حديث السبعين ألفاً


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

لقد روى حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي . قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: ( لا رقية إلا من عين أو حمة ). قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن ، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنت منهم. ثم قال رجل آخر: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: سبقك بها عكاشة ).

مشابهة هذا الحديث لحادثة الإسراء والمعراج

هذا الحديث العظيم من أحاديث الرقاق التي فيها إحياء للقلوب، يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الأمم قد عرضت عليه، وهذا أمر شبيه بما حصل في الإسراء والمعراج، ولكن هناك بعض أوجه المخالفة، فالإسراء والمعراج الذي وقع بـمكة كان فيه تفتيح لأبواب السماوات باباً باباً، ولقاء بالأنبياء كل واحد في سماء، ومراجعة بينه وبين موسى عليه السلام فيما يتعلق بفرض الصلوات وطلب تخفيفها، وهذا الحديث حصل بـالمدينة ، إذاً: هذه الرؤيا حصلت في المدينة ، والإسراء والمعراج حصل في مكة ، ولكن هنا تشابه بين ما هو موجود في مطلع هذا الحديث المرفوع وبين ما حصل في الإسراء والمعراج، وما حصل في المدينة بعد الهجرة معظمها في المنام.

حرص السلف على الابتعاد عن الرياء والسمعة

هذه القصة يرويها حصين بن عبد الرحمن رحمه الله، وهو حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي الثقة، الذي توفى سنة ست وثلاثين ومائة للهجرة، وكان عمره ثلاث وتسعون سنة، يقول: كنت عند سعيد بن جبير .. وهو الإمام الفقيه، من أجلاء أصحاب ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج ظلماً وعدواناً ، وذهب إلى الله شهيداً فيما نحسب سنة خمس وتسعين للهجرة ولم يكمل الخمسين عاماً، ومع ذلك فقد روى سعيد بن جبير علماً غزيراً نافعاً، ملأ كتب التفسير والحديث.

يقول حصين بن عبد الرحمن : كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ كوكب سقط، وانقضاض الكوكب يرى إذا كانت السماء صافية، والبارحة ما بعد الزوال، وقبل الزوال تقول: الليلة، إذا أردت أن تتحدث عن شيء مضى قبل الزوال تقول: الليلة، وإذا أردت أن تتحدث عن شيء مضى بعد الزوال تقول: البارحة، وبعض الناس يقولون: البارحة من طلوع الشمس إلى الغروب، ومن الغروب إلى طلوعها يقولون: الليلة، حصل الليلة كذا وكذا، من غروب الشمس إلى طلوع الشمس أو الفجر.

قال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قال حصين : فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة .. هذا الرجل وهو حصين -رحمه الله- رأى النجم وهو ينقض، لكن يقول للحاضرين: أنا لم أكن قائماً في الليل لأنني كنت أصلي، إنما كنت قائماً لسبب آخر، قال: ولكني لدغت. لم تمنعه الصلاة من النوم لكن منعه الألم من اللدغ، وهذا فيه فائدة بليغة في قضية الابتعاد عن الرياء؛ لئلا يحسب من الذين يحمدون بما لم يفعلوا، لأن الله تعالى ذم الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فهذا حصين من أعداء الرياء، وهكذا كان السلف رحمهم الله في إخلاصهم .. قال حصين : أما إني ... أما: أداة استفتاح، وقيل: هي بمعنى حقاً .. أما إني لم أكن في صلاة، الحقيقة أني لم أكن في صلاة؛ لئلا يظن السامعون أنه قائم يصلي، فيكون كأنه قد راءى بشيء لم يفعله، أو سمَّع بشيء لم يفعله، وهذا الأمر من نقص التوحيد؛ إذا راءى الإنسان وسمع بأعماله، فهو حتى يبرئ نفسه من هذا وضحها وقال: إني كنت مستيقظاً لأجل لدغ لا لأجل الصلاة، ولكني لدغت، واللدغة للعقرب، والظاهر أنها كانت شديدة، ولذلك لم ينم منها طيلة الليل.

هذا الحديث العظيم من أحاديث الرقاق التي فيها إحياء للقلوب، يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الأمم قد عرضت عليه، وهذا أمر شبيه بما حصل في الإسراء والمعراج، ولكن هناك بعض أوجه المخالفة، فالإسراء والمعراج الذي وقع بـمكة كان فيه تفتيح لأبواب السماوات باباً باباً، ولقاء بالأنبياء كل واحد في سماء، ومراجعة بينه وبين موسى عليه السلام فيما يتعلق بفرض الصلوات وطلب تخفيفها، وهذا الحديث حصل بـالمدينة ، إذاً: هذه الرؤيا حصلت في المدينة ، والإسراء والمعراج حصل في مكة ، ولكن هنا تشابه بين ما هو موجود في مطلع هذا الحديث المرفوع وبين ما حصل في الإسراء والمعراج، وما حصل في المدينة بعد الهجرة معظمها في المنام.

هذه القصة يرويها حصين بن عبد الرحمن رحمه الله، وهو حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي الثقة، الذي توفى سنة ست وثلاثين ومائة للهجرة، وكان عمره ثلاث وتسعون سنة، يقول: كنت عند سعيد بن جبير .. وهو الإمام الفقيه، من أجلاء أصحاب ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج ظلماً وعدواناً ، وذهب إلى الله شهيداً فيما نحسب سنة خمس وتسعين للهجرة ولم يكمل الخمسين عاماً، ومع ذلك فقد روى سعيد بن جبير علماً غزيراً نافعاً، ملأ كتب التفسير والحديث.

يقول حصين بن عبد الرحمن : كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ كوكب سقط، وانقضاض الكوكب يرى إذا كانت السماء صافية، والبارحة ما بعد الزوال، وقبل الزوال تقول: الليلة، إذا أردت أن تتحدث عن شيء مضى قبل الزوال تقول: الليلة، وإذا أردت أن تتحدث عن شيء مضى بعد الزوال تقول: البارحة، وبعض الناس يقولون: البارحة من طلوع الشمس إلى الغروب، ومن الغروب إلى طلوعها يقولون: الليلة، حصل الليلة كذا وكذا، من غروب الشمس إلى طلوع الشمس أو الفجر.

قال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قال حصين : فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة .. هذا الرجل وهو حصين -رحمه الله- رأى النجم وهو ينقض، لكن يقول للحاضرين: أنا لم أكن قائماً في الليل لأنني كنت أصلي، إنما كنت قائماً لسبب آخر، قال: ولكني لدغت. لم تمنعه الصلاة من النوم لكن منعه الألم من اللدغ، وهذا فيه فائدة بليغة في قضية الابتعاد عن الرياء؛ لئلا يحسب من الذين يحمدون بما لم يفعلوا، لأن الله تعالى ذم الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فهذا حصين من أعداء الرياء، وهكذا كان السلف رحمهم الله في إخلاصهم .. قال حصين : أما إني ... أما: أداة استفتاح، وقيل: هي بمعنى حقاً .. أما إني لم أكن في صلاة، الحقيقة أني لم أكن في صلاة؛ لئلا يظن السامعون أنه قائم يصلي، فيكون كأنه قد راءى بشيء لم يفعله، أو سمَّع بشيء لم يفعله، وهذا الأمر من نقص التوحيد؛ إذا راءى الإنسان وسمع بأعماله، فهو حتى يبرئ نفسه من هذا وضحها وقال: إني كنت مستيقظاً لأجل لدغ لا لأجل الصلاة، ولكني لدغت، واللدغة للعقرب، والظاهر أنها كانت شديدة، ولذلك لم ينم منها طيلة الليل.

قال سعيد : فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. أي: طلبت الرقية لأجل اللدغة، قال: فما حملك على ذلك؟ أي: ما السبب أنك استرقيت وطلبت الرقية؟ والألف والسين والتاء تفيد الطلب، مثل: استغفر طلب المغفرة، استرقى طلب الرقية .. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت -أي: طلب الرقية- قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي .. إذاً: كان عند السلف محاورة للوصول إلى الحقيقة ومعرفة الحق، فـسعيد بن جبير -رحمه الله- لم يقصد الانتقاد لهذا الرجل، بل قصد أن يستفهم منه ويعرف مستنده في طلب الرقية، لماذا طلب الرقية؟ وهذا فيه فائدة وهي طلب الحجة في المذهب، فإذا رأيت رأياً فإنك تطلب الحجة، إذا رأى شخص رأياً وتناقشت معه لك الحق أن تطلب الحجة على ما ذهب إليه، والآن سيأتي حصين بالدليل، قال: حديث حدثناه الشعبي .. والشعبي هو عامر بن شرحبيل الهمداني ، المولود في خلافة عمر ، وهو من ثقاة التابعين وحفاظهم وفقهائهم، مات سنة مائة وثلاث للهجرة، وهو شيخ حصين .

قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، وهو صحابي مشهور، مات سنة ثلاث وستين .. عن بريدة بن الحصيب أنه قال: ( لا رقية إلا من عين أو حمة ). والرقية: هي القراءة على المريض أو المصاب وهي معروفة.

وظاهر هذا النص أن الحديث موقوف على الصحابي الذي هو بريدة ، لكن الحديث قد جاء من رواية أحمد وأبي داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعاً، وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، العين معروفة، وهي إصابة العائن لغيرة، والعائن حاسد، والحمة: سم العقرب، فمعنى هذا الحديث: لا رقية أولى من رقية العين والحمة، فـحصين استند في طلب الرقية إلى هذا الحديث، وهو يدل على أن الرقية من العين أو الحمة مفيدة؛ فإن الرقى تنفع -بإذن الله- من العين ومن الحمة أيضاً، إذاً: أنفع ما تنفع الرقية في مسألة العين، وتنفع في اللدغة والشفاء من السم، وكثير من الناس يقرأ على الملدوغ فيبرأ حالاً.

قصة أبي سعيد في رقية الملدوغ

وقد وقعت القصة المشهورة للصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فاستضافوا قوماً فلم يضيفوهم، فلدغ سيد القوم، لدغته حية، فقالوا: من يرقي؟ كانوا لؤماً، ما أكرموا الضيوف وهم الصحابة، فلدغ سيدهم الكافر سيد القبيلة، فجاءوا يقولون: من يرقي؟ ثم قالوا: لعل هؤلاء الركب عندهم راقٍ، لعل هؤلاء الركب المسلمين الذي نزلوا بجانبنا وما أضفناهم لعل عندهم راقي فجاءوا إلى السرية فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: نعم، ولكن لا نرقي لكم إلا بشيء من الغنم، اشترطوا شرطاً على هؤلاء البخلاء، قالوا: ما نرقي سيدكم ورئيس قبيلتكم إلا مقابل قطيع من الغنم، فقالوا: نعطيكم فاقتطعوا لهم من الغنم وعينوها ثم ذهب أحدهم وهو الراوي أبو سعيد رضي الله عنه ذهب يقرأ عليه الفاتحة، فقرأها ثلاثاً أو سبعاً، وقام هذا اللديغ كأنما نشط من عقال، يمشي ما به بأس ولا كأن شيئاً لدغه، فانتفع اللديغ بقراءة الفاتحة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي سعيد بعدما رجعوا إليه يستفتونه عن الغنم الذي أخذوه، فأباحه لهم وأخبر أنه حلال لهم، قال لـأبي سعيد : (وما يدريك أنها رقية) كيف عرفت أنها رقية؟ من الذي أخبرك؟! تعجب من علم هذا الصحابي وأقره على أن الفاتحة يرقى بها.

علاج الإصابة بالعين

والعين ترقى بوسائل كثيرة، وتستعمل لها طرق أخرى غير الرقية، بمعنى أن علاج العين يكون بالرقية وقراءة المعوذات والفاتحة. هذا أمر.

الأمر الثاني: ما جاء في الحديث الصحيح عن سهل رضي الله عنه، وكان جميل الخلقة، فمر به عامر فرآه وكان يصيب بالعين، فقال: ما رأيت اليوم كجلد مخبأة -والمخبأة هي البكر، أي أنه استحسن جلده الأبيض- ما رأيت قط كجلد مخبأة مثل اليوم أبداً. فلبط سهل ، أي أنه اشتل فجأة ولم يستطع أن يتحرك، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال: (علام يقتل أحدكم أخاه) ثم دعا هذا العائن وأمره أن يغتسل، ويكون ذلك في إناء ويصب الماء على جنبه الأيمن والأيسر داخل اتزاره، يجمع ماء الوضوء والغسالة ثم يسكب على المعيون من الخلف من على رقبته وظهره، فسكبوه عليه، قيل: يسكب عليه فجأة، وقيل: بعلمه، فسكبوه عليه، فقام ليس به بأس .. فهذا العلاج الثاني للعين.

وهناك أشياء عرفت بالتجربة، مثل أن يؤخذ أي شيء من آثار العائن مما يلي جسمه من الثياب كثوب، أو التراب الذي مشى عليه وهو رطب، فيصب عليه الماء ويرش به المصاب أو يشربه المصاب، أو يؤخذ بقية شرابه، كما إذا شرب العائن كأساً من الشاي، فتأخذ بقية الشاي فيشربها المعيون فتنفع بإذن الله، وهذه أشياء مجربة وأجازها أهل العلم.

وأما العائن فإنه يجب عليه إذا رأى ما يعجبه أن يبرك عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيش : (هلا برَّكت عليه) أي: هلا قلت: بارك الله عليك، أو بارك الله لك في أهلك وفي مالك، يبرك عليه ولا يقل: ما شاء الله تبارك الله، بل يقول: اللهم بارك فيه، اللهم بارك عليه، وإذا رأى ما يعجبه من نفسه ومن ماله يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، كما جاء في قصة صاحب الجنتين وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ [الكهف:39]، أي: هذا بفضل الله وليس من حيلتي ولا من قوتي؛ حتى لا يصيبه العجب والغرور.

أما إذا رأى إنساناً وخاف أن يحسده فإنه يبرك عليه، أو إذا علم من نفسه أنه إذا نظر إلى شيء عانه وحسده فإنه يبرك عليه ويقول: اللهم بارك فيه ولا تضره، وبعض العامة يقولون: يصلى على العائن صلاة الغائب، وهذا ليس عليه دليل، يقولون: يصلى على الحاسد والعائن صلاة الجنازة، وهذه عبادة تحتاج إلى دليل.

وقد وقعت القصة المشهورة للصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فاستضافوا قوماً فلم يضيفوهم، فلدغ سيد القوم، لدغته حية، فقالوا: من يرقي؟ كانوا لؤماً، ما أكرموا الضيوف وهم الصحابة، فلدغ سيدهم الكافر سيد القبيلة، فجاءوا يقولون: من يرقي؟ ثم قالوا: لعل هؤلاء الركب عندهم راقٍ، لعل هؤلاء الركب المسلمين الذي نزلوا بجانبنا وما أضفناهم لعل عندهم راقي فجاءوا إلى السرية فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: نعم، ولكن لا نرقي لكم إلا بشيء من الغنم، اشترطوا شرطاً على هؤلاء البخلاء، قالوا: ما نرقي سيدكم ورئيس قبيلتكم إلا مقابل قطيع من الغنم، فقالوا: نعطيكم فاقتطعوا لهم من الغنم وعينوها ثم ذهب أحدهم وهو الراوي أبو سعيد رضي الله عنه ذهب يقرأ عليه الفاتحة، فقرأها ثلاثاً أو سبعاً، وقام هذا اللديغ كأنما نشط من عقال، يمشي ما به بأس ولا كأن شيئاً لدغه، فانتفع اللديغ بقراءة الفاتحة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي سعيد بعدما رجعوا إليه يستفتونه عن الغنم الذي أخذوه، فأباحه لهم وأخبر أنه حلال لهم، قال لـأبي سعيد : (وما يدريك أنها رقية) كيف عرفت أنها رقية؟ من الذي أخبرك؟! تعجب من علم هذا الصحابي وأقره على أن الفاتحة يرقى بها.

والعين ترقى بوسائل كثيرة، وتستعمل لها طرق أخرى غير الرقية، بمعنى أن علاج العين يكون بالرقية وقراءة المعوذات والفاتحة. هذا أمر.

الأمر الثاني: ما جاء في الحديث الصحيح عن سهل رضي الله عنه، وكان جميل الخلقة، فمر به عامر فرآه وكان يصيب بالعين، فقال: ما رأيت اليوم كجلد مخبأة -والمخبأة هي البكر، أي أنه استحسن جلده الأبيض- ما رأيت قط كجلد مخبأة مثل اليوم أبداً. فلبط سهل ، أي أنه اشتل فجأة ولم يستطع أن يتحرك، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال: (علام يقتل أحدكم أخاه) ثم دعا هذا العائن وأمره أن يغتسل، ويكون ذلك في إناء ويصب الماء على جنبه الأيمن والأيسر داخل اتزاره، يجمع ماء الوضوء والغسالة ثم يسكب على المعيون من الخلف من على رقبته وظهره، فسكبوه عليه، قيل: يسكب عليه فجأة، وقيل: بعلمه، فسكبوه عليه، فقام ليس به بأس .. فهذا العلاج الثاني للعين.

وهناك أشياء عرفت بالتجربة، مثل أن يؤخذ أي شيء من آثار العائن مما يلي جسمه من الثياب كثوب، أو التراب الذي مشى عليه وهو رطب، فيصب عليه الماء ويرش به المصاب أو يشربه المصاب، أو يؤخذ بقية شرابه، كما إذا شرب العائن كأساً من الشاي، فتأخذ بقية الشاي فيشربها المعيون فتنفع بإذن الله، وهذه أشياء مجربة وأجازها أهل العلم.

وأما العائن فإنه يجب عليه إذا رأى ما يعجبه أن يبرك عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيش : (هلا برَّكت عليه) أي: هلا قلت: بارك الله عليك، أو بارك الله لك في أهلك وفي مالك، يبرك عليه ولا يقل: ما شاء الله تبارك الله، بل يقول: اللهم بارك فيه، اللهم بارك عليه، وإذا رأى ما يعجبه من نفسه ومن ماله يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، كما جاء في قصة صاحب الجنتين وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ [الكهف:39]، أي: هذا بفضل الله وليس من حيلتي ولا من قوتي؛ حتى لا يصيبه العجب والغرور.

أما إذا رأى إنساناً وخاف أن يحسده فإنه يبرك عليه، أو إذا علم من نفسه أنه إذا نظر إلى شيء عانه وحسده فإنه يبرك عليه ويقول: اللهم بارك فيه ولا تضره، وبعض العامة يقولون: يصلى على العائن صلاة الغائب، وهذا ليس عليه دليل، يقولون: يصلى على الحاسد والعائن صلاة الجنازة، وهذه عبادة تحتاج إلى دليل.

فلما حدث حصين سعيد بن جبير بمستنده في طلب الرقية لأجل اللدغة بحديث: (لا رقية إلا من عين أو حُمة) قال سعيد رضي الله عنه -وهذا من باب المباحثة في العلم والنقاش- قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. أي: من بلغه علم فأخذ به فقد أحسن ولا يلام، أدى ما وجب عليه وعمل بما بلغه من العلم، بخلاف من يعمل بجهل ولا يعلم؛ فهذا مسيء آثم، وهذه فضيلة في علم السلف وحسن أدبهم وهديهم وتلطفهم في تبليغ العلم، وأن من عمل بما بلغه عن الله ورسوله فقد أحسن.

ولكن سعيد بن جبير الآن يريد أن يستدرك على حصين ، يقول: إذا كنت قد عملت بهذا الحديث فعندنا حديث آخر .. قال: ولكن حدثنا ابن عباس .. وهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي دعا له عليه الصلاة والسلام بقوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان كذلك، وتعلم التفسير وفهم الكتاب العزيز، ولم ينقل عن صحابي مثلما نقل عن ابن عباس في التفسير، ولذلك قال عمر أو ابن مسعود : [لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد] أي: لو كان كبيراً في السن مثلنا، مثل عمر وابن مسعود ، ما عشره منا أحد، أي: ما بلغ عشره في العلم، لكن ابن عباس من قدر الله أنه كان صغيراً، لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان غلاماً، ومع ذلك روى أحاديث كثيرة، ورزقه الله الفهم والعلم، وروى عن الصحابة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء سمعها منه مباشرة، ومات -رحمه الله- في الطائف سنة ثمان وستين.

قال: ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ) عرضت علي الأمم ) وهذا العرض -كما قلنا- حصل شبيه له في حادثة الإسراء والمعراج التي كانت من مكة .. ( عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط ) وفي رواية: (فأجد النبي يمر معه الأمة) والأمة: العدد الكثير، والرهط: الجماعة دون العشرة، إذا كان هناك جماعة دون العشرة يطلق عليهم في اللغة العربية رهط، والأمة: الجماعة الكثيرة .. (فرأيت النبي ومعه الرهط -من الثلاثة إلى التسعة- والنبي ومعه الرجل والرجلان) لو كانت الواو على حقيقتها في الرجل والرجلان لصاروا ثلاثة، ولقال: ثلاثة، لكن قال: النبي ومعه الرجل والرجلان، أي: النبي ومعه رجل أو رجلان، (والنبي يمر معه النفر)، وفي رواية: (والنبي يمر معه العشرة، والنبي ليس معه أحد) هناك أنبياء ما معهم ولا شخص واحد، وفي رواية: (فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي يمر ومعه العصابة، والنبي يمر وليس معه أحد)، الحاصل من هذه الروايات أن الأنبياء يتفاوتون في الأتباع، هناك أنبياء أتباعهم كثر جداً، أمة كاملة، وهناك أنبياء معهم رهط وعشرة وثلاثة وخمسة واثنان وواحد، ومن الأنبياء من لم يتبعهم أحد، قال: ) (فنظرت فإذا سواد كثير)، وفي رواية: (إذ رفع لي سواد عظيم)، أي: بينما أنا كذلك إذ رفع لي سواد عظيم، والسواد ضد البياض، والسواد يطلق على الشخص إذا رؤي من بعيد، وقد يكون واحداً وقد يكون جماعة فيكون بلفظ الجنس، فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى أنبياء يمرون، النبي معه واحد واثنان وثلاثة ورهط وجماعة، ورأى نبياً معه أمة وعدد كثير، سواد كثير قد ملأ الأفق، والأفق: ناحية وجهة من السماء، فظنهم النبي صلى الله عليه وسلم أمته، قال: (فقلت: يا جبريل! هؤلاء أمتي، قال: لا)، وفي رواية: (فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى في قومه)، وعند أحمد : (حتى مر علي موسى في كوكبة من بني إسرائيل، فأعجبني فقلت: من هؤلاء؟ قال: هذا أخوك موسى معه بنو إسرائيل)، والكوكبة: الجماعة من الناس إذا انضم بعضهم إلى بعض.

فعرف النبي عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء ليسوا أصحابه ولا أتباعه (... ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير. وفي رواية: عظيم) وفي رواية: (فقيل لي: انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فرأى مثله، فإذا سواد قد ملأ الأفق، فقيل: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء، فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال)، وفي لفظ عند أحمد : (فرأيت أمتي قد ملئوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل: أرضيت يا محمد؟ قلت: نعم أي ربي).

لماذا لم يعرفهم وهو قد عرفهم في مرة أخرى بآثار مثل: الغرة والتحجيل؟ قيل: إنه رآهم من بعيد، والرؤية من بعيد ليس بالضرورة أن يرى فيها الشخص ملامح تفصيلية لوجوه المرئيين.