قاعدة في المحبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فالرسالة التي سنستعرض جزءاًً منها وإياكم في هذه الليلة هي رسالة عظيمة، لشيخ عظيم وهو شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وهذه الرسالة اعتنى بإخراجها وتحقيقها الشيخ: محمد بن رشاد بن محمد بن رفيق بن سالم رحمة الله تعالى عليه، والذي كان له نصيب وافر من الجهد في تحقيق كتب شيخ الإسلام رحمه الله، حتى إنه من أعظم إن لم يكن هو أعظم من قام بتحقيق رسائله تحقيقاً دقيقاً في هذا العصر.

يقول إنه وجد هذه الرسالة في عام [1975م] في مخطوطات كتب شيخ الإسلام رحمة الله تعالى في المكتبة الظاهرية بعنوان ( قاعدة في المحبة ) فصورها واحتفظ بها، ثم بعد .. ذلك قام بتحقيقها ونشرها، ومن الأدلة التي تثبت نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ما ذكره الحافظ ابن عبد الهادي في كتاب العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

يقول عن مؤلفاته وما تركه من آثار: "وقاعدة كبيرة في محبة الله للعبد ومحبة العبد لله، وهناك قاعدة أخرى هي قاعدة في وجود تقديم محبة الله تعالى ورسوله على النفس والمال والأهل، وله -أي: ابن تيمية رحمه الله تعالى- قاعدة بعنوان: ( أمراض القلوب وشفاؤها ) وهذه أيضاً غير رسالة التحفة العراقية في الأعمال القلبية " هذه من مؤلفات شيخ الإسلام رحمه الله، الشاهد أن هذه القاعدة ( قاعدة في المحبة) من الرسائل العظيمة التي ألفها رحمه الله.

مطلعها:

(بسم الله الرحمن الرحيم. على الله توكلي.

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد:

فهذه قاعدة عظيمة في المحبة وما يتعلق بها من جمع الإمام العلامة شيخ الإسلام بقية السلف الكرام، أبي العباس أحمد ابن الشيخ شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن تيمية ، رضي الله عنه وأرضاه.

والناسخ لهذه الرسالة يظهر أنه قد كان في القرن التاسع بحسب ما يظهر على المخطوطة قال رضي الله عنه: "فصل في الحب والبغض، والمحمود من ذلك والمذموم".

فالقاعدة هذه اشتملت على قواعد تفصيلية في المحبة، من المهم تدوين هذه القواعد واستيعابها، أول قاعدة ابتدأ بها رسالته قال:

" القاعدة الأولى: وأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة فهي أصل كل فعل ومبدؤه.

حتى إن الإنسان يتعاطى بعض المكروهات لأجل المحبة، فمثلاً يشرب الدواء المر، لأجل محبة الصحة والعافية.

وكذلك المؤمن يُحب رحمة الله ونجاته فيترك الهوى، وترك الهوى شيء ثقيل على النفس، لكن لأجل النجاة ومحبة الجنة وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] وقال: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه " لا يمكن أن يترك شيئاً يحبه إلا لشيء آخر يحبه، ولكن هذا الثاني أعظم وأكبر.

ولذلك ما ترك المحبوب الأول إلا لأجل محبوب أعظم منه، فيترك أضعفها لمحبة أقواهما.

وهذه قاعدة أخرى: فلا يترك الإنسان المحبة الأضعف لأجل المحبة الأقوى.

قال: " ولهذا كان رأس الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وكان من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان ".

بعد بيان أن المحبة والإرادة أصل كل حركة في العالم، فإنه لابد أن يُعلم أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة محمودة ومحبة مذمومة، وهنا قاعدة:

أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها هي عبادته وحده لا شريك له، من أي شيء تنبع المحبة؟ وأين توجد المحبة في عبادة الله وحده لا شريك له؟ فكلمة العبودية تنطوي على المحبة ولا شك.

ويكون أعظم أقسام المحبة المذمومة هي المحبة الشركية التي يُشرك فيها العبد مع الله عز وجل، فعبادة الله هي أصل السعادة، وعبادة غير الله هي أصل الشقاء، لأن عبادة الله تنتج محبة الله التي تشيع السعادة في النفس، وعبادة غير الله تنتج حب غير الله الذي يؤدي إلى الشقاء وتعاسة النفس.

فأهل التوحيد الذين أحبوا الله وعبدوه وحده لا شريك له لا يبقى منهم في العذاب أحد -في النهاية- حتى لو كان عندهم معاصي وحتى لو عذبوا في الآخرة لا يبقوا في العذاب ولابد أن يخرجوا.

والذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، وعبدوا غير الله، وهم أهل الشرك لا يخرج منهم من العذاب أحد، وكل ما في القرآن هو الأمر بمحبة الله ولوازمها، والنهي عن ضدها، وضرب الأمثال للنوعين وقصص أهل النوعين، فلا يمكن أ، يخرج ما في القرآن عن هذا.

لو قلت: القرآن يدور على أي شيء؟

نقول: يدور على محبة الله ولوازمها وضدها وأهل الفريقين -أهل الحب لله وأهل الحب لغير الله- وضرب الأمثال لهما وقصصهما، هذا هو القرآن، هذا التأمل مدخل في ربط العبودية والمحبة بما في القرآن العظيم.

الله هو الذي يحب لذاته

هل هناك شيء يحب من وجه ولا يُحب من وجه، وشيء يُحب من كل الوجوه؟

الجواب: نعم.

الشيء الذي يحب لذاته، ويحب من كل الوجوه هو شيء واحد، وهو الله عز وجل، وهذه قاعدة.

فتحبه لقضائه وقدره وصفاته وأفعاله، وتحبه لنعمه عليك وخلقه، فيُحب من كل الوجوه سبحانه وتعالى.

أنت قد تحب شخصاً لوجه وتبغضه من وجه، تُحب عملاً من أعماله، وتبغض عملاً من أعماله؛ تحب فيه خلقاً وتكره فيه آخر، لكن الذي يُحب من جميع الوجوه هو الله عز وجل، والذي يُحب لذاته محبة صحيحة هو الله عز وجل، وكل الأشياء الأخرى التي ليست محبتها لذاتها وإنما محبتها لغيرها، ولما توصل إليه.

والمؤمن يعبد الله سبحانه وتعالى، والكافر يعبد غير الله عز وجل، فالمؤمن يخضع لله ويحبه، ويخلع الأنداد ولا يحبها، والمشرك يحب غير الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] ولما آمن الخليل كفر بكل شيء يعبد من دون الله وأبغضه وقال : لا أحب الآفلين.

المحبة أصل كل حركة

يعيد تلخيص ما مضى فيقول: " كل متحرك فأصل حركته المحبة والإرادة، ولا صلاح للموجودات إلا أن يكون كمال محبتها وحركتها لله تعالى، كما أنه لا وجود لها إلا بخلق الله لها " فإذاً: لا صلاح للموجودات إلا بأن تُحب الله، وبكمال محبته تسعد وتستقر الأمور.

مبعث الأعمال والحركات شيء داخلي، والمحبة والإرادة وهي النية قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا يعم كل عمل وكل نية، فكل عمل في العالم بحسب نية صاحبة، وليس للعامل إلا ما نواه وقصده وأراده وأحبه بعمله، ليس في ذلك تخصيص ولا تقييد ".

وهذا رد على من يقيد: ( إنما الأعمال بالنيات ) بالنية الشرعية المأمور بها، فيحتاج هذا إلى أن يحصر الأعمال في الأعمال الشرعية، ولكن المسألة أعم من ذلك لأن النية موجودة في كل متحرك، وكل مخلوق يعقل ففيه نية، المخاليق التي تتحرك تنبعث من نياتها وإراداتها ومن محبتها.

قال: " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء الحارث والهمام) فالحارث: هو العامل، والهمام: هو القاصد المريد، وكل إنسان متحرك بإرادته حارث همام ".

أقسام الحركات عند الله

والمحبة والإرادة التي هي مبعث كل الحركات في العالم، تنقسم إلى شيء محبوب لله وغير محبوب لله، وكذلك الأعمال والحركات منها محبوب لله، ومنها غير محبوب لله، وإذا كان كذلك فالمحبة لها آثار وتوابع، سواء كانت محبة صالحة محمودة، أو كانت غير محمودة، فمثلاً لها حلاوة ولها أحزان.

والحي العاقل لا يختار أن يُحب ما يضره، وإذا فعل فإنما يكون ذلك عن جهل أو هوى، لأن النفس قد تهوى ما يضرها، بل كثيراً ما تهوى ما يضرها، وهذا من ظُلم النفس، وقد تكون جاهلة فتهوى شيئاً وتحبه وليس من مصلحتها، وقد يعمل الإنسان شيئاً نتيجة لاعتقاد فاسد من شبهة أو شهوة، علماً بأن الشهوة بحد ذاتها ليست مذمومة، فإن من الشهوات ما هو محمود ومنها ما هو مباح.

فمثلاً: القريب الذي يُحب لقاء قريبه ويشتهي ذلك ويهواه، فهذه المحبة في نفسه موافقة لما يريده الله، وهذا شيء محمود، لأن أصل صلة الرحم من اسمه سبحانه وتعالى، الرحم من الرحمة والرحمان.

فهذه الرحم التي خلقها الله سبحانه وتعالى وسماها باسم مشتق من اسمه، وسماها بشيء مشتق من صفته، وهي صفة الرحمة، فالله يحبها، فإذا الإنسان تابع هواه ومحبته في لقاء قريبه، يكون موافقاً لمحبة الله.

لكن حتى محبة الأقرباء إذا لم تضبط بضوابط الشرع قد تنقلب إلى محبة ضارة يبغضها الله، مثل من أحب بعض أولاده أكثر من بعض، فنتج عن ذلك أنه لم يساو بينهم في الأُعطيات، فجار بين الأولاد، وكذلك من دفعه محبته لأقربائه إلى محاباتهم على حساب أصحاب الحق، فأنت تسمع بعض العامة يقولون مثلاً: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، هذه قاعدة عندهم، فيقول: أنا مع الأقرب أسانده وأناصره وأعاضده ولو جار ولو ظلم، أدخل معه في هيشاته وأناصره على الغريب ولو كان الغريب محقاً.

فإذن قد تكون بعض الأشياء التي أصلها محمود مثل الاعتناء بالرحم، ولكن إذا لم تضبط بضوابط الشرع فإنها تؤدي إلى الجور، ولذلك يقول الله تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152] وكذلك الذي يحب الطعام والشراب والنساء -وأقصد بالشراب الأشربة المباحة- فإن هذا محمود، بل لا يصلح حال ابن آدم إلا بهذا، ولو أن الإنسان لا يأخذ حظه من طعام وشراب ونكاح فلن تستقيم النفس ولن تقوم الأنساب ولن توجد الذرية، ولكن هذه المحبة للطعام والشراب والنكاح لو لم تُضبط بضوابط الشرع فإنها تؤدي إلى مفاسد.

ولذلك قال الله في الضوابط: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] وقال الله في النكاح: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ [المؤمنون:7] تعدى النكاح والزواج وملك اليمين في شهوة الوطء والاستمتاع واللذة فإنه سيقع في الحرام فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المعارج:31] أي: الذين جاوزوا حدود العدل.

ومن الناس من تكون آراؤه واستحساناته موافقة للنصوص، كما عبر عن ذلك مجاهد رحمه الله بقوله: " أفضل العبادة الرأي الحسن، وهو اتباع السنة ".

فمن الناس من صلاحهم وقربهم من الله، وصلاح فطرتهم أن آرائهم موافقة للحق.

عمر رضي الله عنه كان يرى ويهوى تحريم الخمر بعقله، ورأيه أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يحجبن، ويفرض عليهن الحجاب، وكان يرى أن هذا هو الصحيح ونزل القرآن بموافقة آراء عمر رضي الله عنه؛ لأنه من قربه من ربه وسلامة فطرته وعقله أدرك أموراً يريدها الشرع ووافق ربه فيها.

وقد قال الله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ:6] ولذلك صاحب العقل السليم أحياناً يكون كافراً، ويتوصل بعقله إلى شيء موجود في الشرع، ولكن طبعاً أكثر من يحصل لهم ذلك هم علماء الإسلام، أهل الحق وأهل السنة، هؤلاء الذين تكون آراؤهم موافقة للحق، بحيث لو أن الواحد ما اطلع على الدليل يتوصل إلى النتيجة، ثم قد يطلع على الدليل فيحمد الله أن رأيه كان موافقاً للدليل.

بعكس أهل الأهواء الذين أهواؤهم مخالفة للحق، ولذلك كان أهل السنة يسمون أهل البدعة بأهل الأهواء؛ لأنهم يخالفون الحق، والرأي المخالف للسنة لابد أن يكون جهلاً وظلماً.

ما علاقة الهوى بمسألة المحبة؟

العلاقة واضحة جداً؛ لأن اتباع الهوى يكون في الحب والبغض، فالإنسان يبغض بهواه ويحب بهواه، وقد يبغض شخصاً ويحب شخصاً، قد يبغض رأياً ويحب رأياً، ويبغض منهجاً ويحب منهجاً، فالمسألة تعم، فهو يُحب الأشياء ويبغضها على حسب هواه، فإذا كان هواه موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان على الحق.

خضوع الكون لمشيئة الله

ثم أعاد التلخيص ليدخل في مسألة أخرى فقال رحمه الله: " ولما كانت كل حركة وعمل في العالم فأصلها المحبة والإرادة، وكل محبة وإرادة لا يكون أصلها محبة الله وإرادة وجهه فهي باطلة فاسدة، كان كل عمل لا يراد به وجهه باطلاً ...، وجميع الحركات الخارجة عن مقدور بني آدم والجن والبهائم فهي من عمل الملائكة ".

وكأنه يقول: إن كل حركة في العالم، مبعثها المحبة والإرادة، فنستطيع أن نفسر مثلاً حركات الجن والإنس والبهائم والملائكة أنهم يريدون تنفيذ ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به، فحركات الملائكة من جعل الرياح تهب والمطر ينزل ونحو ذلك؛ لأن هناك ملائكة موكلة بالمطر وملائكة موكلة بالسحاب، وملائكة موكلة بالريح، وملائكة موكلة بالجبال، وملائكة موكلة في أمور العالم التي لا علاقة ولا قدرة للجن والإنس والبهائم على التحكم فيها.

وهذه الأشياء المخلوقة التي تتحرك إنما تتحرك في العالم خضوعاً لله، ابتداءً من ذرات أجسامنا وانتهاءً بذرات الأفلاك والسماوات، فكل الكون تدور حركته خضوعاً لله سبحانه وتعالى، وعبودية له وقهراً، حتى كفار بني آدم لا يخرجون عن مشيئة الله وتدبيره، بأي شيء؟ بكلمات الله، وهذا معنى حديث قد لا يعرف معناه الكثير من الناس، وإذا مروا به قد يمروا به مروراً سريعاً دون أن يقفوا على معناه، الآن يتبين معناه: (أعوذ بكلمات الله التامات اللاتي لا يجاوزهن بر ولا فاجر).

فهذا الحديث ما معناه؟ أي: حتى الفجرة والكفرة يخضعون لكلمات الله التامات، ويُقهرون ويُذلون لأجل ذلك، وهذا من عموم ربوبيته وملكه سبحانه وتعالى أن أجساد الكفار وذرات أجسادهم منقادة له سبحانه وتعالى، وكل الحركات التي تسير في أجسامهم بقهر الله وتسخيره وأمره سبحانه وتعالى.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18] كثير من الناس الذين لا يسجدون لله طوعاً منقادين رغماً عنهم لله عز وجل: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] حتى ذرات أجساد الكفار؟

الجواب: حتى ذرات أجساد الكفار تسبح بحمد الله ومنقادة مقهورة ولا يستطيع الكافر أن يدرأ عن نفسه الموت، ولا يستطيع أن يوجد نفسه، وكثير من الأشياء اللاإرادية لا يستطيع أن يفعل فيها شيئاً، ولا أن يقاومها.

هل هناك شيء يحب من وجه ولا يُحب من وجه، وشيء يُحب من كل الوجوه؟

الجواب: نعم.

الشيء الذي يحب لذاته، ويحب من كل الوجوه هو شيء واحد، وهو الله عز وجل، وهذه قاعدة.

فتحبه لقضائه وقدره وصفاته وأفعاله، وتحبه لنعمه عليك وخلقه، فيُحب من كل الوجوه سبحانه وتعالى.

أنت قد تحب شخصاً لوجه وتبغضه من وجه، تُحب عملاً من أعماله، وتبغض عملاً من أعماله؛ تحب فيه خلقاً وتكره فيه آخر، لكن الذي يُحب من جميع الوجوه هو الله عز وجل، والذي يُحب لذاته محبة صحيحة هو الله عز وجل، وكل الأشياء الأخرى التي ليست محبتها لذاتها وإنما محبتها لغيرها، ولما توصل إليه.

والمؤمن يعبد الله سبحانه وتعالى، والكافر يعبد غير الله عز وجل، فالمؤمن يخضع لله ويحبه، ويخلع الأنداد ولا يحبها، والمشرك يحب غير الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] ولما آمن الخليل كفر بكل شيء يعبد من دون الله وأبغضه وقال : لا أحب الآفلين.

يعيد تلخيص ما مضى فيقول: " كل متحرك فأصل حركته المحبة والإرادة، ولا صلاح للموجودات إلا أن يكون كمال محبتها وحركتها لله تعالى، كما أنه لا وجود لها إلا بخلق الله لها " فإذاً: لا صلاح للموجودات إلا بأن تُحب الله، وبكمال محبته تسعد وتستقر الأمور.

مبعث الأعمال والحركات شيء داخلي، والمحبة والإرادة وهي النية قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا يعم كل عمل وكل نية، فكل عمل في العالم بحسب نية صاحبة، وليس للعامل إلا ما نواه وقصده وأراده وأحبه بعمله، ليس في ذلك تخصيص ولا تقييد ".

وهذا رد على من يقيد: ( إنما الأعمال بالنيات ) بالنية الشرعية المأمور بها، فيحتاج هذا إلى أن يحصر الأعمال في الأعمال الشرعية، ولكن المسألة أعم من ذلك لأن النية موجودة في كل متحرك، وكل مخلوق يعقل ففيه نية، المخاليق التي تتحرك تنبعث من نياتها وإراداتها ومن محبتها.

قال: " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء الحارث والهمام) فالحارث: هو العامل، والهمام: هو القاصد المريد، وكل إنسان متحرك بإرادته حارث همام ".

والمحبة والإرادة التي هي مبعث كل الحركات في العالم، تنقسم إلى شيء محبوب لله وغير محبوب لله، وكذلك الأعمال والحركات منها محبوب لله، ومنها غير محبوب لله، وإذا كان كذلك فالمحبة لها آثار وتوابع، سواء كانت محبة صالحة محمودة، أو كانت غير محمودة، فمثلاً لها حلاوة ولها أحزان.

والحي العاقل لا يختار أن يُحب ما يضره، وإذا فعل فإنما يكون ذلك عن جهل أو هوى، لأن النفس قد تهوى ما يضرها، بل كثيراً ما تهوى ما يضرها، وهذا من ظُلم النفس، وقد تكون جاهلة فتهوى شيئاً وتحبه وليس من مصلحتها، وقد يعمل الإنسان شيئاً نتيجة لاعتقاد فاسد من شبهة أو شهوة، علماً بأن الشهوة بحد ذاتها ليست مذمومة، فإن من الشهوات ما هو محمود ومنها ما هو مباح.

فمثلاً: القريب الذي يُحب لقاء قريبه ويشتهي ذلك ويهواه، فهذه المحبة في نفسه موافقة لما يريده الله، وهذا شيء محمود، لأن أصل صلة الرحم من اسمه سبحانه وتعالى، الرحم من الرحمة والرحمان.

فهذه الرحم التي خلقها الله سبحانه وتعالى وسماها باسم مشتق من اسمه، وسماها بشيء مشتق من صفته، وهي صفة الرحمة، فالله يحبها، فإذا الإنسان تابع هواه ومحبته في لقاء قريبه، يكون موافقاً لمحبة الله.

لكن حتى محبة الأقرباء إذا لم تضبط بضوابط الشرع قد تنقلب إلى محبة ضارة يبغضها الله، مثل من أحب بعض أولاده أكثر من بعض، فنتج عن ذلك أنه لم يساو بينهم في الأُعطيات، فجار بين الأولاد، وكذلك من دفعه محبته لأقربائه إلى محاباتهم على حساب أصحاب الحق، فأنت تسمع بعض العامة يقولون مثلاً: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، هذه قاعدة عندهم، فيقول: أنا مع الأقرب أسانده وأناصره وأعاضده ولو جار ولو ظلم، أدخل معه في هيشاته وأناصره على الغريب ولو كان الغريب محقاً.

فإذن قد تكون بعض الأشياء التي أصلها محمود مثل الاعتناء بالرحم، ولكن إذا لم تضبط بضوابط الشرع فإنها تؤدي إلى الجور، ولذلك يقول الله تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152] وكذلك الذي يحب الطعام والشراب والنساء -وأقصد بالشراب الأشربة المباحة- فإن هذا محمود، بل لا يصلح حال ابن آدم إلا بهذا، ولو أن الإنسان لا يأخذ حظه من طعام وشراب ونكاح فلن تستقيم النفس ولن تقوم الأنساب ولن توجد الذرية، ولكن هذه المحبة للطعام والشراب والنكاح لو لم تُضبط بضوابط الشرع فإنها تؤدي إلى مفاسد.

ولذلك قال الله في الضوابط: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] وقال الله في النكاح: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ [المؤمنون:7] تعدى النكاح والزواج وملك اليمين في شهوة الوطء والاستمتاع واللذة فإنه سيقع في الحرام فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المعارج:31] أي: الذين جاوزوا حدود العدل.

ومن الناس من تكون آراؤه واستحساناته موافقة للنصوص، كما عبر عن ذلك مجاهد رحمه الله بقوله: " أفضل العبادة الرأي الحسن، وهو اتباع السنة ".

فمن الناس من صلاحهم وقربهم من الله، وصلاح فطرتهم أن آرائهم موافقة للحق.

عمر رضي الله عنه كان يرى ويهوى تحريم الخمر بعقله، ورأيه أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يحجبن، ويفرض عليهن الحجاب، وكان يرى أن هذا هو الصحيح ونزل القرآن بموافقة آراء عمر رضي الله عنه؛ لأنه من قربه من ربه وسلامة فطرته وعقله أدرك أموراً يريدها الشرع ووافق ربه فيها.

وقد قال الله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ:6] ولذلك صاحب العقل السليم أحياناً يكون كافراً، ويتوصل بعقله إلى شيء موجود في الشرع، ولكن طبعاً أكثر من يحصل لهم ذلك هم علماء الإسلام، أهل الحق وأهل السنة، هؤلاء الذين تكون آراؤهم موافقة للحق، بحيث لو أن الواحد ما اطلع على الدليل يتوصل إلى النتيجة، ثم قد يطلع على الدليل فيحمد الله أن رأيه كان موافقاً للدليل.

بعكس أهل الأهواء الذين أهواؤهم مخالفة للحق، ولذلك كان أهل السنة يسمون أهل البدعة بأهل الأهواء؛ لأنهم يخالفون الحق، والرأي المخالف للسنة لابد أن يكون جهلاً وظلماً.

ما علاقة الهوى بمسألة المحبة؟

العلاقة واضحة جداً؛ لأن اتباع الهوى يكون في الحب والبغض، فالإنسان يبغض بهواه ويحب بهواه، وقد يبغض شخصاً ويحب شخصاً، قد يبغض رأياً ويحب رأياً، ويبغض منهجاً ويحب منهجاً، فالمسألة تعم، فهو يُحب الأشياء ويبغضها على حسب هواه، فإذا كان هواه موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان على الحق.

ثم أعاد التلخيص ليدخل في مسألة أخرى فقال رحمه الله: " ولما كانت كل حركة وعمل في العالم فأصلها المحبة والإرادة، وكل محبة وإرادة لا يكون أصلها محبة الله وإرادة وجهه فهي باطلة فاسدة، كان كل عمل لا يراد به وجهه باطلاً ...، وجميع الحركات الخارجة عن مقدور بني آدم والجن والبهائم فهي من عمل الملائكة ".

وكأنه يقول: إن كل حركة في العالم، مبعثها المحبة والإرادة، فنستطيع أن نفسر مثلاً حركات الجن والإنس والبهائم والملائكة أنهم يريدون تنفيذ ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به، فحركات الملائكة من جعل الرياح تهب والمطر ينزل ونحو ذلك؛ لأن هناك ملائكة موكلة بالمطر وملائكة موكلة بالسحاب، وملائكة موكلة بالريح، وملائكة موكلة بالجبال، وملائكة موكلة في أمور العالم التي لا علاقة ولا قدرة للجن والإنس والبهائم على التحكم فيها.

وهذه الأشياء المخلوقة التي تتحرك إنما تتحرك في العالم خضوعاً لله، ابتداءً من ذرات أجسامنا وانتهاءً بذرات الأفلاك والسماوات، فكل الكون تدور حركته خضوعاً لله سبحانه وتعالى، وعبودية له وقهراً، حتى كفار بني آدم لا يخرجون عن مشيئة الله وتدبيره، بأي شيء؟ بكلمات الله، وهذا معنى حديث قد لا يعرف معناه الكثير من الناس، وإذا مروا به قد يمروا به مروراً سريعاً دون أن يقفوا على معناه، الآن يتبين معناه: (أعوذ بكلمات الله التامات اللاتي لا يجاوزهن بر ولا فاجر).

فهذا الحديث ما معناه؟ أي: حتى الفجرة والكفرة يخضعون لكلمات الله التامات، ويُقهرون ويُذلون لأجل ذلك، وهذا من عموم ربوبيته وملكه سبحانه وتعالى أن أجساد الكفار وذرات أجسادهم منقادة له سبحانه وتعالى، وكل الحركات التي تسير في أجسامهم بقهر الله وتسخيره وأمره سبحانه وتعالى.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18] كثير من الناس الذين لا يسجدون لله طوعاً منقادين رغماً عنهم لله عز وجل: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] حتى ذرات أجساد الكفار؟

الجواب: حتى ذرات أجساد الكفار تسبح بحمد الله ومنقادة مقهورة ولا يستطيع الكافر أن يدرأ عن نفسه الموت، ولا يستطيع أن يوجد نفسه، وكثير من الأشياء اللاإرادية لا يستطيع أن يفعل فيها شيئاً، ولا أن يقاومها.

ويُلفت النظر إلى مسألة مهمة لدارسي الطب والفيزياء والعلوم الفلكية والعلوم الدنيوية، يقول:

" فأما كثير من الناس -وهم علماء الدنيا- وأهل الطباع المتفلسفة وغيرها؛ فيعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ويأخذون بظاهرٍ من القول) يرون ظاهر الحركات والأعمال التي للمخاليق وبعض أسبابها القريبة، وبعض حكمها وغايتها القريبة فيقولون: هذه علتها، كما يذكرون في وظائف الأعضاء في الطب، وفي تشريح الإنسان وأعضائه وحركاته، لماذا يحدث كذا؟ لأنه كذا وكذا.

لا يقولون لأنها مخلوقة لله ومربوبة للرب، وأنه هو الذي يحركها ويصرفها ويسخرها، بل يقولون: إن هذا يحدث لأن إشارات الدماغ تُرسل العضلات فيحدث كذا، فيرون السبب القريب والغاية القريبة، ويعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ولكن لا يقولون في كلامهم وفي كتبهم: تتحرك لأنها مربوبة للرب، ومقهورة ومذللة وخاضعة لله تعالى، ولأن هذا أمره، وهو الذي أمرها بأن تتحرك هكذا، ولماذا يسير الدم من هذا الاتجاه إلى هذا الاتجاه؟ لأن الله أمره بذلك وهو خاضع لأمر الله عز وجل.

هذا السبب الأصلي، لكن السبب الظاهر مثلاً لأن الضخ كذا، واتجاه الضخ من القلب، فالدم يسير باتجاه كذا ونحو ذلك، فهؤلاء علماء الدنيا ما تصل عقولهم لقضية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج:18].. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] ما تصل لهذا، يبقى فقط على مستوى الأسباب الدنيوية، تفسير الأمور بالأسباب الدنيوية.

لماذا وقع هذا النيزك؟ لماذا انفجر هذا النجم؟ لماذا حصل كذا؟ فيقولون: أسباب الحرارة والضغط، وتجاذب الكواكب والحركات ونحو ذلك، لكن لا يقول: لأن الله أمر بذلك، ولأن الله شاء ولأنه قدره، فلا يقولون ذلك ولا يأتون بهذه السيرة إطلاقاً، والمؤمن يؤمن بالأمرين معاً، يعرف السبب الطبعي ولكن يعرف أن وراء قوانين الطبيعة الله عز وجل، وأن كل شيء يسير بأمره، ولذلك النار التي تسبب الإحراق، إذا قال الله لها كوني برداً تكون برداً، وسلاماً فتكون سلاماً، وهكذا.

وتتخلف بعض القوانين عن العمل، لأن موجد القوانين هو الذي منعها من العمل، فالشمس تخرج كل يوم من المشرق إلى المغرب وتدور وتعود، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها كل يوم تستأذن من ربها أن تُشرق من المشرق وتذهب إلى المغرب.

فهل سمعت من علماء الطبيعة والفلك من يقول: إنها مأمورة بأمر الله وأنها تستأذن، لماذا تُشرق من المشرق؟ يقولون أي جواب دنيوي خطأ أو صح، لكن نحن نعرف لماذا تشرق؟ لأن الله أمرها بذلك واستأذنت وأذن لها، ويوم القيامة يكون أول علامات تغير العالم العلوي طلوع الشمس من مغربها، فتأتي تستأذن ربها أن تشرق من المشرق فلا يأذن لها فتعود وتخرج من المغرب، فكيف سيفسر ذلك علماء الفلك.

فإذن يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] ونحن لا ننكر السبب المادي، ولا نقول لا تقولوه، بل قولوه، ولكن ذكِّروا بالسبب الأصلي للشيء، واربطوه بخالقه ومسببه وموجده وآمره، فيقع الغلط من إضافة هذه الآثار العظيمة إلى مجرد قوة الجسم، ولا يعرف هؤلاء الحكمة، وأن ذلك من عبودية الأجسام والكائنات لله عز وجل.

لماذا يحدث المد والجزر؟

يقولون سبب متعلق بالقمر والجاذبية، لكنه لا يُذّكر إطلاقاً بأن من عبودية البحر لله هذه الحركة، وأنه شاء ذلك سبحانه، وأنه الآمر به، وأنه من خضوع البحر له ونحو ذلك.

لكن أهل العلم يضيفون جميع الحوادث -انظر الفرق بين العالم- المسلم الذي ينطلق من الدين، وبين الكافر الذي ينطلق من الطبيعة فقط، في إضافة جميع الحوادث إلى خلق الله ومشيئته وربوبيته، فهؤلاء أصح عقلاً من أولئك.

قال: " ومن يدخل في ذلك كل شيء حتى أفعال الحيوان فهو المصيب والموافق للسنة والعقل ".

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " ولهذا تجد هؤلاء إذا تكلموا في الحركات التي بين السماء والأرض، مثل حركة الرياح والسحاب والمطر وحدوث المطر، من الهواء الذي بين السماء والأرض تارة، ومن البخار المتصاعد من الأرض تارة ... وكما يخلق الولد في بطن أمه من المني، وكما يخلق الشجر من الحب والنوى، فإنهم يشهدون الأسباب المرئية ويتكلمون عنها، ويعرضون عن الخالق المسبب لذلك كله، وعما جاء في ذلك من عبادته وتسبيحه والسجود له كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116] الذي هو غاية حكمته ".

الآن ذكر في ثنايا الكلام استطراداً في قضية الرد على الملاحدة الذين يقولون كل شيء من الطبيعة، وهذا خلقته الطبيعة، وهذا خلق نفسه، والطبيعة خلقت نفسها، والكون خلق نفسه، وأن كل شيء مخلوق من مادته التي هو فيها، فضرب مثلاً بالشخص الذي يكتب بالحبر كلاماً، فيأتي واحد ويقول من الذي خلق الكلام؟ فيجيب: الحبر الذي خلق الكلام، من الذي كتب الكلام؟ الحبر الذي كتب الكلام.

فلو أن شخصاً رأى كلاماً مكتوباً بالحبر، وسأل من الذي كتبه؟ قيل: الحبر الذي كتبه، هل سيقبل هذا الجواب؟ لا.

فهذه مخلوقاته في أرضه وسماواته وكونها دالة على أنه خالقها سبحانه وتعالى:

وفي كل شيء له آيـة     تدل على أنه واحد

وهؤلاء يجعلون هذه الطبيعة هي العلة الفاعلة، أو هي الخالقة، وهذا طبعاً كفر، وهو أعظم أنواع الكفر.

الدين هو الأعمال الباطنية والظاهرة، فالآن سيتكلم رحمه الله تعالى عن قضية العلاقة بين المحبة والدين، فقد قال: " إن كل الحركات في العالم منشؤها المحبة والإرادة " وقسمنا المحبة وعرفنا العلاقة بين ما يحبه الله وما يبغضه الله إلى آخره.

المحبة والإرادة أصل كل دين، والدين هو مجموعة الأعمال الظاهرة والباطنة، والدين يُفسر أيضاً بأنه الطاعة الدائمة اللازمة التي صارت عادة وخلقاً، ولذلك فسر ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] قال: [وإنك لعلى دين عظيم] وفي اللغة بعض الشعراء يستعمل الدين بمعنى العادة، ومنه في اللغة بمعنى (الديدن) مأخوذ من الدين، والديدن هو العادة اللازمة، وديدن مأخوذ من دان مثل صلصل من صَلَّ، وكَبْكَبَ من كَبَّ، فهذا التشديد المفكوك.

قال: " واسم العبادة يتناول غاية الحب بغاية الذُل، وهكذا الدين الذي يدين به الناس في الباطن والظاهر لابد فيه من الحب والخضوع " وإذا كان بعض الناس يخضعون لأشخاص ولا يحبونهم كما يخضعون لبعض الظلمة، مثلاً: ظالم يتحكم فيهم ويتولى عليهم، فيخضعون له، هل يسمون محبين له؟ الجواب: لا، لأن المحبة ليست هي الخضوع فقط.

ولو جاء من قال: أنا أحب فلاناً أو أحب هذا الشيء لكن لا أخضع له، وأعمل على ما أريد، هل يكون محباً له؟ لا. هل يكون عابداً له؟ لا.

فالعبادة والدين تستلزم محبة وخضوعاً، وإذا كان كل عمل صادر عن محبة وإرادة، والعمل يتبع الحب والبغض، وبنوا آدم لا غنى لبعضهم عن بعض، ولابد أن يكونوا اجتماعيين يحتاج بعضهم إلى بعض، فلابد أن يكون هناك اشتراك في أشياء نتيجة معيشة الناس مع بعض، فلابد أن يشتركوا في محبة شيء عام وبغض شيء عام، وهذا هو الدين المشترك.

فالدين المشترك للناس المجتمعين، يكون فيه محبة أشياء وبُغض أشياء، بغض النظر عن هذا الدين ما هو بالضبط، ولكن الدين المشترك هو: وجود هؤلاء الأحياء أو هذه المخلوقات أو الناس المجتمعين يحبون شيئاً ويبغضون شيئاً، هذا هو الدين المشترك.

أما اختصاص كل واحد بمحبة، كمحبة ما يأكله ويشربه وينكحه وطلب ما يستره، فهذا يشتركون في نوعه لا في شخصه، أي: مثلاً هذا يحب الطعام هذا فيأكل منه، وهذا يحب الطعام هذا فيأكل منه، لو كان من جنس واحد كله كالأرز لكن ما يأكله هذا غير ما يأكله هذا، بل قالوا حتى في الهواء وحتى في المطر فالذي يصيب هذا غير الذي يصيب هذا، مع أنهم كلهم يحبون المطر ويحبون الهواء البارد العليل .. لكن ما يصيب هذا من الهواء غير ما يصيب هذا من الهواء ... وهكذا.

الدين هو التعاقد والتعاهد

المخاليق إذا احتاجوا إلى أمور يجب أن يوجبوها على أنفسهم، فيحرمون على أنفسهم ما يضرهم، ويوجبون على أنفسهم ما ينفعهم بعملية تُعرف بالتعاقد والتعاهد، وهذا يسمى الدين المشترك، والرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك بقوله: (لا دين لمن لا عهد له) فالدين المشترك بين جميع بني آدم هو التزام الواجبات والمحرمات بالوفاء بالعهد، وهذا قد يكون فيه منفعة، وقد يكون فيه مضرة، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] الدين المشترك الذي كان يحكم الناس في ذلك الوقت، ولما كان لابد لكل آدمي من اجتماع، ولابد في كل اجتماع من طاعة ودين، ترى حتى المجتمعات الكافرة بدون نظام لا يمكن أن يعيشوا، وبدون دين مشترك لا يمكن أن يعيشوا، فإذا وجدت دولة أو مجموعة من الناس موجودين في مكان أو في بلد أو في قرية، فاعلم أن بينهم ديناً مشتركاً، وأن هذا مبني على العقود والعهود الموجودة بينهم.

وأنه لا يمكن أن تستقيم حياتهم إلا بهذه العقود والعهود التي تحافظ على المنافع وتمنع المضار، ولو أتيت بكافر يمكن أن يقول هذا الكلام، وإذا علمنا هذا فهذا معلوم من الواقع.

كل دين لابد له من عقيدة وشريعة

إذا توصلنا إلى هذه النتيجة، فإن كل دين غير دين الله تعالى فهو باطل، ودين الله سبحانه وتعالى هو الوحيد الذي يكفل للناس حقوقهم، فإن الناس مهما اخترعوا في قضية الدين المشترك لا يمكن أن يحصلوا على السعادة الحقيقية.

ومسألة الدين المشترك قال فيها بعض الكفرة والفلاسفة: الناس لابد أن يعيشوا معاً، وإذن فلا يمكن أن تستقيم أمورهم إلا بجلب المنافع ودفع المضار، وهذا لابد أن يكون فيه عهود وعقود، فنعمل قوانين تضبط هذه الحالة، وتكلموا عن أشياء من ذلك كما كتب بعض الفلاسفة (المدينة الفاضلة) ووصفها ونحو ذلك، والكفار كذلك في عصرنا من خلال التجارب والسماعات والخبرات، والرصيد السابق عملوا قوانينهم التي تسير بلدانهم، فمثلاً قالوا:

لابد من توزيع الثروات والعدل في الرغبات، وعدم اعتداء البعض على البعض الآخر، فحتى ينضبط المجتمع نجعل قوانين تحل المشكلة، فالفكرة هذه التي تقوم عليها بالذات المجتمعات الغربية اليوم فكرة ليست جديدة، بل هي فكرة قديمة.

فمثلاً: حمورابي قد كتب وسن قوانين، وجنكيز خان ونحو ذلك، وهؤلاء هم أتباع الملوك المتفلسفة، فهؤلاء قد جعلوا قوانين بعضها فيه عدل فعلاً، فإذا ذهبت إلى بلدانهم تجد في بعضها عدل حقيقة، ولكن؟

لكن هل امتنع الشقاء؟

لا. الانتحار والجنون، والأمراض العصبية، والانهيارات النفسية موجودة؛ لأنه بقي شيء واحد لم يضعوه في قوانينهم؛ لأن القوانين قائمة على هوى.

لكن هناك شيء أساسي جداً ما عملوه، ألا وهو عبادة الله، ولا يمكن أن يستقيم حال الناس بالدين المشترك، إلا بأن يكون هناك دين سماوي إلهي يضبطه ويؤسسه، فيكون مؤسساً بناءً عليه، فإذن قلوب العباد إذا جمعتهم مع بعض ووضعت لهم قوانين قد تكف عنهم من الظلم، لكن لا يمكن أن تُوجد لهم سعادة ولا ضبط للأشياء، لأن القوانين قد يلعب عليها وقد تخترق، وقد يأتي بمحامي ماهر ويوجد له ثغرة في القانون، وأشياء كثيرة كما نجد، ثم مهما كان القوي يغلب الضعيف حتى في تلك البلاد التي فيها قوانين دقيقة جداً جداً فإن فيها ثغرات كثيرة.

لكن هناك شيء مهم جداً في نفوس العباد لم تحققه لهم القوانين، ما هو؟

عبادة الله عز وجل، لأن قلوب بني آدم لابد أن تحب إلهاً، وهي مفطورة على هذا، وأن تعبده ولذلك وجد عند هؤلاء الغربيين قيم روحية ينادون بها، واكتشفوا أن قوانينهم ولا تكفي لجلب السعادة إلى النفوس، فصار بعضهم يتجه إلى ديانات شرقية، ويتجهون إلى الكنيسة، وفي هذا إثبات واعتراف وإقرار بأن القوانين والدين المشترك لم تكفِ، ولا تصلح حياتهم ولا يدوم شمل الناس إطلاقاً إلا بأن يكون هناك تأله، يحتاجه الإنسان أكثر من حاجته للطعام والشراب والغذاء، وأن عدم الغذاء إذا كان يُفسد الجسم فإن فقد التأله يُفسد النفس ويتلفها، ويدمر القلب تدميراً.

وما الذي يمكن أن يُصلح النفس والقلب؟ هو التأله لله سبحانه وتعالى، وهي الفطرة التي فطر الله كل الناس عليها، لابد لهم من رب واحد يكونون خاضعين له، فيتألهونه ويعبدونه فتحصل لهم السعادة والاستقرار، وينضبط دينهم المشترك الذي تعبوا جداً في سن القوانين فيه، والله سبحانه وتعالى إذا خضعوا له فقد أنزل عليهم شريعة تحكم دينهم المشترك وتحكم دينهم الخاص، وبالتالي تحصل السعادة، هذه هي المسألة المهمة جداً التي ينبغي أن ننقد فيها الواقع الموجود بناءً عليها، وأنك تعرف من خلالها أن ما فعله الكفار من تنظيمات وأشياء وقوانين لم تجلب لهم السعادة، ولم يحصل لهم الاستقرار إطلاقاً.

ولو حصل في مجتمعهم فإنهم يظلمون غيرهم، وهذا ما يُفسر تسلط الدول الكبرى على دول العالم الثالث والدول الفقيرة لماذا؟ لأنهم لا يتعاملون بناءً على العبادة، وإلا لما ظلموا غيرهم، ولو وضعوا أشياء وقوانين فهي في بلادهم، وأما على غيرهم فالقوي يأكل الضعيف، وشريعة الغاب هي التي تسود لا القوانين ولا غيرها، وهذا ما يبين لنا أن كلاماً أو عبارة مثل: (النظام العالمي الجديد) كلام فارغ وتافه، لا يمكن عمله ولا القيام به؛ لأنه ليس مؤسساً على عبادة الله عز وجل، ولا على الدين الذي شرعه الله وهو دين الإسلام.

ما تشتمل عليه كل محبة

ولابد في كل دين وطاعة ومحبة من شيئين:

الأول: الدين المحبوب المطاع، وهو الشيء المقصود.

الثاني: نفس صورة العمل الذي تُطاع ويُعبد بها، وهي السبيل والطريق والشريعة والمنهاج والسبيل.

فإذن كل دين فيه غاية ووسيلة:

الغاية: هي الشيء المراد، أي: وجه مَنْ أردت بالعمل.

الوسيلة: صورة العمل التي يعبد بها ويراد بها الوجه، ويقصد بها السبيل والطريق والشريعة والمنهاج.

فهنا لابد أن يتحقق الأمران إذا أردت السلامة يا عبد الله! للنجاح في الجواب على سؤالين عظيمين يوم القيامة عن كل عمل عملته: لم وكيف؟ لم: هي قضية الغاية، وكيف: هي صورة العمل والوسيلة، كيف كانت؟ وبناءً على أي منهج؟ ومتابعة لأي شريعة؟ وهذا معنى قول الله عز وجل: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] قال الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص لله، والصواب موافقة السنة.

فهكذا يجمع الدين هذين الأمرين، المعبود والعبادة:

المعبود: هو الله وإخلاص القصد لله.

والعبادة: هي اتباع السنة والإتيان بالعمل على الصورة الصحيحة الموافقة للسنة.

وأصحاب الأديان قد يقولون لك: نحن نعبد الله، ولكن إذا جئت إلى الوسائل -إذا سلمنا أنهم فعلاً يعبدون الله- فهي تختلف ولذلك لنا شريعتنا ومنهاجنا ولهم شريعتهم ومنهاجهم، ولا يجوز لنا أن نوافقهم في ذلك، لكل جعلنا شريعة ومنهاجاً: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67].