كلمة الإخلاص وتحقيق معناها لابن رجب


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فالرسالة التي سنستعرضها وإياكم في هذه الليلة بمشيئة الله تعالى هي: ( كلمة الإخلاص وتحقيق معناها ) للحافظ ابن رجب رحمه الله عز وجل.

ونبذة عن الحافظ ابن رجب رحمه الله قبل الشروع في هذه الرسالة:

بداية نشأته

هذا الحافظ الجليل قد عاش في القرن السابع الهجري، وكان وقت ملك دولة المماليك البحرية الذين استلموه بعد الدولة الأيوبية، وكانت ولايتهم على مصر والشام وساحل فلسطين والأردن والحجاز وبلاد الحرمين ، ولا شك أنهم ورثوا مسئوليةً عظيمةً في الدفاع عن المسلمين أمام عدوين خطيرين جداً التتار والنصارى.

وهم الذين أوقفوا زحف التتار إبان احتلالهم للعراق ، وحصلت في عهدهم الوقائع التاريخية الفاصلة كمعركة عين جالوت سنة [658هـ] والخزندار سنة [699هـ] وشقحب سنة [702هـ] وفي هذا الجو عاش الحافظ ابن رجب رحمه الله.

وكان كذلك هناك من أعداء الإسلام الكسرويين الباطنية والدروز في جبال غرب الشام ، وكان الحافظ ابن رجب رحمه الله عز وجل من الذين لم يحرصوا على تولي الولايات والمناصب، وكان مشهوراً بالزهد مع كون المناصب موجودة في دولة المماليك تلك إلا أنه رحمه الله كان عزوفاً عما في أيدي الناس غير مشتغلٍ بالرياسة، ولكنه في ذلك الوقت كان مطلعاً على ما يدور في عصره، وهو قد ذكر في تقسيم الناس أن بعضهم من المشتغلين بالذكر كانوا ملازمين للذكر بحيث يشغلهم ذلك عن مصالحهم المباحة، وينقطعون عن الخلق.

ثم ذكر قسماً ثانياً ممن يذكر الله عز وجل ويستحضر ذكره وعظمته وثوابه وعقابه، ويدخل في مصالح دنياه من اكتساب الحلال، والقيام على العيال، ويخالط الخلق فيما يُوصل إليهم به النفع مما هو عبادةٌ في نفسه، كتعليم العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء أشرف القسمين وهم خلفاء الرسل، لعله رحمه الله تعالى كان من هذا القسم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).

وكان رحمه الله تعالى قد عاش في دمشق الفترة العظمى من عمره، وكان فيها العلم منتشراً، وكان العلماء كثرة، والمدارس الشامية في تلك البلد متعددة، وكان العلم يُدرس في الجامع الأموي بـدمشق ، وجامع الجراحين في الباب الصغير، وجامع الحنابلة في الجبل، وجامع النحاس في صالحية دمشق، وجامع باب المصلى، وغير ذلك، وكانت المدارس أيضاً منتشرةً والأوقاف محبسةً عليها لكي تدر مقابلاً يعيش منه أهلها، ومن تلك المدارس أو دور الحديث المشهورة: المدرسة الأشرفية، وكذلك دار الحديث السكرية بالقصاعين، وكان القيم عليها عبد الحليم ابن تيمية والد شيخ الإسلام ، وتولى شيخ الإسلام بعده، وبعده تولى الحافظ الذهبي رحمه الله، وقد سكن ابن رجب رحمه الله في هذه المدرسة بالذات ودرس فيها الفقه والحديث.

ومن المدارس المشهورة في ذلك الوقت أيضاً المدرسة الجوزية التي أنشأ لها الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ودرس فيها آل ابن قدامة المقادسة والمرداوي وابن مفلح ، وهذه البيئة التي عاش فيها رحمه الله كان فيها انتشار للمذاهب الأربعة وفقهائها، وكانت السيطرة فيها للأشاعرة من جهة المعتقد، ولكن كان هناك مواجهة بينهم وبين أتباع السلف الذين كثيرٌ منهم على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

والأربطة كانت موجودة في ذلك الوقت وهي مأوى الفقراء وطلبة العلم، وكان الإمام ابن رجب رحمه الله ممن عاش في تلك الأربطة.

أما اسمه فهو: الحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب ، ورجب اسمه عبد الرحمن، من أجداد الحافظ رحمه الله، وسمي برجب، لأنه ولد في شهر رجب، ابن الحسن السلامي البغدادي الدمشقي الشامي موطناً والحنبلي مذهباً، والسلفي معتقداً، المشهور بـ: ابن رجب رحمه الله، فرجب إذاً هو أحد أجداد الحافظ الذين تحدثوا عنه.

إذاً: اسم مؤلف: كلمة الإخلاص وجامع العلوم والحكم ، أو لطائف المعارف أو فتح الباري لابن رجب : عبد الرحمن .

إذاً: العالم الذي نتحدث عنه اسمه عبد الرحمن ، وأحد أجداده اسمه عبد الرحمن ولقب برجب ونسب الحافظ إليه، فيقال: ابن رجب ، أما لقبه، فهو زين الدين ، وأما كنيته، فهي أبو الفرج ، ويشترك في ذلك مع أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله، وكذلك الشيخ/ عبد الواحد بن محمد الشيرازي إمام مذهب الحنابلة في الشام ، كل هؤلاء الثلاثة كنيتهم (أبو الفرج) ولا يشترط أن يكون له ولد بهذا الاسم، لأن العرب كانت تسابق بالكنية الحسنة حتى لا يُوضع للشخص كنية سيئة ويلقب بلقب سيئ، وهذا من فوائد التكنية عند المسلمين، ومن فوائدها كذلك إظهار الميل إلى الرجولة عند الأطفال كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب أخا أنس بن مالك الصغير بـأبي عمير .

رحلته في طلب العلم

ولد الحافظ ابن رجب رحمه الله سنة (736) هـ على الراجح في بغداد ، وصرح بأنه سمع من شيوخ بغداد وهو صغير، وتوفي رحمه الله تعالى سنة (795) هـ بـدمشق ، وعلى ذلك يكون قد عمر نحواً من ستين سنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي بين الستين والسبعين) دُفن بمقبرة الباب الصغير بجوار قبر إمام المذهب في الشام عبد الواحد الشيرازي، وكان في وفاته عبرة، فقال العالم: ابن نصر الدين ، ولقد حدثني من حفر لحد ابن رجب -حفار القبور- أن الشيخ زين الدين ابن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام، فقال لي: احفر لي هنا لحداً، وأشار إلى البقعة التي دفن فيها، قال: فحفرت له، فلما فرغت، نزل في القبر واضطجع فيه، فأعجبه، وقال: هذا جيد، قال الحفار: فو الله ما شعرت بعد أيام إلا وقد أتي به محمولاً في نعشه، فوضعته في ذلك اللحد وواريته فيه.

فهو لما أحس بدنو أجله رحمه الله، أمر الحفار أن يحفر له ذلك القبر الذي دُفن فيه، وقال ابن عبد الهادي رحمه الله: أنه وجد في هامش كتاب القواعد الفقهية لابن رجب أنه قال عند خروج روحه ثلاثين مرة: يا الله العفو.

الأسرة التي عاش فيها الحافظ ابن رجب كانت أسرة علم، وجده عبد الرحمن رجب بن الحسن السلامي من علماء بغداد ، ثم انتقل مع أهله في آخر حياته إلى دمشق .

ويقول ابن رجب : قرأت على جد أبي أحمد بن رجب بن الحسن غير مرة في بغداد وأنا حاضر في الثالثة والرابعة والخامسة، أي: من عمره، لما كان عمره ثلاث سنوات وأربع سنوات وخمس سنوات.

وقرأ أيضاً على أبيه وهو أحمد بن رجب رحمه الله، وقد رحل به أبوه من بغداد إلى دمشق بعد وفاة الجد، فسكنوا دمشق ، وكانت للأب رحلات مع ولده الحافظ عبد الرحمن إلى دمشق والقدس من قبل، وأسمعه فيها من المشايخ، ومات أبوه سنة [774هـ] وبذلك يكون الابن قد تتلمذ على أبيه وعلى جده، فكانت بيئةً صالحةً نهل منها الحافظ ابن رجب رحمه الله.

ومما يدل على ذلك أنه في صغره كان يحضر الدروس وأنه قال عن درس حضره وعمره خمس سنين وكان لا يفقهه جيداً، ولكنه حضر؛ وذكر في ترجمة شيخه أبي عبد الله محمد المؤذن الوراق أنه حضر عليه وعمره أربع سنوات قراءة كتاب النكاح من صحيح البخاري بكامله.

وكذلك حضر قراءة على شيخه الربيع علي بن عبد الصمد البغدادي هو في الخامسة من عمره.

فإذاً لا عجب أن تكون هذه الشخصية التي طلبت العلم في هذه المرحلة المبكرة من السن شخصيةً نابغةً، شبَّ في طلب العلم، ورحل مع والده، وحصل السماعات، وسمع ابن القطيعي وأجازه وهو متوفى سنة [739هـ] ولقي في دمشق الحافظ أبا القاسم البرزالي وهو قرين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأجاز ابن رجب .

ورحل إلى دمشق وسمع فيها، ومصر ، ونابلس ، والقدس ، وفي عام [749هـ] سافر إلى الحج مع والده، وكان قد سمع قبل تلك الرحلة ثلاثيات البخاري بالسند على عمر بن علي البغدادي سنة [749هـ] بـبغداد بالحلة اليزيدية.

ومن أشهر شيوخ الحافظ ابن رجب رحمه الله على الإطلاق هو: الإمام العلم ابن القيم أبو عبد الله الذي لازمه ابن رجب أكثر من سنة، وسمع منه كتابه العقيدة النونية ، المسماة: ( الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية )، وكان يثني على ابن القيم جداً، فإنه قد ذكر في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة ابن القيم ، قلت: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله، والانكسار له والانطراح بين يديه، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، وقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين -أي: ابن تيمية - في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ ... إلى آخر الكلام.

توفي ابن القيم رحمه الله سنة [751هـ] وكان عمر ابن رجب تقريباً [15سنة]. إذاً لازم ابن القيم في أوائل شبابه، ولا شك أنها فرصة عظيمة للتأثر من ابن القيم رحمه الله في الإيمان والعلم، وقد قرأ عليه مختصر الخرقي من حفظه، وسمع منه أجزاء كثيرة من مصنفاته.

فإذاً ابن رجب تلقائياً ينتمي إلى مدرسة ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من السلفيين في ذلك الوقت رحمهم الله تعالى، لكن ابن رجب رحمه الله عُني عناية خاصة بالحديث، واستفاد من مدرسة المحدثين من طبقة الحافظ جمال الدين المزي وتلامذته الإمام الذهبي وابن الخباز ، ولذلك انصبغ ابن رجب رحمه الله بصبغة حديثية، واجتمعت له العقيدة السلفية والمذهب الحنبلي في الفقه مع غيره بطبيعة الحال والاهتمام بالحديث، ولذلك كان شخصاً مثالياً.

بداية تدريسه

لما بلغ مبلغاً من العلم ينتفع به غيره في نظره، تصدر للتدريس، وتولى حلقة الثلاثاء التي كان يقوم بها شيخه ابن قاضي الجبل ، تولاها بعد وفاته سنة [771هـ] وكانت حلقة مشهورة يحضرها أناس كثيرون، ودرس في المدرسة الحنبلية وهي قرب الجامع الأموي، وكذلك في مدرسة تربة الصالحين.

تميزت دروس ابن رجب رحمه الله بالشمولية بالفقه والحديث وعلوم السنة، وأفتى بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وكان فيه ميزة مهمة جداً وهي: القدرة على الوعظ وتحريك القلوب.

أن تجد بعض العلماء قد يُعلم، لكن في تعليمه شيء من الجفاف، ابن رجب رحمه الله امتاز مع علمه بوعظه، فقيل في صفة جلسته الوعظية: كانت مجالس تذكيره للقلوب صارعة، وللناس عامة مباركة نافعة، أجمعت الفرق عليه، ومالت القلوب إليه، وواضح جداً تأثر ابن رجب في الوعظ بـأبي الفرج ابن الجوزي ، فإنه يقتبس كثيراً من كلامه، وابن قيم الجوزية رحمهم الله تعالى.

خلّف ابن رجب طلبة مشهورين صاروا علماء منهم: الشيخ علي بن محمد البعلي المشهور بـابن اللحام صاحب كتاب القواعد الأصولية في المسائل ، والأخبار العلمية الفقهية في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية .

وكذلك الشيخ عمر بن أحمد بن الملقن والذي بلغت مؤلفاته نحواً من ثلاثمائة، وهو من شيوخ ابن حجر العسقلاني . إذاً ابن رجب من طبقة شيوخ ابن حجر العسقلاني ، وكذلك من تلاميذه: أبو ذر عبد الرحمن بن محمد المصري الحنبلي المعروف بـالزركشي ، وكذلك شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي النابلسي .

زهده في الدنيا

بالإضافة إلى ما خلف من التلاميذ فإنه قد خلف سيرةً معطرةً بالزهد والورع، فعزف عن المناصب والولايات، والأشياء التي تولاها تدريسية خيرية، ولم يتولَّ قضاءً، ولم يتولَّ رئاسةً، وكان عزوفاً عن السلاطين، والدخول عليهم والطلب منهم، وهذه مشابهة واضحة لسيرة الإمام أحمد رحمه الله عز وجل في زهده وعزوفه عن الدنيا.

والغالب على أكثر أصحاب أحمد العفة والزهادة والنظافة، ومن أسباب عدم انتشار مذهب الحنابلة بشكل كبير: أن كثيراً من فقهاء الحنابلة أخذوا بطريقة أحمد رحمه الله في الزهد والبعد عن الرئاسات، ولا شك أن انتشار المذهب في كثير من الأحيان يُعزى إلى تبوء مناصب ورئاسات، فإذا كان كبير القضاة شافعياً، عين القضاة الشافعية، وإذا كان له مكانة عند السلطان، رتب في المساجد أو المدارس أئمة أو علماء من مذهبه، فانتشر المذهب وحملت كتبه ونسخت، وسارت في الأمصار بأمر السلطان، لكن الكثير من الحنابلة كانوا على مذهب إمامهم رحمه الله الإمام أحمد في البعد عن الولايات والرئاسات، كانوا يسكنون في المدارس والأوقاف والأربطة، ويكتفون من الدنيا بالقليل، ولكن مع ذلك قد خلفوا علماً عظيماً والحمد لله أن الله نشر فقههم وعلمهم، ولا زالت كتبهم مراجع أساسية لدى كثير من الباحثين.

فـابن رجب رحمه الله بناءً على تأثره بطريقة الإمام أحمد تقتضي أن يكون صاحب عبادة كبيرة، خصوصاً أنه تخرج على يد عباد مثل: ابن القيم رحمه الله، ولذلك كان ابن رجب رحمه الله قواماً لليل، صاحب عبادة وتهجد ومرتبة في العمل والأذكار والأدعية، وأعمال القلوب، وكان يرجى له الإخلاص في أقواله وأعماله إن شاء الله.

من ورعه ما حكاه تلميذه ابن اللحام ، قال: ذكر لنا مرة الشيخ -أي: ابن رجب - مسألةً فأطنب فيها، فعجبت في ذلك ومن إتقانه لها، فوقعت بعد ذلك بمحبر من أرباب المذاهب وغيرهم، فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة.

هو قد شرح لهم المسألة شرحاً مفصلاً مسهباً واسعاً في أحد الدروس، لما جاء ابن رجب ومعه طبعاً تلميذه ابن اللحام والتلميذ يتعلم التواضع من الشيخ، ويتعلم أشياء كثيرة، حضروا بمحضر من أرباب المذاهب، ما تكلم ابن رجب ولا بكلمة، مع أن المسألة قد طرحت هي بذاتها.

فلما قام قلت له: أليس قد كلمت فيها بذلك الكلام؟ قال: إنما أتكلم بما أرجو ثوابه، وقد خفت الكلام في هذا المجلس، أي: أن يكون لا لله، ويكون فيه رياء، أو حب لإظهار ما عندي، ولذلك صمت ولم يتكلم بكلمة واحدة، وكان يحفظ كثيراً من سير أعلام السلف، ويسير على منوالهم، وسكن المدرسة السكرية بالقصاعين في دمشق ، وكان فقيراً متعففاً غنياً عن الناس رحمه الله تعالى.

لا شك أن ابن رجب رحمه الله ممن مُدحوا من قبل العلماء، فيقول ابن اللحام : سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ شيخ الإسلام مُحل المشكلات وموضح المبهمات .. إلى آخر ما مدحه به، وهو مستحقٌ لذلك.

عقيدته السلفية ومهارته في العلوم

لكن من الأشياء المهمة جداً في ابن رجب رحمه الله عقيدته السلفية، نظراً لأن السالكين لسبيل تلك العقيدة في ذلك الزمان لم يكونوا هم المسيطرين على الأمور، لأن الغلبة كما قلنا كانت لمذهب الأشاعرة ، ولكنهم كافحوا في سبيل تقرير العقيدة السليمة والدفاع عنها مكافحة عظيمة.

فنرى في كتب ابن رجب رحمه الله الخط الواضح الأصيل للعقيدة السلفية في الأبواب المختلفة، فمثلاً في الأسماء والصفات يقول: والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت لا تكييف، ولا تمثيل .. إلى آخره.

وكذلك في مسألة الرجوع إلى الكتاب والسنة، قال: العلم النافع من هذه العلوم ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، فهو إذاً يضع في رأس العلوم تفسير القرآن ومعاني الحديث، والحلال والحرام، وهذا قمة ما يمكن أن يطمح إليه طالب العلم الشرعي الذي يسير على الطريقة السلفية.

ولأنها تمثل عقيدة أهل السنة والجماعة نقل عنه أهل السنة والجماعة ، فلذلك تجد كثيراً من أئمة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ينقلون عن ابن رجب كما ينقلون عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، والحافظ لم يكن حنبلياً صرفاً، وإنما كان له اطلاع على المذاهب، وكان له إتقان خاص بمذهب الإمام أحمد رحمه الله يتابعه من غير تَشَهٍ ولا هوى.

وكتاب القواعد الفقهية لـابن رجب خير مثال على سعة فقه الرجل وعلمه، وهذه القواعد الكثيرة التي وضعها في هذا المجلد النافع الكبير الذي عُد من عجائب الدهر؛ حتى إن بعض المنتسبين إلى العلم استكثروا على ابن رجب كتاب القواعد ، قالوا: هذا ليس من تأليفه، حتى زعم بعضهم إنما وجد قواعد مبددة لـابن تيمية رحمه الله، فجمعها ونسبها لنفسه، يقول ابن عبد الهادي رداً عن هذه الفرية: ليس الأمر كذلك، بل كان رحمه الله فوق ذلك.

من كتبه المشهورة: كتابه الحافل ذيل طبقات الحنابلة الذي ذيل به على طبقات الحنابلة لـأبي يعلى ، وأكمله وفيه فوائد فقهية وحديثية وعقدية ولغوية غير المعلومات التاريخية التي سطرها رحمه الله.

وكذلك فإنه حصل له باعٌ كبيرٌ في علم الحديث كما قلنا، ورافق زين الدين العراقي في السماع، ومهر في فنون الحديث أسماءً ورجالاً وعللاً وطرقاً واطلاعاً على معانيه، وأتقن الفن، وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق كما يقول ابن حجر رحمه الله مادحاً ابن رجب.

من أشهر الآثار التي تركها ابن رجب وهي دالةً على سعة اطلاعه في الحديث كتابه العظيم فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لكن اخترمته المنية قبل أن يتمه، ومن العجائب أنه توقف فيه، مات وهو يشرح في كتاب الجنائز من صحيح البخاري ، تلقف ابن حجر رحمه الله اسم كتاب ابن رجب وسمى كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، وأتى بالكتاب كاملاً، فالقطعة الموجودة من كتاب ابن رجب فتح الباري في شرح صحيح البخاري شرحٌ نفيسٌ أتى فيه بالعجائب.

وكذلك كتاب جامع العلوم والحكم الذي شرح فيه الأربعين النووية شرحاً متقناً، وله على جامع الترمذي شرحٌ كبيرٌ يقع في عشرين مجلداً، وقد أجاد فيه، ولكن هذا الكتاب مع الأسف احترق في دمشق خلال إحدى الفتن التي وقعت فيها، ولم يبق منه سوى وريقات، لكن بقي كتاب اسمه شرح علل الترمذي ، شرحه ابن رجب وهو مطبوع في مجلدين، ويظهر فيه سعة علم هذا الرجل، لأن الكلام في العلل لا يُحسنه كل أحد، قمة علماء الحديث هم الذين يتكلمون في العلل، العلل يتلكم فيها الدارقطني ، يتكلم فيها الإمام أحمد رحمه الله، أو البخاري ، يتكلم فيها طبقة معينة من علماء الحديث.

علم العلل يحسنه طبقة خاصة من الناس وذلك واضح جداً من كتاب ابن رجب في شرح علل الترمذي وأنه أحد هؤلاء، حصلت له محنة في آخر حياته نتيجة إفتائه بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقام عليه أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية ، وثربوا عليه وعابوه، وحصل لهم عليه منافرة وشغب مما جعله يمتنع عن الإفتاء بهذه الفتاوى مما سبب له في المقابل شيئاً من عتب التيميين، لكنه رحمه الله لعله أراد البعد عن الإشكالات خصوصاً أنه لم يكن صاحب مهاترات وصراعات ودخول في نقاشات تقسي القلب، ولذلك فإنه في آخر عمره آثر شيئاً من الانعزال توفي بعده رحمه الله.

الحافظ ابن رجب له عبارات صوفية ، لعل نشأته في بعض الأربطة والأوقاف التي كان يغشاها الصوفية ربما يكون لها أثر في اقتباسه لبعض العبارات، لكنه لم يكن صاحب شطحات وخرافات، لكن في كلامه تأثر ببعض عباراتهم، وعندما ينقل عن بعضهم كـذي النون المصري والبسطامي وبشر الحافي ورابعة العدوية ونحوهم، فإنه لا ينقل الأقوال الباطلة والعقائد المنحرفة، وإنما يختار من كلامهم، ويختار من كلام أئمة التصوف ما هو موافق للكتاب والسنة، كقول أبي سليمان : إنه لتمر بي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين .. الكتاب والسنة.

وقول الجنيد وكان من أئمة الصوفية : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في علمنا هذا ... وهكذا.

لكن الرجل بش

هذا الحافظ الجليل قد عاش في القرن السابع الهجري، وكان وقت ملك دولة المماليك البحرية الذين استلموه بعد الدولة الأيوبية، وكانت ولايتهم على مصر والشام وساحل فلسطين والأردن والحجاز وبلاد الحرمين ، ولا شك أنهم ورثوا مسئوليةً عظيمةً في الدفاع عن المسلمين أمام عدوين خطيرين جداً التتار والنصارى.

وهم الذين أوقفوا زحف التتار إبان احتلالهم للعراق ، وحصلت في عهدهم الوقائع التاريخية الفاصلة كمعركة عين جالوت سنة [658هـ] والخزندار سنة [699هـ] وشقحب سنة [702هـ] وفي هذا الجو عاش الحافظ ابن رجب رحمه الله.

وكان كذلك هناك من أعداء الإسلام الكسرويين الباطنية والدروز في جبال غرب الشام ، وكان الحافظ ابن رجب رحمه الله عز وجل من الذين لم يحرصوا على تولي الولايات والمناصب، وكان مشهوراً بالزهد مع كون المناصب موجودة في دولة المماليك تلك إلا أنه رحمه الله كان عزوفاً عما في أيدي الناس غير مشتغلٍ بالرياسة، ولكنه في ذلك الوقت كان مطلعاً على ما يدور في عصره، وهو قد ذكر في تقسيم الناس أن بعضهم من المشتغلين بالذكر كانوا ملازمين للذكر بحيث يشغلهم ذلك عن مصالحهم المباحة، وينقطعون عن الخلق.

ثم ذكر قسماً ثانياً ممن يذكر الله عز وجل ويستحضر ذكره وعظمته وثوابه وعقابه، ويدخل في مصالح دنياه من اكتساب الحلال، والقيام على العيال، ويخالط الخلق فيما يُوصل إليهم به النفع مما هو عبادةٌ في نفسه، كتعليم العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء أشرف القسمين وهم خلفاء الرسل، لعله رحمه الله تعالى كان من هذا القسم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).

وكان رحمه الله تعالى قد عاش في دمشق الفترة العظمى من عمره، وكان فيها العلم منتشراً، وكان العلماء كثرة، والمدارس الشامية في تلك البلد متعددة، وكان العلم يُدرس في الجامع الأموي بـدمشق ، وجامع الجراحين في الباب الصغير، وجامع الحنابلة في الجبل، وجامع النحاس في صالحية دمشق، وجامع باب المصلى، وغير ذلك، وكانت المدارس أيضاً منتشرةً والأوقاف محبسةً عليها لكي تدر مقابلاً يعيش منه أهلها، ومن تلك المدارس أو دور الحديث المشهورة: المدرسة الأشرفية، وكذلك دار الحديث السكرية بالقصاعين، وكان القيم عليها عبد الحليم ابن تيمية والد شيخ الإسلام ، وتولى شيخ الإسلام بعده، وبعده تولى الحافظ الذهبي رحمه الله، وقد سكن ابن رجب رحمه الله في هذه المدرسة بالذات ودرس فيها الفقه والحديث.

ومن المدارس المشهورة في ذلك الوقت أيضاً المدرسة الجوزية التي أنشأ لها الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ودرس فيها آل ابن قدامة المقادسة والمرداوي وابن مفلح ، وهذه البيئة التي عاش فيها رحمه الله كان فيها انتشار للمذاهب الأربعة وفقهائها، وكانت السيطرة فيها للأشاعرة من جهة المعتقد، ولكن كان هناك مواجهة بينهم وبين أتباع السلف الذين كثيرٌ منهم على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

والأربطة كانت موجودة في ذلك الوقت وهي مأوى الفقراء وطلبة العلم، وكان الإمام ابن رجب رحمه الله ممن عاش في تلك الأربطة.

أما اسمه فهو: الحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب ، ورجب اسمه عبد الرحمن، من أجداد الحافظ رحمه الله، وسمي برجب، لأنه ولد في شهر رجب، ابن الحسن السلامي البغدادي الدمشقي الشامي موطناً والحنبلي مذهباً، والسلفي معتقداً، المشهور بـ: ابن رجب رحمه الله، فرجب إذاً هو أحد أجداد الحافظ الذين تحدثوا عنه.

إذاً: اسم مؤلف: كلمة الإخلاص وجامع العلوم والحكم ، أو لطائف المعارف أو فتح الباري لابن رجب : عبد الرحمن .

إذاً: العالم الذي نتحدث عنه اسمه عبد الرحمن ، وأحد أجداده اسمه عبد الرحمن ولقب برجب ونسب الحافظ إليه، فيقال: ابن رجب ، أما لقبه، فهو زين الدين ، وأما كنيته، فهي أبو الفرج ، ويشترك في ذلك مع أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله، وكذلك الشيخ/ عبد الواحد بن محمد الشيرازي إمام مذهب الحنابلة في الشام ، كل هؤلاء الثلاثة كنيتهم (أبو الفرج) ولا يشترط أن يكون له ولد بهذا الاسم، لأن العرب كانت تسابق بالكنية الحسنة حتى لا يُوضع للشخص كنية سيئة ويلقب بلقب سيئ، وهذا من فوائد التكنية عند المسلمين، ومن فوائدها كذلك إظهار الميل إلى الرجولة عند الأطفال كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب أخا أنس بن مالك الصغير بـأبي عمير .

ولد الحافظ ابن رجب رحمه الله سنة (736) هـ على الراجح في بغداد ، وصرح بأنه سمع من شيوخ بغداد وهو صغير، وتوفي رحمه الله تعالى سنة (795) هـ بـدمشق ، وعلى ذلك يكون قد عمر نحواً من ستين سنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي بين الستين والسبعين) دُفن بمقبرة الباب الصغير بجوار قبر إمام المذهب في الشام عبد الواحد الشيرازي، وكان في وفاته عبرة، فقال العالم: ابن نصر الدين ، ولقد حدثني من حفر لحد ابن رجب -حفار القبور- أن الشيخ زين الدين ابن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام، فقال لي: احفر لي هنا لحداً، وأشار إلى البقعة التي دفن فيها، قال: فحفرت له، فلما فرغت، نزل في القبر واضطجع فيه، فأعجبه، وقال: هذا جيد، قال الحفار: فو الله ما شعرت بعد أيام إلا وقد أتي به محمولاً في نعشه، فوضعته في ذلك اللحد وواريته فيه.

فهو لما أحس بدنو أجله رحمه الله، أمر الحفار أن يحفر له ذلك القبر الذي دُفن فيه، وقال ابن عبد الهادي رحمه الله: أنه وجد في هامش كتاب القواعد الفقهية لابن رجب أنه قال عند خروج روحه ثلاثين مرة: يا الله العفو.

الأسرة التي عاش فيها الحافظ ابن رجب كانت أسرة علم، وجده عبد الرحمن رجب بن الحسن السلامي من علماء بغداد ، ثم انتقل مع أهله في آخر حياته إلى دمشق .

ويقول ابن رجب : قرأت على جد أبي أحمد بن رجب بن الحسن غير مرة في بغداد وأنا حاضر في الثالثة والرابعة والخامسة، أي: من عمره، لما كان عمره ثلاث سنوات وأربع سنوات وخمس سنوات.

وقرأ أيضاً على أبيه وهو أحمد بن رجب رحمه الله، وقد رحل به أبوه من بغداد إلى دمشق بعد وفاة الجد، فسكنوا دمشق ، وكانت للأب رحلات مع ولده الحافظ عبد الرحمن إلى دمشق والقدس من قبل، وأسمعه فيها من المشايخ، ومات أبوه سنة [774هـ] وبذلك يكون الابن قد تتلمذ على أبيه وعلى جده، فكانت بيئةً صالحةً نهل منها الحافظ ابن رجب رحمه الله.

ومما يدل على ذلك أنه في صغره كان يحضر الدروس وأنه قال عن درس حضره وعمره خمس سنين وكان لا يفقهه جيداً، ولكنه حضر؛ وذكر في ترجمة شيخه أبي عبد الله محمد المؤذن الوراق أنه حضر عليه وعمره أربع سنوات قراءة كتاب النكاح من صحيح البخاري بكامله.

وكذلك حضر قراءة على شيخه الربيع علي بن عبد الصمد البغدادي هو في الخامسة من عمره.

فإذاً لا عجب أن تكون هذه الشخصية التي طلبت العلم في هذه المرحلة المبكرة من السن شخصيةً نابغةً، شبَّ في طلب العلم، ورحل مع والده، وحصل السماعات، وسمع ابن القطيعي وأجازه وهو متوفى سنة [739هـ] ولقي في دمشق الحافظ أبا القاسم البرزالي وهو قرين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأجاز ابن رجب .

ورحل إلى دمشق وسمع فيها، ومصر ، ونابلس ، والقدس ، وفي عام [749هـ] سافر إلى الحج مع والده، وكان قد سمع قبل تلك الرحلة ثلاثيات البخاري بالسند على عمر بن علي البغدادي سنة [749هـ] بـبغداد بالحلة اليزيدية.

ومن أشهر شيوخ الحافظ ابن رجب رحمه الله على الإطلاق هو: الإمام العلم ابن القيم أبو عبد الله الذي لازمه ابن رجب أكثر من سنة، وسمع منه كتابه العقيدة النونية ، المسماة: ( الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية )، وكان يثني على ابن القيم جداً، فإنه قد ذكر في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة ابن القيم ، قلت: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله، والانكسار له والانطراح بين يديه، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، وقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين -أي: ابن تيمية - في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ ... إلى آخر الكلام.

توفي ابن القيم رحمه الله سنة [751هـ] وكان عمر ابن رجب تقريباً [15سنة]. إذاً لازم ابن القيم في أوائل شبابه، ولا شك أنها فرصة عظيمة للتأثر من ابن القيم رحمه الله في الإيمان والعلم، وقد قرأ عليه مختصر الخرقي من حفظه، وسمع منه أجزاء كثيرة من مصنفاته.

فإذاً ابن رجب تلقائياً ينتمي إلى مدرسة ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من السلفيين في ذلك الوقت رحمهم الله تعالى، لكن ابن رجب رحمه الله عُني عناية خاصة بالحديث، واستفاد من مدرسة المحدثين من طبقة الحافظ جمال الدين المزي وتلامذته الإمام الذهبي وابن الخباز ، ولذلك انصبغ ابن رجب رحمه الله بصبغة حديثية، واجتمعت له العقيدة السلفية والمذهب الحنبلي في الفقه مع غيره بطبيعة الحال والاهتمام بالحديث، ولذلك كان شخصاً مثالياً.

لما بلغ مبلغاً من العلم ينتفع به غيره في نظره، تصدر للتدريس، وتولى حلقة الثلاثاء التي كان يقوم بها شيخه ابن قاضي الجبل ، تولاها بعد وفاته سنة [771هـ] وكانت حلقة مشهورة يحضرها أناس كثيرون، ودرس في المدرسة الحنبلية وهي قرب الجامع الأموي، وكذلك في مدرسة تربة الصالحين.

تميزت دروس ابن رجب رحمه الله بالشمولية بالفقه والحديث وعلوم السنة، وأفتى بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وكان فيه ميزة مهمة جداً وهي: القدرة على الوعظ وتحريك القلوب.

أن تجد بعض العلماء قد يُعلم، لكن في تعليمه شيء من الجفاف، ابن رجب رحمه الله امتاز مع علمه بوعظه، فقيل في صفة جلسته الوعظية: كانت مجالس تذكيره للقلوب صارعة، وللناس عامة مباركة نافعة، أجمعت الفرق عليه، ومالت القلوب إليه، وواضح جداً تأثر ابن رجب في الوعظ بـأبي الفرج ابن الجوزي ، فإنه يقتبس كثيراً من كلامه، وابن قيم الجوزية رحمهم الله تعالى.

خلّف ابن رجب طلبة مشهورين صاروا علماء منهم: الشيخ علي بن محمد البعلي المشهور بـابن اللحام صاحب كتاب القواعد الأصولية في المسائل ، والأخبار العلمية الفقهية في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية .

وكذلك الشيخ عمر بن أحمد بن الملقن والذي بلغت مؤلفاته نحواً من ثلاثمائة، وهو من شيوخ ابن حجر العسقلاني . إذاً ابن رجب من طبقة شيوخ ابن حجر العسقلاني ، وكذلك من تلاميذه: أبو ذر عبد الرحمن بن محمد المصري الحنبلي المعروف بـالزركشي ، وكذلك شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي النابلسي .

بالإضافة إلى ما خلف من التلاميذ فإنه قد خلف سيرةً معطرةً بالزهد والورع، فعزف عن المناصب والولايات، والأشياء التي تولاها تدريسية خيرية، ولم يتولَّ قضاءً، ولم يتولَّ رئاسةً، وكان عزوفاً عن السلاطين، والدخول عليهم والطلب منهم، وهذه مشابهة واضحة لسيرة الإمام أحمد رحمه الله عز وجل في زهده وعزوفه عن الدنيا.

والغالب على أكثر أصحاب أحمد العفة والزهادة والنظافة، ومن أسباب عدم انتشار مذهب الحنابلة بشكل كبير: أن كثيراً من فقهاء الحنابلة أخذوا بطريقة أحمد رحمه الله في الزهد والبعد عن الرئاسات، ولا شك أن انتشار المذهب في كثير من الأحيان يُعزى إلى تبوء مناصب ورئاسات، فإذا كان كبير القضاة شافعياً، عين القضاة الشافعية، وإذا كان له مكانة عند السلطان، رتب في المساجد أو المدارس أئمة أو علماء من مذهبه، فانتشر المذهب وحملت كتبه ونسخت، وسارت في الأمصار بأمر السلطان، لكن الكثير من الحنابلة كانوا على مذهب إمامهم رحمه الله الإمام أحمد في البعد عن الولايات والرئاسات، كانوا يسكنون في المدارس والأوقاف والأربطة، ويكتفون من الدنيا بالقليل، ولكن مع ذلك قد خلفوا علماً عظيماً والحمد لله أن الله نشر فقههم وعلمهم، ولا زالت كتبهم مراجع أساسية لدى كثير من الباحثين.

فـابن رجب رحمه الله بناءً على تأثره بطريقة الإمام أحمد تقتضي أن يكون صاحب عبادة كبيرة، خصوصاً أنه تخرج على يد عباد مثل: ابن القيم رحمه الله، ولذلك كان ابن رجب رحمه الله قواماً لليل، صاحب عبادة وتهجد ومرتبة في العمل والأذكار والأدعية، وأعمال القلوب، وكان يرجى له الإخلاص في أقواله وأعماله إن شاء الله.

من ورعه ما حكاه تلميذه ابن اللحام ، قال: ذكر لنا مرة الشيخ -أي: ابن رجب - مسألةً فأطنب فيها، فعجبت في ذلك ومن إتقانه لها، فوقعت بعد ذلك بمحبر من أرباب المذاهب وغيرهم، فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة.

هو قد شرح لهم المسألة شرحاً مفصلاً مسهباً واسعاً في أحد الدروس، لما جاء ابن رجب ومعه طبعاً تلميذه ابن اللحام والتلميذ يتعلم التواضع من الشيخ، ويتعلم أشياء كثيرة، حضروا بمحضر من أرباب المذاهب، ما تكلم ابن رجب ولا بكلمة، مع أن المسألة قد طرحت هي بذاتها.

فلما قام قلت له: أليس قد كلمت فيها بذلك الكلام؟ قال: إنما أتكلم بما أرجو ثوابه، وقد خفت الكلام في هذا المجلس، أي: أن يكون لا لله، ويكون فيه رياء، أو حب لإظهار ما عندي، ولذلك صمت ولم يتكلم بكلمة واحدة، وكان يحفظ كثيراً من سير أعلام السلف، ويسير على منوالهم، وسكن المدرسة السكرية بالقصاعين في دمشق ، وكان فقيراً متعففاً غنياً عن الناس رحمه الله تعالى.

لا شك أن ابن رجب رحمه الله ممن مُدحوا من قبل العلماء، فيقول ابن اللحام : سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ شيخ الإسلام مُحل المشكلات وموضح المبهمات .. إلى آخر ما مدحه به، وهو مستحقٌ لذلك.

لكن من الأشياء المهمة جداً في ابن رجب رحمه الله عقيدته السلفية، نظراً لأن السالكين لسبيل تلك العقيدة في ذلك الزمان لم يكونوا هم المسيطرين على الأمور، لأن الغلبة كما قلنا كانت لمذهب الأشاعرة ، ولكنهم كافحوا في سبيل تقرير العقيدة السليمة والدفاع عنها مكافحة عظيمة.

فنرى في كتب ابن رجب رحمه الله الخط الواضح الأصيل للعقيدة السلفية في الأبواب المختلفة، فمثلاً في الأسماء والصفات يقول: والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت لا تكييف، ولا تمثيل .. إلى آخره.

وكذلك في مسألة الرجوع إلى الكتاب والسنة، قال: العلم النافع من هذه العلوم ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، فهو إذاً يضع في رأس العلوم تفسير القرآن ومعاني الحديث، والحلال والحرام، وهذا قمة ما يمكن أن يطمح إليه طالب العلم الشرعي الذي يسير على الطريقة السلفية.

ولأنها تمثل عقيدة أهل السنة والجماعة نقل عنه أهل السنة والجماعة ، فلذلك تجد كثيراً من أئمة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ينقلون عن ابن رجب كما ينقلون عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، والحافظ لم يكن حنبلياً صرفاً، وإنما كان له اطلاع على المذاهب، وكان له إتقان خاص بمذهب الإمام أحمد رحمه الله يتابعه من غير تَشَهٍ ولا هوى.

وكتاب القواعد الفقهية لـابن رجب خير مثال على سعة فقه الرجل وعلمه، وهذه القواعد الكثيرة التي وضعها في هذا المجلد النافع الكبير الذي عُد من عجائب الدهر؛ حتى إن بعض المنتسبين إلى العلم استكثروا على ابن رجب كتاب القواعد ، قالوا: هذا ليس من تأليفه، حتى زعم بعضهم إنما وجد قواعد مبددة لـابن تيمية رحمه الله، فجمعها ونسبها لنفسه، يقول ابن عبد الهادي رداً عن هذه الفرية: ليس الأمر كذلك، بل كان رحمه الله فوق ذلك.

من كتبه المشهورة: كتابه الحافل ذيل طبقات الحنابلة الذي ذيل به على طبقات الحنابلة لـأبي يعلى ، وأكمله وفيه فوائد فقهية وحديثية وعقدية ولغوية غير المعلومات التاريخية التي سطرها رحمه الله.

وكذلك فإنه حصل له باعٌ كبيرٌ في علم الحديث كما قلنا، ورافق زين الدين العراقي في السماع، ومهر في فنون الحديث أسماءً ورجالاً وعللاً وطرقاً واطلاعاً على معانيه، وأتقن الفن، وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق كما يقول ابن حجر رحمه الله مادحاً ابن رجب.

من أشهر الآثار التي تركها ابن رجب وهي دالةً على سعة اطلاعه في الحديث كتابه العظيم فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لكن اخترمته المنية قبل أن يتمه، ومن العجائب أنه توقف فيه، مات وهو يشرح في كتاب الجنائز من صحيح البخاري ، تلقف ابن حجر رحمه الله اسم كتاب ابن رجب وسمى كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، وأتى بالكتاب كاملاً، فالقطعة الموجودة من كتاب ابن رجب فتح الباري في شرح صحيح البخاري شرحٌ نفيسٌ أتى فيه بالعجائب.

وكذلك كتاب جامع العلوم والحكم الذي شرح فيه الأربعين النووية شرحاً متقناً، وله على جامع الترمذي شرحٌ كبيرٌ يقع في عشرين مجلداً، وقد أجاد فيه، ولكن هذا الكتاب مع الأسف احترق في دمشق خلال إحدى الفتن التي وقعت فيها، ولم يبق منه سوى وريقات، لكن بقي كتاب اسمه شرح علل الترمذي ، شرحه ابن رجب وهو مطبوع في مجلدين، ويظهر فيه سعة علم هذا الرجل، لأن الكلام في العلل لا يُحسنه كل أحد، قمة علماء الحديث هم الذين يتكلمون في العلل، العلل يتلكم فيها الدارقطني ، يتكلم فيها الإمام أحمد رحمه الله، أو البخاري ، يتكلم فيها طبقة معينة من علماء الحديث.

علم العلل يحسنه طبقة خاصة من الناس وذلك واضح جداً من كتاب ابن رجب في شرح علل الترمذي وأنه أحد هؤلاء، حصلت له محنة في آخر حياته نتيجة إفتائه بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقام عليه أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية ، وثربوا عليه وعابوه، وحصل لهم عليه منافرة وشغب مما جعله يمتنع عن الإفتاء بهذه الفتاوى مما سبب له في المقابل شيئاً من عتب التيميين، لكنه رحمه الله لعله أراد البعد عن الإشكالات خصوصاً أنه لم يكن صاحب مهاترات وصراعات ودخول في نقاشات تقسي القلب، ولذلك فإنه في آخر عمره آثر شيئاً من الانعزال توفي بعده رحمه الله.

الحافظ ابن رجب له عبارات صوفية ، لعل نشأته في بعض الأربطة والأوقاف التي كان يغشاها الصوفية ربما يكون لها أثر في اقتباسه لبعض العبارات، لكنه لم يكن صاحب شطحات وخرافات، لكن في كلامه تأثر ببعض عباراتهم، وعندما ينقل عن بعضهم كـذي النون المصري والبسطامي وبشر الحافي ورابعة العدوية ونحوهم، فإنه لا ينقل الأقوال الباطلة والعقائد المنحرفة، وإنما يختار من كلامهم، ويختار من كلام أئمة التصوف ما هو موافق للكتاب والسنة، كقول أبي سليمان : إنه لتمر بي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين .. الكتاب والسنة.

وقول الجنيد وكان من أئمة الصوفية : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في علمنا هذا ... وهكذا.

لكن الرجل بشر، ووقوع الخطأ منه متصور، ولذلك يمكن أن يكون في بعض عبارات ابن رجب كلمات صوفية لا تُرتضى، أو لا تُقر، فإنما تُحمل على أحسن المحامل، ولو كانت خطأ يقال هي خطأ، ولا إشكال في ذلك، لكن الرجل فيه رقة في أسلوبه لعله أخذ من ابن القيم رحمه الله أشياء من هذا، حتى إن بعض عبارات ابن رجب لو قرأتها بدون أن تعرف من الذي قالها، لربما أنك تعزوها لـابن القيم رحمه الله، كما قال ابن رجب في كتاب استنشاق نسم الأنس : الحمد لله الذي فتح قلوب أحبائه من فج محبته، وشرح صدور أوليائه بنور معرفته، فأشرق عليهم النور ولاح، أحياهم بين رجائه وخشيته، وغذاهم بولايته ومحبته، عمَّا هم فيه من السرور والأفراح، فسبحان من ذِكره قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح.