التنافر والتجاذب في العلاقات الشخصية


الحلقة مفرغة

كانت غزوة بدر فرقاناً، فقد كانت أول مواجهة عسكرية حقيقة بين المؤمنين والكافرين، وقد استخدم فيها النبي إستراتيجيات الحرب التي تدرس اليوم في الكليات العسكرية، فأرسل العيون تسبق الجيش للتعرف على أحوال العدو وجاهزيته، واختار مكاناً في ميدان المعركة تكون له فيه الأفضلية على عدوة، ثم رتب جنوده وصف صفوفهم، وعبأهم تعبئة معنوية، وبشرهم بالجنة لمن لقي العدو صابراً محتسباً.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أولاً: أعتذر إليكم عن شيءٍ أرجو أنه لا ذنب لي فيه، ولعل لبساً حصل في كيفية الإتيان إلى هذا المكان، فاضطررت أن آتي إليه وأنا لا أعلم مكانه، وهذه المحاضرة كما ترونها أظن الوقت ليس بمتسع لأن نأتي عليها، ولكنني سأتكلم معكم عن موضوعٍ أرجو أن يكون فيه خيرٌ لي ولكم وفائدة إن شاء الله.

وهذا الموضوع أيها الإخوة! يدور حول فقرة من الفقرات التي تضمنها وتناولها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في دلائل الإيمان، وهذه الفقرة هي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) وهذه القضية أيها الإخوة! تتكون من شقين أريد أن أتناولهما بالكلام معكم في هذه الليلة.

الشق الأول: التنافر الذي يحدث بين النفوس عندما تتقابل في وسطٍ واحد.

الشق الثاني: التجاذب الذي يحدث بين بعض النفوس عندما تتقارب في الوسط الواحد.

من أكثر المشاكل التي تواجه فريضة الأخوة في الله في واقعنا، ما يحدث بين بعض الشباب من التنافر أو التجاذب، ولكلٍ منهم إيجابيات وسلبيات، التنافر طبعاً لا خير فيه، ولكن التجاذب هو الذي أقصد بكلامي أن فيه إيجابيات وفيه سلبيات، ونظراً لكثرة المشاكل الحادثة في هذا الموضوع، نريد أن نسلط عليه الضوء.

ضعف الإيمان

أما التنافر أيها الإخوة: فإنه يكون بأسباب، منها: ضعف الإيمان، ولذلك تجد أنه لو التقى أخوان شابان مثلاً، اثنان أو اثنتان في وسطٍ واحد فحدث بينهما تنافر، فإن هذا التنافر وهذا الكره الذي يقوم في نفس كل واحدٍ منهما، أو نفس واحدٍ منهما له أسباب، فأنت عندما تنفتح على مجموعة من الناس، تدخل مثلاً مركزاً من المراكز الصيفية، أو مدرسةً من المدارس، أو مجتمعاً من المجتمعات، فإنك تحس بالقرب من أناس، وبالابتعاد من أناس آخرين، بعض الناس لأدنى سبب من أسباب الابتعاد فإنه يهجر أخاه، ولا يبالي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث) فهناك الآن من الناس من يحسب على قائمة المتمسكين بهذا الدين، قد هجر أخاً له أو صاحباً ليس في ذات الله، وإنما لهوىً يحدث في نفسه.

فمثلاً: يحدث بينهما اختلاف في وجهة نظر حول قضية من القضايا مثل: كيف نطبق أمراً من الأمور، أو كيف نسلك سبيلاً لحل مشكلةٍ ما، فيكون هذا الخلاف في الرأي مفسداً للود، مفرقاً لهذا الإخاء الذي من المفترض أن يكون في النفوس، مع أن السبب تافه في بعض الأحيان، لكنه يولد مفسدة عظيمة من الفرقة والاختلاف.

أحياناً -كما قلت- يكون السبب ضعف الإيمان في نفس أحدهما أو كلاهما، الأرواح جنود مجندة، وأهل الإيمان يلتقون وينجذبُ بعضهم إلى بعض، ولو لم يعرف بعضهم بعضاً، أليس يحدث هذا أيها الإخوة؟! أحياناً في موسم الحج مثلاً، تلتقي بأخٍ لك من الباكستان أو من الهند أو من إندونيسيا ، أو من ليبيا أو من أوروبا ، فيحدث أثناء الكلام انجذابٌ فيما بينك وبينه، بسبب الأخوة الإيمانية الحاصلة.

فإذا ضعف الإيمان عند أحدهما فإنه لن ينجذب إلى الآخر الذي قوي إيمانه في بعض الأحيان، وأحياناً قد يحبه من باب أنه يستفيد منه، أو يقتدي به، أو أنه يجده ضالاً ومنقذاً له من حمأة المجتمع السيئ الذي يعيش فيه، ومن لاحظ أن بينه وبين أخيه نوعاً من التنافر، فعليه أن يبحث على السبب ما هو؟

قد يكون الضعف في الإيمان هو الذي أدى إلى هذا التنافر بينهما، لو قوي الإيمان لارتفع هو وأخوه فوق مستوى الخلافات في الآراء، وفوق مستوى النـزغات التي ينـزغها الشيطان، لذلك الله عز وجل يقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53].

من الأسباب مثلاً: سوء الظن، فترى الواحد من هذين الأخوين عندما يرى تصرفاً من أخيه يقول: هذا ما عنى بالتصرف إلا ليضرني، هذا ما تقدم عليّ بالكلام في المجلس إلا لكي يعزلني على جنب، ويستلم هو صدارة المجلس، ويكون هو المتحدث الرسمي باسم الدين مثلاً في ذلك المجلس، ويقول: أخذ علي الوقت كله، ولم يترك لي فرصة للكلام؛ يريد أن يجعلني إنساناً لا قيمة له بين هؤلاء الجالسين، وقد يكون الشخص الأول قصده غير ذلك.

رأى نفسه منطلقاً في الكلام، ورأى الحاضرين تأثروا بكلامه، فجلس يتحدث ويتكلم ولم يخطر بباله لحظة واحدة، أنه يقصد بإطالة الكلام أن يجعل ذلك الشخص معزولاً منبوذاً عن هذا المجلس، فيأتي الشيطان فيسول لهذا الشخص، ما قصد بهذه الحركة إلا كذا، وهذا كثير.

مثلاً: يحدث تصرف من التصرفات؛ كلمة يقولها واحد لآخر، فيسمعها الشخص المقصود الذي يسيء الظن، فيفسرها كل التفسيرات السيئة إلا التفسير الحسن الذي قد يكون هو القريب من الواقع فعلاً، ولذلك نبه الله عز وجل المؤمنين إلى هذه المسألة في سورة الحجرات، فقال الله: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

لأن هناك ظناً شرعياً مثل: غلبة الظن الذي تبنى عليه كثيرٌ من الأحكام الشرعية، مثل أن الإنسان عندما يرجح في الصلاة أن التي صلاها أربعاً وليست ثلاثاً، فإنه لا يأتي بركعةٍ زائدة، وإنما يعتمد على ما غلب على ظنه من رجحان أن تكون التي أتى بها هي الركعة الرابعة فلا يزيد، وهذا ليس موضوعنا، موضوعنا عن ظنٍ سيئ يقوم في بعض النفوس كتفسيراتٌ سيئة لبعض الكلمات والتصرفات، تسبب التنافر والابتعاد.

النظرة الطبقية والمادية

أحياناً: يكون سبب التنافر غير شرعي أيضاً، مثل أن يقول: إن فلاناً منظره ليس جميلاً، أو أن هندامه ليس أنيقاً، أو أن مركبه ليس وثيراً، وهكذا، فيحدث نوع من التباعد، وخصوصاً عندما يكون الإنسان من طبقة اجتماعية معينة فيها غنى أو ثراء، فتراه يحس أن الذين دونه في الطبقة الاجتماعية، ودونه في الغنى والثراء بعيدون عنه، وأن هؤلاء تحته بمنازل، كيف يمكن أن تحدث الأخوة في الله بين الذي ينظر هذه النظرة المادية؟

ولذلك ترى بعض الناس يتقاربون ممن هم في طبقتهم الاجتماعية، أو مثلهم في الغنى والثراء تقارباً زائفاً قد يبدو في الظاهر أنهم إخوة في الله وليسوا كذلك. فهذا أيضاً من الأشياء التي يجب أن تعالج في النفس، ومجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم من عظمته أنك تجد فيه أثرى الناس وأفقر الناس يجتمعون مع بعضهم البعض، يقاتلون صفاً واحداً، ويحضرون مجالس العلم المختلفة، لا يأنف عبد الرحمن بن عوف أن يجلس بجانب بلال وهكذا.

لكن في مجتمعاتنا قد يحدث هذا، وقد يرى بعض المتفوقين دراسياً أنهم أرقى عقولاً أو أذهاناً أو قوةً في التفكير من أناسٍ آخرين من البسطاء المتخلفين في الدراسة، فيجد في نفسه أن يمشي مع هذا الشخص!! لابد أن يمشي مع أشخاص متفوقين دراسياً، ولذلك يبتعد عن الضعفاء، والرسول صلى الله عليه وسلم بين كما ورد في صحيح البخاري : (ابغوني الضعفاء؛ إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم).

أحياناً: في بعض الأنشطة الإسلامية بعض الشباب يحتقر ناساً من البسطاء الموجودين في هذا النشاط، وقد يكون هؤلاء البسطاء هم من الأسباب الكبيرة في توفيق الله لهذا النشاط الإسلامي، لأن الله مع الضعيف، لماذا يستجاب دعاء المظلوم؟

لماذا يستجاب دعاء المسافر؟ لماذا يستجاب دعاء المريض؟

لأن الذي يجمعهم هو الضعف الذي يحصل لهم بسبب وجودهم في هذه الحالات التي سببت ضعفهم، المسافر بسبب غربة ومشاق السفر يصبح ضعيفاً فيه ذلة، المريض أيضاً فقد صحته، وهو يرى الأصحاء ففيه نوع من الذلة والمسكنة، المظلوم مقهورٌ مغلوب وفيه نوعٌ من الذلة والمسكنة، ولذلك يستجاب لهم، كما بين ابن القيم رحمه الله في تحليلٍ رائع في مدارج السالكين لهذه النقطة.

فإذاً تنافر بعض الشباب عن البعض بسبب تفوقهم في بعض النقاط المادية، سبب ليس بشرعي للتنافر، ولا للإعراض ولا للهجران، ويجب أن تتلمس هذه الأسباب في النفوس، وكل واحد منا مسئولٌ عن النزعات التي تقوم بنفسه.

حب الترؤس على الآخرين

أحياناً: يكون سبب التنافر حب الرئاسة، وهذا سببٌ دقيق وهي الشهوة الخفية التي جاء التعبير في بعض الآثار، حب الرئاسة هذا يريد وأن تكون له القيادة والريادة، وأنه يجمع في يده زمام أكبر عدد ممكن من المسئوليات، وقد يكون صاحب شخصية قوية.

والشخصيات القوية في الغالب تنـزع هذا المنـزع، وعندما يجتمع مجموعة من الناس في وسط، فإن من الأمر أنه لا يخلو أن يوجد أكثر من واحد صاحب شخصية قوية، وأكثر من واحد يريد أن تكون له القيادة ويريد أن يستلم الريادة، ويريد أن يكون هو الذي يوجه ويسير دفة الأمور.

والعادة أن هذه الشخصيات لا تتنازل بسهولة عن آرائها، ولا ترضى بسهولة أن تطبق فكرة شخص آخر، وعندما يجتمع اثنان على الأقل من هذه النوعية، كلٌ منهما يريد أن تكون له الكلمة، يحدث بينهما تنافر وابتعاد، ويرى كلٌ منهما أنه أهلٌ لأن يكون في هذا المكان.

ولذلك ترى حالة هذا الوسط المصغر الذي نتكلم عنه والذي وضعنا الآن شريحته تحت المجهر، إما أن يكون الصراع قائماً محتدماً لفترةٍ طويلة من الوقت حتى يهدي الله أحدهما أو كلاهما، أو أنك تجد واحداً استطاع أن يسيطر على الموقف ويقهر الآخر، فيضطر الآخر إلى الخروج من الساحة، أو أن يقبع ساكتاً طيلة الوقت، ويكون ما بينهما من الضغينة والبغضاء شيء كثير جداً.

الحظوظ والأشياء النفسية

هذه طائفة من الأسباب التي تولد التنافر، أحياناً يكون هناك سبب نفسي، تجد تفسير هذا السبب في بعض العبارات التي يطلقها البعض، فتجد واحداً يقول: أنا يا أخي ما ارتاح لفلان ولا لطريقته، ما ارتاح لكلامه، ما ارتاح لإلقائه، أنا عندما يتكلم أريد أن أسد أذني، عندما يأتي للمجلس أود أن أفارقه بأقصى سرعة، لا أريد أن أقع له على أثر، ولا أرى له منظر، ولا أسمع له خبر وهكذا...

يجب ألا تقف المسألة عند هذا الحد، بعض الناس أحياناً يقولون: ما دام وصلنا إلى هذا الشكوى لله، إذاً اجتنب هذا الشخص، ويذهب كلٌ منكما في طريقٍ وسبيلٍ آخر، لكن المشكلة لم تحل!

ولذلك ينبغي أن يدقق وتحلل هذه المواقف وأن ينظر ما هو السبب وراء هذه القطيعة وهذا التنافر، فهل هو مواقف؟

أحياناً يكون السبب موقفاً من المواقف ترتب عليه كره وبغضاء شديدة جداً، أحياناً يكون الموقف فعلاً خطأ، ولكن ينبني على هذا الخطأ خطأ أكبر منه وهو الكره الذي يحصل في نفس هذا المخطئ عليه.

أسألكم سؤالاً: أليس قد حدث لكل واحدٍ منا مثلاً في حياته الدراسية، أنه في حصةٍ من الحصص مثلاً قد يختار المدرس مجموعة أو واحداً واحداً من الطلاب لكي يقول رأيه في مسألة؟

يطرح الموضوع ويقول: تكلم يا فلان، كل الطلاب يرفعون أيديهم، وهو ينتقي، تكلم يا فلان، تكلم يا فلان، تكلم يا فلان، أليس قد حدث مرةً من المرات أو أكثر من مرة، أنك عندما تكون لست الشخص الذي يختارك المدرس للكلام في ذلك الموقف، أن تحس أن هذا المدرس يقصد ذلك، وأنه لا يريدك أن تتكلم عمداً وإلا لانتقاك؟

ويكون في نفسك شيءٌ من البغضاء لهذا المدرس، لماذا سمح لفلان وفلان بالكلام ولم يسمح لي المجال للكلام؟

أليس قد حدث هذا؟!

قد يكون المدرس بهواه وميوله الذاتية أو الشخصية قد انتقى الناس الذين يميل إليهم ليفسح لهم المجال للكلام، وقد يقول إنسان: معذور جداً، لأن الوقت المقرر لمناقشة هذا الموضوع في الحصة حقيقةً وواقعاً وعقلاً لا يكفي ولا يستوعب كل طلاب الفصل، ولذلك فهو انتقى انتقاءً عشوائياً مثلاً.

وليس هناك سبب معين لأن يحرم طالباً من الكلام، ولكن الطالب قد لا يكون عنده فقهٌ في المسألة فيتصور أنه مقصود، فيعادي هذا المدرس ويكرهه، ويكون هذا الموقف الواحد سبباً في أن تتراكم الكراهية في نفس هذا الطالب، وأن يفسر كل التصرفات التي تحدث بعد ذلك من هذا المدرس على أنه مقصود فيها.

هذه صورة ولكن ما يحدث في واقع الأخوة في الله! كثيرٌ جداً في هذا الجانب. ولذلك نحن ندعو دائماً ونقول لك: يا أيها الشاب! إذا أحسست ببعض المواقف مما أذكره لك الآن، فلا تتردد لحظةً واحدة في إجراء عملية مهمة جداً وهي المصارحة، كثير من النفسيات في كثيرٍ من الأحيان تفضل تخزين المواقف في الداخل، ولا تصارح البتة ولا يأتي ويصارح ويقول: يا أخي لقد حدث منك تصرف في وقت كذا وكذا، وأنا أقول لك: الصراحة أنني فهمت منه كذا وكذا، قد يكون هذا من الشيطان، وقد يكون فعلاً أنت قصدته فأنا أريد أن توضح لي الأمر، وأن تبين، كثيرٌ من الناس لا يوجد عندهم هذا الأسلوب وهذا المنهج.

وبسبب فقدان منهج المصارحة؛ فإنك تجد النقاط السوداء تتراكم في النفس حتى تكون بركاناً ينفجر يوماً من الأيام، وعندما نستعرض واقع بعض الصحابة نجد أن الأمر بينهم فيه مصارحة ومعاتبة، فتجد الواحد منهم لو حدث بينه وبين أخيه شيء جاء يعاتبه عما حصل، والآخر يعتذر إليه في كثيرٍ من الأحيان، نحن نفتقد إلى المعاتبة والاعتذار، قد تحدث معاتبة ومصارحة في بعض الأحيان، وقد تجد خطأً آخر وهو عدم الاعتذار وعدم التبرير الواضح، وإذا لم يكن هناك تبرير واضح، فمن أين تأتي الراحة؟!

ولذا أوصيكم أن إذا وجد أحدكم شيئاً في نفسه على أخيه في موقف من المواقف، كلمةٍ من الكلمات، حدثٍ من الأحداث، أن يبادر ولا يسكت ولا يؤجل، لأن الأثر يبقى في النفس والموضوع يبرد، وإذا برد الموضوع لن يتجرأ ولن يكون هناك حماس في فتحه مرةً أخرى، ولكن النقطة السوداء بقيت في النفس، فالبدار البدار إلى المصارحة وإلى فتح النفس وتقول له معاتباً: أنا أعتب عليك يا أخي في هذا التصرف، وأنا لك أذن صاغية لأن أسمع عذرك.

بعض الناس قد يخجل -أقول: يخجل ولا أقول يستحي- من المصارحة، وخصوصاً عندما يكون الشخص الذي يظن أنه أخطأ عليه أكبر منه سناً، ويبدأ الكره ينبض في قلبه، ولا يستطيع أن يكلمه ونجد أمثلة كثيرة جداً لهذه النقطة بين بعض الآباء وبعض الأولاد.

كثيرٌ من الأولاد: عندما يجتمع مع أقرانه يبثُ إليه أشجاناً كبيرة وعظيمة، ويفتح له صدره على مكنونات سوداء تجاه أبيه، لماذا لا يصارح الولد أباه؟

يجد أنه لا يمكن أن يفاتح أباه، قد تكون شخصية الأب غير متفهمة، ولكننا في كثيرٍ من الأحيان نفتقد إلى الجراءة، ولو أننا فعلنا المصارحة أو المعاتبة مرةً واحدة؛ لانكسر ذلك الجدار من الخجل أو من الهيبة، نقول: اكسر الحاجز أفضل من أن تتراكم الكراهية في قلبك.

أما التنافر أيها الإخوة: فإنه يكون بأسباب، منها: ضعف الإيمان، ولذلك تجد أنه لو التقى أخوان شابان مثلاً، اثنان أو اثنتان في وسطٍ واحد فحدث بينهما تنافر، فإن هذا التنافر وهذا الكره الذي يقوم في نفس كل واحدٍ منهما، أو نفس واحدٍ منهما له أسباب، فأنت عندما تنفتح على مجموعة من الناس، تدخل مثلاً مركزاً من المراكز الصيفية، أو مدرسةً من المدارس، أو مجتمعاً من المجتمعات، فإنك تحس بالقرب من أناس، وبالابتعاد من أناس آخرين، بعض الناس لأدنى سبب من أسباب الابتعاد فإنه يهجر أخاه، ولا يبالي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث) فهناك الآن من الناس من يحسب على قائمة المتمسكين بهذا الدين، قد هجر أخاً له أو صاحباً ليس في ذات الله، وإنما لهوىً يحدث في نفسه.

فمثلاً: يحدث بينهما اختلاف في وجهة نظر حول قضية من القضايا مثل: كيف نطبق أمراً من الأمور، أو كيف نسلك سبيلاً لحل مشكلةٍ ما، فيكون هذا الخلاف في الرأي مفسداً للود، مفرقاً لهذا الإخاء الذي من المفترض أن يكون في النفوس، مع أن السبب تافه في بعض الأحيان، لكنه يولد مفسدة عظيمة من الفرقة والاختلاف.

أحياناً -كما قلت- يكون السبب ضعف الإيمان في نفس أحدهما أو كلاهما، الأرواح جنود مجندة، وأهل الإيمان يلتقون وينجذبُ بعضهم إلى بعض، ولو لم يعرف بعضهم بعضاً، أليس يحدث هذا أيها الإخوة؟! أحياناً في موسم الحج مثلاً، تلتقي بأخٍ لك من الباكستان أو من الهند أو من إندونيسيا ، أو من ليبيا أو من أوروبا ، فيحدث أثناء الكلام انجذابٌ فيما بينك وبينه، بسبب الأخوة الإيمانية الحاصلة.

فإذا ضعف الإيمان عند أحدهما فإنه لن ينجذب إلى الآخر الذي قوي إيمانه في بعض الأحيان، وأحياناً قد يحبه من باب أنه يستفيد منه، أو يقتدي به، أو أنه يجده ضالاً ومنقذاً له من حمأة المجتمع السيئ الذي يعيش فيه، ومن لاحظ أن بينه وبين أخيه نوعاً من التنافر، فعليه أن يبحث على السبب ما هو؟

قد يكون الضعف في الإيمان هو الذي أدى إلى هذا التنافر بينهما، لو قوي الإيمان لارتفع هو وأخوه فوق مستوى الخلافات في الآراء، وفوق مستوى النـزغات التي ينـزغها الشيطان، لذلك الله عز وجل يقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53].

من الأسباب مثلاً: سوء الظن، فترى الواحد من هذين الأخوين عندما يرى تصرفاً من أخيه يقول: هذا ما عنى بالتصرف إلا ليضرني، هذا ما تقدم عليّ بالكلام في المجلس إلا لكي يعزلني على جنب، ويستلم هو صدارة المجلس، ويكون هو المتحدث الرسمي باسم الدين مثلاً في ذلك المجلس، ويقول: أخذ علي الوقت كله، ولم يترك لي فرصة للكلام؛ يريد أن يجعلني إنساناً لا قيمة له بين هؤلاء الجالسين، وقد يكون الشخص الأول قصده غير ذلك.

رأى نفسه منطلقاً في الكلام، ورأى الحاضرين تأثروا بكلامه، فجلس يتحدث ويتكلم ولم يخطر بباله لحظة واحدة، أنه يقصد بإطالة الكلام أن يجعل ذلك الشخص معزولاً منبوذاً عن هذا المجلس، فيأتي الشيطان فيسول لهذا الشخص، ما قصد بهذه الحركة إلا كذا، وهذا كثير.

مثلاً: يحدث تصرف من التصرفات؛ كلمة يقولها واحد لآخر، فيسمعها الشخص المقصود الذي يسيء الظن، فيفسرها كل التفسيرات السيئة إلا التفسير الحسن الذي قد يكون هو القريب من الواقع فعلاً، ولذلك نبه الله عز وجل المؤمنين إلى هذه المسألة في سورة الحجرات، فقال الله: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

لأن هناك ظناً شرعياً مثل: غلبة الظن الذي تبنى عليه كثيرٌ من الأحكام الشرعية، مثل أن الإنسان عندما يرجح في الصلاة أن التي صلاها أربعاً وليست ثلاثاً، فإنه لا يأتي بركعةٍ زائدة، وإنما يعتمد على ما غلب على ظنه من رجحان أن تكون التي أتى بها هي الركعة الرابعة فلا يزيد، وهذا ليس موضوعنا، موضوعنا عن ظنٍ سيئ يقوم في بعض النفوس كتفسيراتٌ سيئة لبعض الكلمات والتصرفات، تسبب التنافر والابتعاد.

أحياناً: يكون سبب التنافر غير شرعي أيضاً، مثل أن يقول: إن فلاناً منظره ليس جميلاً، أو أن هندامه ليس أنيقاً، أو أن مركبه ليس وثيراً، وهكذا، فيحدث نوع من التباعد، وخصوصاً عندما يكون الإنسان من طبقة اجتماعية معينة فيها غنى أو ثراء، فتراه يحس أن الذين دونه في الطبقة الاجتماعية، ودونه في الغنى والثراء بعيدون عنه، وأن هؤلاء تحته بمنازل، كيف يمكن أن تحدث الأخوة في الله بين الذي ينظر هذه النظرة المادية؟

ولذلك ترى بعض الناس يتقاربون ممن هم في طبقتهم الاجتماعية، أو مثلهم في الغنى والثراء تقارباً زائفاً قد يبدو في الظاهر أنهم إخوة في الله وليسوا كذلك. فهذا أيضاً من الأشياء التي يجب أن تعالج في النفس، ومجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم من عظمته أنك تجد فيه أثرى الناس وأفقر الناس يجتمعون مع بعضهم البعض، يقاتلون صفاً واحداً، ويحضرون مجالس العلم المختلفة، لا يأنف عبد الرحمن بن عوف أن يجلس بجانب بلال وهكذا.

لكن في مجتمعاتنا قد يحدث هذا، وقد يرى بعض المتفوقين دراسياً أنهم أرقى عقولاً أو أذهاناً أو قوةً في التفكير من أناسٍ آخرين من البسطاء المتخلفين في الدراسة، فيجد في نفسه أن يمشي مع هذا الشخص!! لابد أن يمشي مع أشخاص متفوقين دراسياً، ولذلك يبتعد عن الضعفاء، والرسول صلى الله عليه وسلم بين كما ورد في صحيح البخاري : (ابغوني الضعفاء؛ إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم).

أحياناً: في بعض الأنشطة الإسلامية بعض الشباب يحتقر ناساً من البسطاء الموجودين في هذا النشاط، وقد يكون هؤلاء البسطاء هم من الأسباب الكبيرة في توفيق الله لهذا النشاط الإسلامي، لأن الله مع الضعيف، لماذا يستجاب دعاء المظلوم؟

لماذا يستجاب دعاء المسافر؟ لماذا يستجاب دعاء المريض؟

لأن الذي يجمعهم هو الضعف الذي يحصل لهم بسبب وجودهم في هذه الحالات التي سببت ضعفهم، المسافر بسبب غربة ومشاق السفر يصبح ضعيفاً فيه ذلة، المريض أيضاً فقد صحته، وهو يرى الأصحاء ففيه نوع من الذلة والمسكنة، المظلوم مقهورٌ مغلوب وفيه نوعٌ من الذلة والمسكنة، ولذلك يستجاب لهم، كما بين ابن القيم رحمه الله في تحليلٍ رائع في مدارج السالكين لهذه النقطة.

فإذاً تنافر بعض الشباب عن البعض بسبب تفوقهم في بعض النقاط المادية، سبب ليس بشرعي للتنافر، ولا للإعراض ولا للهجران، ويجب أن تتلمس هذه الأسباب في النفوس، وكل واحد منا مسئولٌ عن النزعات التي تقوم بنفسه.

أحياناً: يكون سبب التنافر حب الرئاسة، وهذا سببٌ دقيق وهي الشهوة الخفية التي جاء التعبير في بعض الآثار، حب الرئاسة هذا يريد وأن تكون له القيادة والريادة، وأنه يجمع في يده زمام أكبر عدد ممكن من المسئوليات، وقد يكون صاحب شخصية قوية.

والشخصيات القوية في الغالب تنـزع هذا المنـزع، وعندما يجتمع مجموعة من الناس في وسط، فإن من الأمر أنه لا يخلو أن يوجد أكثر من واحد صاحب شخصية قوية، وأكثر من واحد يريد أن تكون له القيادة ويريد أن يستلم الريادة، ويريد أن يكون هو الذي يوجه ويسير دفة الأمور.

والعادة أن هذه الشخصيات لا تتنازل بسهولة عن آرائها، ولا ترضى بسهولة أن تطبق فكرة شخص آخر، وعندما يجتمع اثنان على الأقل من هذه النوعية، كلٌ منهما يريد أن تكون له الكلمة، يحدث بينهما تنافر وابتعاد، ويرى كلٌ منهما أنه أهلٌ لأن يكون في هذا المكان.

ولذلك ترى حالة هذا الوسط المصغر الذي نتكلم عنه والذي وضعنا الآن شريحته تحت المجهر، إما أن يكون الصراع قائماً محتدماً لفترةٍ طويلة من الوقت حتى يهدي الله أحدهما أو كلاهما، أو أنك تجد واحداً استطاع أن يسيطر على الموقف ويقهر الآخر، فيضطر الآخر إلى الخروج من الساحة، أو أن يقبع ساكتاً طيلة الوقت، ويكون ما بينهما من الضغينة والبغضاء شيء كثير جداً.