بركة المرأة التي أسلمت


الحلقة مفرغة

لم تكن حادثة ووقعة كفتح مكة تمر بلا نتائج ولا دروس، بل هي مليئة بفوائد وعبر وأحكام ونوازل قضى فيها رسول الله أو أقرها وشرعها، ومن أعظم تلك النتائج التي حصلت بيان مصير ناكثي العقود والعهود وأنهم مهما طال أمدهم وتناهوا في الغي إلا أن المصير والجزاء والعقوبة والنكال بهم لاحق قريباً ولا مفر عنه، ومن تلك الأحكام التي حدثت مشروعية السفر في رمضان وجواز الفطر فيه، ومنها جواز مباغتة العدو، كما أن من الدروس العظيمة عفوه ورأفته صلى الله عليه وسلم بالناس، وتعليمهم أهم قضايا التوحيد والأحكام بعد الدخول في دين الله تعالى.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

في كتاب التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء.

في هذه القصة من الفوائد العديدة والأحكام الكثيرة ما تقر به عين المؤمن، وما ينتفع به طالب العلم، وما يكون فيه فائدة في حياة الإنسان المسلم، وفيها بيانُ بعض ما يحتاج إليه الناس في أمور العبادات.

وهذه القصة رواها أبو رجاء، عن عمران رضي الله عنه قال: (كنا في سفرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنا أسرينا -أي: سرنا في الليل- حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعةً -أي: نمنا نومة- ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حرُّ الشمس، وكان أول من استيقظ فلان .. وفي رواية: أبو بكر ، ثم فلانٌ، ثم فلانٌ، يسميهم أبو رجاء ، فنسي عوف -الراوي عن أبي رجاء -ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه -لأن نوم الأنبياء وحي، فخاف الصحابة أن يوقظوه فينقطع الوحي، لأنه ربما يكون يرى وحياً- لأنا لا ندري ماذا يحدث له في نومه، فقعد أبو بكر عند رأسه، فجعل يكبر ويرفع صوته فلما استيقظ عمر ، ورأى ما أصاب الناس -أي: أنه قد فاتت صلاة الفجر على الجيش بأكمله- وكان رجلاً جليداً -والجلادة هي القوة والصلابة- فكبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبرُ ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: لا ضير -أو: لا يضير- ارتحلوا. فارتحل، فسار غير بعيدٍ، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة -الأذان- فصلى بالناس -صلاة الفجر بعد طلوع الشمس- فلما انفتل من صلاته إذا هو برجلٍ معتزلٍ لم يصلِّ مع القوم -قيل: هو خلاد بن رافع رضي الله عنه- قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟! قال: أصابتني جنابةٌ ولا ماء. قال: عليك بالصعيد -أي: الزم الصعيد وتيمم به، والصعيد هو التراب، أو سطح الأرض مطلقاً- فإنه يكفيك. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوبٍ بين يديه فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً كان يسميه أبو رجاءٍ نسيه عوفٌ -وهو الرواي عن أبي رجاء - ودعا علياً فقال: اذهبا فابتغيا الماء. فانطلقا، فتلقيا امرأةً سادلةً رجليها بين مزادتين أو سطيحتين من ماءٍ على بعيرٍ لها -ذهبا يبحثان عن الماء فوجدا امرأةً راكبة قد أسدلت رجليها وبينهما مزادتان، والمزادة: هي القربة الكبيرة، سميت مزادة لأنه يزاد فيها جلدٌ آخر من غيرها، وتسمى أيضاً سطيحة، وهي القربة الكبيرة.

فقالا لها: أين الماء؟ -أين موضع الماء من عينٍ أو بئرٍ؟- قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة -تقول المرأة: تركتُ الماء منذُ أمس، وهو اليوم الذي قبل يومك تسميه العرب أمس، في مثل هذه الساعة، والمعنى أن الماء يبعد مسافة أربع وعشرين ساعة، وفي رواية: يومٌ وليلة، ونفرنا خلوفاً. أي: رجالنا متخلفون لطلب الماء، وذهبوا وخلفوا نساءهم، وحدهن في الحي، تخبر عن حال قومها، أنهم نفروا في طلب الماء وتركوا أهلهم، وقومها من المشركين- قالا لها: انطلقي إذاً- مادام أنه لا يوجد ماء، وليس الماء إلا معها، فانطلقي إذاً- قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له: الصابئ؟

والصابئ: هو الذي خرج من دينٍ إلى آخر، وكانت المرأة مشركة، فقالت لما قالوا لها: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: الذي يقال له الصابئ؟- قالا: هو الذي تعنين -وهذه عبارة فيها حكمة بالغة، ما قالوا: نعم، ولكن قالوا: هو الذي تعنين- فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث، وفي رواية أنها قالت: وما رسول الله؟ فلم نملكها من أمرها شيئاً حتى استقبلنا بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثاه الحديث -قال: فاستنزلوها عن بعيرها- فحدثته بمثل الذي حدثتنا من قضية الماء ورجال الحي، غير أنها حدثته أنها مؤتمةٌ -أي: ذات أيتام، هذا التفصيل الجديد- فمسح في العزلاوين -أي: العجلاوان: مثنى عزلى، والعزلى: فم المزادة الأسفل- ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناءٍ ففرَّغ فيه من أفواهِ المزادتين أو السطيحتين، وأوكأ أفواههما -أي: ربطَ أفواههما- وأطلق العزالي -جمع عزلاء، وهي فم المزادة الأسفل الذي يخرج منه الماء بكثرة، فهو فرغ من أفواه المزادتين في إناء، ثم أغلق الأفواه- ونودي في الناس: اسقوا واستقوا -الذي يريد ماء يأخذ من هذا الإناء- فسقى من شاء واستقى من شاء- وفي رواية: فشربنا عطاشاً أربعين رجلاً حتى روينا، فملأنا كل قربةٍ معنا وإداوة، غير أنه لم نسقِ بعيراً -وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابه إناءً من ماء، وقال: اذهب فأفرغه عليك، وهي قائمةٌ تنظر إلى ما يفعل بمائها- والمرأة قائمة مذهولة تنظر إلى ما يفعل بمائها- وايم الله -يحلف الراوي- لقد أقلع عنها -أي: كف عنها وتركت- وإنه ليخيل إلينا أنها أشدُّ ملاةً منها حين ابتدأ فيها -يخيل إلينا أن هاتين المزادتين مع المرأة أشد امتلاءً مما كانت في البداية- وفي رواية: وهي تكاد تنض من الملء -أي: تنشق ويخرج منها الماء من شدة الامتلاء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لها -مقابل الماء الذي أخذوه- فجمعوا لها من بين عجوةٍ ودقيقٍ وسويقةٍ -وهو طحين الحنطة والشعير وغيرهما- حتى جمعوا لها طعاماً -من الذي مع أفراد الجيش- فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، ثم قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائِك شيئاً -أنت ترين بعينك أننا ما أنقصنا من مائك شيئاً- ولكن الله هو الذي أسقانا، فأتت أهلها -الحي الذي خرجت منه- وقد احتبست عنهم -تأخرت عنهم- قالوا: ما حبسكِ يا فلانة؟ قالت: العجب! لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعها الوسطى والسبابة فرفعتها إلى السماء تعني: السماء والأرض، أو إنه لرسول الله حقاً -الاحتمال الثاني: أنه رسول الله حقاً كما زعموا؛ لأنهم قالوا: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين -في الجهاد- ولا يصيبون الصِّرْمَ الذي هي منه -والصرم: هي البيوت المجتمعة المنقطعة عن غيرها، يغيرون على ما حول قوم هذه المرأة ولا يصيبون قومها- فقالت يوماً لقومها: ما أرى إنَّ هؤلاء القوم يدعونكم عمداً -أي: ليسوا بغافلين عنكم- فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام، وفي الرواية الأخرى: فأسلمت وأسلموا).

هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- فيه فوائد كثيرةٌ جداً، وهو حديثٌ عظيم، من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه من المعجزات العظيمة التي أجراها الله تعالى على يديه، وفيه فوائد متعددة، فلنشرع في ذكر بعض هذه الفوائد، وما يؤخذ من هذا الحديث من الأحكام.

ترجمة راوي الحديث عمران بن حصين

راوي هذا الحديث هو عمران بن حصين الخزاعي قاضي البصرة ، الذي كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، الذي ثبت أن الملائكة كانت تكلمه كرامةً له، والذي قال عنه أهل البصرة : إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى -أي: استعمل الكي- فلما استعمل الكي لم تكلمه الملائكة، وتوفي سنة (52هـ) وله في البخاري اثنا عشر حديثاً.

الثقة بالنفس والثقة بالله

يقول رضي الله عنه: كنا في سفر -إما خيبر أو الحديبية- مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر قصة أنهم سروا بالليل، ثم وقعوا نياماً، وأن الوقعة كانت في آخر الليل، ولذلك قال الرواي: ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، وقد جاء في البخاري من حديث أبي قتادة ذكر سبب نزولهم في آخر الليل، وهي أن بعض القوم سألوا ذلك، وقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أخافُ أن تناموا عن الصلاة) فقال بلال : أنا أوقظهم. تكفل بلال بإيقاظهم، فهذه إذاً تتمة القصة:

أن بعض القوم تعبوا في الطريق، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أخشى عليكم أن تناموا عن صلاة الفجر) ولم يرض بالنوم حتى تكفل بلال بإيقاظهم، وهذا قد جاء في حديث أبي قتادة ، ولفظه: (سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله -أي: لو نزلنا آخر الليل نستريح- قال: أخاف أن تناموا عن الصلاة، فيخرج وقت صلاة الفجر ولم نستيقظ، فقال بلال متبرعاً، وهو مؤذن القوم: أنا أوقظكم) ظناً منه أنه سيكون على حسب المعتاد، فإن من عادته الاستيقاظ لأجل الأذان، وكان بلال متعوداً على الاستيقاظ قبل الأذان، فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فغلبته عيناه فنام، ألقى الله عليه النوم لحكمة بالغة؛ لتتبين أحكام في قضاء الصلاة، وماذا يفعل إذا استيقظ بعد طلوع الشمس .. (فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال: يا بلال ! أين ما قلت؟؟) أين الوفاء بقولك: أنا أوقظكم وهذا فيه لفتةٌ تربويةٌ بالغة من النبي صلى الله عليه وسلم، ينبه بلالاً فيها على اجتناب الثقة بالنفس وحسن الظن بها.. أين الوفاء بالذي وعدت أنك توقظنا للصلاة؟ أنت وعدتنا ولم تفِ، كأنه يقول: أنت وثقت بنفسك أكثر مما ينبغي، لأن المظنة أنك لن تقوم، ما دمت مسافراً ومتعباً ونزلت في آخر الليل؛ فكان ينبغي أن تراعي أنك ربما لن تقوم لأجل هذه العوامل.

وفيه بيان فائدة عظيمة وهي: أن الإنسان لا يصلح أن يثق بنفسه، ومن العبارات الشائعة عند بعض الناس: تجب الثقة بالنفس، وهذه العبارة غلط، ولذلك يقول الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه، وقد سئل عن قولهم: تجب الثقة بالنفس؟ فقال: لا تجب، بل لا تجوز الثقة بالنفس، وإنما الثقة بالله عز وجل، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله أن يكله إلى نفسه طرفة عين؛ لأن الإنسان إذا توكل على نفسه ضاع، لكن إذا توكل على الله استقام أمره، ولذلك بعض الأحيان تجد الشخص يقول: أنا مستعد أفعل كذا، وأنا مستعد أنجز كذا، وأنا مستعد أتكفل بهذا الأمر، وأنا واثق من نفسي، فتراه في كثيرٍ من الأحيان يخذل، يخذله الله بسبب اتكاله على نفسه وثقته بها، أو نسيان الله وعدم الثقة به، نسي أن يتوكل على الله أو أن يفوض الأمر إليه، وإنما اعتمد على نفسه واتكل عليها، فوكل إليها؛ فضاع، ولذلك نبه عليه الصلاة والسلام إلى هذه المسألة: ألا يتكل الإنسان على نفسه، وأن الشخص إذا كانت العوامل لا تساعده على النتيجة المطلوبة فلا يتبرع بشيءٍ يغلب على الظن أنه لا ينجزه أو لا يفعله، وإنما يقدر الموقف.

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر

وفيه كذلك: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم البالغ بصلاة الفجر .. فإنه أبى في البداية أن ينزل الجيش، وأبى أن ينام في هذا الوقت، وقال لهم: (أخافُ أن تناموا عن الصلاة) ولم يرضَ إلا بعد أن تكفل بلال بأن يحرسهم لأجل الإيقاظ لصلاة الفجر.

وفيه: أن القوم إذا نزلوا منزلاً يجعلون لهم شخصاً إذا ظنوا ألا يستيقظوا، أو كان الوضع حرجاً، مثل أن يكونوا متعبين أو يناموا قبل الفجر بقليل، فلابد أن يجعل لهم من يوقظهم.

وفيه: أخذ الاحتياطات للاستيقاظ لصلاة الفجر، لا كما يفعل كثير من الناس اليوم من تضييع الصلاة، وتراهم -الآن- في رمضان ربما يسهرون إلى قرب الفجر، لأن الليل طويل، فيسهرون ثم ينعس فينام، فلا يصلي الفجر جماعةً ولا يصليها في وقتها، فتضيع عليه الصلاة، وبعضهم يهمل في وضع المنبه، وبعضهم يهمل في وصية أهله لإيقاظه، وبعضهم يهمل في النوم مبكراً، وبعضهم يهمل في الأذكار، وبعضهم يهمل في الوضوء قبل النوم، أسبابٌ مجتمعة تؤدي في النهاية إلى عدم الاستيقاظ للصلاة، وربما تعمد بعضهم ألا يضع شيئاً يوقظه، ونصح بعضهم أباً أن يوقظ ولده لصلاة الفجر، فقال: لا توقظه دعه يأخذ راحته، الجسم متى ما انتهت حاجته من النوم فإنه يقوم لوحده!

إن كثيراً من الناس لا تنتهي حاجتهم من النوم، فإذاً: يجب أن يستيقظ الإنسان لصلاة الفجر ولو كان على حساب راحته ونومه، يجب الاستيقاظ للصلاة، ووضع بلال حارساً لأجل الاستيقاظ، مثل: وضع كافة الاحتياطات.. من شخصٍ يوقظك، أو هاتف، أو منبه، أو رش بالماء بأن يوصي زوجته أن ترشه بالماء لأجل الاستيقاظ وذلك لأهمية الصلاة، وكلما كان الإيمان قوياً كلما كانت الاحتياطات المتخذة للاستيقاظ للصلاة قوية، وكلما ضعف ضعفت، وربما أنها لا تكون موجودة أصلاً.

نوم النبي صلى الله عليه وسلم والحكمة منه

قال: (فما أيقظنا إلا حر الشمس، واستيقظ أبو بكر، ثم استيقظ فلان وفلان، والرابع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه).

الصحابة كانوا لا يريدون إيقاظ النبي عليه الصلاة والسلام، لأجل أنه ربما يوحى إليه في منامه، فيخافون انقطاع الوحي وانقطاع الفائدة إذا أيقظوه، فتركوه حتى يكون هو الذي يقوم، فـعمر قدَّر الموقف، رأى ما أصاب الناس من نومهم عن صلاة الصبح، ولا يوجد ماء، وكان عمر رجلاً جلداً جليداً قوياً، ولا شك أن المجتمع المسلم يحتاج إلى أمثال هؤلاء الرجال، وكان رفيع الصوت، يخرج صوته من جوفه بقوة، وهذا من معاني كلمات (جليداً) لأنه ورد في رواية مسلم: (رجلاً جليداً أجوف) أي: يخرج الصوت من جوفه بقوة، (فكبر ورفع صوته بالتكبير) قال العلماء: إن استعماله للتكبير سلك فيه طريق الأدب والجمع بين المصلحتين، إحداهما: الذكر، والأخرى: الاستيقاظ، لأنك يمكن أن توقظ الشخص بأي عبارة، فإذا أوقظته بذكرٍ من الأذكار، تكون قد جمعت بين إيقاظه وبين الذكر، فيكون لك أجران: أجر ذكر الله، وأجر إيقاظه للصلاة.

ولذلك كبر وعلا صوته بالتكبير، وخص التكبير لأنه الدعاء إلى الصلاة، لأن أول عبارة في الأذان (الله أكبر) فهو أفضل الدعاء إلى الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم استيقظ.

وهنا قد يقول قائل: إننا نعلم أن قلوب الأنبياء لا تنام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) فما باله هنا قد حصل أنه نام عن الصلاة المكتوبة؟

وقد أجاب العلماء بأجوبة، ومنها:

أنه كما يعتري الإنسان السهو في اليقظة كما في الصلاة، فكذلك في النوم من باب أولى، قد يحصل له سهو قلبي وهو في المنام، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سها في الصلاة وهو مستيقظ، والسهو سهو القلب، وسلم من ركعتين.

إذاً: من باب أولى أن يحدث له سهوٌ قلبيٌ في المنام، حتى لو كان قلبه لا ينام، لكنه ليس مبرأ من السهو، فهذا جواب مما قيل عن هذا الأمر.

وفي ذلك فائدة: لو استيقظ عليه الصلاة والسلام في الوقت وصلوا لما كان هناك بعض الفوائد التي حصلت، ولما عرفناها، فالمجتمع الأول أجرى الله سبحانه وتعالى فيه أحداثاً، وقدر فيه أقداراً؛ لتعرف أحكام ما كانت لتعرف لو لم تحصل هذه الأحداث.

عظم وقع مصيبة فوات الصلاة على الصحابة

قوله: ( فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه الذي أصابهم)، وهذا يبين عظم وقع مصيبة فوات وقت الصلاة على الصحابة، وشدة محافظة القوم عليها، وتحسسهم من فقدها، وتأذيهم من ذلك لدرجة أنهم اعتبروها مشكلة أذية شكوا إليه الذي أصابهم، اعتبروها مصيبة أصابتهم، فشكوا إليه مصيبتهم التي أصابتهم، وما هي المصيبة؟

خروج وقت الصلاة، لا كما هو حالنا اليوم، فربما تفوتنا الصلوات والصلوات ولا يعتري الإنسان وربما لا يحدث له شيئاً، يقوم يصلي وكأنه لم يصبه شيء، لا مصيبة ولا أقل من المصيبة، ولا شك أن فوات العبادة يؤذي النفس المستقيمة، ويجعل الحرج موجوداً فيها، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم من شدة ما رأى من وقع المصيبة عليهم وهي فوات صلاة الفجر؛ عزَّاهم وآنسهم، ولما عرض لهم من الأسف والحزن قال: ( لا ضير أو لا يضير) قالها تأنيساً لقلوبهم، لا حرج عليكم لأنكم لم تتعمدوا، وهنا يكون الفرق بين من نام عن الصلاة وقد اتخذ الأسباب ففاتته، وبين من نام عن الصلاة مهملاً الأسباب، فالذي ينام عن الصلاة المكتوبة قد ورد عقابه في حديث البرزخ، رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يعذبون في البرزخ، وكان عذاب الذي ينام عن الصلاة المكتوبة أن يشدخ رأسه بالحجر، ويعود رأسه كما كان، ثم يشدخ بالحجر، ويعود رأسه كما كان، إلى أن تقوم الساعة، قيل: إلى أن يبعث الناس من قبورهم، وهو عذاب في البرزخ على الراجح، من هو هذا الرجل؟

قال: (الذي ينام عن الصلاة المكتوبة) يرفض كتاب الله وينام عن الصلاة المكتوبة، هذه عقوبته، ولو قيل لك: ما عقوبة النوم عن الصلاة عمداً؟ فقل: هذا هو عقابه، وهذا يبعث الإحساس بالمسئولية للصلاة، خصوصاً عند أصحاب الأعمال الذين يشتغلون في النوبات، فبعض الأعمال في الشركات والمستشفيات أو الطيران.. ونحو ذلك فيها نوبات، فربما تنتهي نوبة أحدهم قبيل الظهر وهو ساهر أكثر الليل والصباح، فربما ينام ولا يصحو إلا المغرب، ويضيع العصر والظهر، وربما انتهى أيضاً قبل الفجر بقليل وينام ويضيع الفجر، وهكذا ... وهؤلاء ليس لهم عذر في أخذ الاحتياط لأجل الصلاة.

سبب ارتحال النبي صلى الله عليه وسلم من المكان الذي ناموا فيه إلى مكان آخر

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضير، ارتحلوا) لماذا ارتحل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه؟

ولماذا لم يصلوا في نفس المكان؟

ولماذا أمر الجيش أن يرتحل؟

قيل: إن ذلك بسبب حضور الشيطان في ذلك الموضع الذي كانوا فيه، كما ورد ذلك في صحيح مسلم : (إن هذا مكان فيه الشيطان قوموا) فقاموا من ذلك المكان الذي حضرهم فيه الشيطان.

وجاء عند أبي داود من حديث ابن مسعود في هذه القصة: (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) هذا وقد فات وقت الصلاة، فأمرهم بالارتحال من مكان الغفلة، لكي ينشط النائم ويقوم ويلحق بالناس من كان لم يقم بعد، ويتكامل العدد ويجتمعون، فنزل في مكان غير بعيد، لم يذهب ويؤخر الصلاة.

بعض الناس يقول: ما دام فاتت فاتت! فإذا استيقظ الساعة السابعة، قال: ما دام فاتت فاتت، ويكمل النوم إلى الساعة العاشرة والحادية عشرة، ومع الظهر، وهذا من جهلهم؛ لأن الإنسان إذا نام عن الصلاة يجب عليه أن يؤديها حينما يستيقظ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فوقتها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك) لابد إذا استيقظ من النوم أن يصلي مباشرةً، ويجوز أن يتأخر شيئاً يسيراً لمصلحة؛ كأن يكون هناك جماعة فاتتهم الصلاة، فيقوم بعضهم فيؤذنون ويصلون السنة، وينتظرون بقية أصحابهم لأن يأتوا، كأن يقوموا من النوم ويتوضئوا، فإن الناس في قيامهم من النوم وطهارتهم ليسوا سواء، فبعضهم يقوم بسرعة، وبعضهم نومه فيه بطء، وبعضهم يتوضأ بسرعة، وبعضهم يحتاج إلى قضاء حاجة، وبعضهم ربما يطيل في قضاء الحاجة، فليسوا سواء، فحتى يدرك الجميع الجماعة فلا بأس بالتأخر اليسير في مثل هذه الحالة.

فالنبي صلى الله عليه وسلم نزل غير بعيد وصلى، وقيل: إنه غيَّر المكان تحرزاً من العدو.

وقيل: انتظاراً لما ينزل عليه من الوحي.

وقيل: ليستيقظ من كان نائماً، وينشط من كان كسلاناً.

وفيه: فائدة التحول من مكان الغفلة، فإذا كان في وادٍ يخرج منه.

وقيل: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يُدرى أن الشيطان حضر إلا بوحي.

على أية حال: من حصل له غفلة عليه أن يغير مكانه، ولذلك ندبنا في خطبة الجمعة إذا نعس الواحد في مكانه؛ فعليه أن يغير مكانه مع من بجانبه من اليمين أو الشمال، يتحول إلى مكان صاحبه وليتحول صاحبه مكانه، كما جاء في الحديث، فإذا أشار لك من بجانبك في خطبة الجمعة بتغيير المحل فلا تقل: ماذا يريد؟ هو في وادٍ آخر. لا، عليك أن تفهم وتفقه وتتفطن أنه يريد أن يغير مكان الغفلة، ويجوز له أن يشير لأجل هذه المصلحة ولا يتكلم ولا تتكلم، ولا تقل: ماذا تريد؟ وإنما تغير مكانك بمكانه.

إذاً: أُمر الناس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحول من مكانٍ إلى مكان آخر، وأن من حصلت له الغفلة عن عبادةٍ يتحول من ذلك المكان، وأن التأخر اليسير عن الصلاة بعد خروج وقتها لأجل انتظار الجماعة -مثلاً- أو أن ينشط الكسلان ويقوم النائم النعسان وثقيل النوم، أنه لا حرج فيه.

مشروعية الأذان للصلاة الفائتة

قوله: (ثم توضأ ونودي بالصلاة)، وهذا يدل على مشروعية الأذان للفوات، إذا فاتتك الصلاة فيشرع لك الأذان، ومنه يعلم أن الأذان ليس هو الإعلام بدخول الوقت فقط، بل فيه دعوة الناس للصلاة أيضاً.

وفيه فائدة طرد الشيطان؛ لأن الشيطان إذا سمع التأذين ولَّى وله ضراطٌ حتى لا يسمع صوت التأذين، فإذا انتهى الأذان رجع، فإذا أقيمت الصلاة ولىّ، لأن الشيطان لا يطيق سماع الأذان ولا الإقامة، فإذا انتهت الإقامة رجع يوسوس للمرء ويحول بينه وبين صلاته.

إذاً: الأذان للفائتة مشروع، وإذا كان هناك جماعة في سفر أو غيره، ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس، فإنهم يؤذنون، والأذان مشروع للفائتة.

مشروعية الجماعة للصلاة الفائتة

كذلك في هذا الحديث قوله: (فصلّى بالناس) يؤخذ منه أيضاً: مشروعية الجماعة للفائتة، فلو كان هناك جماعة فاتتهم صلاة فإنهم يصلون جماعة وليس هناك مانع، ولا يقل أحد: يجب أن يصلي كل إنسان لمفرده! لا. فهذا النبي عليه الصلاة والسلام عندما فاتتهم الصلاة قام وصلَّى بالناس جماعة وأذن.

تفقد الإمام والمسئول أحوال الرعية

ووقع كذلك في هذا الحديث قصة الرجل الذي اعتزل القوم ولم يصلِّ معهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله، فينبغي على الإمام تفطن أحوال المأمومين، وينبغي للأمير في السفر أن يتفقد أحوال رعيته، ويتفطن لهم، ويسأل عنهم.

التيمم للجنابة عند عدم وجود الماء

رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل معتزل القوم لم يصل معهم، فسأله: (ما منعك أن تصلي مع القوم) فالرجل بين ذلك بقوله: "أصابتني جنابةٌ ولا ماء" أي: لا يوجد معي ماء للاغتسال، فقال: (عليك بالصعيد) فهنا يتبين أن الإنسان إذا أصابته الجنابة ولا يوجد عنده ماء فإنه يتيمم، لأن التيمم يرفع الجنابة، ولذلك لو كان معه ماء يكفي للوضوء فقط وأصابته جنابه، والماء لا يكفي للاغتسال، فعليه أن يتوضأ ثم يتيمم، كما قال بعض أهل العلم، أو يتيمم فقط، لكن الوضوء وحده لا يكفي لرفع الجنابة عند عدم وجود الماء الكافي للغسل، ولا يرفعها إلا التيمم، فإنه يكفيك.

إذاً: من السنة أن الإنسان إذا عدم الماء ينتقل إلى البدل، وهذه السنة واجبة، ومشروعية التيمم للجنب واضحة في هذه القصة، والصحابي كان يجهل هذا الحكم، فبينه له النبي صلى الله عليه وسلم.

الحث على صلاة الجماعة

وكذلك فيه الحث على صلاة الجماعة، لأنه قال: (ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) فهذا فيه الحث على صلاة الجماعة، وأن ترك الشخص الصلاة بحضرة الناس عيب، ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين في آخر المسجد لم يصليا مع القوم، سألهما عن السبب، فقالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا. قال: (إذا أتيتما مسجد قومٍ فوجدتماهم يصلون فصليا معهم، ولو كنتم صليتم) فإذا حضر الإنسان مكاناً فيه أناس مجتمعون للصلاة فلا يعتزل ويدعهم يصلون، لأنه يكون في موضع تهمة، سيقول الناس: لماذا لم يصل؟ أهو مستهزئ أم أن الإمام لم يعجبه؟!

فلذلك الإنسان لو صلى في مكان وجاء إلى مسجد آخر لدرس أو لحاجة، فإن وجدهم يصلون دخل معهم وصلى وهي له نافلة، ولو كان وقت نهي، لأن الحديث كان بعد الفجر، ولو كان بعد الفجر، أو بعد العصر، فيدخل ويصلي معهم وهي له نافلة.

وكذلك فيه اللطف في السؤال، فإنه قال: (ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) أسلوب سؤال ولم يكن أسلوب توبيخ أو سخرية أو تأنيب أو قسوة، وإنما هو أسلوب سؤال لطيف لمعرفة سبب تخلف هذا الرجل عن الصلاة، وكذلك إنكار المنكر يكون بالأسلوب الحسن.

مشروعية الأخذ بالأسباب

في هذا الحديث مشروعية الأخذ بالأسباب؛ فإنه طلب من الصحابيين أن يتلمسا الماء، وأن الأخذ بالأسباب لا يقدح في التوكل، ومن الناس من يغلو في السبب حتى يجعل السبب هو كل شيء، ويعتمد عليه ويتوكل، وهذا حرام وشرك.

ومن الناس في الجانب المقابل من يهمل الأسباب بالكلية، ويقول: إذا أراد الله أن تتيسر تيسرت، وإذا أراد الله أن تحصل حصلت، ولا يفعل شيئاً، فهذا إنسان غير عاقل، لأن العقل السليم يقتضي بذل الأسباب، وقد أمرت مريم أن تهز جذع النخلة مع أنها امرأة نفاس، في أضعف شيء، والنخلة قوية، وأمرت بهز النخلة، وكان يمكن أن ينزل عليها الرطب من غير هز، لكن الله تعالى يريد أن يعلم عباده الأخذ بما يستطيعون من الأسباب، فأنت خذ بالسبب والله تعالى يأتيك بالنتيجة.

إذاً: الاعتماد على الأسباب شرك، وإهمال الأسباب جنون، وكلاهما مصادم لمفهوم التوكل الصحيح، أما الغربيون فإنهم يجعلون الأسباب هي كل شيء، ولذلك تراهم يخططون للأمر غاية التخطيط ولا يتوكلون على الله، ولا شك أن عندهم عقولاً وذكاءً، عندما يتخذون الأسباب، لكن ليس عندهم توحيد، ولذلك تجد الواحد يصاب بالانهيار إذا لم تأت النتيجة كما يريد؛ لأنه ليس عنده توكل على الله، والإنسان مهما كانت قوته، ومهما كان تخطيطه، وذكاؤه وعقله، فإنه في بعض الحالات يصل إلى طريقٍ مسدود، وفي بعض الحالات يشعر بالضعف، وأنه ليس هناك أسباب يمكن أن تفعل، أو أن الأسباب ضعيفة في بعض الأحيان، فلا ينجيه إلا إذا كان موحداً متوكلاً على الله تعالى.

والطرف الآخر: هم بعض الصوفية ومن شابههم من الكسالى، فإن الكسالى مشابهون للصوفية في عدم الأخذ بالأسباب، فتجد الواحد منهم يقول: إذا أراد الله أن أنجح نجحت! وهو لا يريد أن يدرس، وبعض الناس يتركون الأسباب في مجال الأمور الدينية الشرعية، ويأخذون بالأسباب الدنيوية البحتة، فتراه إذا أراد تجارةً خطط ودبر وفعل ودرس وفكر وراقب وتابع وحضر وداوم، وفعل كل الأسباب!

وفي الأمور الشرعية، يقول: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، وإذا أراد الله أن يعلمني تعلمت، وإذا أراد الله أن يفقهني تفقهت! ولا يأخذ سبباً.

ولو قلت له: أنت الذي تقول هذا الكلام: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، وهذه حجة كثير من الناس عند النقاش، إذا كانوا مقيمين على منكر، يقولون: إذا أراد ربنا أن يهدينا اهتدينا!

نقول: إذاً: لماذا لا تترك الزواج وإذا أراد الله أن يأتيك بولد أتاك؟ لا تتزوج ولا تنكح فسوف يضحك منك، ولذلك فإنهم يأخذون بالأسباب في الأمور الدنيوية، ويتركون الأسباب في الأمور الدينية، ويحتجون بأن الله إذا أراد شيئاً كان، وهذا هو فعل كثيرٍ من عصاة عصرنا.

صلاة المتيمم عند فقد الماء

وكذلك في الحديث: أن من تيمم وصلى فإنه لا يحتاج إلى إعادة الصلاة إذا وجد الماء، ولذلك عندما وجد الماء، ثم أتت المرأة بعد ذلك لم يقل: يا فلان! أعد الصلاة، وإنما أعطاه الماء ليغتسل به لأجل الصلاة التي بعدها ورفع الجنابة.

إذاً: الإنسان إذا اتخذ الأسباب، واتقى الله ما استطاع، وفعل ما تيسر، يكفيه، ولا يحتاج إلى إعادة العبادة.

حسن التعامل مع المرأة الأجنبية

وكذلك في هذا الحديث:

حسن التعامل مع المرأة الأجنبية .. ولذلك ما خلا واحدٌ منهما -أي من الصحابيين- بها، كانا جميعاً، وكان التوجيه بالكلام، وليس فيه أي ملامسةٍ ولا شبهةٍ، وهذا هو اللائق بالمسلم إذا وجد امرأةً وحيدةً منقطعة، وبعض من ركبه الشيطان واستحوذ عليه يعتبر الفرصة سانحة إذا رأى امرأة لوحدها، ويعتبرها غنيمة، ولذلك فإن الفسق يبلغ به أن ينتهز هذه الفرصة لتحقيق شهوةٍ في نفسه، أو انتهاك لحرمة الله تعالى، إذا وجد امرأة لوحدها، والعياذ بالله.

حسن التخلص في المواقف

في هذا الموضع أيضاً: حسن التخلص، فالصحابيان عندما قالا للمرأة: انطلقي، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ التخلص الحسن أنهما قالا: "هو الذي تعنين". لأنهما لو قالا: لا، ليس بالصابئ، وأنكرا عليها، لخافت وشردت ورفضت أن تأتي معهما، وفات المقصود، ولو قالا: نعم، لوافقاها على الباطل، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس صابئاً، فتخلصا هذا التخلص الجميل بقولهما: هو الذي تعنين.

جواز أخذ ماء الغير للضرورة

وكذلك فإن أخذ الماء من المرأة يقال فيه: إما أنه من باب الضرورة، فيجوز أخذ الماء عند الضرورة من الآخر، ولو بغير رضاه.

أو يقال: إنها من أهل الشرك كافرة حربية، فمالها حلالٌ لهم.

وعلى تقدير أنها من أهل العهد نقول: إن ضرورة العطش تبيح للمسلم الماء المملوك لغيره، ثم إنهم قد أعطوها العوض بعد ذلك.

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في مباركة الماء

كذلك في هذا الحديث: معجزةٌ ظاهرةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلمٌ من أعلام نبوته، عندما حصلت البركة بمشاركة ريقه الطاهر المبارك للماء، فصار الماء كثيراً، وشرب منه أربعين رجلاً وملئوا الأواني، والمرأة ما نقص من مائها شيء، بل إنه أكثر مما كان، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من نبي، ومهما حصل الآن من الاختراعات فلا يمكن أن يتوصلوا إلى أن يجعلوا قربة ماء تكفي أربعين رجلاً، ثم تملأ القرب وتكون أكثر مما كانت، فهذه معجزة لا يمكن أن تقع إلا لنبي، وهي من الآيات التي تقام بها الحجة على المشركين، ولذلك كانت المرأة مذهولة، وعرفت وقالت: أو إنه رسول الله. إما ساحر، وإما رسول الله.

مصلحة الشرب مقدمة على الطهارة

كذلك فيه: بيان أن شرب الآدمي والحيوان مصلحة مقدمة على الطهارة، فلو كان عند أحدٍ ماء قليل يكفيه إما للشرب وإما للطهارة، فإنه يقدم الشرب؛ لأن مصلحة بقائه على قيد الحياة أعلى من مصلحة الطهارة مع موته، فإنه إذا مات بعد ذلك فلا يتطهر ولا يتمكن من شيء.

فيؤخذ منه لو أن إنساناً في الصحراء أو في مكان منقطع ليس عنده إلا ماءٌ قليل لا يكفي إلا للشرب، فإنه يتيمم ويجعل هذا الماء للشرب.

حسن معاملة من أُخذ منه شيء وتطييب خاطره

وكذلك في هذا الحديث: تطييب خاطر من أُخذ منه شيء، وحسن المعاملة مع الآخرين، وأن الإنسان لو أخذ شيئاً من غيره أو من صاحبه بغير رضاه لأجل الحاجة، فإنه يعوضه.

وفيه: أن حسن المعاملة تأتي بالنتائج الباهرة، ولذلك المرأة مع أنه لم ينقص من مائها شيء، أعطيت وجمع لها طعام كثير وضع في ثوب، ووضع الثوب على البعير بين يديها ثم انطلقت.

وكذلك فإن الحديث (ما رزئنا من مائك شيئاً) يدل على أن جميع الماء الذي أخذوه ليس من ملكها، لأنه مما زاده الله وأوجده.

جواز استعمال أواني المشركين

كذلك استدلوا بالحديث على جواز استعمال أواني المشركين ما لم يتيقن منها نجاسة، فهذه مشركة ومعها إناء لا يبدو منه نجاسة، ولا رائحة نجاسة، ولا طعم نجاسة، ولا لون نجاسة.

إذاً: يجوز استعمال الأواني ما لم يظهر فيها نجاسة.

دعوة المرأة لقومها إلى الإسلام ودور المرأة المسلمة

وفيه كذلك وهي فائدة عظيمة: دعوة المرأة لقومها.

وفيه: أن المسلمين كانوا يقصدون عدم الإغارة عليها لأجل المعروف الذي حصل منها، مع أنه حصل رغماً عنها، وأعطيت مقابلاً عليه، لكنهم ما كانوا يغيرون على قومها طمعاً في إسلامهم بسبب المرأة، أو رعاية للمعروف الذي أدته أو أُخِذَ منها.

وفيه: أن ترك الهجوم على قومٍ لمصلحة تؤدي إلى إسلامهم أمرٌ شرعي، وترك بعض الكفار والهجوم على آخرين لعلهم يسلمون وهناك بوادر أمر شرعي، فلذلك ينبغي أن يكون الجهاد في حكمة، والهجوم في حكمة، وهذه المرأة بركتها على قومها عظيمة.. عندما قامت بدعوتهم، وذكرتهم بكف المسلمين عنهم، عندما قالت: " ما أرى إن هؤلاء القوم يدَعونكم عمداً -لا جهلاً ولا نسياناً ولا خوفاً- فهل لكم في الإسلام؟ وهذه هي الدعوة؛ فأطاعوها فدخلوا في الدين، وهذا فيه دليل على أنه ربما يكون المرأة على ضعفها وعجزها أثر بالغ على الرجال وعلى القوم كلهم، وفي زماننا نجد حالات في الواقع من هذا القبيل؛ أن بعض النساء يرزقها الله تعالى ديناً وإخلاصاً، فتقوم بدعوة أهل البيت، فيتدين أهل البيت على يديها، وتكون بركة عليهم.. امرأة واحدة ربما تكون سبباً في إسلام أو تدين جماعة من الناس، مثل هذه المرأة، فقد أسلم بسببها قومها كلهم.

إذاً: المرأة إذا أحسنت تربيتها، وأحسن إعدادها، جاءت بالنتائج الباهرة، وكذلك يمكن أن تحمل هم الدعوة ومسئولية الدعوة، وتأتي بنتائج عظيمة قد لا يأتي بها بعض الرجال، وكم من زوجٍ صلح حاله بسبب زوجته، وكم من أبٍ اهتدى بسبب ابنته، وكم من أخٍ تدين بسبب أخته، وهذه أشياء مشاهدة في الواقع تدل على أهمية توجيه الدعوة للنساء، إذ بسبب هدايتهن ربما يحصل هداية البيت بأكمله، ونحن نرى في الواقع دخول الهداية والعلم والدين في بعض البيوت عن طريق النساء، وأن بعض البيوت ربما يفشل الرجال في إدخال شيءٍ إليها عن طريق رجل، فيأتي من طريق امرأة، وأن الضعيف ولو كان ضعيفاً لكن ربما يجري الله على يديه، أو يبارك في جهده بما لا يحصل لمن هو أقوى منه، فلا يصلح أبداً أن نستهين بدور المرأة في البيت، أو أن نهين المرأة، أو كما يفعل بعض الناس إذا قال: الحذاء عزك الله، يقول: المرأة أجلك الله!

لماذا يقرنون في العبارة بين المرأة والحذاء أو النجاسة؟

هل هي شيءٌ يتقذر منه أو في ذكره عيب؟

ليس في ذكره عيب، فلذلك ليس من تكريم المرأة أن الإنسان يذكر عبارة يبين فيها أنها نجسه، أو أنها مستقذرة، أو أنها شيءٌ يستحيا من ذكره، كلا والله! فإن فضل بعض النساء على الرجال كبير، كما هو فضل عائشة وخديجة ومريم، وغيرهن من النساء، ثم إنه حتى على المستوى الدنيوي يوجد بعض النساء يتحملن بيوتاً، فربما يكون الذي في البيت عاجز عن الكسب من الرجال، أو أنه مهمل في القيام بشئون البيت، ثم هي تعمل وتحمل البيت بأكمله، وربما يدرس الأولاد ويكبر الذكور ويدرسوا وهي التي تنفق عليهم، وتنفق على أبيها وأمها، فلذلك إعداد النساء والقيام بالدعوة في صفوفهن ومراعاتهن يكون فيه خيرٌ بالغٌ، وأثرٌ كبيرٌ في داخل البيوت، بل على مستوى القوم أجمعين كما في هذه القصة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.