آية إشارة إلى التوحيد، إما صريحة وإما مرد، وإما غاية، وإما مآل، وإما وسيلة، وإما كمال... إلخ.

فعباد الرحمن وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] والموعودون بالتمكين في الأرض في قوله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور:55] فأخف خصائص المؤمنين والمسلمين والمحبوبين إلى الله عز وجل والمقربين منه والموعودين بالتمكين في الأرض أنهم يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، وهذا مما يدل على أنه يجب أن تكون هي قضية القضايا وهي سبيل الشرع.

والمؤمنات في آية البيعة فيهن ميمونة ، لكن الله خاطب نبيه في مخاطبة المؤمنات: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ [الممتحنة:12] سماهن المؤمنات وهن مؤمنات يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة:12] ومعلوم من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع المؤمنين والمؤمنات، فهن قد جئن مؤمنات يبايعن على ترك الشرك.

أما الأنبياء والرسل فقد خاطبهم الله أيضاً بالتحذير من الشرك، مع أنه حاشاهم عليهم السلام، مما يدلك على كبر القضية، فالله عز وجل قال لإبراهيم: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [الحج:26] حاشاهم وهو الذي أثنى عليه ربه فقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ [الممتحنة:4] ومع هذا أوحى الله إليه وأكد عليه ألا تشرك: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [الحج:26] ولهذا إبراهيم خشي على ذريته الشرك، كما ورد في أول مفتتح الحديث: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:35-36].

ولهذا أيضاً فيما حكى الله عنه: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128] وقال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ

التوحيد في السنة والسيرة

السنة والسيرة بمعنى واحد في هذا الباب، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعث بالتوحيد، فأول ما أمر به يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:1-3] معنى وربك فكبر: توحيد، وقلنا: إن تقديم المعمول قبل العامل من التخصيص وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:4-5] الرجز الأصنام.

فإذاً هذا الذي أمر به هو توحيد، ثم أمر بإنذار العشيرة فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:213-214] وحاشاه عليه الصلاة والسلام.

ثم الأمر بالصدع، لا حظوا أننا نتحدث عن الآيات التي فيها التوحيد، وإلا فهناك أشياء كثيرة في التدرج في التشريع، لكن نتلمس الآيات في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيه القرآن له، فهو قد قيل له: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:3] وقيل: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] وهو مع الأقربين من عشيرته: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:213-214] ثم أمر بالصدع في القوم كلهم فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94] وبعد الهجرة أيضاً لم ينته التوحيد، محمد صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] القضية تثبيت مرتبة المعية، وهي كما تعلمون من توحيد الأسماء والصفات، وهي تعني حقيقتها كما قال العلماء: توحيد الربوبية مستلزم توحيد الألوهية وتوحيد الألوهية متضمن توحيد الربوبية.

والذي بقي توجيهات ونحن نتدرج في تاريخ السيرة، قال: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40] القضية قضية توحيد وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].

إلى فتح مكة تجد إعلان التوحيد، ويحطم النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام وهو يتلو: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] إلى أن جاءه الموت عليه الصلاة والسلام وأعلن في القرآن في قوله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ [النصر:1-3] تنزيه بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ استغفاره بالعبادة إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [لنصر:3].

والنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت كان يقول: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وهذا من آخر ما قال.

إذاً ليس التوحيد في عهد مكة وليس القرآن المكي فقط هو من يتدث عن التوحيد، بل التوحيد صحب السيرة كلها من وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] إلى {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وهو في مرض الموت عليه الصلاة والسلام.

ولهذا نقول: يا إخواني لم تخل فترة من هذه الفترات ألبتة من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك وظواهره، ويكاد ينحصر عرض البعثة كلها في ذلك، فما ترك عليه الصلاة والسلام صغيراً ولا كبيراً وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسألة الهجرة والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة وأنصاره وأعوانه متظاهرين، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرار أمر البيعة على التوحيد يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة:12] فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة والقرآن من وراء ذلك كله توحيد، ولو تتبعتم وتلمستم لوجدتم شيئاً عجيباً لا في القرآن ولا في السيرة، ولهذا نقول: ومن أجلها كان التوحيد أولاً ولابد أن يكون أولاً في كل عصر وفي كل مصر.

القرآن كله أحاديث عن التوحيد -كما فصل ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله- وبيان حقيقته، والدعوة إليه، وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه، حديث عن جزاء أهله وكرامتهم على ربهم، كما أنه حديثٌ عن ضده من الشرك بالله، وبيان حال أهله وسوء منقلبه في الدنيا وعذابهم في الأخرى.

ولو حاولنا أن نقسم الآيات التي تخاطب الناس في التوحيد، لوجدنا أن الله عز وجل خاطب الكفار وخاطب المؤمنين وخاطب الأنبياء، فهناك شيء عجيب من عناية القرآن بالتوحيد، فكل القرآن العظيم خاطب الكفار بالتوحيد؛ ليعرفوه وليؤمنوا ويعتنوا به، فالله عز وجل يقول للناس: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21] ويقول: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50-51] في آيات كثيرة جداً.

وكل نبي يقول لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى كل نبي يقول: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] والله عز وجل يخبر عن نبيه في آيات إيمانية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] كل الأمم منهم الكفار خوطبوا في التوحيد ليعرفوه ويؤمنوا به.

وخوطب به المؤمنون، سواء حينما كانوا في مكة أو كانوا في المدينة ، وبعض العلماء الذين يكتبون في التاريخ يقولون: إن من مظاهر القرآن المكي أنه يتحدث عن العقيدة والتوحيد، والحقيقة أن المكي والمدني كله يتحدث عن التوحيد، فهذا أمر يحتاج إلى نظر، وإن كانت -ولاشك- طريقة المخاطبة اختلفت، لكن الأحكام كلها في أركان الإسلام الكبرى، سوف نرى أنها أيضاً لب التوحيد وهي أحكام.

فالله عز وجل يخاطب المؤمنين بالتوحيد ليزدادوا إيماناً، وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم، وليحذروا النقص والخلل فيه، فلهذا قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً [النساء:136] بل عباد الرحمن من صفاتهم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] مع أنهم عباد الرحمن والله أثنى عليهم، وذكر من صفاتهم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68].

مما يدل على أن القضية كبيرة وليست خاصة بخطاب بالكفار، أن الله عز وجل خاطب بها حتى المسلم، وسوف نرى في فقرة الخوف من الشرك شيء عجيب، فالأمر ليس سهلاً.

وكما قلنا لكم: اجتهدوا وأنتم تقرءون القرآن، وتأملوا كيف يكاد يكون في كل آية إشارة إلى التوحيد، إما صريحة وإما مرد، وإما غاية، وإما مآل، وإما وسيلة، وإما كمال... إلخ.

فعباد الرحمن وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] والموعودون بالتمكين في الأرض في قوله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور:55] فأخف خصائص المؤمنين والمسلمين والمحبوبين إلى الله عز وجل والمقربين منه والموعودين بالتمكين في الأرض أنهم يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، وهذا مما يدل على أنه يجب أن تكون هي قضية القضايا وهي سبيل الشرع.

والمؤمنات في آية البيعة فيهن ميمونة ، لكن الله خاطب نبيه في مخاطبة المؤمنات: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ [الممتحنة:12] سماهن المؤمنات وهن مؤمنات يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة:12] ومعلوم من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع المؤمنين والمؤمنات، فهن قد جئن مؤمنات يبايعن على ترك الشرك.

أما الأنبياء والرسل فقد خاطبهم الله أيضاً بالتحذير من الشرك، مع أنه حاشاهم عليهم السلام، مما يدلك على كبر القضية، فالله عز وجل قال لإبراهيم: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [الحج:26] حاشاهم وهو الذي أثنى عليه ربه فقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ [الممتحنة:4] ومع هذا أوحى الله إليه وأكد عليه ألا تشرك: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [الحج:26] ولهذا إبراهيم خشي على ذريته الشرك، كما ورد في أول مفتتح الحديث: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:35-36].

ولهذا أيضاً فيما حكى الله عنه: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128] وقال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ

السنة والسيرة بمعنى واحد في هذا الباب، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعث بالتوحيد، فأول ما أمر به يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:1-3] معنى وربك فكبر: توحيد، وقلنا: إن تقديم المعمول قبل العامل من التخصيص وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:4-5] الرجز الأصنام.

فإذاً هذا الذي أمر به هو توحيد، ثم أمر بإنذار العشيرة فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:213-214] وحاشاه عليه الصلاة والسلام.

ثم الأمر بالصدع، لا حظوا أننا نتحدث عن الآيات التي فيها التوحيد، وإلا فهناك أشياء كثيرة في التدرج في التشريع، لكن نتلمس الآيات في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيه القرآن له، فهو قد قيل له: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:3] وقيل: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] وهو مع الأقربين من عشيرته: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:213-214] ثم أمر بالصدع في القوم كلهم فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94] وبعد الهجرة أيضاً لم ينته التوحيد، محمد صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] القضية تثبيت مرتبة المعية، وهي كما تعلمون من توحيد الأسماء والصفات، وهي تعني حقيقتها كما قال العلماء: توحيد الربوبية مستلزم توحيد الألوهية وتوحيد الألوهية متضمن توحيد الربوبية.

والذي بقي توجيهات ونحن نتدرج في تاريخ السيرة، قال: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40] القضية قضية توحيد وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].

إلى فتح مكة تجد إعلان التوحيد، ويحطم النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام وهو يتلو: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] إلى أن جاءه الموت عليه الصلاة والسلام وأعلن في القرآن في قوله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ [النصر:1-3] تنزيه بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ استغفاره بالعبادة إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [لنصر:3].

والنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت كان يقول: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وهذا من آخر ما قال.

إذاً ليس التوحيد في عهد مكة وليس القرآن المكي فقط هو من يتدث عن التوحيد، بل التوحيد صحب السيرة كلها من وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] إلى {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وهو في مرض الموت عليه الصلاة والسلام.

ولهذا نقول: يا إخواني لم تخل فترة من هذه الفترات ألبتة من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك وظواهره، ويكاد ينحصر عرض البعثة كلها في ذلك، فما ترك عليه الصلاة والسلام صغيراً ولا كبيراً وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسألة الهجرة والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة وأنصاره وأعوانه متظاهرين، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرار أمر البيعة على التوحيد يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة:12] فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة والقرآن من وراء ذلك كله توحيد، ولو تتبعتم وتلمستم لوجدتم شيئاً عجيباً لا في القرآن ولا في السيرة، ولهذا نقول: ومن أجلها كان التوحيد أولاً ولابد أن يكون أولاً في كل عصر وفي كل مصر.




استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة اسٌتمع
حق الطريق وآداب المرور 3698 استماع
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم 3089 استماع
اللغة .. عنوان سيادة الأمة 3073 استماع
الطلاق وآثاره 3015 استماع
لعلكم تتقون 3000 استماع
الماء سر الحياة 2957 استماع
من أسس العمل الصالح 2934 استماع
الزموا سفينة النجاة 2883 استماع
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل 2873 استماع
بين السلام وإباء الضيم 2852 استماع