صفات الداعية


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلا هادي لـه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعــد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن الدعوة إلى الله عز وجل هي مهمة الأنبياء والمرسلين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] فالدعوة إلى الله جل وعلا، هي أعظم ميزة أو صفة يمكن أن يتميز بها الإنسان، وعلى مدى العصور السابقة كلها، كان الله عز وجل يقيض لهذه الدعوة من يحملها، من العلماء العادلين، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين} وقد جاء هذا الحديث من طرق عديدة، وحسنه بعض أهل العلم.

وفي هذا العصر الذي نعيش فيه؛ نسمع ونرى كثيراً من الناس، من العلماء والشباب وغيرهم، ممن يحملون هم الدعوة إلى الله عز وجل، ويصنفون أنفسهم في قائمة الدعاة إلى الله تعالى، ولا شك أن هذا الانتساب انتساب شريف، يجب أن نـزكيه بتصحيح هذه النسبة وتحقيقها، بحيث تكون اسماً على مسمى، ويكون المنتسب إليها جديراً بالتحلي بها وتمثيلها أمام الناس تمثيلاً صحيحاً، وكل خلق حميد يطلب من المسلم أن يتحلى به؛ فإنه مطلوب من الداعية -بصفة خاصة- أن يتحلى به، فحين نقول مثلاً: إنه مطلوب من كل مسلم أن يكون كريماً جواداً سمحاً؛ فمن باب أولى أن يكون الداعية كذلك، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أكمل خصال الكرم والجود، فكان جواداً في ماله وعلمه وجاهه، لا يُسأل صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أعطاه إياه، حتى إنه يعطي غنماً بين جبلين، ويعطي مائة من الإبل، وكان الرجل يذهب إلى قومه ويقول: يا قوم أسلموا، فوالله لقد جئتكم من عند رجل يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

إذاً فكل خصلة طيبة مطلوبة في المسلم؛ فهي مطلوبة في الداعية من باب الأولى.

والكلام على الخصال والأخلاق الحميدة المطلوبة من المسلم أمر يطول، لكنني سأقف الآن على بعض الخصال المطلوبة من الداعية بصفة خاصة، وهي خصال معينة لا بد أن يتنبه لها الداعية أكثر من غيره؛ لأن فقدها في الداعي قد يجعل النتائج عكسية، ويجعله بدلاً أن يكون داعية إلى الله، يقول للناس: هلموا إلى الله والدار الآخرة، يجعله يحذر الناس من سلوك هذا الطريق بفعله وواقعه، وإن كان يدعوهن إليه بلسانه وقوله!

أول خصلة لا بد من الإشادة بها هي: الإخلاص لله جل وعلا.

ولذلك يقول الله تعالى:قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] فالدعوة إلى الله عبادة، وكل عبادة لابد فيها من الإخلاص، قال الله جل وعلا: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].

معنى الإخلاص

والإخلاص معناه: أن يقصد الإنسان في عمله وجه الله تبارك وتعالى والدار الآخرة، فلا يقصد من وراء دعوته طمعاً دنيوياً، ولا يقصد من دعوته سمعة ولا جاهاً ولا منصباً، ولا لفت أنظار الناس إليه وتكثير الأتباع، وغير ذلك من المقاصد الدنيوية، التي قد تخطر في بال الداعية إلى الله جل وعلا.

وقد يقول القائل: وماذا يقصد الداعية إلى الله إلا الإخلاص ورجاء ما عند الله؟! فأقول: كلا! فلا نظن أبداً أن الخطر الوحيد الذي يهدد الداعية، هو أن يكون قاصداً للدنيا وقاصداً للمال، هذا خطر، ولكن هناك ما هو أشد خطورة منه، فإن كثيراً من الناس ربما يكون الحصول على الثناء الحسن والمديح من الناس؛ أغلى عنده من الذهب والفضة، ومستعد أن يضحي بالأموال الطائلة من أجل السمعة الحسنة.

فالداعية قد يكون مهدداً بأن يكون قصده كسب ثناء الناس ومديحهم.

وهناك مقصد آخر قد يلقي به الشيطان في نفس الداعية، وهو تكثير الأتباع، والتكاثر بالأتباع، وكثيراً ما كان بعض الناس يفتخر بأنه يحضر مجلسه ألف أو ألفان من الناس! ويحضر درسه المئات أو الآلاف من الطلاب! ويحضر خطبته جماهير غفيرة تكتظ بهم المقاعد والمواقع! فينبغي أن يتنبه الداعية إلى أن يكون دافعه إلى الدعوة هو ابتغاء ما عند الله تعالى، لا أكثر من ذلك ولا غير، لا يريد دنيا ولا منصباً، ولا مكانة عند الناس، ولا مديحاً منهم، ولا تكثيراً للأتباع والتفاخر بذلك، بل هو يقصد أن يقوم بمهمة، يشعر بأن الله تعالى أو جبها عليه وألزمه بها، فهو أجير ينفذ ما أمره الله تعالى به.

ولا شك أن الداعية يفرح بكثرة من يستجيب له، وهذا أمر طبيعي، ويحزن حين يرى إعراض الناس، لكن انظر؛ هل أنت تفرح بكثرة الناس حول داعية آخر؟ إن كان كذلك فحسن، وهذا يدل على الإخلاص، أما إن كنت تحزن، وتتمنى أن يكون حضورهم عندك وقبولهم لك، وإنصاتهم لما تقول وسماعهم لما تأمر، فحينئذٍ عليك أن تتهم نيتك، وتسارع إلى تجديد قصدك، قبل أن يفوت الفوت ولا ينفع حينئذٍ ندم.

والإخلاص لابد منه -كذلك- في العلم والتعليم، وهو جزء لا يتجزأ من الدعوة، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم وغيرهما بسند على شرط الشيخين -كما يقول الحاكم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله يريد به عرضاً الدنيا، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} وفي الحديث الآخر، من حديث أبي هريرة، في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أول من تسعر بهم النار، وهم ثلاثة منهم: {رجل عالم قارئ جيء به، فعرفه الله جل وعلا نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم وعلمته} هذا رجل كان في الدنيا علماً يشار إليه بالبنان، وهو أيضاً ممن لم يكتم علمه، بل علمه وبذله في المساجد والمداس والحلق وغيرها، {فقال: يا رب، تعلمت فيك العلم وعلمته. قال الله جل وعلا: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو قارئ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجه وألقي في النار}.

فينبغي على الداعية أن يصحح مقصده، ولذلك قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108][يوسف:108] فجعل أول شرط من شروط الداعية: أن تكون دعوته إلى الله.

هل تعلم أن الإنسان -أحياناً- يدعو إلى نفسه؟

ويعجبني في هذا المقام أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، كان يمشي يوماً في المسجد الحرام، فمر برجل يقص -والقُصَّاص نوع من الوعاظ، كانوا يجلسون فيتحدثون ويذكرون القصص، فيلتف الناس حولهم- فقال رجل لـعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، أتدري ما يقول هذا؟

قال: نعم، يقول: انظروا إلىَّ انظروا إلىَّ. فابن عمر لا يعنيه ما يقول هذا القاص، قد يكون يتلو آية أو حديثاً، أو يقرر حكماً شرعياً، أو يقول كلاماً ليس خطأ، لكن ابن عمر رضى الله عنه، شعر من حال هذا القاص وصفته وهيأته، أن حاله أقرب إلى الرياء منها إلى الإخلاص، فقال: إن هذا القاص يقول: انظروا إلي انظروا إلي، كأن القضية قضية إثبات وجود.

فالأمر خطير ومصيبة؛ أن يصبح الداعية -أحياناً- مثل الشمعة التي تضيء للناس وتحرق نفسها، قد ينتفع الناس بعلمك ودعوتك، ويدخلون بذلك الجنة، ويكون سبباً لدخول صاحبه النار، أي أن هذا العلم الذي استنار الناس به ودخلوا به الجنة، قد يدخل به صاحبه النار؛ لأن الناس أخذوه بصدق وجد وعملوا به؛ فدخلوا الجنة، وصاحبه أخذه برياء أو سمعة فدخل به النار.

وحين نقول: الداعي إلى الله، نقصد كل من يدعو إلى الله في أمر عظيم أو يسير، لأن الدعوة ليست حكراً على طبقة معينة، أو على طائفة معينة، فكل إنسان يعلم شيئاً من الخير؛ يجب أن يدعو إليه بقدر ما يستطيع- فيا أيها الداعي إلى الله، صحح نيتك فيما تعمل وتدعو إليه، حتى يكون عملك لك لا عليك.

والإخلاص معناه: أن يقصد الإنسان في عمله وجه الله تبارك وتعالى والدار الآخرة، فلا يقصد من وراء دعوته طمعاً دنيوياً، ولا يقصد من دعوته سمعة ولا جاهاً ولا منصباً، ولا لفت أنظار الناس إليه وتكثير الأتباع، وغير ذلك من المقاصد الدنيوية، التي قد تخطر في بال الداعية إلى الله جل وعلا.

وقد يقول القائل: وماذا يقصد الداعية إلى الله إلا الإخلاص ورجاء ما عند الله؟! فأقول: كلا! فلا نظن أبداً أن الخطر الوحيد الذي يهدد الداعية، هو أن يكون قاصداً للدنيا وقاصداً للمال، هذا خطر، ولكن هناك ما هو أشد خطورة منه، فإن كثيراً من الناس ربما يكون الحصول على الثناء الحسن والمديح من الناس؛ أغلى عنده من الذهب والفضة، ومستعد أن يضحي بالأموال الطائلة من أجل السمعة الحسنة.

فالداعية قد يكون مهدداً بأن يكون قصده كسب ثناء الناس ومديحهم.

وهناك مقصد آخر قد يلقي به الشيطان في نفس الداعية، وهو تكثير الأتباع، والتكاثر بالأتباع، وكثيراً ما كان بعض الناس يفتخر بأنه يحضر مجلسه ألف أو ألفان من الناس! ويحضر درسه المئات أو الآلاف من الطلاب! ويحضر خطبته جماهير غفيرة تكتظ بهم المقاعد والمواقع! فينبغي أن يتنبه الداعية إلى أن يكون دافعه إلى الدعوة هو ابتغاء ما عند الله تعالى، لا أكثر من ذلك ولا غير، لا يريد دنيا ولا منصباً، ولا مكانة عند الناس، ولا مديحاً منهم، ولا تكثيراً للأتباع والتفاخر بذلك، بل هو يقصد أن يقوم بمهمة، يشعر بأن الله تعالى أو جبها عليه وألزمه بها، فهو أجير ينفذ ما أمره الله تعالى به.

ولا شك أن الداعية يفرح بكثرة من يستجيب له، وهذا أمر طبيعي، ويحزن حين يرى إعراض الناس، لكن انظر؛ هل أنت تفرح بكثرة الناس حول داعية آخر؟ إن كان كذلك فحسن، وهذا يدل على الإخلاص، أما إن كنت تحزن، وتتمنى أن يكون حضورهم عندك وقبولهم لك، وإنصاتهم لما تقول وسماعهم لما تأمر، فحينئذٍ عليك أن تتهم نيتك، وتسارع إلى تجديد قصدك، قبل أن يفوت الفوت ولا ينفع حينئذٍ ندم.

والإخلاص لابد منه -كذلك- في العلم والتعليم، وهو جزء لا يتجزأ من الدعوة، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم وغيرهما بسند على شرط الشيخين -كما يقول الحاكم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله يريد به عرضاً الدنيا، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} وفي الحديث الآخر، من حديث أبي هريرة، في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أول من تسعر بهم النار، وهم ثلاثة منهم: {رجل عالم قارئ جيء به، فعرفه الله جل وعلا نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم وعلمته} هذا رجل كان في الدنيا علماً يشار إليه بالبنان، وهو أيضاً ممن لم يكتم علمه، بل علمه وبذله في المساجد والمداس والحلق وغيرها، {فقال: يا رب، تعلمت فيك العلم وعلمته. قال الله جل وعلا: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو قارئ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجه وألقي في النار}.

فينبغي على الداعية أن يصحح مقصده، ولذلك قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108][يوسف:108] فجعل أول شرط من شروط الداعية: أن تكون دعوته إلى الله.

هل تعلم أن الإنسان -أحياناً- يدعو إلى نفسه؟

ويعجبني في هذا المقام أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، كان يمشي يوماً في المسجد الحرام، فمر برجل يقص -والقُصَّاص نوع من الوعاظ، كانوا يجلسون فيتحدثون ويذكرون القصص، فيلتف الناس حولهم- فقال رجل لـعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، أتدري ما يقول هذا؟

قال: نعم، يقول: انظروا إلىَّ انظروا إلىَّ. فابن عمر لا يعنيه ما يقول هذا القاص، قد يكون يتلو آية أو حديثاً، أو يقرر حكماً شرعياً، أو يقول كلاماً ليس خطأ، لكن ابن عمر رضى الله عنه، شعر من حال هذا القاص وصفته وهيأته، أن حاله أقرب إلى الرياء منها إلى الإخلاص، فقال: إن هذا القاص يقول: انظروا إلي انظروا إلي، كأن القضية قضية إثبات وجود.

فالأمر خطير ومصيبة؛ أن يصبح الداعية -أحياناً- مثل الشمعة التي تضيء للناس وتحرق نفسها، قد ينتفع الناس بعلمك ودعوتك، ويدخلون بذلك الجنة، ويكون سبباً لدخول صاحبه النار، أي أن هذا العلم الذي استنار الناس به ودخلوا به الجنة، قد يدخل به صاحبه النار؛ لأن الناس أخذوه بصدق وجد وعملوا به؛ فدخلوا الجنة، وصاحبه أخذه برياء أو سمعة فدخل به النار.

وحين نقول: الداعي إلى الله، نقصد كل من يدعو إلى الله في أمر عظيم أو يسير، لأن الدعوة ليست حكراً على طبقة معينة، أو على طائفة معينة، فكل إنسان يعلم شيئاً من الخير؛ يجب أن يدعو إليه بقدر ما يستطيع- فيا أيها الداعي إلى الله، صحح نيتك فيما تعمل وتدعو إليه، حتى يكون عملك لك لا عليك.

الشرط الثاني أو الصفة الثانية من صفات الداعية -بعد أن يتحقق عنده الإخلاص-: أن ينطلق ليتعلم حدود ما أنـزل الله على رسوله.

اسمع ماذا يقول الله جل وعلا: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] الاهتمام بالدعوة، هو مهمة طائفة من الناس من المؤمنين يتخصصون لهذا الأمر، لإنذار قومهم، فينفروا في طلب العلم فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122] فينبغي لطائفة الدعاة إلى الله تعالى، أن ينفروا للتفقه في الدين، فلا بد من العلم بجميع أنواعه وألوانه، والعلم ليس علم اللسان فقط، بل علم اللسان وعلم القلب، علم القلب الذي يورث الخشية من الله عز وجل، والخوف منه، والعمل الصالح، ولذلك يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: عالم عامل معلم، يدعى كبيراً في ملكوت السماوات.

أنواع الناس في العلم والعمل

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته أنواع الناس وطبقاتهم، ففي حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً} انظر هذا المثل النبوي، فالإسلام أصوله وفروعه مثل المطر الذي نـزل على أرض، والأرض ليست سواء، والبقاع تختلف، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأرض أنواعاً، ذكر منها طائفة طيبة قبلت الماء، إذ هي أرض خصبة عندما نـزل الماء عليها شربته وقبلته؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فهذا مثل للإنسان الذي تعلم العلم وشربه وامتلأ به قلبه، وخشعت به جوارحه؛ فأثمر العمل والدعوة والصدق والإخلاص، هذه طائفة، وهذا هو ما يجب أن يكون عليه الداعية.

وهناك أرض أخرى عندما نـزل عليها المطر كانت أرضاً تمسك الماء لكن لا تنبت الكلأ والعشب، فنفع الله بها الناس حيث شربوا منها وسقوا وزرعوا، فهذا مثل إنسان تعلم العلم وحفظه، لكن لم يستفد منه الفائدة المطلوبة، فالناس ينتفعون بما عنده من العلم لكن هو لم ينتفع، فهو مثل الأرض التي حفظت الماء، لكن ما شربت الماء ولا أنبتت العشب.

القسم الثالث أو الطائفة الثالثة: أرض قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، إذا ما جاءها ماء شربته ثم لم تنبت شيئاً، فلا هي أمسكت الماء لينتفع به الناس، ولا هي عندما شربت الماء أنبتت العشب، فما استفاد الناس منها لا عشباً كلأً ولا ماءً تحفظه، فهذا مثل إنسان لا تعلم ولا عمل ولا دعا.

فانظر يا عبد الله، في أي هذا الطبقات أو الطوائف أنت، ولا شك أن الجدير بكل داعية؛ أن يجعل نفسه من الطبقة الأولى، التي انتفعت بما أنـزل الله على رسوله من الهدى والعلم، فعلمت وعملت ودعت إلى ذلك. ولذلك نجد في الآية الكريمة التي تلوتها شرط البصيرة أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] فلابد من البصيرة فيما تدعو إليه.

طلب العلم يحفظ الداعية من الانحراف العقدي

إن طلب العلم الشرعي الصحيح، هو ضمانة تحفظ الدعية بإذن الله عز وجل من ألوان الانحراف، وإن من ألوان الانحراف الذي قد يقع للداعية: الانحراف في معتقده، ونحن نجد على مدار التاريخ؛ أن هناك دعاة لكن إلى ضلاله، ومن أمثلة ذلك: انحراف الخوارج، الذين كانوا يكفرون المسلم بالمعصية، ويقابله انحراف المرجئة، الذين كانوا يقولون: كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، كذلك لا يضر مع الإيمان معصية، وكلاهما غلوّ وانحراف، ونحن نجد حتى في واقع الدعاة في هذا العصر، في بعض البلاد الإسلامية، هذا الانحراف أو ذاك موجود، والسبب هو فقدان العلم الشرعي، فتكون علوم الإنسان في الدعوة، مبنية على اجتهاد شخصي وعلى ميزاته، فإذا وُجد إنسان حاد المزاج، حاد الطبع شديد الانفعال قوي الغيرة، ثم شاهد الانحرافات والمعاصي والأخطاء، قام وقال: هؤلاء الناس فيهم وفيهم، وربما أطلق عليهم ألفاظ الكفر دون تبصر أو تثبت، فهذا انحراف، فما الذي يعصم الإنسان من الوقوع في هذا الانحراف؟ يعصمه بإذن الله جل وعلا العلم، فالعلم نور في قلب الإنسان.

كذلك الانحراف في الوقوع في التجهم أو الاعتزال أو التأويل أو التحريف أو التبديل، إنما العاصم من ذلك -بإذن الله جل وعل- هو العلم الشرعي.

العلم الشرعي يعصم الداعية من الانحراف السلوكي

كذلك العلم الشرعي يعصم صاحبه من الانحراف السلوكي، وقد تجد بعض الدعاة منظرين أو نظريين، قد يتحدث الواحد منهم -مثلاً- عن الإسلام وقضايا الإسلام وشئون المسلمين ومشاكل الأمة الإسلامية، وقضايا كثيرة قد يتحدث عنها بكلامٍ جيد، لكن حين تنظر في سلوك هذا الداعية؛ لا تجد سلوك الإسلام كاملاً متمكناً فيه، قد تجد أن هذا الداعية يمشي وهو مسبل ثوبه، حالق لشعر وجهه، تارك للصلاة مع الجماعة، أو مقصر في ذلك، وأنا لا أقول: إن هذه الأشياء لا يمكن أن تقع من مسلم، كلا بل قد يقع المسلم في بعض هذه المعاصي، وهو يعلم أنها معاصٍ أو لا يعلم، لكن المصيبة كل المصيبة، أن تقع من داعية يدعو إلى الله جل وعلا، فهنا لا يمكن أن يُتسامح بحال من الأحوال في داعية إلى الله تعالى يقع في مثل هذه الأمور، لأن الناس يقتدون به في مثل هذا الأمر، ويعتبرون أن ما يفعله حجة -على الأقل- على سبيل التسامح والتساعد، ومن المعروف أن الناس إذا وجدوا أن العالم أو الداعية يقع في أمر؛ فإنهم يلتمسون في ذلك العذر ويتوسعون فيه، ويقولون: لو أن هذا الأمر ممنوعا لما وقع فيه فلان وفلان وفلان! فلا يمكن أن يقول جمهور الناس: إن هذا الإنسان أخطأ، بل بالعكس، جمهور الناس يفرحون بخطأ هذا الداعية أو العالم ليقتدوا به، ولذلك قيل: إذا زل العالِم زلَّ بزلته عالَم.

وكان عمر رضي الله عنه يقول لـزياد بن حدير: [[أتدري ما يهدم الإسلام؟

قال: لا. قال: يهدم الإسلام ثلاث: زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين]] فزلة العالم تساهم في هدم الإسلام، ولذلك كثير من الناس اليوم حين تقول له: يا أخي، هذا العمل محرم، والدليل قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك: يا أخي، لو كان حراماً ما فعله فلان وما فعله فلان، فيحتج عليك بفعل فلان وفلان من الناس، ولذلك قال بعض أهل العلم: إن علماء السوء وقفوا في طريق الجنة، يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم ويحذرونهم منها بأفعالهم، فهم قطاع طريق في الواقع وليسو أدلاء، وهذا أمر مشهود، فكم حال خطأ العالم أو الداعية بين الناس وبين ترك المعصية، تأتي إلى إنسان مثلاً يشرب الدخان، فتقول له: يا أخي، التدخين حرام ثبت طبياً ضرره وكل ما ثبت ضرره فهو حرام، ولا ضرر ولا ضرار، وفيه إتلاف للمال، وفيه وفيه...، فيقول: يا أخي، هناك عالم في بلد كذا يشرب الدخان، وقد رأيته بعيني، وتأتي إلى آخر فتقول: يا أخي، الغناء فيه من النصوص والوعيد كذا وكذا، وقد أجمعت الأمة على تحريمه فيقول لك: يا أخي، أنا سمعت بأذني العالم فلان يفتي بأن الغناء حلال!!

وهكذا تجد أن الناس يلتقطون أي زلة أو غلطة من داعية أو عالم فيتشبثون بها، وهذا لا شك أنه خطأ، بل العكس، إن الإنسان الذي يأخذ زلات العلماء؛ يجتمع فيه الشر كله، فمنهج هؤلاء العامة ليس سليماً، لكن نحن نقول: الداعي إلى الله جل وعلا وطالب العلم، ينبغي أن يكون مستقيماً في سلوكه، فلا يدع للناس فرصة ليتشبثوا بخطأ وقع فيه، حتى لو كان أمراً مباحاً قد يتوسع الناس فيه، فينبغي للداعية أن يتجنب هذا الأمر المباح، حين يكون أمام العامة على الأقل؛ لئلا يعطي للناس فرصة للوقوع في الحرام، بحجة أن فلان فعل ذلك، فطلب العلم الشرعي يعصم الداعية بإذن الله من الوقوع في الانحراف السلوكي.

طلب العلم الشرعي يعصم الداعية من الانحراف في منهج الدعوة

كذلك طلب العلم الشرعي يجعل الداعية بعيداً عن الانحراف في منهج الدعوة.

والانحراف في منهج الدعوة يتمثل في صور كثيرة، منها -على سبيل المثال-: أن يشتغل الداعية بالتجميع العاطفي، الذي سرعان ما يتبخر ويزول.

فبعض الدعاة -مثلاً- همه أن يجمع أكبر عدد ممكن من الناس، وليس همه أن يربيهم على الإسلام الصحيح، وأن يخرج رجالاً يعبدون الله على بصيرة، ويدعون إليه ويجاهدون في سبيله، وإنما همه أن يجتمع حوله عدد كبير من الناس، ولو كانت مستوياتهم ضعيفة، فيثير في نفوسهم الحماس فيقول لهم: قضايا المسلمين في بلد كذا، والمسلمون يقتلون في بلد كذا، فيثير عندهم الحماس للإسلام، وهو حماس مبهم غامض!! ولست أدعو إلى تجاهل قضايا المسلمين، أو الغفلة عن مشاكلهم، كلا! بل ينبغي أن يكون المسلمون كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، كالجسد الواحد إذا اشتكي منهم عضو تداعى لـه سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

تذوب حشاشات العواصم حسرة      إذا دميت في كف بغداد أصبع

ولو بردى أنت لخطبٍ أصابها      لسالت بـوادي النيل للنيل أدمع

فالمسلمون أمة واحدة يألم أقصاها لأدناها، ولكن ينبغي -مع ذلك- ألا يكون هدف الداعي هو فقط إثارة حماس الناس وعواطفهم لقضايا المسلمين؛ لأن هذا الحماس سرعان ما يخبو ويفتر بعدما يتجاوز الإنسان فترة معينة من عمره، ويتحول الإنسان إلى تاجر وموظف، أو أي شيء آخر، لكنه ليس داعية إلى الله -جل وعلا- وهذا هو السر في أنك تجد بعض الناس في فترة من فترات عمره، متألقاً مشرقاً كداعية، لكن بعد فترة سرعان ما يخبو ويذبل، لأنه ما قام على أصول صحيحة وثابتة من العلم الشرعي الصحيح، بل كان مجرد حماس فتر بعد ما تقدمت به السن.

طلب العلم يعصم الداعية من الانحراف في مسألة الولاء والبراء

من الانحرافات المنهجية، أو من الأمثلة التي قد يقع فيها الداعية بسبب ضعف العلم الشرعي: ألا يفهم الداعية مسألة الولاء والبراء على أصولها الصحيحة، فبعض الدعاة -مثلاً- تجد ولاءهم وبراءهم، ليس ولاءً وبراءً محرراً في الله تعالى، بل هو -وأحياناً- ولاءٌ على اللافتات والرايات والحزبيات والتجمعات، وليس في الله جل وعلا، وهذا خطر عظيم، ربما يبغض الداعية إنساناً شديد الإيمان بالله ورسوله شديد الحب لهم، كثير الجهاد والعمل والدعوة إلى الله، لأنه ليس من طائفته، وقد يحب إنساناً آخر دونه بمراحل، وربما يوجد عنده عيوب وأخطاء، لسبب أنه من فئته أو من أصحابه، وهذا خطر عظيم! وربما نستطيع أن نشبهه بما كان يوجد في الماضي، من الحزبية والتعصب للمذاهب الفقهية، فكان -مثلاً- المتعصب لإمام من الأئمة، كـالشافعي أو أبي حنيفة، ربما يقع في حق عالم من العلماء جليل القدر؛ لأنه يتبع إماماً آخر، وكم لقي ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من العلماء، من العنت والحرب؛ بسبب أنهم يخالفون هؤلاء في مذهبهم، مع أننا نعلم أن ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء المحققين رحمهم الله أجمعين لم يكونوا يتعصبون إلا للحق، لكنهم ابتلوا بمتعصبين، يوالون ويعادون في أمور ما أنـزل الله بها من سلطان.

واليوم نجد كثيراً من الدعاة ابتلوا بهذا الأمر؛ فتجد الداعية إذا ذكرت لـه فلاناً: أشاح بوجهه وأعرض، وربما أظهر من حركات شفتيه ويديه وهيئته ما يدل على الامتعار، وحين تستغرب فتبحث عن السبب؛ تجد أن هذا الداعية ليس من أصحابه ولا من فئته، ولذلك اتخذ منه هذا الموقف.

العلم الشرعي يكسب الداعية التوازن في فكره ومنهجه

من أمثلة الانحرافات المنهجية التي قد يقع فيها الداعية بسبب ضعف العلم الشرعي:

تضخيم بعض القضايا على حساب قضايا أخرى، وقد تكون أحياناً قضايا فقهية، والاختلاف في القضايا الفقهية موجود من عهد الصحابة رضي الله عنهم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يضر مادام هو مبني على الدليل الشرعي، لكن بعض الناس قد يجعلون من الاختلاف في قضية فقهية، مدخلاً للولاء والبراء، فيتولى فلاناً لأنه يوافقه في هذه المسألة الفقهية، ويعادي فلاناً لأنه يخالفه في تلك المسألة الفقهية.

وقد يكون الاختلاف في قضية اجتهادية في الدعوة، فقد تتخذ أنت أسلوباً في الدعوة إلى الله جل وعلا، قد لا يعجبه، مثلاً: أن تستخدم -لا أقول في الدعوة، لكن من ضمن الأعمال والأشياء التي تقوم بها- أنك أحياناً قد تنشد أناشيد معينة فيها معانٍ إسلامية، وهذه الأناشيد هناك من قد يقف منها موقفاً، ويرى أنها لا تجوز. وتبقى في إطار القضية الفقهية، فنقول: إن من العلماء الكبار، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، من أفتى بأن هذه كما قالت عائشة رضى الله عنها، لما سئلت عن الشعر، ما هو؟ قالت: هو كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح.

وكذلك الأناشيد، هي كلام حسنها حسن وقبيحها قبيح، فوفق ضوابط معينة لا إشكال فيها، مثل: السلامة من استخدام الآلات الموسيقية، أو الطبل أو الدف أو غيرها، والسلامة من المعاني السيئة، فبعض الأناشيد الإسلامية الموجودة في الأشرطة، يكون فيها معانٍ صوفية أو شركية أو غيرها، وأيضاً: البعد عن الإكثار من هذه الأشياء، بحيث لا تغلب على الإنسان؛ لأن بعض الشباب يفطرون على الأناشيد ويتغدون أناشيد، ويتعشون أناشيد وينامون أيضاً على الأناشيد!! وهذا ليس سليماً، فالإسراف مرفوض في كل شيء، فالمفروض أن لا تتعدى هذه الأناشيد قدرها، بحيث أنها تزيل السأم والملل في سفر أو إقامة أو غير ذلك فقط، ففي هذا الإطار لا أشكال فيها، لكن هناك من قد يقول لك: أنا لا أرى جواز هذه الأناشيد، ولا إشكال أيضاً فمادام أنك فلا تراها لا تستخدمها أنت، إنما هل ينبغي أن تتخذ موقفاً من فلان؛ لأنه لا يوافقك في هذا الرأي؟!

هذه قضية فرعية، ولك اجتهادك فيها، لكن لا ينبغي أن تكون هذه المسألة مدار الولاء والبراء والحب والبغض، وهي قضية -كما ذكرت فرعية.

فالعلم الشرعي الصحيح والفقه العميق، يحمي الإنسان من تضخيم بعض القضايا الفرعية، أو التهوين من بعض القضايا الكلية. ففي مقابل ذلك؛ تجد بعض الدعاة ربما لا يقبل الحديث في قضايا أصولية مهمة، يقول: هذه تفرق الشمل لو سمع أحداً يتكلم -مثلاً- عن توحيد العبادة، وضرورة إفراد الله جل وعلا بالعبادة، وتحريم عبادة غير الله، وأن ذلك من الشرك الأكبر، الذي بعث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لتحذير الناس منه ونهيهم عنه.

وبالتالي الكلام عن القبوريين، الذين يطوفون بالقبور ويسألون أصحابها، ويدعونهم وينذرون لهم وما أشبه ذلك، وأن هذا شرك بالله جل وعلا، قال: يا أخي اترك هذا الكلام، هذا يفرق الصفوف!! أو سمع آخر يتحدث عن الرافضة -مثلاً- وخطرهم على الإسلام وانحرافهم، قال: دع هذا الكلام، فإنه يفرق الصفوف!

إذاً: هناك من يهون بعض القضايا الكبيرة بحجة جمع الصفوف، وهناك من يعظم بعض القضايا الجزئية، فيوالي أو يعادي عليها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والعلم الشرعي الصحيح يعصم الإنسان -بأذن الله- من الوقوع في هذا الخطأ أو ذاك.

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته أنواع الناس وطبقاتهم، ففي حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً} انظر هذا المثل النبوي، فالإسلام أصوله وفروعه مثل المطر الذي نـزل على أرض، والأرض ليست سواء، والبقاع تختلف، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأرض أنواعاً، ذكر منها طائفة طيبة قبلت الماء، إذ هي أرض خصبة عندما نـزل الماء عليها شربته وقبلته؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فهذا مثل للإنسان الذي تعلم العلم وشربه وامتلأ به قلبه، وخشعت به جوارحه؛ فأثمر العمل والدعوة والصدق والإخلاص، هذه طائفة، وهذا هو ما يجب أن يكون عليه الداعية.

وهناك أرض أخرى عندما نـزل عليها المطر كانت أرضاً تمسك الماء لكن لا تنبت الكلأ والعشب، فنفع الله بها الناس حيث شربوا منها وسقوا وزرعوا، فهذا مثل إنسان تعلم العلم وحفظه، لكن لم يستفد منه الفائدة المطلوبة، فالناس ينتفعون بما عنده من العلم لكن هو لم ينتفع، فهو مثل الأرض التي حفظت الماء، لكن ما شربت الماء ولا أنبتت العشب.

القسم الثالث أو الطائفة الثالثة: أرض قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، إذا ما جاءها ماء شربته ثم لم تنبت شيئاً، فلا هي أمسكت الماء لينتفع به الناس، ولا هي عندما شربت الماء أنبتت العشب، فما استفاد الناس منها لا عشباً كلأً ولا ماءً تحفظه، فهذا مثل إنسان لا تعلم ولا عمل ولا دعا.

فانظر يا عبد الله، في أي هذا الطبقات أو الطوائف أنت، ولا شك أن الجدير بكل داعية؛ أن يجعل نفسه من الطبقة الأولى، التي انتفعت بما أنـزل الله على رسوله من الهدى والعلم، فعلمت وعملت ودعت إلى ذلك. ولذلك نجد في الآية الكريمة التي تلوتها شرط البصيرة أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] فلابد من البصيرة فيما تدعو إليه.

إن طلب العلم الشرعي الصحيح، هو ضمانة تحفظ الدعية بإذن الله عز وجل من ألوان الانحراف، وإن من ألوان الانحراف الذي قد يقع للداعية: الانحراف في معتقده، ونحن نجد على مدار التاريخ؛ أن هناك دعاة لكن إلى ضلاله، ومن أمثلة ذلك: انحراف الخوارج، الذين كانوا يكفرون المسلم بالمعصية، ويقابله انحراف المرجئة، الذين كانوا يقولون: كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، كذلك لا يضر مع الإيمان معصية، وكلاهما غلوّ وانحراف، ونحن نجد حتى في واقع الدعاة في هذا العصر، في بعض البلاد الإسلامية، هذا الانحراف أو ذاك موجود، والسبب هو فقدان العلم الشرعي، فتكون علوم الإنسان في الدعوة، مبنية على اجتهاد شخصي وعلى ميزاته، فإذا وُجد إنسان حاد المزاج، حاد الطبع شديد الانفعال قوي الغيرة، ثم شاهد الانحرافات والمعاصي والأخطاء، قام وقال: هؤلاء الناس فيهم وفيهم، وربما أطلق عليهم ألفاظ الكفر دون تبصر أو تثبت، فهذا انحراف، فما الذي يعصم الإنسان من الوقوع في هذا الانحراف؟ يعصمه بإذن الله جل وعلا العلم، فالعلم نور في قلب الإنسان.

كذلك الانحراف في الوقوع في التجهم أو الاعتزال أو التأويل أو التحريف أو التبديل، إنما العاصم من ذلك -بإذن الله جل وعل- هو العلم الشرعي.

كذلك العلم الشرعي يعصم صاحبه من الانحراف السلوكي، وقد تجد بعض الدعاة منظرين أو نظريين، قد يتحدث الواحد منهم -مثلاً- عن الإسلام وقضايا الإسلام وشئون المسلمين ومشاكل الأمة الإسلامية، وقضايا كثيرة قد يتحدث عنها بكلامٍ جيد، لكن حين تنظر في سلوك هذا الداعية؛ لا تجد سلوك الإسلام كاملاً متمكناً فيه، قد تجد أن هذا الداعية يمشي وهو مسبل ثوبه، حالق لشعر وجهه، تارك للصلاة مع الجماعة، أو مقصر في ذلك، وأنا لا أقول: إن هذه الأشياء لا يمكن أن تقع من مسلم، كلا بل قد يقع المسلم في بعض هذه المعاصي، وهو يعلم أنها معاصٍ أو لا يعلم، لكن المصيبة كل المصيبة، أن تقع من داعية يدعو إلى الله جل وعلا، فهنا لا يمكن أن يُتسامح بحال من الأحوال في داعية إلى الله تعالى يقع في مثل هذه الأمور، لأن الناس يقتدون به في مثل هذا الأمر، ويعتبرون أن ما يفعله حجة -على الأقل- على سبيل التسامح والتساعد، ومن المعروف أن الناس إذا وجدوا أن العالم أو الداعية يقع في أمر؛ فإنهم يلتمسون في ذلك العذر ويتوسعون فيه، ويقولون: لو أن هذا الأمر ممنوعا لما وقع فيه فلان وفلان وفلان! فلا يمكن أن يقول جمهور الناس: إن هذا الإنسان أخطأ، بل بالعكس، جمهور الناس يفرحون بخطأ هذا الداعية أو العالم ليقتدوا به، ولذلك قيل: إذا زل العالِم زلَّ بزلته عالَم.

وكان عمر رضي الله عنه يقول لـزياد بن حدير: [[أتدري ما يهدم الإسلام؟

قال: لا. قال: يهدم الإسلام ثلاث: زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين]] فزلة العالم تساهم في هدم الإسلام، ولذلك كثير من الناس اليوم حين تقول له: يا أخي، هذا العمل محرم، والدليل قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك: يا أخي، لو كان حراماً ما فعله فلان وما فعله فلان، فيحتج عليك بفعل فلان وفلان من الناس، ولذلك قال بعض أهل العلم: إن علماء السوء وقفوا في طريق الجنة، يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم ويحذرونهم منها بأفعالهم، فهم قطاع طريق في الواقع وليسو أدلاء، وهذا أمر مشهود، فكم حال خطأ العالم أو الداعية بين الناس وبين ترك المعصية، تأتي إلى إنسان مثلاً يشرب الدخان، فتقول له: يا أخي، التدخين حرام ثبت طبياً ضرره وكل ما ثبت ضرره فهو حرام، ولا ضرر ولا ضرار، وفيه إتلاف للمال، وفيه وفيه...، فيقول: يا أخي، هناك عالم في بلد كذا يشرب الدخان، وقد رأيته بعيني، وتأتي إلى آخر فتقول: يا أخي، الغناء فيه من النصوص والوعيد كذا وكذا، وقد أجمعت الأمة على تحريمه فيقول لك: يا أخي، أنا سمعت بأذني العالم فلان يفتي بأن الغناء حلال!!

وهكذا تجد أن الناس يلتقطون أي زلة أو غلطة من داعية أو عالم فيتشبثون بها، وهذا لا شك أنه خطأ، بل العكس، إن الإنسان الذي يأخذ زلات العلماء؛ يجتمع فيه الشر كله، فمنهج هؤلاء العامة ليس سليماً، لكن نحن نقول: الداعي إلى الله جل وعلا وطالب العلم، ينبغي أن يكون مستقيماً في سلوكه، فلا يدع للناس فرصة ليتشبثوا بخطأ وقع فيه، حتى لو كان أمراً مباحاً قد يتوسع الناس فيه، فينبغي للداعية أن يتجنب هذا الأمر المباح، حين يكون أمام العامة على الأقل؛ لئلا يعطي للناس فرصة للوقوع في الحرام، بحجة أن فلان فعل ذلك، فطلب العلم الشرعي يعصم الداعية بإذن الله من الوقوع في الانحراف السلوكي.

كذلك طلب العلم الشرعي يجعل الداعية بعيداً عن الانحراف في منهج الدعوة.

والانحراف في منهج الدعوة يتمثل في صور كثيرة، منها -على سبيل المثال-: أن يشتغل الداعية بالتجميع العاطفي، الذي سرعان ما يتبخر ويزول.

فبعض الدعاة -مثلاً- همه أن يجمع أكبر عدد ممكن من الناس، وليس همه أن يربيهم على الإسلام الصحيح، وأن يخرج رجالاً يعبدون الله على بصيرة، ويدعون إليه ويجاهدون في سبيله، وإنما همه أن يجتمع حوله عدد كبير من الناس، ولو كانت مستوياتهم ضعيفة، فيثير في نفوسهم الحماس فيقول لهم: قضايا المسلمين في بلد كذا، والمسلمون يقتلون في بلد كذا، فيثير عندهم الحماس للإسلام، وهو حماس مبهم غامض!! ولست أدعو إلى تجاهل قضايا المسلمين، أو الغفلة عن مشاكلهم، كلا! بل ينبغي أن يكون المسلمون كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، كالجسد الواحد إذا اشتكي منهم عضو تداعى لـه سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

تذوب حشاشات العواصم حسرة      إذا دميت في كف بغداد أصبع

ولو بردى أنت لخطبٍ أصابها      لسالت بـوادي النيل للنيل أدمع

فالمسلمون أمة واحدة يألم أقصاها لأدناها، ولكن ينبغي -مع ذلك- ألا يكون هدف الداعي هو فقط إثارة حماس الناس وعواطفهم لقضايا المسلمين؛ لأن هذا الحماس سرعان ما يخبو ويفتر بعدما يتجاوز الإنسان فترة معينة من عمره، ويتحول الإنسان إلى تاجر وموظف، أو أي شيء آخر، لكنه ليس داعية إلى الله -جل وعلا- وهذا هو السر في أنك تجد بعض الناس في فترة من فترات عمره، متألقاً مشرقاً كداعية، لكن بعد فترة سرعان ما يخبو ويذبل، لأنه ما قام على أصول صحيحة وثابتة من العلم الشرعي الصحيح، بل كان مجرد حماس فتر بعد ما تقدمت به السن.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5118 استماع
حديث الهجرة 5007 استماع
تلك الرسل 4155 استماع
الصومال الجريح 4146 استماع
مصير المترفين 4123 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4052 استماع
وقفات مع سورة ق 3976 استماع
مقياس الربح والخسارة 3929 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3872 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3833 استماع