الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فموضوع الرسالة التي سنتحدث عنها هي: الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وسنمر على هذه الوصية، ثم بعد ذلك نعقبها بتلخيص قاعدة في المحبة في نحو عشرين قاعدة بمشيئة الله تعالى، مع عرض بقية النقاط.

الوصية الصغرى اسم اُشتهرت به رسالة صغيرة لـشيخ الإسلام رحمه الله، وهي في الحقيقة شرح لحديث معاذ رضي الله عنه: ) اتق الله حيثما كنت ).

وهذه الوصية أوصى بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شخصاً طلب منه الوصية، فيكون الكلام عنها من باب التواصي بالحق والتواصي بالصبر الذي أُمرنا به، واشتملت على موضوعات مختصرة ذكرها رحمه الله تعالى، فمنها:

فضل معاذ رضي الله تعالى عنه، وقضية إتباع السيئات بالحسنات، ومسألة الحذر من موافقة أهل الكتاب، وأهمية ذكر الله سبحانه وتعالى والإخلاص له، وعموماً فإن الرسالة تدور على التقوى ومعانيها.

أما بالنسبة لهذه الرسالة فإن السبب في كتابتها؛ كان سؤالاً وجهه شخص اسمه القاسم بن يوسف بن محمد التوجيبي السبتي المغربي يقول في رسالته أو سؤاله لـشيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "يتفضل سيدنا الشيخ الفقيه الإمام الفاضل العالم بقية السلف وقدوة الخلف، المُبدع المفصح، أعلم من لقيت في بلاد المشرق والمغرب تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية أبقى الله علينا بركته، بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي، ويرشدني إلى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث، وكذلك في غيره من العلوم الشرعية، وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب، كل ذلك على قصد الإيماء والاختصار والله تعالى يحفظه، والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته".

فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه: الحمد لله رب العالمين، أما الوصية فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها قال الله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] -فما هي أعظم وصية؟ تقوى الله- ووصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال: (يا معاذ ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وهذا حديث صحيح.

وكان معاذ رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة عليَّةٍ فإنه قال له: (يا معاذ والله إنني لأحبك) وكان صلى الله عليه وسلم يردفه وراءه كما جاء في الحديث الصحيح الذي يقول فيه معاذ رضي الله عنه: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، فقال: يا معاذ ! هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ فقال: لا تبشرهم فيتكلوا) أخرجه البخاري ، ثم أخبر به معاذ رضي الله عنه عند موته تأثماً من كتم العلم.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه -أي: في معاذ -: (أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام) كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر -وفي رواية: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر - وأشدهم في دين الله عمر ، وأشدهم حياءً عثمان ، وأقضاهم علي بن أبي طالب ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا إن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) وهذا الحديث أخرجه الترمذي وغيره وهو حسن بمجموع طرقه.

وأخبر عليه الصلاة والسلام أن معاذاً رضي الله عنه يُحشر أمام العلماء برتوة، يتقدم العلماء كلهم يوم القيامة، معاذ بن جبل رضي الله عنه برمية حجر -مسافة- أمام والعلماء وراءه، وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

ومن فضله أنه صلى الله عليه وسلم بعثه مبلغاً عنه داعياً ومفقهاً ومفتياً وحاكماً -أي قاضياً- إلى أهل اليمن ، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ، أنه عليه الصلاة والسلام: (بعث معاذاً إلى اليمن ، قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله..).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبهه بإبراهيم الخليل، ولكن هذا قد جاء في طرق موقوفة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أي: ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أن معاذ بن جبل يُشبه إبراهيم الخليل من جهة، وإبراهيم كان إمام الناس، وكان ابن مسعود يقول: [إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين] تشبيهاً له بإبراهيم.

فإذاً: معاذ موحد وإمام يأتم به الناس، وهذا هو وجه مشابهته للخليل إبراهيم عليه السلام.

وكان معاذ رضي الله عنه يجلس ويتصدر في المسجد الجامع في دمشق ، وقد دخل عليه واحد من الناس فرآه براق الثنايا فتىً لم يكن كبيراً في السن عندما تصدر بالعلم الذي آتاه الله إياه.

يريد ابن تيمية أن يُوصي الشخص الذي طلب منه الوصية، وأن ينقل له وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه.

فوصاه بهذه الوصية، فعُلم أنها جامعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما وصى أعرابياً من الأعراب وإنما وصى معاذاً ، ولما وصى معاذاً معناها أنه انتقى له وصية تناسب حاله، فعُلم أنها جامعة، وهي كذلك لمن عقلها، مع أنها تفسير للوصية القرآنية، ووصية الله للبشرية: أن اتقوا الله.

هذه الوصية جامعة -وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ - لأن العبد عليه حقان: حق لله عز وجل، وحق لعباده، فالحق الذي عليه لله قد يُخل به أحياناً والعبد يمكن أن يخل من عدة جهات:

أولاً: إما بالإخلال وذلك بترك الواجبات، أو الإخلال بفعل المحرمات، إما أن يترك واجباً أو يفعل محرماً، هذا هو الإخلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اتق الله حيثما كنت ) أي: لا تترك واجباً ولا تفعل محرماً، وهذه كلمة جامعة، وهذه هي التقوى.

ثم إنه أوصاه بها في السر والعلانية.

ثم قال له: -فإذا حصل الإخلال ماذا يفعل العبد؟ فجاء الجواب-: ) وأتبع السيئة الحسنة تمحها ).

فإن المريض متى ما تناول شيئاً مضراً، فإن الطبيب يأمره بإصلاح هذا الضرر الحاصل من تناول الشيء المضر، والذنب للعبد كتناول الشيء المضر، فالكيّس الذي يتعاطى ما يصلح الضرر الذي تناوله، وكذلك لما قال له: ( أتبع السيئة الحسنة تمحها ) مثل الطبيب إذا جاءه واحد تناول شيئاً مضراً، فإنه ينصحه بأن يتناول شيئاً يصلح الضرر.

والعبد إذا أذنب؛ فعليه أن يأتي من الحسنات ما يكفر الذنب ويزيل الضرر، وتنبه للحكمة البالغة في أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بذكر السيئة قبل الحسنة، قال: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) فبدأ بالسيئة؛ لأن المقصود هنا إزالة أثر السيئة لا مجرد فعل الحسنة، ولذلك بدأ بذكر السيئة، فصار قوله كما في بول الأعرابي: (صبوا عليه ذنوباً من ماء) هذه مثل أتبع السيئة بالحسنة فيذهب الماء دنس النجاسة وأثرها.

وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله إلى مسألة وقال: ينبغي أن تكون الحسنات المعمولة -إذا عملت ذنباً- من جنس السيئة فإنه أبلغ في محو الذنوب. فإذا سافر شخص إلى بلد فسق وفجور وعمل معصية، فالحسنة المشابهة أن يذهب في عمرة، أو في سفر حج، أو في سفر جهاد، أو في سفر طلب علم، أو في سفر طاعة مثلاً. (من قال لصاحبه: تعال أقامرك؛ فليتصدق) أي: إذا عمل معصية تتعلق بالأموال، فالحسنة المشابهة التصدق، إذا قطع رحماً يصله، فالحسنة المكفرة من جنس السيئة ومن نفس الباب تكون أبلغ في التكفير والتطهير، وأبلغ في محو الذنوب.

أسباب إزالة السيئات

ثم نبه رحمه الله تعالى إلى أن السيئة عموماً تزال بأشياء، فلو قال لك أحد: أنا عملت سيئة، ما هي أسباب إزالة السيئات في الشريعة؟ وهذا الموضوع مهم أن يطرح وخصوصاً في هذه الأيام لكثرة السيئات، الآن نتيجة وجود المعاصي وأبواب الشر والشهوات، وهذه الأفلام وهذه الصحون وغيرها وقع الناس في المعاصي، فالشاهد فساد الأسواق والشوارع والمدارس والبنات والنساء، فصارت هناك معاصٍ كثيرة في المجتمع، فالمهم أن يطرح موضوع: كيف نطهر السيئة؟ لأن كثيراً من الناس لا يخلون من فعل المعصية، فمن ذا الذي يخلو من فعل المعصية في هذه الأيام، مع كثرة أبواب الشر والمعاصي التي فتحها اليهود وأعوانهم. فمهم جداً أن يركز على قضية كيف تكفر السيئة؟

تكفر السيئة بأسباب:

أولاً: التوبة.

ثانيا: الاستغفار. فإن الله تعالى قد يغفر لهذا الشخص بإجابة دعائه عندما يقول: اللهم اغفر لي، وإن لم يتب التوبة بشروطها المعروفة، وإذا اجتمعت التوبة مع الاستغفار؛ كان أكمل.

ثالثاً: الأعمال الصالحة المكفرة. ثم إن هذه المكفرات قد تكون مقدرة وقد تكون غير مقدرة. المكفرات المقدرة: تدور أجناسها في الشريعة على أربعة أشياء:

الأول: الذبح.

الثاني: العتق.

الثالث: الصدقة.

الرابع: الصيام.

لو نظرنا إلى المكفرات، فمثلاً: إذا حلف شخص فعليه كفارة يمين، شخص جامع في نهار رمضان، أو ظاهر من زوجته، أو عمل محظوراً من محظورات الإحرام مثلاً: صاد في الحرم.

المكفرات إذا نظرنا إليها في الشريعة إما أن تكون مقدرة أو غير مقدرة، وإذا نظرنا إلى الأشياء المقدرة، نجد أنها تدور على أربعة أشياء: الذبح والعتق والصدقة والصيام.

كما جاء في مرتكب بعض محظورات الحج والمجامع في رمضان، والتارك لبعض واجبات الحج ونحو ذلك.

أما الكفارات المطلقة غير المقدرة، فإنه قد أشير إليها في حديث حذيفة لـعمر رضي الله عنهما، قال له من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده، يكفرها: الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إذاً أبواب الخير عموماً، وقد دل القرآن والسنة على أن التكفير يكون بالصلوات الخمس، كما في الحديث: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر).

وكذلك من فعل كذا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ونحو ذلك جاءت أعمال صالحة مطلقة، أي: أعمال صالحة عموماً التي يفعلها يُغفر له، فإذاً: من المكفرات الأعمال الصالحة عموماً.

ثم نبه رحمه الله تعالى إلى أن السيئة عموماً تزال بأشياء، فلو قال لك أحد: أنا عملت سيئة، ما هي أسباب إزالة السيئات في الشريعة؟ وهذا الموضوع مهم أن يطرح وخصوصاً في هذه الأيام لكثرة السيئات، الآن نتيجة وجود المعاصي وأبواب الشر والشهوات، وهذه الأفلام وهذه الصحون وغيرها وقع الناس في المعاصي، فالشاهد فساد الأسواق والشوارع والمدارس والبنات والنساء، فصارت هناك معاصٍ كثيرة في المجتمع، فالمهم أن يطرح موضوع: كيف نطهر السيئة؟ لأن كثيراً من الناس لا يخلون من فعل المعصية، فمن ذا الذي يخلو من فعل المعصية في هذه الأيام، مع كثرة أبواب الشر والمعاصي التي فتحها اليهود وأعوانهم. فمهم جداً أن يركز على قضية كيف تكفر السيئة؟

تكفر السيئة بأسباب:

أولاً: التوبة.

ثانيا: الاستغفار. فإن الله تعالى قد يغفر لهذا الشخص بإجابة دعائه عندما يقول: اللهم اغفر لي، وإن لم يتب التوبة بشروطها المعروفة، وإذا اجتمعت التوبة مع الاستغفار؛ كان أكمل.

ثالثاً: الأعمال الصالحة المكفرة. ثم إن هذه المكفرات قد تكون مقدرة وقد تكون غير مقدرة. المكفرات المقدرة: تدور أجناسها في الشريعة على أربعة أشياء:

الأول: الذبح.

الثاني: العتق.

الثالث: الصدقة.

الرابع: الصيام.

لو نظرنا إلى المكفرات، فمثلاً: إذا حلف شخص فعليه كفارة يمين، شخص جامع في نهار رمضان، أو ظاهر من زوجته، أو عمل محظوراً من محظورات الإحرام مثلاً: صاد في الحرم.

المكفرات إذا نظرنا إليها في الشريعة إما أن تكون مقدرة أو غير مقدرة، وإذا نظرنا إلى الأشياء المقدرة، نجد أنها تدور على أربعة أشياء: الذبح والعتق والصدقة والصيام.

كما جاء في مرتكب بعض محظورات الحج والمجامع في رمضان، والتارك لبعض واجبات الحج ونحو ذلك.

أما الكفارات المطلقة غير المقدرة، فإنه قد أشير إليها في حديث حذيفة لـعمر رضي الله عنهما، قال له من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده، يكفرها: الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إذاً أبواب الخير عموماً، وقد دل القرآن والسنة على أن التكفير يكون بالصلوات الخمس، كما في الحديث: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر).

وكذلك من فعل كذا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ونحو ذلك جاءت أعمال صالحة مطلقة، أي: أعمال صالحة عموماً التي يفعلها يُغفر له، فإذاً: من المكفرات الأعمال الصالحة عموماً.

ثم يقول منبهاً على زمان كأنه زماننا، ولكن نحن أسوأ بزمانه بكثير بالتأكيد، يقول: ( واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه، فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية ) الفترة هي التي ما جاء فيها رسول، وقد جاء رسولنا على حين فترة من الرسل، أي: انقطاع من الرسل. يقول: ( فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه ).

فتشبه الجاهلية بسيادة الشر وعلو الشر وباختفاء آثار دعوة الرسل، وقلة العلم،و فشو الجهل، وفشو المعاصي، فجاهليتنا تشبه الجاهلية الأولى من وجوه كثيرة.

( التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه) إذاً: هذه العناية بقضية تكفير السيئات خصوصاً عند الإنسان إذا بلغ في أزمنة الجاهلية التي نحن الآن واقعون فيها قال: ( فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بأشياء، فكيف بغير هذا؟).

فلو نشأ واحد في القرون الثلاثة الأولى، أو نشأ بين أهل علم ودين فمن الممكن جداً أن يتلطخ بذنوب، فكيف إذا نشأ الشخص في أوقات جاهلية، مثل زماننا.

يقول: زمانه ومن باب أولى زماننا الذي نحن فيه الآن، حيث يتلطخ زيادة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أن الناس يتلطخون بالأشياء التي يفعلها اليهود والنصارى بالذات، ولذلك قال في الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) مثل ريش السهم في تواليها وانتظامها وموازاتها لبعضها حذو القذة بالقذة في تتاليها وتوازيها وتماثلها (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن) من غيرهم؟ هؤلاء الذين أعني، فهذا الحديث يبين أن التشبه سيسري، فقد قال: لتتبعن، فالخطاب للمسلمين، فأثبت أن التشبه سيسري في الأمة، وأنه سيسري إلى أصحاب الدين أيضاً، كما قال غير واحد من السلف ، فإن كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم، مثل كتم العلم، والتلبيس، يشترون به ثمناً قليلاً، يبيع لك فتوى، أو يصدر فتوى توافق هوى شخص، فإن بعض أهل العلم سيتشبهون باليهود والنصارى.

(وكثيراً من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى الدين) كما يوصل ذلك من فهم دين الإسلام، فـالصوفية منتسبون للدين مشابهون للنصارى، وبعض المفتين وبعض الذين يحملون شهادات شرعية ودكاترة وإلى آخره، يتشبهون باليهود من جهة كتم العلم وتحريف العلم، ولوي أعناق النصوص، وبيع الفتاوى وإصدار الفتاوى حسب الأهواء، وبعض المنتسبين للدين من العبّاد والزهاد وغيرهم سيشابهون النصارى في الرهبنة والبدع والانحراف.

فالنصارى مشكلتهم البدعة: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27] وهؤلاء بعض الذين ينتسبون للدين من أصحاب بعض الطرق الصوفية ، ملايين في العالم، وهم سائرون في قضية البدعة.

(وإذا كان الأمر كذلك أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ [الزمر:22].. أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية، وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى فيرى أنه قد ابتلي ببعض ذلك).

إذاً: يقول: ألقوا نظرة على سيرة اليهود والنصارى وتمعنوا فيها، لاحظوا أحوال الجاهلية ستجدون أنفسكم أنكم قد ابتليتم بشيء من هذا، واتبعتموهم في قليل أو كثير.

فأنفع ما للخاصة والعامة لو قلنا: نحن المتدينين والملتزمين، لو قلنا نحن الخاصة، وهؤلاء العامة الذين لا ينتسبون إلى التدين، ولكن دخول التشبه في الجميع، لا يمكن استثناء أحد.

فإذا وقعت الواقعة في قضية التشبه واتباع اليهود والنصارى في أشياء (فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يُخلص النفوس من هذه الورطات) والورطات جمع ورطة، والورطة في لغة العرب: الشيء الذي لا مخلص منه، ولا مخرج منه، فإذا دخل شخص فيه لا يكاد يخرج منه، قال: (وهو إتباع السيئات الحسنات).

إذن المخرج من الورطات هو إتباع السيئات الحسنات (والحسنات هو ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات).

إلى هنا ذكرنا من مكفرات الذنوب ثلاثة:

أولاً: التوبة.

ثانياً: الاستغفار.

ثالثاً: الحسنات الماحية وهي الأعمال الصالحة.

رابعاً: المصائب المقدرة، وهذه من المكفرات.

المصائب المكفرة أي: التي تكفر الذنوب، هي: كل هم وغم وألم وحزن ومرض وأذية في مال أو جسد أو غير ذلك، أو عرض إلى آخره، فالحسنات الماحية مطلوب منك أن تسعى إليها، لكن المصائب المقدرة ليست من فعلك، وهذه مسألة مهمة، فلا يقال: مرّض نفسك؛ حتى يكفر عنك سيئاتك، أو قف بالشمس؛ حتى تُصاب بضربة وتكفر عنك سيئاتك، وجوّع نفسك حتى تتألم ويكفر عنك سيئاتك، لا! المصائب المكفرة لا تكون بفعل العبد وإنما هي من قدر الله تعالى.

فلما قضى من هذا الأمر قال له: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها) قال له: (وخالق الناس بخلق حسن) ونحن كنا قد تكلمنا أن الحقوق على العبد من جهتين: حقوق لله، وحقوق للخلق، حقوق لله قد جرى الكلام فيها، وحقوق العباد كيف تؤدى؟

الجواب: بهذا الشطر من الحديث وهو قوله: (وخالق الناس بخلق حسن) فما هو جِمَاع الخلق الحسن مع الناس؟ جاء في أحاديث لو جمعتها تخرج بنتائج، ومنها:

أولاً: (صل من قطعك) بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيارة له وغير ذلك.

ثانياً: (وتعطي من حرمك) من التعليم والمنفعة والمال.

ثالثاً: (وتعفو عمن ظلمك) من ظلمك في دم أو مال أو عرض، وبعض هذه الأشياء واجبة وبعضها مستحبة، فهذا كله داخل في التقوى؛ لأن وصية الله لعباده بالتقوى تجمع كل ما أمر الله به، أمر إيجاب أو أمر استحباب، وما نهى عنه تحريماً أو تنزيهاً، سواء كان حراماً أو مكروهاً، فهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد.

ولا شك أن أكثر الناس إيماناً أكملهم خلقاً، كما جاء في الحديث الصحيح: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) فجعل كمال الإيمان في كمال حُسن الخلق، والإيمان كله هو تقوى الله، فهذا إذاً ملخص الموضوع.

وأصول التقوى وفروعها كلها هي الدين، وينبوع الخير وأصله: هو إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة، لو قال: فسرها لنا بكلام آخر، نقول: التقوى هي الدين، وبكلام آخر: قال عبادة واستعانة، التي جاء قوله تعالى فيها: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وقوله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123] وقوله تعالى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].

بهذا انتهى الجزء الأهم والأعم والأشمل من الوصية، ثم انتقل بعد ذلك للجواب على جزئية وردت في السؤال. الجزئية الثانية التي وردت في السؤال هي عن أفضل الأعمال بعد الفرائض، كأن السائل يقول: الفرائض أنا أعرفها، وأنت عالم، وأنا وقتي وعمري محدود، دلني على عمل بعد الفرائض أعمله، فأنت عالم حجة، فأنا سوف أستفتيك في عمري هذا بعد الفرائض في أي شيء أقضيه؟

قال: ( وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم ) لاحظ الكلام ففيه حكمة بالغة؛ لأنه يُراعي ظروف الناس.

فهناك من هو طالب، أو تاجر، أو موظف، ومن وظيفته قصيرة كمدرس، ومن وظيفته طويلة كموظف في شركة، ومن لديه نوبات، أو عاطل عن العمل، فالناس يختلفون، وهناك من ترك له أبوه إرثاً وعقارات، فلا يحتاج أن يعمل، فأفضل شيء بالنسبة لكل واحد يختلف باختلاف أحوال الناس وأوقاتهم، وهذه أوقات وقد ذكرنا أمثلة.

أما أحوالهم فهذا مثلاً عنده علم والنفس لا تشبع من العلم نهمة، وهذا عنده جلد وصبر على القراءة، وهذا عنده فهم وقوة وحافظة وقدرة على التعليم، فما أنفع شيء بالنسبة له، أن يعلِّم ويتعلم.

وهناك من عنده قدرة في التخطيط للقتال وخبرة في المعارك والسلاح، فهذا الأنفع له أن يعاون المسلمين مثلاً في الجهاد.

وآخر عنده صبر على الأذى وجرأة في الحق وقوة في الدين وحسن أسلوب، يشتغل في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويركز عليه.

وقد يكون آخر عنده خبرات تفيد المسلمين في مال أو اقتصاد أو تأسيس أعمال خيرية ونحو ذلك.

وهذا عنده خبرة في الأسفار وتعلم اللغات بسرعة، وقد يفيد في أعمال الإغاثة ونحو ذلك.

إذاً أفضل شيء عموماً يختلف باختلاف أحوال الناس، وحتى في العلم، قد يكون واحد عنده قدرة على الخطابة، وآخر عنده قدرة على التأليف، فتقول لهذا الذي يحسن التأليف ألِّف، والذي يحسن الخطابة ألق دروساً ونحو ذلك.

هذا صوته جميل بالإمامة، وهذا موهبته الشعرية يذب عن المسلمين بها وهكذا.

فالمسألة قدرات، والناس قدرات وطاقات، لكن قد يقول واحد مثلاً: أليس هناك شيء جامع أو ورد فضله على جميع الأعمال مثلاً فلفت نظره إلى هذه المسألة.

أهمية الذكر وفضله

بعد أن قال: ( فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره ) -يقول وإذا لم نتمكن أن نعطي جواباً مفصلاً في هذه المسألة، لأن الناس يتفاوتون، لكن هناك شيء معين يمكن أن يشترك فيه الجميع، بالإضافة لقيام كل واحد بما يحسنه، فما هو هذا الشيء؟

قال: ( إن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما يشغل العبد به نفسه في الجملة ).

وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! من المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) وهذا حديث صحيح والمفردون: هم المنفردون الذين هلك أقرانهم وبقوا هم، والمقصود أنهم بقوا يذكرون الله سبحانه وتعالى.

وكذلك حديث أبي داود : (ألا أنبئكم بخير أعمالكم -هذا يقتضي التفضيل- وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) حديث صحيح بطرقه.

وكلمة (ذكر الله) ماذا تعني؟ قال: (أقل ذلك-أي: أقل مرتبة في ذكر الله- أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين، كأذكار طرفي النهار، وعند المضجع، والاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيدة في الأكل والشرب واللباس والجماع، ودخول المنزل والخروج منه، ودخول المسجد والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، وعند العطاس وعند المطر وعند الرعد وعند المصيبة وغير ذلك من المناسبات) وهذه هي التي صُنفت لها كتب بعنوان: عمل اليوم والليلة، فإذا رأيت عالماً كتب كتاباً بعنوان: عمل اليوم والليلة فاعلم أن هذا موضوعه.

فهذه الأذكار المقيدة بمناسبات وأوقات، وهناك الأذكار المطلقة، وأفضل شيء في الأذكار المطلقة (لا إله إلا الله) وأذكار أخرى وردت مثل: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله).

فالآن كلمة (ذكر الله) -حتى لا يتصور الواحد أنها محصورة في هذه الجمل- أشار رحمه الله إلى أن كلمة (ذكر الله) تشمل إلى جانب الأشياء اللسانية التي تكون فاضلة جداً إذا تصورها القلب، فبعض الناس تجده بعد الصلاة فقط لسانه وأصابعه تشتغل وعقله في مكان ونظره على الناس، ويظن أنه الآن يقوم بأفضل الأعمال، لا، هذا قلب غافل لاه، فإذا كان اشتغال اللسان مع موافقة القلب، هذا من هذه الجهات، لكن ذكر الله أشمل وأعم من قضية الأذكار التي هي باللسان.

قال: (فإن ذكر الله يشمل كل ما يقربه من الله، من تعلم العلم وتعليمه) مثل جلوسنا للعلم إذا أخلصنا فيه النية، هو من ذكر الله الذي هو أفضل من كل شيء ومن أفضل الأعمال، قال: (تعلم العلم وتعليمه، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، هذا من ذكر الله) ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه الفقه، الذي سماه الله ورسوله فقهاً، ليس فقط الفقه الحلال والحرام، الفقه الأكبر، الإخلاص وما يتعلق به، فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله، وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف، فعندما يقول الأفضل كذا وأفضل الأشياء كذا، فإذا نظرت لها في النهاية تجد أن ذكر الله يجمعها، فلا تعارض إذاً.

وهذا الذي كان يُشير إليه ويُدندن حوله في عدد من كتبه رحمه الله في قضية اختلاف التنوع واختلاف التضاد، وأن هذا كله في قضية اختلاف التنوع الذي هو في الحقيقة لا تعارض فيه ولا تصادم.

نظراً لأن الناس قد يجهلون ما هو الأصلح لهم، وليس كل شخص يدرك ما هو الأفضل بالنسبة في حقه، وقد لا يعرف الشخص دائماً كل قدراته، ولا يدري إذا ضرب بسهم في هذا المجال أفضل أو في هذا المجال أفضل، هل يتوجه إلى هذا العمل أفضل، أو إلى هذا العمل أفضل.

نظراً لأنه ستعترض الشخص أشياء من الإشكالات لأجل عدم قدرته على الإحاطة بالظروف الموجودة، وعدم معرفة الغيب طبعاً، وماذا سيئول إليه حاله لو اشتغل بالتعليم أو بالجهاد أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك.

نظراً لهذا أشار رحمه الله إلى أهمية أنه لو وقع أحد في مثل هذا الظرف ما هو المهم بالنسبة له أن يعمل؟ الاستخارة! قال: (وما اشتبه أمره عليه فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار الله تعالى، وليُكثر من ذلك ومن الدعاء؛ فإنه مفتاح كل خير، ولا يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، وليتحرَّ الأوقات الفاضلة كآخر الليل وأدبار الصلوات وعند الأذان ووقت نزول المطر وغير ذلك).

هذا حتى يدعو الله أن يوجهه إلى أحسن وجهة وأحسن شيء يستغل فيه نشاطه ووقته ويستفيد ويفيد.

بعد أن قال: ( فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره ) -يقول وإذا لم نتمكن أن نعطي جواباً مفصلاً في هذه المسألة، لأن الناس يتفاوتون، لكن هناك شيء معين يمكن أن يشترك فيه الجميع، بالإضافة لقيام كل واحد بما يحسنه، فما هو هذا الشيء؟

قال: ( إن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما يشغل العبد به نفسه في الجملة ).

وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! من المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) وهذا حديث صحيح والمفردون: هم المنفردون الذين هلك أقرانهم وبقوا هم، والمقصود أنهم بقوا يذكرون الله سبحانه وتعالى.

وكذلك حديث أبي داود : (ألا أنبئكم بخير أعمالكم -هذا يقتضي التفضيل- وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) حديث صحيح بطرقه.

وكلمة (ذكر الله) ماذا تعني؟ قال: (أقل ذلك-أي: أقل مرتبة في ذكر الله- أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين، كأذكار طرفي النهار، وعند المضجع، والاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيدة في الأكل والشرب واللباس والجماع، ودخول المنزل والخروج منه، ودخول المسجد والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، وعند العطاس وعند المطر وعند الرعد وعند المصيبة وغير ذلك من المناسبات) وهذه هي التي صُنفت لها كتب بعنوان: عمل اليوم والليلة، فإذا رأيت عالماً كتب كتاباً بعنوان: عمل اليوم والليلة فاعلم أن هذا موضوعه.

فهذه الأذكار المقيدة بمناسبات وأوقات، وهناك الأذكار المطلقة، وأفضل شيء في الأذكار المطلقة (لا إله إلا الله) وأذكار أخرى وردت مثل: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله).

فالآن كلمة (ذكر الله) -حتى لا يتصور الواحد أنها محصورة في هذه الجمل- أشار رحمه الله إلى أن كلمة (ذكر الله) تشمل إلى جانب الأشياء اللسانية التي تكون فاضلة جداً إذا تصورها القلب، فبعض الناس تجده بعد الصلاة فقط لسانه وأصابعه تشتغل وعقله في مكان ونظره على الناس، ويظن أنه الآن يقوم بأفضل الأعمال، لا، هذا قلب غافل لاه، فإذا كان اشتغال اللسان مع موافقة القلب، هذا من هذه الجهات، لكن ذكر الله أشمل وأعم من قضية الأذكار التي هي باللسان.

قال: (فإن ذكر الله يشمل كل ما يقربه من الله، من تعلم العلم وتعليمه) مثل جلوسنا للعلم إذا أخلصنا فيه النية، هو من ذكر الله الذي هو أفضل من كل شيء ومن أفضل الأعمال، قال: (تعلم العلم وتعليمه، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، هذا من ذكر الله) ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه الفقه، الذي سماه الله ورسوله فقهاً، ليس فقط الفقه الحلال والحرام، الفقه الأكبر، الإخلاص وما يتعلق به، فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله، وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف، فعندما يقول الأفضل كذا وأفضل الأشياء كذا، فإذا نظرت لها في النهاية تجد أن ذكر الله يجمعها، فلا تعارض إذاً.

وهذا الذي كان يُشير إليه ويُدندن حوله في عدد من كتبه رحمه الله في قضية اختلاف التنوع واختلاف التضاد، وأن هذا كله في قضية اختلاف التنوع الذي هو في الحقيقة لا تعارض فيه ولا تصادم.

نظراً لأن الناس قد يجهلون ما هو الأصلح لهم، وليس كل شخص يدرك ما هو الأفضل بالنسبة في حقه، وقد لا يعرف الشخص دائماً كل قدراته، ولا يدري إذا ضرب بسهم في هذا المجال أفضل أو في هذا المجال أفضل، هل يتوجه إلى هذا العمل أفضل، أو إلى هذا العمل أفضل.

نظراً لأنه ستعترض الشخص أشياء من الإشكالات لأجل عدم قدرته على الإحاطة بالظروف الموجودة، وعدم معرفة الغيب طبعاً، وماذا سيئول إليه حاله لو اشتغل بالتعليم أو بالجهاد أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك.

نظراً لهذا أشار رحمه الله إلى أهمية أنه لو وقع أحد في مثل هذا الظرف ما هو المهم بالنسبة له أن يعمل؟ الاستخارة! قال: (وما اشتبه أمره عليه فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار الله تعالى، وليُكثر من ذلك ومن الدعاء؛ فإنه مفتاح كل خير، ولا يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، وليتحرَّ الأوقات الفاضلة كآخر الليل وأدبار الصلوات وعند الأذان ووقت نزول المطر وغير ذلك).

هذا حتى يدعو الله أن يوجهه إلى أحسن وجهة وأحسن شيء يستغل فيه نشاطه ووقته ويستفيد ويفيد.

بعد ذلك كأن السائل قد سأل سؤالاً يتعلق بالمكاسب، أي: من أين يعيش؟ وما هي العدة في مسألة كسب الرزق؟

التوكل والدعاء

فقال شيخ الإسلام : (وأما أرجح المكاسب، فالتوكل على الله والثقة بكفايته وحسن الظن به، وذلك لأنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق؛ أن يلجأ فيه إلى الله ويدعوه كما قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم).

وفيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر) شسع النعل: هي سيور النعل الذي يدخل بين الأصبعين، وطرفه في الثقب الذي في صدر النعل، حتى يمسك القدم بالنعل، فلو انقطع هذا؛ فإنه يسأل ربه.

فإذا جئت تطلب الرزق والمكاسب؛ عليك بأمرين مهمين جداً: التوكل والدعاء فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] وهذا وإن كان في يوم الجمعة، ولكن المعنى قائم في جميع الصلوات، بعد الصلاة اخرج وابتغ من فضل الله.

(ولهذا -والله أعلم- أمر الشخص إذا دخل المسجد أن يقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج أمر أن يقول: اللهم إني أسألك من فضلك) فكأنه الآن يناسب الخروج من المسجد كأنك ستذهب إلى المكاسب، فتسأل الله من فضله، لأن الأعمال والوظائف تُقطع لأجل الصلاة وتخرج من الصلاة وأنت قاصد العودة أو الذهاب إلى المكاسب فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [العنكبوت:17] هذا الأمر للوجوب، فهذه أول وصية في قضية المكاسب: التوكل على الله والدعاء وحسن الظن بالله وأنه يدبرك سبحانه وتعالى أحسن من تدبيرك لنفسك.

سخاوة النفس في المال

ثانياً: ( ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليُبارك له فيه) أي يأخذ المال بطيب نفس دون حرص على المال ودون جشع فيه، ودون هلع فيه، دون جمع للمال وكنزه وعدم إنفاقه وتجميده، وبخل به وحرص عليه، وإنما يجب أن يكون معطاءً كريماً سخياً، وإن أخذ قرشاً لا يقول له وقد أودعه صندوقه: (لن ترى النور بعد الآن) وإنما يأخذه بسخاوة نفس، أي يأخذه الآن ويعطيه غداً ويسلف هذا، ويؤجل هذا، ويسامح في هذا ويصل رحماً به، ونحو ذلك بسخاوة، فلا يكون القرش عنده عزيزاً إذا دخل صندوقه لا يرى النور ولا يخرج، وإنما يأخذ المال ويضع المال وينفق ويدخل بسخاوة نفس، نفس ليست هلعة على المال، وإنما يكون المال عنده بمثابة الحمار الذي تركبه، وبيت الخلاء الذي تقضي فيه حاجتك.

فالمال لا بد منه، فهو لازم وهو الذي جعل الله لكم قياماً، فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] دنياك لا تقوم إلا بالمال، لا تذهب ولا تجيء إلا بالمال الذي جعله الله لك قياماً، ولكن هذا المال إذا أخذته بسخاوة نفس ولم تكن جشعاً وهلعاً فيه، يكون هذا المال بالنسبة لك وتعلقك به كحمارك الذي تركبه، وبيت الخلاء الذي تدخله، فهل تجد الإنسان وهو يحتاج إلى الدابة للتنقل والمشاوير مثلاً، يحتاج إلى بيت الخلاء ليقضي الحاجة فيه، أليست الحاجة ماسة إلى الحمام والمرحاض، ولكن هل تجد الواحد يعانق حماره بلهف وهو عزيز عليه، ولا ينتظر اللحظة التي يدخل فيها الخلاء ويحبه جداً ولا يكاد يفارقه، لا، فالشيء الذي لا بد منه، فاتخاذه لا بد منه، لكن هل نفسه متعلقة فيه ومنشدة إليه وحريصة عليه ومنكبة عليه، تحبه حباً جماً، لا! بالعكس، فالمطلوب إذاً اتخاذ المال ولكن يكون مثل حمارك ومرحاضك، ولكن من الذي ينفذ القضية الآن، هذا الكلام سهل ولكن أين التطبيق؟!

وقد مر معنا في سيرة الشيخ الشنقيطي رحمه الله أنه كان لا يميز بين الأوراق النقدية العشرة والمائة والخمسين والذي في يده للآخرين، يأخذ مصاريف البيت والباقي يتصدق به، هذا من سخاء النفس، يُبارك له فيه، ولو ما استعمل منه إلا القليل، لكن يبارك له فيه، وأما الذي يجمع الملايين بدون سخاوة نفس لا يبارك له فيها، ولا يستمتع بها، بل قد تكون نكداً عليه، وهو في قلق وهم وغم ملازم له (من أصبح والدنيا أكبر همه، شتت الله عليه شمله، وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه، جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) حديث رواه الترمذي رحمه الله تعالى وهو حديث صحيح بطرقه.

وقال بعض السلف: [أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج] فإذا بدأت بنصيبك في الآخرة، مر عليك نصيبك في الدنيا فانتظمته انتظاماً، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

وأما إذا بدأت بالدنيا فقد لا تصل إلى عمل الآخرة، لكن إذا بدأت بعمل الآخرة، وجعلت الآخرة هي الأولوية وهي الأصل جاءتك الدنيا وهي راغمة، وإذا ركضت وراء الدنيا واجتهدت فيها وجعلتها هي الأولوية، فكيف تعمل لآخرتك، وقد قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ [القصص:77] هذا رقم واحد، والثاني: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] وقال: فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] وقال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21].. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

هذا كله في أعمال الآخرة، وفي الدنيا قال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15] قال: امشوا، والآخرة قال: اسعوا، إذاً الآخرة مقدمة وينبغي أن يكون العمل لها أكثر وتأتيك الدنيا.

قال: (فأما تعيينه) الآن جاء على التفصيل في قضية المكاسب، فهذه الأشياء هي الإطارات العامة لقضية كسب الرزق، وهناك الأشياء الخاصة، فلو قال مثلاً: بماذا تنصحني أيها الشيخ أن أتوجه، قال: (فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية -عقارات- أو حراثة -زراعة- أو غير ذلك فهذا يختلف باختلاف الناس ولا أعلم في ذلك شيئاً عاماً، لكن إذا عَنَّ للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة -إن فتح لك مثلاً باب تجارة أو باب عقار أو باب زراعة- عن معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم فإن فيها من البركة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسر له أن ينفتح له الباب فلا يتكلف غيره، إلا أن يكون منه كراهة شديدة، فالباب الذي ينفتح توكل على الله واستمر فيه، إلا إذا كنت تكرهه كراهة شديدة.

فقال شيخ الإسلام : (وأما أرجح المكاسب، فالتوكل على الله والثقة بكفايته وحسن الظن به، وذلك لأنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق؛ أن يلجأ فيه إلى الله ويدعوه كما قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم).

وفيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر) شسع النعل: هي سيور النعل الذي يدخل بين الأصبعين، وطرفه في الثقب الذي في صدر النعل، حتى يمسك القدم بالنعل، فلو انقطع هذا؛ فإنه يسأل ربه.

فإذا جئت تطلب الرزق والمكاسب؛ عليك بأمرين مهمين جداً: التوكل والدعاء فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] وهذا وإن كان في يوم الجمعة، ولكن المعنى قائم في جميع الصلوات، بعد الصلاة اخرج وابتغ من فضل الله.

(ولهذا -والله أعلم- أمر الشخص إذا دخل المسجد أن يقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج أمر أن يقول: اللهم إني أسألك من فضلك) فكأنه الآن يناسب الخروج من المسجد كأنك ستذهب إلى المكاسب، فتسأل الله من فضله، لأن الأعمال والوظائف تُقطع لأجل الصلاة وتخرج من الصلاة وأنت قاصد العودة أو الذهاب إلى المكاسب فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [العنكبوت:17] هذا الأمر للوجوب، فهذه أول وصية في قضية المكاسب: التوكل على الله والدعاء وحسن الظن بالله وأنه يدبرك سبحانه وتعالى أحسن من تدبيرك لنفسك.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3530 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3496 استماع
اليهودية والإرهابي 3424 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3424 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3347 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع