فضل علم السلف على علم الخلف


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

فبين أيدينا رسالة لعلمٍ من الأعلام الذين سبق التعريف بهم، وهو العلامة: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن بن محمد بن مسعود السلامي البغدادي الدمشقي الحنبلي، المولود في بغداد سنة (736هـ) والمتوفى سنة (795هـ)، وعنوان هذه الرسالة عنوان مهم، ألا وهو: بيان فضل علم السلف على علم الخلف وهذه الرسالة من الرسائل التي تهم طالب العلم.. كيف لا وهي تبين الأولويات في طلب العلم، وعمن يأخذ الإنسان، وصفات العالم الذي يؤخذ عنه، مع إرشاد الطالب إلى حفظ وقته كي لا يضيع في أمور لا يستفيد منها، أو تكون الفائدة قليلة.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى في مطلع هذه الرسالة:

(بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فهذه كلمات مختصرة في معنى العلم، وانقسامه إلى: علم نافع، وعلم غير نافع، والتنبيه على فضل علم السلف على علم الخلف).

-إذاً: فإن الفهرس المبسط المختصر لهذه الرسالة قد صدّر بها كلامه رحمه الله، قال: (فنقول وبالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله).

ثم بدأ يتكلم على تقسيم العلم إلى نافع وغير نافع، وأن الله سبحانه وتعالى مدح العلم في مواضع من كتابه وذمه في مواضع أخرى، فمن المواضع التي مدح فيها العلم وأهله: قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

وقوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] أشهد الله نفسه وملائكته، وأشهد هذه الطائفة -وهم أهل العلم- على أعظم حقيقة وهي التوحيد (لا إله إلا الله).

وقوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].

وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

وكذلك لما مدح آدم فذكر أنه علَّمه، وأنه عرض الأسماء على الملائكة فلم يعرفوا: قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32].

وكذلك لما قال موسى للخضر: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66].

وفي مواضع أخرى من كتابه العزيز أخبر سبحانه وتعالى عن قوم أوتوا علماً فلم ينفعهم علمهم، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5]، وقال أيضاً: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175].

وقال: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176].

وقال سبحانه وتعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23].

إذاً: هذا العلم نافع لكن هؤلاء نماذج من الناس الذين لم ينتفعوا بالعلم النافع، فعندهم علم نافع، ويحفظون علماً، لكنهم لم ينتفعوا به.

وهناك علم ذكره الله على جهة الذم.

إذاً هناك علم ذكره الله على جهة المدح ومدح أهله، وذم بعضهم وهم الذين لم يعملوا به ولم ينتفعوا به، وهناك علم مذموم بحد ذاته، كما قال عز وجل في السحر: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102].

وقال عز وجل: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] وماذا عندهم؟ عندهم ما يخالف النبوة والرسالة: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [غافر:83].

سؤال الله العلم النافع والتعوذ من غيره

قال: ( ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى: علم نافع وعلم غير نافع ) وهذا واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) فهناك علم ينفع وعلم لا ينفع، فهو استعاذ بالله من العلم الذي لا ينفع، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح أيضاً: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وأعوذ بك من علم لا ينفع) أخرجه ابن حبان والآجري، وإسناده حسن.

فالعلم الذي يضر ولا ينفع جهل، والجهل به خير من العلم به، هذا العلم الذي لا ينفع أو العلم الضار الجهل به أفضل من تعلمه ولا شك، وإذا كان الجهل به أفضل فيكون هو شر من الجهل، أي: أن تجهل أحسن من أن تتعلم هذا العلم، مثل: علم السحر -مثلاً- وهو العلم الضار، وقد يكون الضرر في الدين وقد يكون في الدنيا.

هناك آثار تنهى عن تعلم علم الأنساب، وهناك أحاديث معروفة تحث على تعلم علم الأنساب، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم) رواه الإمام أحمد وإسناده حسن.

فالمقصود هو تعلم الأنساب المفيدة في أشياء، مثل: صلة الأرحام، وتعلم الأنساب غير المفيدة ما يُفضي -مثلاً- إلى الفخر والخيلاء أو إضاعة الأوقات في تتبع السلالات وما شابه ذلك.

فأما ما ينفع فيُتعلم له، ولذلك جاء في بعض الآثار: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ثم انتهوا، وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله ثم انتهوا، وتعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا) إذاً: هناك علوم مفيدة إلى حد معين ودرجة معينة، وبعد ذلك يكون صرف الوقت فيما لا يفيد ضياعاً للوقت.

الفرق بين علم التأثير وعلم التسيير

قال: ( وكان النخعي -رحمه الله- لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به )، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق]؛ لأن بعض النجوم مهم معرفتها كمسافر حتى لا يضل فيعرف الاتجاهات، وكمصلي يحتاج أن يعرف بعضها، مثل: تعيين القطب الشمالي لتعيين القبلة، فمعرفة القطب الشمالي وأين يوجد القطب الشمالي، وما هو القطب الشمالي، وما هو شكله مثلاً، وأن هذه العلامة مثل علامة الاستفهام أو الملعقة، لو أخذت طرفيها أو جهة الرأس النجم الأول والثاني ثم مددت خطاً بقدر ستة أميال ما بين النجمين سيكون في اتجاه، أو سيصلك إلى النجم القطبي الشمالي مثلاً، أو ما يسمونه بمجموعة الدب الأكبر والدب الأصغر للوصول إلى قضية تعيين القطب الشمالي، وهذا لا شك أن فيه فائدة.

ولكن هناك بعض العلوم المتعلقة بالنجوم حرام، وقد قال طاوس رحمه الله: [رب ناظرٍ في النجوم ومتعلم حروف (أبا جاد) ليس له عند الله خلاق] وهذا قد جاء أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه، وإسناده صحيح.

فعلم النجوم يقسمه العلماء إلى قسمين:

القسم الأول: علم التأثير.

القسم الثاني: علم التسيير.

وعلم التسيير: هو العلم الذي يتوصل به إلى معرفة الاتجاهات وهذا علم طيب، والله سبحانه وتعالى كما قال قتادة : [خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16].. لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:97]].

أما علم التأثير: فهو الربط بين النجوم والكواكب وحركة الأفلاك ومنازل القمر ... إلخ، وبين الحوادث الأرضية؛ بحيث يعتقد أنه إذا جاء النجم الفلاني في المكان الفلاني، أو طلع النجم الفلاني في المكان الفلاني.. ونحو ذلك فسوف يحدث كذا وكذا في الأرض، وأن هذا دليل على أن عظيماً قد ولد، وهذا دليل على أن عظيماً قد مات، وهذا يدل على أن كارثة وحرباً ستقع، وهذا كذا.

ومن هذا -أيضاً- قضية الأبراج المملوءة بها -الآن- المجلات وبعض السيارات من الجرائد.. وغيرها، فهذه مكتوب فيها بالنص، الربط بين أشياء متعلقة بولادة إنسان في برج معين، أو أمور متعلقة بظهور نجم أو أفلاك معينة، وبعض الناس يقول الآن: إذا ظهر النيزك الفلاني فيقع كذا وكذا في الأرض، فهذا حرام، وتعلمه حرام، ونشره حرام، وقراءته حرام حتى للتسلية، لأنه لا يجوز التسلي بقراءة الشرك.

وعن قبيصة: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت) ومثل هذا الأثر الذي معناه: "العيافة: هي زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وصفاتها، وما هي العلاقة بين ذهاب الطير يميناً أو شمالاً وبين حصول نحس أو شقاء في الأرض، أو حوادث في حياة الإنسان؟!

والطرق هو: الضرب بالحصى أو الخط بالرمل، أو ما يفعله بعض العجائز من رمي الودع، ثم الاستدلال بشكل الودع الذي قد ألقي على الأرض على أمرٍ معين في المستقبل مثلاً، أو حوادث معينة، ذلك كله حرام، وتعلمه حرام، وتعلم علم الفلك من هذه الجهة حرام، والعمل بمقتضاه كُفر.

فأما علم التسيير الذي يتوصل به ولمعرفة القبلة والطرق ومعالم الزراعة فهو جائز عند الجمهور، وما زاد فلا حاجة إليه، فقد لا يكون كفراً ولا شركاً بل مباحاً، لكن الإكثار منه مشغلة للوقت، وصرف فيما لا ينفع.

إنكار السلف على من توسع في علم النجوم

لفت الإمام أحمد رحمه الله النظر إلى مسألة، وهي: أن التدقيق في بعض ذلك ربما يؤدي إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم، مما يؤدي إلى اتهام أو اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم الفترة الماضية.

ولذلك قال: إنما ورد: (بين المشرق والمغرب قبلة) .

ولذلك نلاحظ أن بعض الدكاترة أو المتخصصين في أمور معينة تتعلق بالفلك مثلاً يأتي هؤلاء إلى المساجد -مسجد قديم مثلاً- ويقولون: هذا فيه انحراف ينبغي أن يحرف قليلاً، وكل صلاة الذين مضوا في المسجد خطأ، وهذا من العمى الفقهي.

فنقول: إن من صلى وهو يعتقد أن القبلة هكذا ولم يدرِ أن الاتجاه خطأ فصلاته صحيحه، فيأتي ويقول: هؤلاء صلاتهم كلها باطلة، ويغيرون الخطوط، ويحدثون البلبلة عند الناس، وهذه مسألة مشاهدة وواقعة، أما كوننا نستفيد من العلم الحديث في ضبط قبلة المساجد حتى ولو أشعة الليزر فلا بأس في ذلك، لكن أن نعمل ما يؤدي إلى اتهام الأولين في صحة صلاتهم فهذا غلو.

وقد يكون في الاشتغال ببعض هذه الأشياء فيه فساد عريض، ولا شك أن هناك الآن كتباً تطبع وتُشترى، وبعض الناس يسافرون ويأتون بها وفيها تعليم السحر والشعوذة، وتجد بعض الناس يشتري شمس المعارف ويفتح ويطبق ثم تظهر له أفاعي.. ونحو ذلك، ويقوم في الليل فزعاً؛ لأنه بدأ في الطريق ولم يُحسن!!

وقد جيء إلى بعض الأخيار بفتاة ليقرأ عليها، فلما قرأ عليها وسألها عم بها؟ قالت: إنني سافرت إلى البحرين واشتريت كتاباً وطبقت ما فيه، وبدأت الأشياء تتحرك، فأضع الشيء على المنضدة، أقرأ: الكلمات التي في الكتاب؛ فينحرف يميناً أو ينحرف شمالاً، وهناك -فعلاً- بعض الألعاب التي رُوجت وفيها أشياء من هذا القبيل، فيسألها لتجيب نعم أو لا، بعدما يقرأ أشياء ويتمتم بكلمات.. ونحو ذلك، فعندما ندمت الفتاة وبكت قالت: لكن المشكلة أنني علَّمت بنات الصف كلهن.

فالمهم أن هذا الضرب من الشعوذة وتحضير الجن والشياطين والكتب التي تتعلق بالسحر وترويجها لا شك أنها من أخطر الأشياء، وهذه قضية قائمة موجودة في الواقع، يجب على طلبة العلم الموحدين القيام لله تعالى لإنكار المنكر، ونصح العباد في هذه الأشياء.

وقد يكتشف الإنسان -أحياناً- بعض أقرب الناس إليه من يتعامل في مثل هذه الأمور، ويبيع مثل هذه الكتب، ويطبق بعض ما فيها.

النهي عن التوسع في دقائق غير مهمة

والتوسع في علم الأنساب كما ضرب ابن رجب رحمه الله تعالى مثلاً في قضية العلوم المشغلة عما هو أهم منها، لكن إذا كان منها فائدة فتتعلم.

أحياناً يكون منها فوائد، مثلاً: حسان بن ثابت لما أراد أن يهجو المشركين، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: كيف سيخلص نسبه من بينهم؟ حتى لا يهجوهم هجاءً يشمل النبي صلى الله عليه وسلم، فـأبو بكر الصديق نسابة العرب تولى تعليم حسان في قضية الأنساب دقائق حتى قال: [أسلك كما تسل الشعرة من العجين] أي: يخلصه من بينهم بكلام لا يشمله، فيكون الهجاء لهم دونه، وهذا يحتاج إلى شيء من العلم بالأنساب، فإذا كان هناك حاجة له فيتعلم.

ثم إن تعلم بعض العلوم فرض كفاية، أي: إذا عرفها بعض الأمة فلا داعي أن يتعلم كل طالب علم، ونقول: لكل طالب علم: تعال وتعلم هذا العلم؛ لأن هذا خطأ أن كل طالب علم يضع في برنامجه وجدوله في طلب العلم أن يتعلم مثل هذا، بل يكفي أن يوجد في الأمة من يعلمه عند الحاجة ويدل عليه ويأتي بالمقصود.

كذلك مسألة التوسع في علم العربية لغةً ونحواً مما يُشغل عن العلم الأهم، وطرح هذا الكلام عند طلبة العلم ينبغي أن يُؤخذ بحجمه الصحيح، حتى لا ينفروا من اللغة العربية، مع أنهم من أضعف ما يكونون في اللغة العربية على مرَّ العصور إذا ما قورنت بالعصور السابقة، فما وصلنا إلى درجة أن عموم طلبة العلم قد أتقنوا اللغة العربية وبدءوا يتبحرون، وصرنا نخشى عليهم من التوسع والانشغال عن الأهم، وعن الفقه والحلال والحرام.. ونحو ذلك، فنقول لهم كفوا: لا. لكن لا يوجد بعض الناس عندهم حب للغة العربية بحيث إنهم ينصرفون إلى تعلم دقائق هذه اللغة بما يصرفهم عن الأهم وتعلم الحلال والحرام والتفسير والحديث ومعاني السنة. مثلاً: تجد دكتوراً نحوياً كبيراً لغوياً لكنه في الفقه والحديث والتفسير ضعيف، بسبب أنه انصرف بكليته إلى هذا العلم، ولذلك هذا علم يؤخذ منه بقدر ما يفهم به القرآن والسنة فقط.

ما هو المطلوب من اللغة العربية؟

المطلوب أن نفهم القرآن والسنة بواسطتها، ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها، وأنكر على أبي عبيد توسعه في ذلك، وقال: "هو يشغل عما هو أهم منه"، وتجد في بعض الكتب كلاماً تقرأه بالطول وبالعرض، وبالزاوية وبالمقلوب، ما هذا؟!

هذا النوع لا شك أنه مضيعة للوقت، فالذي فعل هذا، والذي يهتم به، والذي يريد أن يؤلف على منواله في أشياء قد يكون صرف عمره في شيء، ولكن ما هي الفائدة؟!

قال: ( ولهذا يُقال: إن العربية في الكلام كالملح في الطعام) أي: أنه يؤخذ منها ما يُصلح الكلام، فإذا زاد الملح في الطعام أفسده.

خذ من كل شيء شيئاً

وقال: (كذلك علم الحساب يحتاج منه إلى ما يُعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تُقسم بين المستحقين لها، والزائد على ذلك مما لا يُنتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان لا حاجة إليه، ويشغل عما هو أهم منه ).

في الغالب علم الرياضيات يفيد في علم المواريث، فمعرفة الكسور وتوحيد المقامات هذه مهمة في علم المواريث، فلا بد أن تعرف الثلث والربع والسدس والثلثان والثمن، والأنصبة التي جاءت في المواريث، فلو اكتشفنا لعلم الرياضيات تطبيقات معاصرة مفيدة في الأمور الدنيوية مثلاً، فهل نأخذ؟

الجواب: نعم. الآن من أهم الأشياء حتى لو أردت الجهاد في سبيل الله، مثلاً المعادلات التي تنبني عليها قضية المقذوفات، ومعرفة المواقع، وانطلاق القذيفة، وعندما تذهب بهذا الشكل القوسي إلى المكان، هذه مسألة مهمة جداً، يجب أن تعرف؛ لأن لها ارتباط واضح بقضية تفيد وتنفع المسلمين.

وهناك مثلاً الطب: فالرياضيات لها بعض التطبيقات الطبية، مثل: المعادلات التفاضلية لها علاقة بالتكاثر السكاني، أو تكاثر البكتيريا، أو انتشار مرض الإيدز، أو تلوث مياه البحر، هذه كلها قائمة على معادلات رياضية.

وكذلك أشعة الرنين المغناطيسي للتصوير المقطعي ثلاثي الأبعاد، هذا قائم على مسلسلات فوريير في الرياضيات القائم على نظرية التكامل والتفاضل وذهاب الأشعة وانطلاقها وتشعبها أو تفرقها أو تشتتها، واستخدام الرياضيات لعمل شفرات المعلومات التي تقي البريد الإلكتروني والمعلومات التي تذهب في البريد الإلكتروني.

فالمسلمون عندما اخترعوا الصفر -وكان غير معروف عند من قبلهم- كان ذلك اختراعاً عظيماً أدَّى إلى تطور كبير في العلوم، لكن هناك بعض الأشياء حتى في بعض علوم الرياضيات والطبعيات التي تُدّرس غير مفيدة؛ بل إنها مشغلة، وأقصى ما فيها لذة الذهن أحياناً.

بعض الأشياء تتعلق أحياناً بالعدد والزمرة والوحدة والفئات الخالية، والإغراق في نظريات المجموعات، والمنطق المشوش، فهذه الأشياء موجودة في الرياضيات الآن، ولكن دراستها لم يظهر فيها أشياء مفيدة، فدراستها والإغراق فيها عبارة عن ضياع وقت.

على أي حال، قد يقول ابن رجب رحمه الله كلاماً في الرياضيات أو في الحساب من قديم على أشياء معروفة في زمانهم، فالآن الأمور اختلفت.

فنقول ونحن في زماننا: ما كان مفيداً منها يُدرس وما لا فائدة فيه لا يُدرس، فهو إضاعة وقت، ولكن أحياناً الشخص قد يكون مكرهاً؛ لأن المنهج واحد، والامتحان سيأتي على جميع المنهج، وأنت مطالب بأن تدرس المنهج بما فيه مفيد أو غير مفيد، وهنا لا بد أن يكون المدرس حكيماً ومسئولاً، فمثلاً: التركيز على ما ينفع وعدم تشتيت أوقات الطلاب والحصص في أمور لا تفيد.

وبعض الناس -كما قلنا- يدرسون العلم للعلم، وليس من أجل الإستقادة منه، ويقولون: العلم للعلم، والثقافة للثقافة، وهذا شعار جاهلي مطلق؛ لأن الغربيين يدرسون كل شيء، عندهم، كل جانب من جوانب العلوم والمعرفة هذا جانب مقدس يجب أن يُدرس، فقد لا يكون مفيداً، ما الفائدة أن شخصاً يأخذ دكتوراه في اللغة الهيربروفية؟ أو لغة اندثرت من زمان ولم يعد أحد يستعملها الآن، ليكتشف بعض الأشياء التي يعلمونها في بعض الآثار، وعلوم الآثار.. يأتي ويذهب، وتركز الأضواء والأنوار والأشياء على استخراج شيء يؤخذ بعناية ويلف وتوضع له مواد تنظيف، وفي النهاية ما هي النتيجة؟

استخرجوا صنماً، ويعتبروا هذا اكتشافاً كبيراً وهائلاً وتنشر نشرات وإعلانات وسبق علمي وصحفي "استخراج صنم"، هذا أول شيء ينبغي أن يُكسر مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52] ولكن يقولون: هذا علم.

فبعض المتأثرين بالذين درسوا في الخارج أو المنهج الغربي عندهم مشكلة، وهي التي يشير لها ابن رجب حقاً وحقيقة في قضية الانشغال بالعلوم غير النافعة، بل منها علوم ضارة في هذا الزمان على البشرية.

قال: ( ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى: علم نافع وعلم غير نافع ) وهذا واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) فهناك علم ينفع وعلم لا ينفع، فهو استعاذ بالله من العلم الذي لا ينفع، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح أيضاً: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وأعوذ بك من علم لا ينفع) أخرجه ابن حبان والآجري، وإسناده حسن.

فالعلم الذي يضر ولا ينفع جهل، والجهل به خير من العلم به، هذا العلم الذي لا ينفع أو العلم الضار الجهل به أفضل من تعلمه ولا شك، وإذا كان الجهل به أفضل فيكون هو شر من الجهل، أي: أن تجهل أحسن من أن تتعلم هذا العلم، مثل: علم السحر -مثلاً- وهو العلم الضار، وقد يكون الضرر في الدين وقد يكون في الدنيا.

هناك آثار تنهى عن تعلم علم الأنساب، وهناك أحاديث معروفة تحث على تعلم علم الأنساب، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم) رواه الإمام أحمد وإسناده حسن.

فالمقصود هو تعلم الأنساب المفيدة في أشياء، مثل: صلة الأرحام، وتعلم الأنساب غير المفيدة ما يُفضي -مثلاً- إلى الفخر والخيلاء أو إضاعة الأوقات في تتبع السلالات وما شابه ذلك.

فأما ما ينفع فيُتعلم له، ولذلك جاء في بعض الآثار: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ثم انتهوا، وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله ثم انتهوا، وتعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا) إذاً: هناك علوم مفيدة إلى حد معين ودرجة معينة، وبعد ذلك يكون صرف الوقت فيما لا يفيد ضياعاً للوقت.

قال: ( وكان النخعي -رحمه الله- لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به )، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق]؛ لأن بعض النجوم مهم معرفتها كمسافر حتى لا يضل فيعرف الاتجاهات، وكمصلي يحتاج أن يعرف بعضها، مثل: تعيين القطب الشمالي لتعيين القبلة، فمعرفة القطب الشمالي وأين يوجد القطب الشمالي، وما هو القطب الشمالي، وما هو شكله مثلاً، وأن هذه العلامة مثل علامة الاستفهام أو الملعقة، لو أخذت طرفيها أو جهة الرأس النجم الأول والثاني ثم مددت خطاً بقدر ستة أميال ما بين النجمين سيكون في اتجاه، أو سيصلك إلى النجم القطبي الشمالي مثلاً، أو ما يسمونه بمجموعة الدب الأكبر والدب الأصغر للوصول إلى قضية تعيين القطب الشمالي، وهذا لا شك أن فيه فائدة.

ولكن هناك بعض العلوم المتعلقة بالنجوم حرام، وقد قال طاوس رحمه الله: [رب ناظرٍ في النجوم ومتعلم حروف (أبا جاد) ليس له عند الله خلاق] وهذا قد جاء أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه، وإسناده صحيح.

فعلم النجوم يقسمه العلماء إلى قسمين:

القسم الأول: علم التأثير.

القسم الثاني: علم التسيير.

وعلم التسيير: هو العلم الذي يتوصل به إلى معرفة الاتجاهات وهذا علم طيب، والله سبحانه وتعالى كما قال قتادة : [خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16].. لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:97]].

أما علم التأثير: فهو الربط بين النجوم والكواكب وحركة الأفلاك ومنازل القمر ... إلخ، وبين الحوادث الأرضية؛ بحيث يعتقد أنه إذا جاء النجم الفلاني في المكان الفلاني، أو طلع النجم الفلاني في المكان الفلاني.. ونحو ذلك فسوف يحدث كذا وكذا في الأرض، وأن هذا دليل على أن عظيماً قد ولد، وهذا دليل على أن عظيماً قد مات، وهذا يدل على أن كارثة وحرباً ستقع، وهذا كذا.

ومن هذا -أيضاً- قضية الأبراج المملوءة بها -الآن- المجلات وبعض السيارات من الجرائد.. وغيرها، فهذه مكتوب فيها بالنص، الربط بين أشياء متعلقة بولادة إنسان في برج معين، أو أمور متعلقة بظهور نجم أو أفلاك معينة، وبعض الناس يقول الآن: إذا ظهر النيزك الفلاني فيقع كذا وكذا في الأرض، فهذا حرام، وتعلمه حرام، ونشره حرام، وقراءته حرام حتى للتسلية، لأنه لا يجوز التسلي بقراءة الشرك.

وعن قبيصة: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت) ومثل هذا الأثر الذي معناه: "العيافة: هي زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وصفاتها، وما هي العلاقة بين ذهاب الطير يميناً أو شمالاً وبين حصول نحس أو شقاء في الأرض، أو حوادث في حياة الإنسان؟!

والطرق هو: الضرب بالحصى أو الخط بالرمل، أو ما يفعله بعض العجائز من رمي الودع، ثم الاستدلال بشكل الودع الذي قد ألقي على الأرض على أمرٍ معين في المستقبل مثلاً، أو حوادث معينة، ذلك كله حرام، وتعلمه حرام، وتعلم علم الفلك من هذه الجهة حرام، والعمل بمقتضاه كُفر.

فأما علم التسيير الذي يتوصل به ولمعرفة القبلة والطرق ومعالم الزراعة فهو جائز عند الجمهور، وما زاد فلا حاجة إليه، فقد لا يكون كفراً ولا شركاً بل مباحاً، لكن الإكثار منه مشغلة للوقت، وصرف فيما لا ينفع.

لفت الإمام أحمد رحمه الله النظر إلى مسألة، وهي: أن التدقيق في بعض ذلك ربما يؤدي إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم، مما يؤدي إلى اتهام أو اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم الفترة الماضية.

ولذلك قال: إنما ورد: (بين المشرق والمغرب قبلة) .

ولذلك نلاحظ أن بعض الدكاترة أو المتخصصين في أمور معينة تتعلق بالفلك مثلاً يأتي هؤلاء إلى المساجد -مسجد قديم مثلاً- ويقولون: هذا فيه انحراف ينبغي أن يحرف قليلاً، وكل صلاة الذين مضوا في المسجد خطأ، وهذا من العمى الفقهي.

فنقول: إن من صلى وهو يعتقد أن القبلة هكذا ولم يدرِ أن الاتجاه خطأ فصلاته صحيحه، فيأتي ويقول: هؤلاء صلاتهم كلها باطلة، ويغيرون الخطوط، ويحدثون البلبلة عند الناس، وهذه مسألة مشاهدة وواقعة، أما كوننا نستفيد من العلم الحديث في ضبط قبلة المساجد حتى ولو أشعة الليزر فلا بأس في ذلك، لكن أن نعمل ما يؤدي إلى اتهام الأولين في صحة صلاتهم فهذا غلو.

وقد يكون في الاشتغال ببعض هذه الأشياء فيه فساد عريض، ولا شك أن هناك الآن كتباً تطبع وتُشترى، وبعض الناس يسافرون ويأتون بها وفيها تعليم السحر والشعوذة، وتجد بعض الناس يشتري شمس المعارف ويفتح ويطبق ثم تظهر له أفاعي.. ونحو ذلك، ويقوم في الليل فزعاً؛ لأنه بدأ في الطريق ولم يُحسن!!

وقد جيء إلى بعض الأخيار بفتاة ليقرأ عليها، فلما قرأ عليها وسألها عم بها؟ قالت: إنني سافرت إلى البحرين واشتريت كتاباً وطبقت ما فيه، وبدأت الأشياء تتحرك، فأضع الشيء على المنضدة، أقرأ: الكلمات التي في الكتاب؛ فينحرف يميناً أو ينحرف شمالاً، وهناك -فعلاً- بعض الألعاب التي رُوجت وفيها أشياء من هذا القبيل، فيسألها لتجيب نعم أو لا، بعدما يقرأ أشياء ويتمتم بكلمات.. ونحو ذلك، فعندما ندمت الفتاة وبكت قالت: لكن المشكلة أنني علَّمت بنات الصف كلهن.

فالمهم أن هذا الضرب من الشعوذة وتحضير الجن والشياطين والكتب التي تتعلق بالسحر وترويجها لا شك أنها من أخطر الأشياء، وهذه قضية قائمة موجودة في الواقع، يجب على طلبة العلم الموحدين القيام لله تعالى لإنكار المنكر، ونصح العباد في هذه الأشياء.

وقد يكتشف الإنسان -أحياناً- بعض أقرب الناس إليه من يتعامل في مثل هذه الأمور، ويبيع مثل هذه الكتب، ويطبق بعض ما فيها.

والتوسع في علم الأنساب كما ضرب ابن رجب رحمه الله تعالى مثلاً في قضية العلوم المشغلة عما هو أهم منها، لكن إذا كان منها فائدة فتتعلم.

أحياناً يكون منها فوائد، مثلاً: حسان بن ثابت لما أراد أن يهجو المشركين، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: كيف سيخلص نسبه من بينهم؟ حتى لا يهجوهم هجاءً يشمل النبي صلى الله عليه وسلم، فـأبو بكر الصديق نسابة العرب تولى تعليم حسان في قضية الأنساب دقائق حتى قال: [أسلك كما تسل الشعرة من العجين] أي: يخلصه من بينهم بكلام لا يشمله، فيكون الهجاء لهم دونه، وهذا يحتاج إلى شيء من العلم بالأنساب، فإذا كان هناك حاجة له فيتعلم.

ثم إن تعلم بعض العلوم فرض كفاية، أي: إذا عرفها بعض الأمة فلا داعي أن يتعلم كل طالب علم، ونقول: لكل طالب علم: تعال وتعلم هذا العلم؛ لأن هذا خطأ أن كل طالب علم يضع في برنامجه وجدوله في طلب العلم أن يتعلم مثل هذا، بل يكفي أن يوجد في الأمة من يعلمه عند الحاجة ويدل عليه ويأتي بالمقصود.

كذلك مسألة التوسع في علم العربية لغةً ونحواً مما يُشغل عن العلم الأهم، وطرح هذا الكلام عند طلبة العلم ينبغي أن يُؤخذ بحجمه الصحيح، حتى لا ينفروا من اللغة العربية، مع أنهم من أضعف ما يكونون في اللغة العربية على مرَّ العصور إذا ما قورنت بالعصور السابقة، فما وصلنا إلى درجة أن عموم طلبة العلم قد أتقنوا اللغة العربية وبدءوا يتبحرون، وصرنا نخشى عليهم من التوسع والانشغال عن الأهم، وعن الفقه والحلال والحرام.. ونحو ذلك، فنقول لهم كفوا: لا. لكن لا يوجد بعض الناس عندهم حب للغة العربية بحيث إنهم ينصرفون إلى تعلم دقائق هذه اللغة بما يصرفهم عن الأهم وتعلم الحلال والحرام والتفسير والحديث ومعاني السنة. مثلاً: تجد دكتوراً نحوياً كبيراً لغوياً لكنه في الفقه والحديث والتفسير ضعيف، بسبب أنه انصرف بكليته إلى هذا العلم، ولذلك هذا علم يؤخذ منه بقدر ما يفهم به القرآن والسنة فقط.

ما هو المطلوب من اللغة العربية؟

المطلوب أن نفهم القرآن والسنة بواسطتها، ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها، وأنكر على أبي عبيد توسعه في ذلك، وقال: "هو يشغل عما هو أهم منه"، وتجد في بعض الكتب كلاماً تقرأه بالطول وبالعرض، وبالزاوية وبالمقلوب، ما هذا؟!

هذا النوع لا شك أنه مضيعة للوقت، فالذي فعل هذا، والذي يهتم به، والذي يريد أن يؤلف على منواله في أشياء قد يكون صرف عمره في شيء، ولكن ما هي الفائدة؟!

قال: ( ولهذا يُقال: إن العربية في الكلام كالملح في الطعام) أي: أنه يؤخذ منها ما يُصلح الكلام، فإذا زاد الملح في الطعام أفسده.

وقال: (كذلك علم الحساب يحتاج منه إلى ما يُعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تُقسم بين المستحقين لها، والزائد على ذلك مما لا يُنتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان لا حاجة إليه، ويشغل عما هو أهم منه ).

في الغالب علم الرياضيات يفيد في علم المواريث، فمعرفة الكسور وتوحيد المقامات هذه مهمة في علم المواريث، فلا بد أن تعرف الثلث والربع والسدس والثلثان والثمن، والأنصبة التي جاءت في المواريث، فلو اكتشفنا لعلم الرياضيات تطبيقات معاصرة مفيدة في الأمور الدنيوية مثلاً، فهل نأخذ؟

الجواب: نعم. الآن من أهم الأشياء حتى لو أردت الجهاد في سبيل الله، مثلاً المعادلات التي تنبني عليها قضية المقذوفات، ومعرفة المواقع، وانطلاق القذيفة، وعندما تذهب بهذا الشكل القوسي إلى المكان، هذه مسألة مهمة جداً، يجب أن تعرف؛ لأن لها ارتباط واضح بقضية تفيد وتنفع المسلمين.

وهناك مثلاً الطب: فالرياضيات لها بعض التطبيقات الطبية، مثل: المعادلات التفاضلية لها علاقة بالتكاثر السكاني، أو تكاثر البكتيريا، أو انتشار مرض الإيدز، أو تلوث مياه البحر، هذه كلها قائمة على معادلات رياضية.

وكذلك أشعة الرنين المغناطيسي للتصوير المقطعي ثلاثي الأبعاد، هذا قائم على مسلسلات فوريير في الرياضيات القائم على نظرية التكامل والتفاضل وذهاب الأشعة وانطلاقها وتشعبها أو تفرقها أو تشتتها، واستخدام الرياضيات لعمل شفرات المعلومات التي تقي البريد الإلكتروني والمعلومات التي تذهب في البريد الإلكتروني.

فالمسلمون عندما اخترعوا الصفر -وكان غير معروف عند من قبلهم- كان ذلك اختراعاً عظيماً أدَّى إلى تطور كبير في العلوم، لكن هناك بعض الأشياء حتى في بعض علوم الرياضيات والطبعيات التي تُدّرس غير مفيدة؛ بل إنها مشغلة، وأقصى ما فيها لذة الذهن أحياناً.

بعض الأشياء تتعلق أحياناً بالعدد والزمرة والوحدة والفئات الخالية، والإغراق في نظريات المجموعات، والمنطق المشوش، فهذه الأشياء موجودة في الرياضيات الآن، ولكن دراستها لم يظهر فيها أشياء مفيدة، فدراستها والإغراق فيها عبارة عن ضياع وقت.

على أي حال، قد يقول ابن رجب رحمه الله كلاماً في الرياضيات أو في الحساب من قديم على أشياء معروفة في زمانهم، فالآن الأمور اختلفت.

فنقول ونحن في زماننا: ما كان مفيداً منها يُدرس وما لا فائدة فيه لا يُدرس، فهو إضاعة وقت، ولكن أحياناً الشخص قد يكون مكرهاً؛ لأن المنهج واحد، والامتحان سيأتي على جميع المنهج، وأنت مطالب بأن تدرس المنهج بما فيه مفيد أو غير مفيد، وهنا لا بد أن يكون المدرس حكيماً ومسئولاً، فمثلاً: التركيز على ما ينفع وعدم تشتيت أوقات الطلاب والحصص في أمور لا تفيد.

وبعض الناس -كما قلنا- يدرسون العلم للعلم، وليس من أجل الإستقادة منه، ويقولون: العلم للعلم، والثقافة للثقافة، وهذا شعار جاهلي مطلق؛ لأن الغربيين يدرسون كل شيء، عندهم، كل جانب من جوانب العلوم والمعرفة هذا جانب مقدس يجب أن يُدرس، فقد لا يكون مفيداً، ما الفائدة أن شخصاً يأخذ دكتوراه في اللغة الهيربروفية؟ أو لغة اندثرت من زمان ولم يعد أحد يستعملها الآن، ليكتشف بعض الأشياء التي يعلمونها في بعض الآثار، وعلوم الآثار.. يأتي ويذهب، وتركز الأضواء والأنوار والأشياء على استخراج شيء يؤخذ بعناية ويلف وتوضع له مواد تنظيف، وفي النهاية ما هي النتيجة؟

استخرجوا صنماً، ويعتبروا هذا اكتشافاً كبيراً وهائلاً وتنشر نشرات وإعلانات وسبق علمي وصحفي "استخراج صنم"، هذا أول شيء ينبغي أن يُكسر مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52] ولكن يقولون: هذا علم.

فبعض المتأثرين بالذين درسوا في الخارج أو المنهج الغربي عندهم مشكلة، وهي التي يشير لها ابن رجب حقاً وحقيقة في قضية الانشغال بالعلوم غير النافعة، بل منها علوم ضارة في هذا الزمان على البشرية.