نيران الدنيا [الاستدانة]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.

عباد الله: إن كثيراً من الناس قد خالفوا أمر الله ورسوله في إبراء ذممهم، وأتوا على أمر من الأمور الذي يقلق أنفسهم ويقض مضاجعهم، ألا وهو الاستدانة من الغير وأخذ القرض والسلف؛ حتى ركبت كثيراً منهم الديون، واجتمع عليهم من الهموم ما لا يذوقون معه طعماً للنوم ولا يهنئون بعيش.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من الاستدانة، الاستدانة التي لا يكون لها داعٍ وإنما يدفع إليها عدم القناعة والحرص على الاستكثار من الدنيا، والتوسع في الملذات الفانية، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لو كان لي مثل أحدٍ ذهباً ما يسرني ألا يمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين) كان اهتمامه بأمر وفاء الدين عظيماً.

إن الإنسان قد يضطر أحياناً للاستدانة، وإنه عليه الصلاة والسلام يقول: لو كان عندي مثل أحدٍ ذهباً لأنفقته في سبيل الله، لا يمر عليَّ ثلاث إلا أنفقت في سبيل الله ما عدا أمراً واحداً وهو إعداده لإيفاء الدين.

أيها المسلمون: ولقد حرصت الشريعة أيما حرص على حقوق العباد، فإن حقوق العباد عظيمة، والله قد يتسامح في حقوقه لكن حقوق العباد باقية، ولذلك فقد جاءت الشريعة بالأمر بقضاء الدين قبل الوصية، فلو مات الميت وعليه دين وقد أوصى بوصية ولأهل الميراث حقوق، فإن الدين يقدم على الوصية، وعلى ميراث الورثة، فيقضى الدين أولاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الدين قبل الوصية).

إن الذين يرهبون أنفسهم بالدين لا يعلمون المعنى الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بقوله: (لا تخيفوا أنفسكم بالدين) لأنه خوفٌ ومخافة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل من دعائه شيئاً يستعين به ربه على هذا الأمر، فكان يقول: (اللهم استر عورتي، وآمن روعتي، واقض عني ديني) وكان عليه الصلاة والسلام يقول أيضاً: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال) أما ضلع الدين: فهو غلبة الدين؛ لأنه يرهق صاحبه إرهاقاً، وضلع الدين: هو الذي لا يجد الدائن من يدينه، وكان يقول -أيضاً- في رواية: (اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين) بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو في الصلاة بقوله: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المأثم والمغرم! فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف) وانظر إلى حال هؤلاء الذين يركض أصحاب الديون وراءهم لأخذ الديون، ترى العجب في الكذب في الحديث وإخلاف الوعد، يعده مرات كثيرة ثم لا يوفي، لو قال له: لا أستطيع، أو ليس لدي مال لكان أهون، لكنه يعد ويخلف، ويعد ويخلف، ويعد ويتهرب وهو على هذا الحال.

والشريعة قد جعلت للدين إجراءات لحفظه وتوثيقه، فمن ذلك توثيقه بالكتابة لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282].

ثانياً: توثيقه بالشهادة لقوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282].

ثالثاً: توثيق الدين بالرهن لقوله تعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] فيرهن أرضه أو شيئاً عنده لأجل أن يوثق الدين لصاحب الدين.

رابعاً: توثيقه بالكفالة، كل هذه الإجراءات دالة على أن الشريعة تحفظ حقوق العباد، وأنها حريصة على عدم تضييعها.

إن الدين مذلة؛ لأنه قد يدخل صاحبه السجن فتسوء سمعته وسمعة أولاده وأهله بين الناس، وقد يحرج مع الديَّانة حتى يلجأ إلى الكذب وربما علمه لأولاده، فيقول: قل لهذا الطالب للدين الطارق للباب إن أبي غير موجود، وكذلك إذا اتصل به بالهاتف -مثلاً- يكذب ويعلم أولاده الكذب، وقد يحلف حراماً بالحرام، أو يطلق وهو حانث وكذاب، أو يضطر للتخفي ويتحرج من مواجهة الناس الذين يطالبونه فيتوارى عن الأنظار والمجالس، ويحرم المعيشة الطبيعية ومعاشرة الخلق، وربما ذهب الحياء منه وصار ليس في وجهه ماء، فمهما ألح عليه الديَّانة وطاردوه قابلهم بوجه صلف ونفس ليست بنفس طيبة، فيزول من حيائه ومن ماء وجهه ما الله به عليم، ويكفي وقوعه في بعض آيات المنافق (وإذا وعد أخلف) فهو كثيراً ما يعد فيخلف، وقد يضطر للوقوع في الربا ليس اضطراراً شرعياً وإنما نفسياً لا يجيزه له الله ولا رسوله، فيقترض من المرابين ليسدد بالزيادة ليفر من السجن، والسجن أهون وأحب للمؤمن من الاقتراض بالربا؛ لأنه إذا سجن وهو مغلوب على أمره كان السجن ابتلاء وكفارة، وإذا اقترض بالربا ليسدد الدين فهو ملعون؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله آكل الربا وموكله) والموكل: الذي يدفعه إلى المرابي، وقال: (الآخذ والمعطي سواء) فالسجن أحب إلى المؤمن من الاستلاف بالربا لو كانوا يعلمون، ولو كانوا يعقلون، ولكنهم قوم لا يفقهون، وربما استدان من مرابٍ ليوفي مرابياً آخر، وهكذا يزداد عليه الدين ويعظم حتى لا يكون له أملٌ في السداد مطلقاً في حياته.

يقول بعض السلف : لأن تلقى الله وعليك دَين ولك دِين -لأنك لم تدفع بالربا- خيرٌ من أن تلقاه وقد قضيت دَينك وذهب دِينك.

وهو مذلة لما فيه من شغل القلب والبال، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منة الناس بالتأخير إلى حين أوانه، وربما مات فصار مرتهناً بدينه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أن نفس المؤمن مرتهنةٌ بدينه، فهو محبوس مأسور حتى يوفى عنه دينه، وهو يجعل المستدين ذليلاً من جهة أنه يحس في قرارة نفسه أنه محتاجٌ إلى غيره، وقد يجر على نفسه تسلط غيره عليه، فإن كان الدائن الذي أعطاه لا يراعي حقوق الأخوة فقد يبدأ بالتدخل في شئونه الخاصة، وقد يتكلم فيما يؤذيه في أهله وولده ومسكنه، بل قد يتدخل في تجارته ومصروفه وراتبه، فيقول: بع كذا، ولا تشتر كذا، وارهن كذا، والمدين المسكين يحرج ولا يستطيع أن يخالف حتى وجهة نظر دائنه، وهو مذلة -أيضاً- لأنه سيسمع من الدائن كلاماً قاسياً ومن الناس كذلك، ويضطر إلى السكوت على مضض، وربما لا يجد جواباً، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: [رآني عمر وأنا متقنع، فقال: يا أبا خالد ! إن لقمان كان يقول: القناع بالليل ريبة، وبالنهار مذلة، فقلت: إن لقمان لم يكن عليه دين].

وقال عياض بن عبد الله : الدين راية الله في أرضه، فإذا أراد أن يذل عبداً جعلها طوقاً في عنقه.

ومن أمثالهم: لا هَمَّ إلا هَمُّ الدين، ولا وجع إلا وجع العين.

ويروى عن عمر أنه قال: [إياكم والدين فإن أوله هَمٌّ وآخره حرب].

وقال عمر بن عبد العزيز : " الدين وقر طالما حمله الكرام ".

ومن أمثالهم: الدين رق فلينظر أحدكم أين يضع رقه.

وساير بعضهم رجلاً وهو يحادثه وفجأة قطع الحديث واصفر لونه، فقال له الرجل: ما هذا الذي رأيت منك؟ فقال: رأيت غريماً لي من بعيد.

ونفَّس بعض المدينين عن نفسه بقوله:

ألا ليت النهار يعود ليلاً     فإن الصبح يأتي بالهموم

حوائج ما نطيق لها قضاءً     ولا دفعاً لروعات الغريم

الدين هم بالليل وذل بالنهار، نقول هذا الكلام -أيها الإخوة- لأننا نجد في الواقع من الأمراض الاجتماعية تساهل الناس بأمر الدين والاستدانة، نحن لا نعتب على الذين استدانوا اضطراراً فهذه ضرورة وحاجة، لكن الذين يشترون الكماليات التي لا يملكون قيمتها أو بعض قيمتها، فيصبح الاقتراض عندهم من أسهل الأمور، الدين سهل حلو عند أخذه في البداية، ولكنه حنظل مر عند حلول أجله والمطالبة به.

التبذير والإسراف من العادات القبيحة التي فشت بين الناس، وهم لا يرضون بأن يمدوا أرجلهم على قدر لحافهم ولكنهم يريدون أن يصلوا من لحاف غيرهم بلحاف أنفسهم حتى يمدوا أرجلهم أقصى ما يستطيعونه، ولو أنهم تعقلوا فأنفقوا على قدر طاقتهم واستطاعتهم ما حصل لهم هذا الخزي، والعجيب أنك ترى بعض هؤلاء يسكن بيتاً فخماً ويركب سيارةً فارهة، وربما وضع بها هاتفاً سياراً كل ذلك بالدين، ولعله لا يجد في جيبه ما يملأ به خزان وقود سيارته من أجل المظهر، حب المظاهر والشهرة، وحب الظهور أمام الخلق، والمراءاة، وحتى يقال عنه: صاحب كذا وله كذا، مرض والعياذ بالله، يجدد سيارته وليس عنده مال، ويشتري بالتقسيط ولا يقنع، وبعض البنوك تعطي بعض الناس مبالغ يقولون: هذه مليون ضارب بها، يعطونه إياها بالربا، فيعطون المجال لبعض الناس بأن يسلفوهم مالاً يركبه الدين والربا، وهذا الذي يريد المخاطرة والمجازفة وليس عنده دين يأخذه ليضارب به، ثم قد يكسب وقد يخسر، والدين والربا عليه باقيان.

وبعض الناس يستلفون من البنوك بالربا ليعملوا المشاريع، ويشتروا الأراضي ويقول: هذه أرض جيدة وليس عندي مال وفيها مربح، فيستلف من البنك على أمل أن يبيع الأرض بربح يسدد به الدين ويبقى له ربح ولا يعلم بأنه لم يبق له دين.

هؤلاء الجشعين الذين يريدون أن يتوسعوا في التجارات، وليس التوفيق حليفهم والله، ولا بركة لهم في مكاسبهم، يأخذون بالربا، وبعض الناس يتساهلون في الاستلاف من أموال اليتامى أو النساء، ويكون بعض النساء عندهن أموال من الوظائف والرواتب فيأخذها سلفاً ليضارب بها، ولو أنه أخذها إحساناً لأجر، ولكن توسعاً في الدنيا وجرياً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أحرج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة).

وبعض الناس يستلفون من أموال الأمانات والصدقات التي عندهم وهذا حرام، لا يجوز أن تأخذ من الأمانة، ولو أعطيت صدقة لا بد أن تؤديها إلى مستحقها؛ لأنك وكيل، أعطيت الصدقة فلا يجوز أن تأخذ منها شيئاً.

والمدينون ثلاثة أنواع:

أولاً: أن يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه سيوفي.

ثانياً: منهم من يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه يستحيل عليه أن يوفي.

ثالثاً: منهم من يستدين وهو لا يدري هل يستطيع الوفاء أم لا.

وأشدهم الأوسط الذي يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه لا يمكنه الوفاء.

والدين دينان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدين دينان: فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات وهو لا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته ليس يومئذٍ دينارٌ ولا درهم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه دين فليس ثَمَّ دينار ولا درهم ولكنها الحسنات والسيئات).

إذاً: من الناس من يستلف وهو ينوي الأداء، ومن الناس من يستلف وهو ينوي عدم الأداء، وهذه من المصائب الموجودة في الناس، وهي من أسباب العداوات، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحدٍ يدّان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه في الدنيا) ما من عبدٍ كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون.

من أخذ ديناً وهو يريد أن يؤديه أعانه الله، خصوصاً إذا احتاج إلى الاستلاف لكي يتزوج لإعفاف نفسه، لأنه يخشى على نفسه الوقوع في الحرام، أو اضطر إلى الاستدانة لإطعام أولاده وهو ينوي الأداء خالصاً لله وفياً لصاحبه، فالله يعينه ويكون معه: (إن الله تعالى مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن دينه فيما يكره الله).

هؤلاء الذين يتوسعون ويشترون بالأقساط، كثيرٌ من الذين يشترون بالأقساط في الحقيقة يجرون وراء الدنيا ليسوا بمحتاجين، وهذه الشركات التي فتحت أبوابها لإغراء الناس بالشراء بالأقساط -أيضاً- تتحمل جزءاً في ذلك، وقال النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً خطورة الذي يستدين وهو لا يريد الوفاء: (أيما رجل تدين ديناً وهو مجمع -أي: عازم- ألا يوفيه إياه لقي الله سارقاً) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) فهذا الذي يؤخذ من حسناته يوم القيامة وترمى عليه السيئات، هذا إنسان متساهل في الدين، يستدين بدون حاجة فيما يكره الله، هذا الذي لا يعينه الله، بل إنه يكون عليه وبالاً يوم القيامة، فالمسألة مسألة نية، ومن علاج الاندفاع للدين أمور:

منها: القناعة، فإنه لو قنع بحاله فرزقه الله القناعة بعيشه لم يتطلب أكثر، لكن الناس لا يقنعون، القناعة كنزٌ مفقود.

وثانياً: الزهد في الدنيا، فإنه لو علم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأن (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه) ملعونة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، حقيرة زائلة فانية، ما ركض وراء متاعها وركب الديون على ظهره.

وقد تكون الاستدانة لضرورة مثل علاج لا يملك قيمته، أو صاحب زواج يخشى على نفسه الحرام، لكن يشترط أن ينوي الوفاء عند الاستدانة، وأن يبحث بكل الوسائل من تجارات طيبة، واستثمارات، وأعمال إضافية حلال؛ ليخلص نفسه من رق الدين. ألم تعلم -يا عبد الله- أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر كفر الله عنك خطاياك إلا الدين، كذلك قال لي جبريل آنفاً) وقال عليه الصلاة والسلام: (أول ما يهراق من دم الشهيد يغفر له ذنبه كله إلا الدين) حديث صحيح.

(من فارق الروح جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر، والدين، والغلول) والغلول: السرقة من الغنيمة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (سبحان الله ما أنزل من التشديد في الدين! والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه) حديث حسن.

وقال صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه).

مات في عهد النبي عليه الصلاة والسلام رجل، قال جابر : (فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، فجاء معنا فتخطى خطاً ثم قال: لعل على صاحبكم ديناً؟ قالوا: نعم ديناران، فتخلف وقال: صلوا على صاحبكم، فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة : يا رسول الله! صل عليه وعلي دينه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لقيه عليه السلام من الغد -لقي أبا قتادة - فقال: ما صنعت الديناران؟ قال: يا رسول الله! إنما مات أمس، ثم لقيه من الغد، فقال ما فعل الديناران؟ قال: قد قضيتها يا رسول الله! قال: الآن حين بردت عليه جلده، أو الآن حين بردت عليه جلدته) لما قضي عليه الدين بردت عليه جلدته وهو في القبر.

وأخبر رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهماً، وترك عيالاً، قال: فأردت أن أنفقها على عياله، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخاك محبوس بدينه فاقض عنه) النبي صلى الله عليه وسلم رفض أن يصلي على من كان له دين لم يقضه، وهذا محمول على الذي استلف وهو متهاون لا يريد القضاء، أما من استلف وهو يريد القضاء ثم مات فالله يعينه، ويتكفل الله له بحسن نيته بأن يقضي عنه في الدنيا، ويبرئ ذمته بمحسنين أو بورثةٍ، أو أنه يعطي الدائن حسنات يوم القيامة نظراً لحسن نية المدين الذي استدان اضطراراً وهو يريد الوفاء، قال عليه الصلاة والسلام: (هاهنا أحدٌ من بني فلان؟ إن صاحبكم مأسورٌ بدينه عن الجنة، فإن شئتم فافدوه وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله) هذه النصيحة للورثة؛ إذا علموا أن على ميتهم ديناً أن يسارعوا إلى قضائه، الحقوق في الشريعة مكفولة، والله لا يضيع حقاً لعبد حتى الكفار غير المحاربين، الكفار حقوقهم باقية، ويجب أداء الديون لهم، ويجب إعطاء الناس حقهم.

اللهم إنا نسألك القناعة، اللهم إنا نسألك القناعة، اللهم قنعنا بما رزقتنا، اللهم اقض عنا ديوننا.

الحمد لله رب العالمين.

عباد الله: إن هذا البلاء الاجتماعي الذي أصبنا به وهو التوسع في الدنيا ولو بالديون أمرٌ خطير، إن من الناس من يجعل له أرصدة في الداخل أو في الخارج ثم يقترض بالربا ليتاجر ويقول: أخاطر بمال غيري ثم أدعي أنه ليس عندي شيء، وحتى النساء سمعنا فيما سمعنا أنه قد صار عندهن شراء الذهب بالدين والأقساط، شراء الذهب بالأقساط حرام لأنه فيه ربا، شراء الذهب يجب أن يكون يداً بيد، تسلم النقود وتشتري الذهب في نفس المجلس في الدكان أو المحل، ولا يجوز لك أن تستلم الذهب وتؤخر القضاء والسداد، والآن لطمعهن في الدنيا وقلة عقول الرجال معهن صار شراء الذهب بالأقساط من أجل التفاخر والتكاثر: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1].

والدين -يا عباد الله- منه ما هو دينٌ لله مثل الكفارات والنذور، وقضاء الصوم والزكاة، والحج من أعظم الديون التي في رقبة العبد لربه.

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم. حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك ديناً أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء).

إذا كان على الإنسان دين يستغرق ما عنده من المال -وقد طرحنا الموضوع لقربه من الحج، وسؤال بعض الناس عن مسألة الحج والديون- إذا كان على الإنسان دين يستغرق ما عنده من المال، فإنه لا يجب عليه الحج؛ لأنه في هذه الحالة ليس من أهل الاستطاعة ولا داخلاً في قول الله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] فعليه أن يوفي الدين أولاً.

وأما إذا كان الدين أقل مما عنده بحيث يتوفر عنده ما يحج به من بعد أداء الدين، فإنه يقضي الدين ويحج وجوباً حج الفريضة، وإذا كان مطالباً من أصحاب الدين فلا يجب عليه الحج إذا لم يكن عنده وفاء وهو مطالب، ولا يحج إلا بعد الوفاء ما لم يطالبوه، فإذا علم منهم التسامح وأذنوا له وقالوا: قد أجلناك، فإنه يجوز له الحج، وربما يكون الحج سبباً في قضاء دينه، ولا يلزمه الاستدانة ولو وجد من يسلفه، الذي ليس لديه مال لا يلزمه شرعاً أن يستدين للحج ولو وجد من يسلفه، ولو حج بمال غيره بأن أهداه له، أو تبرع له به، أو حج على نفقته، فحجه صحيح ولو كان حج فريضة.

والذين عليهم أقساط سيارات أو بيوت أخذوا قروضاً من صندوق التنمية ونحو ذلك، إذا كانوا منتظمين في التسديد، فإنه لا حرج عليهم في الحج، وكذلك إذا كانوا يملكون من المستحقات ما يكفي لتسديد ديونهم لو حصل لهم شيء من أمر الله فمات الشخص وعنده من التقاعد أو مكافأة نهاية الخدمة ونحو ذلك ما يسدد به، يكتب في الوصية ويذهب إلى الحج.

ومن حج بمالٍ اقترضه فحجه صحيح، لكن الأفضل والأولى ألا يفعل ذلك؛ لأن الله إنما أوجب الحج على من استطاع إليه سبيلاً، ولا يصلح أن تشغل ذمتك وتستدين، والله لم يوجب عليك أن تستدين، إذا كان الدين غير محدد القضاء لوقت معين، بل على التيسير، وأصحاب الدين متسامحون فلا بأس أن يذهب إلى الحج، وإذا طالبوا وشددوا وقالوا: هات المال، فيعطيهم المال ويخفف عن نفسه.

وبعض الناس -يا عباد الله- يعتقد أن الإنسان إذا كان عليه صيامٌ فإن حجه غير صحيح، وهذا غير صحيح، وبعضهم يعتقد أنه إذا لم تذبح عقيقة الشخص فلا حج له، وهذا غير صحيح -أيضاً- وهو من المعتقدات الخاطئة؛ لأن العامة عندهم معتقدات فقهية خاطئة، فالذي لم يعق عنه فحجه صحيح.

وأذكركم وأذكر نفسي في ختام هذه الخطبة، بأن الله سبحانه قد جعل للدين آداباً للمدين والدائن في الإقراض والاستقراض والأداء لا يمكن ذكرها الآن لقصر الوقت.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.


استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3615 استماع
التوسم والفراسة 3614 استماع
مجزرة بيت حانون 3544 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3500 استماع
اليهودية والإرهابي 3429 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3429 استماع
حتى يستجاب لك 3396 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3376 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3350 استماع
الزينة والجمال 3340 استماع