الزواج السري


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد:

أيها الإخوة: كنا قد تكلمنا في خطبةٍ ماضية عن أركان النكاح وشروطه في هذه الشريعة، ثم أتبعنا ذلك بخطبة أخرى في الكلام عن نوع من الزواج الذي بدأ يظهر عند بعض الناس، وهو أن يتزوجها بشرط ألا يكون للزوجة مبيت ولا نفقة، وبعضهم يتزوجها عند أهلها، وبعضهم يخفي هذا الزواج، وهو الذي يعرفه بعض الناس بـ(زواج المسيار) وذكرنا أن هذا الزواج إذا كان مكتمل الشروط، بأن تحققت فيه شروط العقد، وشروط صحة النكاح؛ فإنه نكاح صحيح، وبهذا يفتي شيخنا أبو عبد الله ابن باز نفع الله به.

وكذلك عرفنا أن الشروط هذه فاسدة غير مفسدة للعقد، لأن للمرأة الحق في المبيت والنفقة، فإذا سكتت عن هذه المطالبة فالعقد صحيح باقٍ على صحته، وإذا طالبت بحقها في المبيت والنفقة فلها ذلك، وكان الشرط الذي اشترطه عليها في العقد باطلاً وفاسداً غير مفسد، فإذا أعطاها حقوقها فالحمد لله، وإن أبى فإنه يجبر على الطلاق، ولكن هذا النكاح قد لا يكون مرشحاً للنجاح من الناحية الاجتماعية، حيث إن الزوج لا يتكلف فيه شيئاً، وربما كان مجالاً للتذوق والتنقل من امرأة إلى أخرى، ولوحظ أنه يفتح باباً للفساد عند المرأة التي لا يأتيها هذا الرجل إلا مرة في الشهر أو نادراً، فاتخذت ذلك ذريعة إلى ارتكاب الفواحش، واستعانت على ذلك بظهورها أمام الناس أنها متزوجة، فعند ذلك يصبح هذا النكاح حراماً ليس في ذاته ولكن لما يؤدي إليه من المفاسد، فالنكاح إذا اكتملت فيه الشروط فهو صحيح، وإذا وجدت فيه شروطٌ فاسدة غير مفسدة فهو باق على صحته، وإذا أدى إلى وقوع الفساد فإنه يحرم لا لذاته، ولكن لما يؤدي إليه من الفساد.

وذكرنا أن لبعض الناس أغراضاً في مثل هذا النكاح، كأن يكون فقيراً، أو أن تكون المرأة موظفة لا تريد فراق وظيفتها أو أهلها، أو هو لا يريد أن يكتشف أمره، وأن عنده زوجة أخرى.. ونحو ذلك.

وسنزيد الكلام إيضاحاً -إن شاء الله- في هذه الخطبة، في قضية حكم الزواج السري، ما حكم الإسرار بالزواج وكتمان أمره وجعله خفياً؟

وقد ذكرنا أن بعض الناس يعمدون إلى الزواج من بعض النساء في الخارج، أو يتزوج الخادمة في بلدها ويأتي بها ويكتم هذا الأمر، فما حكم كتمان الزواج؟

وما حكم هذا النوع من النكاح؟

وما حكم نكاح الهبة التي يسميها بعض الناس كذلك؛ أن تهب المرأة نفسها للرجل بدون ولي ولا شاهدين ولا إعلان؟

أما بالنسبة لإعلان النكاح، فقد قال ابن قدامة -رحمه الله- في كتابه المغني: ويستحب إعلان النكاح والضرب فيه بالدف، قال أحمد: يستحب أن يظهر النكاح، ويضرب فيه بالدف، حتى يشتهر ويعرف.

وقيل له: ما الدف؟ قال: هذا الدف -أي: المعروف- وقال: لا بأس بالعزف في العرس بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:

أتيناكم أتيناكم     فحيانا وحياكم

ولولا الذهب الأحمر     ما حلت بواديكم

ولولا الحبة السوداء ما سمنت عذاريكم

وله ألفاظ أخرى.

قال أحمد رحمه الله: لا على ما يصنع الناس اليوم من الكلام الفاحش، والتوسع في المعازف.

يقول أحمد -رحمه الله-: لا على ما يصنع الناس اليوم، وابن قدامة -رحمه الله- يقول ذلك، فما بالهم لو شاهدوا ما يحدث في هذا اليوم!

وقال أحمد أيضاً: يستحب ضرب الدف والصوت في الإملاك -التي يسميها الناس: الملكة- فقيل له: ما الصوت؟ قال: يتكلم ويتحدث ويظهر.

والأصل في هذا: ما رواه محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح) رواه النسائي ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أعلنوا النكاح)، وفي لفظ: (أظهروا النكاح) وكان يحب أن يضرب عليه بالدف، وفي لفظ: (واضربوا عليه بالغربال) وهو الدف المعروف المفتوح، والشرط ألاَّ يكون فيه ما يجعله بعض الناس من أنواع من الحلق المعدنية، التي تصدر أصواتاً عند الضرب به، فيكون دفاً مجرداً، وهو الدف المعروف للنساء في الأعراس.

وعن عائشة أنها زوجت يتيمة رجلاً من الأنصار، وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت: (فلما رجعنا قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم يا عائشة؟ قالت: سلمنا ودعونا بالبركة ثم انصرفنا، فقال: إن الأنصار قوم فيهم غزل، ألا قلتم -يا عائشة:

أتيناكم أتيناكم     فحيانا وحياكم

وفي لفظ:

ولولا الحنطة الحمراء     ما سمنت عذاريكم

وقال أحمد رحمه الله: لا بأس بالدف في العرس والختان، وأكره الطبل. والمقصود التحريم، فإن أحمد -رحمه الله- قال: أكره -ويقصد كراهية التحريم- وأكره الطبل -وهو المنكر- وهي الكوبة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذلك في الحديث الصحيح، في النهي عن الكوبة، وهي الطبل المشهور بين الناس، مما هو مغلق الطرفين ويضربون به، مثل: القمع الكبير، وهيئته معروفة عند العامة.

كراهية كتمان النكاح مع الولي والشاهدين

وإن عقدوا النكاح بولي وشاهدين، فأسروه، أو تواصوا بكتمانه، كره ذلك وصح النكاح، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر.

وممن كره نكاح السر: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعروة ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، والشعبي ، ونافع.

وقال أبو بكر بن عبد العزيز : النكاح باطل؛ لأن أحمد قال: إذا تزوج بولي وشاهدين فلا حتى يعلنه. وهذا مذهب مالك، وهو وجوب إعلان النكاح.

إذاً: مذهب جمهور الفقهاء على أن إعلان النكاح مستحب، وذهب بعضهم: إلى أنه فرض واجب، وهذا رأي الزهري رحمه الله، وعنده أنه إذا نكح نكاح سر وأشهد رجلين وأمرهما بالكتمان، وجب التفريق بين الزوجين، ورأي مالك -رحمه الله- أن نكاح السر يفسخ، وسيأتي كلام الإمام ابن تيمية -رحمه الله- مفصلاًً في هذه القضية بعد قليل.

ونلاحظ أن الشريعة أمرت بالإشهاد عند العقد، وأمرت بالإعلان عن النكاح في أمره عليه الصلاة والسلام بقوله: (أعلنوا النكاح)، وبقوله: (أظهروا النكاح) غير أنه إذا أعلنه في بلد لم يجب عليه إعلانه في بلد آخر، وهذا اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله به، في الأمر بالإعلان بالنكاح وإشهاره، وأنه لو أشهره في بلد لا يلزمه أن يشهره في بلد آخر.

إذاً: الإشهاد عند العقد والإعلان بعده مما جاءت به الشريعة، وأمرت بالضرب بالدف إعلاناً للنكاح، وأي وسيلة لإعلان النكاح، كهذه الأنوار والزينات، وبطاقات الأعراس، واجتماع الناس على الوليمة، كل ذلك من وسائل الإعلان؛ فهي مشروعة، إذا لم يرتكب محرم فيها، ولولا أن في دق منبهات السيارات إزعاج للناس لقال به بعض أهل العلم من المعاصرين، كما ذكروا ذلك في فتاويهم، فيسلك في إعلان النكاح كل طريق يؤدي إليه؛ تنفيذاً لأمر الشارع.

وجاء في رواية ضعيفة: جعله في المسجد. وذكر العلماء أن علة ذلك إعلانه؛ لأنه إذا كان العقد في المسجد لم يكن خفياً، فإن المصلين سيشهدون ذلك، وعند الإشهاد في العقد يعلن بين الأقارب، وعند الوليمة والضرب بالدف ونحوه يعلن على الأباعد، فيتحقق الغرض الذي قصده الشارع في إعلان النكاح.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله- وقد سئل عن رجل تزوج امرأة مصافحة؛ والمصافحة: اسم كانوا يطلقونه في زمن

شيخ الإسلام
رحمه الله على نكاح السر: هل يصح النكاح أم لا؟

فأجاب: الحمد لله، إذا تزوجها بلا ولي ولا شهود وكتم النكاح فهذا نكاح باطل باتفاق الأئمة، بل الذي عليه العلماء أنه لا نكاح إلا بولي: (أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل).

حكم زواج الهبة

وهنا نتوقف قليلاً قبل أن نتابع كلامه -رحمه الله- في قضية الإعلان، لنذكر حكم زواج الهبة، الذي يسميه بعض الناس كذلك.

إذا لم يوافق أبوها، وأحبها وأحبته، وتعلق بها وتعلقت به، هرب بها، أو اختلى بها، وقال: زوجيني نفسك، فتقول: زوجتك نفسي، فيقول: قبلت. وقد يستدعي بعض هؤلاء الجهلة من أرباب المعصية، يستدعي اثنين من أصحابه، ليشهدوا على هذا العقد ليكون حلالاً بزعمه .. ألا فليعلموا أن هذا النوع من العقد باطل باطل باطل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فللولي الحق في تزويج المرأة، ولكنه ليس مستبداً بذلك، بل وضعت الشريعة له شروطاً:

1- منها: أن تكون المرأة راضية.

2- ألاَّ يعضل المرأة، وإلا يخلع من الولاية وتجعل إلى غيره، فالذي يزعم أنه أحب امرأة وتعلق بها وتعلقت به، وأن أهلها لا يوافقون على الزواج، فيهرب بها، أو يذهب إلى بلد، ويقول: إن فيه شيخاً يزوج بغير ولي، فإن ذلك باطل بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما مسألة الهبة؛ أن تهب المرأة نفسها لرجل، فإن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] فهذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأما غيره فليس هناك شيء اسمه زواج الهبة، أن تقول: وهبتك نفسي، فيقول: قبلت، ويكون عقداً شرعياً، هذا محال ولا يكون في هذه الشريعة، وبعض الناس يريدون التحايل بأي طريقة، ليصل إلى فرج امرأة، فهذا إنسان فاسق متحايل على الشريعة والدين، وفعله حرام، ويأثم بذلك، وبهذا تتبين قضية الزواج بامرأة دون موافقة أهلها أو الهرب بها، أو الذهاب إلى بلدٍ لا يشترطون فيه في المحكمة الولي.. ونحو ذلك.

مشابهة النكاح السري للزنا

ثم قال رحمه الله: فإن قدر فيه خلاف، وكتما ذلك، فهذا مثل الذي يتخذ صديقة، ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا.

إذاً: الذي يتزوج امرأة ولا يعلن ذلك أمام الناس، ما الفرق بينه وبين الزاني؟

ليس هناك فرق، والإسلام يمنع كل ما يجلب ريبة إلى المسلم، ويريد أن يكون أمر المسلم واضحاً للناس، وألاَّ يتلبس بشيء يسيء إلى عرضه، ويجعل الناس يتكلمون فيه، قال: فهذا مثل الذي يتخذ صديقة، ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا، فلا يشاء من يزني بامرأة صديقة له إلا قال: تزوجتها، ولكن إذا أعلن يقول الناس: فعلاً تزوجها، وإذا لم يعلن يستريب الناس في أمره، هل هو كاذب أم لا؟ ولا يشاء أحد أن يقول لمن تزوج في السر: إنه يزني بها إلا قال ذلك، لأنه ليس عنده دليل ولا سمع ولا أعلن النكاح، فيتهمه، فلا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق مبين، والفرق المبين هو الذي يعني به -رحمه الله تعالى- إعلان النكاح، ولذلك قال: فقيل: الواجب الإعلان فقط، سواء أشهد أم لم يشهد، كقول مالك وكثير من فقهاء الحديث وأهل الظاهر وأحمد في رواية، والأحسن والأفضل وخروجاً من جميع الاشكالات -كما تقدم- أن يشهد عند العقد، ويعلن النكاح بعده، فإذا أشهد عند العقد، وأعلن النكاح بعده؛ فإن ذلك يكون صحيحاً عند جميع العلماء، ولا شك ولا ريبة في هذا النكاح، وهذا الذي ينبغي أن يكون.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بدينه مستمسكين، وبسنة نبيه عاملين، وأن يرزقنا العفة والعفاف، وأن يباعد بيننا وبين الحرام، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، سبحانه وتعالى، يحكم ما يشاء ولا معقب لحكمه وهو الحكيم الخبير، يفعل ما يشاء ويحكم ما يشاء سبحانه وتعالى، أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالعدل، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول -رحمه الله- في تكملة كلامه في مسألة إعلان النكاح: وقد روي عن ابن عباس : [ مُحْصَنَاتٍ [النساء:25] أي: عفائف غير زوانٍ، وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25] أي: أخلاء، كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا، ويستحلون ما خفي -كان عند أهل الجاهلية أن الزنا إذا خفي فليس بعيب، وإذا صار علناً فهو عيب- فقال الله: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]].

فالمسافحات: المعلنات بالزنا، والمتخذات أخذان: المسرات بالزنا، فقال ابن عباس رضي الله عنه: [المسافحات: المعلنات بالزنا، والمتخذات أخذان: ذوات الخليل الواحد] قال بعض المفسرين: كانت المرأة -أي: في الجاهلية- تتخذ صديقاً تزني معه، ولا تزني مع غيره، ويعتبرون ذلك أمراً لا شيء فيه، فالله سبحانه وتعالى قال في الكتاب العزيز مبيناً حكم الزنا بجميع أنواعه، ما صار منه علناً، وما كان منه سراً: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]. لا معلنات ولا غير معلنات، لا بغي زانية مع الجميع، ولا مع شخص واحد، كله حرام، وكثير من الزناة في هذا الزمان لم تقع آذانهم على هذه الآية ألبتة ولا عرفوا معناها، وبعضهم كذلك يرتبط بالحرام بامرأة بغي، ويقول: إنها لا تزني مع غيره، وهل إذا كانت لا تزني مع غيره، يكون أمراً مباحاً؟!

غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [النساء:25] ذكروا بهذا كل من يقع في الفاحشة، وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25] لا البغايا المعلنات.. المتعدّدات والمعددات، ولا ذوات الخليل الواحد.

وذكروا أن الزنا في الجاهلية كان على نوعين:

1- نوع مشترك.

2- نوع مختص.

3- المشترك ما يظهر في العادة، بخلاف المختص فإنه مستتر في العادة، ولما حرم الله الزنا المختص الذي لا يزني إلا بواحدة، وهو شبيه بالنكاح، فإن النكاح تختص فيه المرأة بالرجل، ومن فقه شيخ الإسلام يقول: لما شابه الزنا المختص بامرأة معينة، ورجل معين، وجب الفرق بين النكاح الحلال والحرام من اتخاذ الأخدان، والفرق هو فصل ما بين الحلال والحرام -الحلال النكاح والحرام الزنا- بالضرب بالدف، وإعلان النكاح. فذهب شيخ الإسلام -رحمه الله- إلى وجوب الإعلان، وقال: فلهذا كان عمر بن الخطاب يضرب على نكاح السر؛ إذا سمع بنكاح سري ضرب عليه، فإن نكاح السر من جنس اتخاذ الأخدان، وشبيه به، لاسيما إذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود.

فوائد إعلان النكاح

إذاً إعلان النكاح أمر لا بد منه، وله فوائد أخرى غير دفع الريبة، ووقاية العرض، وعدم إشاعة الفاحشة في المجتمع، ومن الفوائد:

1- أنه إذا كانت المرأة ذات زوج سابق تظهر المسألة، وإذا كان بينهما رضاع جاءت المرضعة، فقالت: قد أرضعتهما، لكن إذا كان خفياً لم يعلن، فإن مثل هذه الأمور تفوت.

2- ومن الأمور المهمة كذلك في إعلانه: حفظ حقوق الزوجة والأولاد الجدد، وخصوصاً الزوجة الثانية في الميراث، فإنه إذا تزوج -وهذا حالة معروفة- سراً ثم مات، غضب أولاده، وقالوا: ظهر لنا إخوة لا نعلم عنهم شيئاً، وتقول زوجته: ظهرت لي ضرة لم أكن أعلم عنها شيئاً، وإذا كانت هذه المرأة ظالمة، والأولاد ظلمة، سيحرمون الزوجة الثانية وأولادها من الميراث، ويقولون: ما عندنا إثبات رسمي، ومن هنا كان لابد للعاقل -ومثله الذي يتزوج خادمة ويأتي بها- لابد له من مراعاة القوانين التي تكون موجودة في البلد لأجل مثل هذه القضية وهي حفظ حقوق المرأة الجديدة، وحقوق أولادها، حتى إذا مات ورثوه وأخذوا حقهم ونصيبهم، وإلا ضاع؛ فوجب عليه أن يحتاط لأجل ذلك، وأن يراعي هذه المسألة أشد المراعاة، فإن حقوق العباد لا يتسامح فيها، فيجب على الإنسان أن يكون حصيفاً حكيماً في إقدامه على زواج في مكان خفي أو لا يعلنه، ويحسب حساب المستقبل.

المرأة في المستقبل ما وضعها؟

أولاده في المستقبل من هذه المرأة الجديدة ما وضعهم؟

كل ذلك من حكمة المسلم التي ينبغي عليه أن يتفطن لها.

وبقيت قضايا أخرى متعلقة بالموضوع، مثل: زواج المغتربين، والزواج بنية الطلاق، لعلنا نأتي على ذلك في خطبة قادمة إن شاء الله، ولكن لا بد أن نقول:

إن أي زواج -وإن كان مباحاً- إذا كان يؤدي إلى ضياع الأولاد عند النصارى، أو ارتداد المسلمات، فإنه يحرم لا لذاته، ولكن لما يؤدي إليه من المفاسد، ونقول عموماً في زواج الغربة، وفي زواج المسيار، وفي الزواج الذي لم يعلن وغير ذلك: لا بد أن يراعى الحال، وأن ينظر فيما يؤدي إليه هذا النكاح من المفاسد، فإذا كانت المفاسد متحققة، كأن يأخذ النصارى أولادهم بالقانون الألماني والفرنسي والأمريكي والبريطاني وغيره، ويُجعلون نصارى، أو المرأة ترتد لما ترى من أمره.. ونحو ذلك، فإنه يحرم عليه أن يقدم على مثل هذه الفعلة، وقد ذكر العلماء في الزواج في بلاد الحرب أموراً مهمة، ينبغي الرجوع إليها.

إذاً: النكاح وإن كان مباحاً فيجب التفطن لما بعده، ولما ورواءه، وما هو المستقبل بحسب التجربة، وما أرانا الله إياه من واقع الناس وحال مثل هذه الزواجات.

وكذلك في الجانب الآخر لا يجوز الإنكار على من تزوج زواجاً شرعياً، قد تحققت فيه الشروط، ولا اتهامه بالزنا إذا علمت أنه قد تزوج زواجاً شرعياً، فلا يحل مطلقاً قذفه، وهذا ما يتساهل فيه بعض الناس.

أيها الأخوة: إن الحاجة إلى الفقه في الدين ماسة، خصوصاً في هذه القضايا الحياتية الحساسة والخطيرة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في دينه، وأن يرزقنا العفاف، وأن يباعد بيننا وبين الحرام.

اللهم طهر قلوبنا، وحصن فروجنا.

اللهم اجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً.

اللهم أعز دينك، اللهم أعز عبادك، والمجاهدين في سبيلك.

اللهم ارفع لواء الدين، واخذل الكفرة والمشركين.

اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، ومن أراد ببلدنا هذا سوءاً فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.

اللهم انشر رحمتك على العباد، وارفع لواء الجهاد، واغفر لنا وتجاوز عنا في يوم المعاد، إنك أنت البصير بالعباد.

سبحانك ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.