ابن جرير الطبري [2،1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعــد:

فقد قال الله سبحانه وتعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وقال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم معلماً، وسار العلماء الربانيون على نهجه عليه الصلاة والسلام في تعليم الأمة، وتعلم هذا العلم، وهذه الأمة -ولا شك- تفتخر بماضيها وحاضرها.

وهؤلاء العلماء الذين كانت لهم أيادٍ بيضاء على هذه الأمة بتوفيق من الله سبحانه وتعالى لا بد أن يتعرف عليهم أبناء هذا الدين، ليكونوا لهم قدوة ولينسب الفضل إلى أهله، ويعرف الفضل لذويه، ولا شك أن هذا من العدل ومن حسن العهد الذي هو من الإيمان، وإذا كانت الأمم الكافرة تبجل عظماءها، وتعقد الذكريات السنوية لحياتهم إحياءً لذكراهم وترجمة لهم وذكراً لمناقبهم وأطوار حياتهم وشرح مآثرهم، بل يسمون ما لديهم من المدارس والجامعات والمؤسسات بهؤلاء العظماء؛ فإن أمة الإسلام أولى بأن تحفظ الجميل لأهله، ونحن لسنا بحاجة إلى بدع ولا أعياد، ولا احتفالات لهؤلاء، فإن العلماء رحمهم الله تعالى قد عرفوا الفضل لأهله، فسطروا تواريخ هؤلاء العلماء وسيرهم وحياة كل واحدٍ منهم، وذكروا مآثرهم ومناقبهم وفضائلهم ومصنفاتهم وتلاميذهم وشيوخهم، كلها مسطرة بحيث أن المسألة لا تحتاج إلا إلى جهد في القراءة والاطلاع للتعرف على مآثر هؤلاء العلماء، ولكن يبقى أنه لا بد من نشر فضائل هؤلاء العلماء في الدروس وغيرها مما يلقى على الناس، حتى يتعرف الناس على علمائهم، ولا شك أننا أمة لنا ماضي وحاضر، وأننا ممتدون عبر الأجيال، ونحتاج إلى ربط الماضي بالحاضر، ولسنا مقطوعين عما مضى أو أبناء هذا الزمان فقط؛ ولذلك يشعر الإنسان بالتآلف والاتصال عندما يقرأ في سير هؤلاء العلماء.

وحديثنا هذه الليلة عن الإمام المفسر العلم الكبير أبي جعفر الطبري رحمه الله تعالى والذي عاش ما بين عام: (224هـ - 310هـ) في الدولة العباسية، حيث عاصر عدداً من خلفائها، فإنه ولد في خلافة المتوكل، وبعده المنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي ومات في خلافة المقتدر ، ولا شك أن هذا العصر ليس مثل عصر هارون الرشيد الذي يعتبر أوج الدولة العباسية، ولكن من جهة الحركة العلمية لا شك أنه عصر نشط للغاية، ومزدهر جداً؛ لأن معظم العلوم الشرعية كانت قد أسست، والمذاهب الفقهية قد ظهرت، والتدوين والتصنيف قد نشط جداً، ففي هذا العصر كان قد جمعت الصحاح والسنن.

وفي القرنين الثالث والرابع بلغت العلوم الشرعية والمذاهب الفقهية درجة كبيرة من الاستقرار والانتشار والتوسع، وصنفت الكتب في المسائل، وكانت هذه الفترة التي تلت فترة التأسيس تتطلب أدوات كثيرة لمن يطلب العلم من هذه المصنفات والمشايخ المنتشرين في طول البلاد وعرضها.

عاش ابن جرير الطبري رحمه الله في القرن الثالث والرابع، وظهر في هذه الفترة كبار العلماء، مثل: الشافعي رحمه الله (204هـ)، وأحمد بن حنبل (241هـ) وداود الظاهري (270هـ)، وخرج بعدهم طلابهم كـالمزني والبويطي وابن سريج والمروزي وأبو حامد وابن المنذر والقفال الشاشي والاصطخري من فقهاء الشافعية وتلاميذ الشافعي ، وتلاميذهم كانوا قد ظهروا في تلك الفترة أيضاً، وفي المذهب الحنفي عرف الجصاص والخصاف والطحاوي وأبو الحسن الكرخي ، وفي المذهب المالكي إصبغ وأبو بكر الأبهري والقاضي أبو الفرج ، وفي مذهب الإمام أحمد رحمه الله عرف أبو بكر المروزي والأثرم وإبراهيم الحربي والخلال والخرقي وهؤلاء كلهم من أعلام المذهب الحنبلي.

وفي هذه الفترة كانت بلدان العالم الإسلامي تعج بالإنتاج الوفير وتخريج فطاحل العلماء في شرق الدولة الإسلامية من بخارى وسمرقند، وفي فارس التي من مدنها شيراز وخراسان وأصبهان ، والطبرستان التي ينتسب إليها الطبري رحمه الله، وهمدان ، وكذلك في العراق في بغداد والبصرة والكوفة ، والشام في دمشق والقدس وبيروت ، وفي الحجاز في مكة والمدينة ، وفي اليمن في صنعاء وزبيد، وفي مصر في القاهرة والاسكندرية ، وفي المغرب في القيروان ومراكش ، وفي الأندلس في أشبيلية وقرطبة وطُلَيطُلة ، كل هذه المدن الإسلامية في الشرق والغرب والوسط كانت تعيش في فترة ازدهار علمي كبير.

ولا شك أن هذا كان من أسباب خروج علماء فطاحل، فإذا كان الجو العلمي مهيأ، والعلم منتشر ومزدهر، وإذا كانت المصنفات كثيرة، وإذا كانت الوسائل والسبل مفتوحة؛ فلا بد أن يخرج علماء كبار، فإذا قارنا ذلك بحالنا في هذه الأيام؛ لعرفنا لماذا نحن متخلفون في هذا الجانب عن الركب كثيراً، ولماذا لم يظهر علماء كبار كثر في هذا الزمان؟

فإن حركة البحث العملي وانتشار العلم والعلماء -الجو العلمي- لا يقارن مطلقاً بما كان عليه في الماضي، ولكن عندما يوجد ولو في إحدى الجامعات جو علمي نشط، وحركة بحث وتأليف ورسائل ومشايخ وعلماء، فعند ذلك تتهيأ الفرصة لخروج علماء، وهذه مسألة مهمة أن الأمة تحتاج إلى علماء، ولا بد لها منهم، فلماذا لم يتخرج علماء كبار أو كثر؟ ولماذا لا زالت الأمة فيها عجز كبير جداً في قضية العلماء حتى أن العلماء الكبار الثقات معدودون على أصابع اليدين؟ فالأمة تحتاج إلى علماء كثر، فأعداد المسلمين في العالم كثر للغاية أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك العلماء أقل من أي وقت مضى، ولا شك أن من الأسباب تهيئة الجو العلمي؛ لأن العلماء لا يخرجون من فراغ، ولكن لا بد من وجود جو علمي يخرجون من خلاله، ولذلك فإن احتساب بعض الناس الأجر في تهيئة الأجواء العلمية لخروج العلماء؛ يكون فيه أجر عظيم حتى لو لم يكونوا هم بأنفسهم علماء.

هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري رحمه الله تعالى يكنى بـأبي جعفر ، وعرف بذلك واتفق المؤرخون عليه مع أنه لم يكن له ولد يسمى بـجعفر ، بل إنه لم يتزوج أصلاً، ولكنه تكنى التزاماً بآداب الشرع الحنيف، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق الكنى على أصحابه، وكان يكني الصغار، ويقول: (يا أبا عمير ما فعل النغير) ونحوها، وذلك لإشاعة روح المسئولية والتحمل عند الصغير والشعور بشعور الكبير، وهذا لا شك أنه يساعد في نضج الطفل ونموه، ونقله من عالم الطفولة إلى عالم الرجولة، ولعله يكون لنا وقفة في عدم زواج ابن جرير رحمه الله.

وأما نسبه إلى طبرستان فإنه لا خلاف فيه أيضاً عند المؤرخين، وطبرستان ولاية كبيرة في بلاد فارس تقع بين جرجان والديلم على بحر قزوين وتظم قرى كثيرة، ومن قرى طبرستان قرية آمل التي ولد بها أبو جعفر الطبري رحمه الله، ولذلك أحياناً يقال في نسبه: الآملي نسبة إلى آمل البلد التي تقع مدينة في طبرستان.

وأيضاً ينسب إلى بغداد، فيقال: البغدادي؛ لأنه سكن بغداد واستوطن بها، ونشر فيها علمه.

وإذا قيل: هل أبو جعفر الطبري عربي أم لا؟

بعض المؤرخين ذكر أنه عربي، وبعضهم ذكر أنه ليس بعربي، وقد سكن بلاد الفرس -بلاد الأعاجم- قبائل من العرب بعد الفتوحات الإسلامية، سكنت بأكملها في خراسان ونيسابور وطبرستان ، يتكلمون الأعجمية، ولكن أصولهم عربية نتيجة أن القبائل العربية نزحت أو ذهبت واستقرت في تلك البلدان، وكان هذا لعله من خطط الخلفاء الراشدين في نشر الإسلام في تلك الأصقاع، وأن يوجد هناك مجموعة من العرب المسلمين، وقد حمل العرب الإسلام في البداية ونشروه، فلا عز لهم إلا به.

فمهما قيل عن الطبري رحمه الله هل هو عربي أو ليس بعربي فالمسألة: (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فـالطبري رحمه الله عربي اللسان، عربي العلم من جهة اللغة، ولا فرق بينه وبين أي عربي من ناحية اللغة العربية الفصحى، فمن طالع تفسيره يعرف مدى تضلع الرجل في علم اللغة العربية.

ولد رحمه الله -كما سبق ذكره- في عام (224هـ) وقيل في غيرها، ولعل سبب الاختلاف هو عندما قال: كان أهل بلادنا يؤرخون بالأحداث دون السنين، يقولون: العام الذي حصل فيه زلزال كذا.. أو حرب كذا أو طاعون كذا ونحو ذلك، فكان القدامى يؤرخون بالأحداث أكثر من تاريخهم بالأعداد والأرقام والسنين، فأُرخ مولدي بحادث كان في البلد، فلما نشأت سألت عن ذلك الحادث، فاختلف المؤرخون، فقال بعضهم: كان في آخر سنة (224هـ)، وقال بعضهم: بل كان في سنة (225هـ). والفرق يسير، والمشهور في ولادته سنة (224هـ).

نشأ الطبري رحمه الله نشأة جيدة للغاية؛ لأنه تربى في أحضان والده، وأبوه رحمه الله كان قد تفرس فيه الذكاء والنباهة والحفظ من البداية، ولعل من الأسباب أيضاً: أن أباه رأى رؤيا في المنام أن ولده أبا جعفر كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومع الولد مخلاف مملوء بالأحجار، وأنه يرميها بين يديه -بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام- فلما قص والد أبي جعفر الرؤيا على صديق له، عبرها له بأن ابنه إن كبر نصح في دين الله وذب عن شريعة الله، فازداد أبوه حرصاً عليه في طلب العلم، وربما أنه كان يقص هذه الرؤيا على ولده، لكي يستشعر الولد ذلك وتكون حافزةً له في طلب العلم.

وهذه النشأة لا شك أنها ساعدته كثيراً في طلب العلم، ففي آمل نشأ وترعرع في كنف أبيه، وهيأ له الأسباب، ولذلك حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس إماماً وهو ابن ثمان سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين، ووهب نفسه للعلم في مقتبل شبابه، وظهرت عليه ملامح النبوغ ومخايل التفتح والذكاء الخارق والملكات الممتازة، وأدرك أبوه طبيعة ولده.

الآن عندنا أولاد أذكياء في المجتمع الإسلامي، ما عقمت نساء المسلمين أن يلدن أذكياء وحفاظاً نابغين، لكن أين الوسط الذي يحتضنهم؟! وأين الموجهين الذين يوجهونهم لطلب العلم؟! وأين الحرص عليهم منذ نعومة أظفارهم؟! فيوجد إهمال كبير للأطفال في مجتمعنا، وغاية ما يفعله الأب أن يسلم ولده للمدرسة، ثم لا يتابع الولد في غمرة انشغالاته، وقد يكون الولد نابغة فعلاً وحافظ وذكي للغاية ولكن لا يوجد توجيه، وربما يذهب نبوغ الولد في الألعاب واللهو، وربما يتوجه إلى الشر بعد فترة، ويستخدم ذكاءه في الشر، ويصبح من كبار المجرمين؛ لأن كبار المجرمين أذكياء، ولكن انحرفوا بسبب عدم وجود التربية.

فمن الفروق بيننا وبينهم: أن الأب إذا رأى ولده غير عادي كان يهتم به، ويعتبره امتداداً له، ولو كان الأب ليس بعالم وليس بنابغة ولا مشهور ولا معروف بالعلم، لكنه يعرف أن ولده هذا امتداد له في المستقبل يرفع به رأسه، ويكسب به أجراً من ربه.

ولذلك مثل والد أبي جعفر لما أحس أن ولده شخصية غير عادية، وأن فيه نبوغ وحفظ غير طبيعي؛ فإنه سعى لتهيئة كل الأسباب ليتوجه الولد للعلم، فالطفل في أول أمره لا يعرف مصلحته، فإذا ما وُجِدَ توجيه ودفع إلى حفظ القرآن والسنة، وإلى حفظ المتون وإلى غشيان حلق العلم، وإلى ثني الركب عند العلماء، فإن الولد لن يتعلم، فالاعتناء بالأولاد الصغار في الماضي كان ينشئ العلماء.

الاعتناء بالصغار من أكبر ما يستفاد من طفولة العلماء، فحياة العلماء في مرحلة الطفولة ينبغي أن نستفيد منها في اعتنائنا بأولادنا، ولو كان الواحد فينا أمياً أو عامياً أو كان نصف متعلم أو طويلب علم، أو لم يرتق إلى مرتبة طالب علم أصلاً، فإن ولده ربما يكون هو عالم المستقبل، فإذا كان التعامل مع الولد بهذه النفسية والتوجه؛ فلا شك أن النتيجة ستكون عظيمة.

وعلى طريقة العلماء يبدأ الولد عند الكُتَّاب حفظ القرآن.. يحفظ أشياء من السنة، ويحفظ متوناً، وبعد ذلك يلزم بعض الحلق التي تناسب سنه، وقد كان يوجد في كل بلد حلق يتوجه إليها الصغار، ثم إذا شبَّ أخذ العلم عن أهل بلده، ثم انطلق في أرجاء المعمورة راحلاً مرتحلاً في طلب العلم.

بعد أن بلغ الطبري رحمه الله مبلغاً في أول شبابه بدأ رحلته العلمية إلى البلدان المجاورة في بلاد فارس، وتنقل بين مدن طبرستان، كانت عادتهم، أولاً: يأخذ عن مشايخ بلده، وإذا انتهى؛ يبدأ فيما حوله من البلدان، فاتجه بعد ذلك أبو جعفر إلى الري وما جاورها ليأخذ عن علماء الحديث واللغة والتفسير، يتنقل كالنحلة من شيخ إلى شيخ.. من عالم إلى آخر، فأول ما كتب الحديث ببلده، ثم بـالري وما جاورها وأكثر عن الشيوخ.

وأكثر في أول أمره عن شيخين، هما: محمد بن حميد الرازي ، والمثنى بن إبراهيم الأبلي، ويقول: كنا نكتب عند محمد بن حميد الرازي فيخرج إلينا في الليل مرات، ويسألنا عم كتبناه ويقرؤه علينا، وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي ، وكان في قرية من قرى الري ، بينها وبين الري قطعة نأتي إلى الشيخ محمد بن حميد الرازي نجلس عنده، ثم نمضي إلى الدولابي ، وإذا انتهينا من درس الدولابي ؛ يكون قد حان موعد درس الرازي وبينهما مسافة -أي: قريتين- قال: ثم نغدو كالمجانين حتى نصير إلى ابن حميد فنلحق مجلسه نغدو كالمجانين -أي: من السرعة في العدو للحاق بدرس الشيخ، فمن شيخ في قرية، إلى شيخ في قرية، ثم العودة إلى الشيخ الأول بهذه السرعة، كل ذلك ينم عن وجود دافع قوي للتحصيل؛ حتى أن الواحد لا يكاد يلحق في حضور كل هؤلاء، فيكون وقته مزدحماً بدروس العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال) منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها، وإذا كان الطبري رحمه الله عنده هذه النهمة في طلب العلم؛ فلذلك لن يهدأ له بال حتى يطوف ويحصل، ومن شيخ إلى شيخ، ومن حلقة إلى حلقة، ومن درس إلى درس.

وهكذا امتدت الحياة لهذا الإمام رحمه الله ليذهب إلى أمصار مختلفة، ويأخذ الحديث من أفواه الأئمة مباشرة.

ابن جرير.. وطلب العلم في العراق

بعد ما انتهى ابن جرير من الري ذهب إلى بغداد ، ليلحق بالإمام أحمد رحمه الله؛ ليأخذ عنه الحديث، لكن الذي حصل أن الإمام أحمد رحمه الله توفي سنة (241هـ) قبل أن يصل ابن جريرإلى بغداد ، ففاته الإمام أحمد رحمه الله، لكنه أقام في مدينة السلام حاضرة العلم والعلماء في ذلك الوقت، يأخذ عن محدثيها الحديث، والفقه عن فقهائها على مختلف المذاهب، وبعد أن انتهى من بغداد انحدر إلى البصرة ، فسمع الحديث من محدثي البصرة من محمد بن موسى الحرشي ، وعماد بن موسى القزاز ، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، وبشر بن معاذ ، ومحمد بن بشار بندار ، ومحمد بن المعلّى.

بعدها انتقل من البصرة إلى واسط ، فسمع من شيوخ واسط ، ثم انتقل إلى الكوفة ، فأخذ عن كبار علماء الكوفة : من أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني ، وهناد بن السري المحدث المشهور، وإسماعيل بن موسى وغيرهم.. يقال: إنه سمع من أبي كريب مائة ألف حديث، وأخذ القراءات عن سليمان الطلحي.

بعد أن جمع علم البصرة والكوفة وواسط رجع إلى بغداد ثانية فإنه لم يرتو منها بعد، لكن الإنسان يأخذ أهم الموجود، ويريد أن يلحق علماء البلد الآخر، فإذا انتهى رجع إلى ما كان قد تركه في البلد الأول؛ خشية أن يفوته علماء البلد الثاني، أو يموت أو يذهب قبل أن يلحق على علمه.

أقام بـبغداد مدة، فدرس علوم القرآن عامة وعلم القراءات خاصة، وتلقى فقه الشافعي على الزعفراني ، وكتب عنه كتاباً في الفقه، ودرس في بغداد على أبي سعيد الاصطخري ، وعرف أبو جعفر الطبري في بغداد في هذه الفترة وبدأ يشتهر، وأقر له أهل العلم بالفضل، وبدأ نبوغه يظهر.

فإذاً: يظهر الإنسان بعلمه بعد مرحلة التأسيس، وليس هناك ظهور قبل التأسيس، وكان عمر رضي الله عنه يقول: [تفقهوا قبل أن تَسُودُوا أو تُسَوَّدُوا] لأن الإنسان إذا صار في منصب أو صار سيداً قبل أن يتفقه؛ فإن هذا المنصب سيمنعه عن الطلب من عدة جهات.

أولاً: ربما يستحي وهو في هذا المنصب أن يجلس مع الصغار ليطلب العلم.

ثانياً: أن المنصب له أشغال كثيرة، ولو تزوج وولد له أولاد أو صار في منصب صار في شغل.. في تجارة.. في وظيفة لها أشغال ومتطلبات، فلن يكون عنده وقتاً كافياً لطلب العلم، بخلاف ما لو كان منذ أول أمره قبل الارتباطات والمسئوليات يطلب العلم، فإذا صار سيداً أو صار في مكانة، ثم لم يتفقه افتضح بين الناس؛ لأنه ليس عنده شيء يعطيه.. ربما يسأل.. ربما يؤتى إليه، أو ربما يجعل حكماً في قضية، أو ربما يلجأ إليه في شيء ما عنده علم، فيفتضح بين الناس، وربما يحكم بشيء مخالف للشرع، أو يتاجر مثلاً في أشياء وهو ما فقه علم البيوع، فيرتكب محرمات في أثناء التجارة.

على أية حال، لا بد من مرحلة التأسيس والتفقه من الصغر، ثم إن النبوغ بين الناس والاشتهار بالعلم يكون بعد أن يؤسس نفسه.

بدأ الطبري رحمه الله يعرف بالعلم في بغداد بعدما رجع إليها في المرة الثانية، فبدأ يتكلم ويذكر اسمه في المجالس، وبدأ الإنصات لأقواله، والواحد إذا صار في درس الشيخ، فإن طلاب الشيخ ليسوا سواء، فهناك المعيد الذي يعيد الدرس بعد الشيخ، لمن يحتاج إلى إعادة لما كتب، أي: الذي جاء متأخراً وفاتته الحلقة.

تلاميذ الدرس رتب: هناك تلاميذ متقدمون، وهناك متوسطون وهناك مبتدئون، وهؤلاء التلاميذ المتقدمون لا شك أنهم قد يسألون عن أشياء مما ذكره الشيخ، أو من بعض المسائل، ويكون لهم رتبة فينبغون، وطريقة الحلق تساعد على نبوغ الطالب وتدرجه من مرحلة إلى مرحلة، وتبوئه مكانه الصحيح بين طلبة العلم.

الطبري وطلبه العلم في الشام ومصر

لم يكتف الطبري رحمه الله بهذه الرحلة، وإنما رحل إلى الشام وكان فيها من أهل العلم من فيها، وذهب إلى السواحل والثغور من مدن الأجنان للحروب التي كانت مع الدولة البيزنطية، وأخذ القرآن برواية الشاميين، عن العباس بن الوليد المقرئ البيروتي وأقام بـبيروت ، حيث كانت بيروت حاضرة من حواضر العلم، ويكفي أنه كان يوجد فيها الأوزاعي التي فيها إلى الآن حي يعرف بحي الأوزاعي نسبة إلى ذلك العالم الأوزاعي الذي كان في بيروت، وهو من كبار علماء الشام رحمه الله تعالى.

فجلس في بيروت فترة من الزمن، ثم ذهب بعد ذلك إلى مصر ، وكان مشتاقاً للقاء علمائها، وكان فيها من العلماء كبار، فقد أخذ فيها مذهب مالك على أبي محمد عبد الله بن وهب ، وأخذ فيها على يونس بن عبد الأعلى ، وأخذ فيها على محمد وعبد الرحمن وسعد أبناء عبد الحكم ، ودرس فيها فقه الشافعي على الربيع بن سليمان المرادي ، وإسماعيل بن يحيى المزني ، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، بين مذهبي مالك والشافعي أقام في مصر فترة ثم رجع إلى الشام.

أقام بـالشام فترة ثم رجع إلى مصر ، يلحق بالعلماء قبل أن يموتوا، يحصل أشياء، ثم يرجع يقضي ما فاته في البلد الأول.. وهكذا.

ذهب إلى مصر مرة ثانية سنة (256هـ) والتقى بـيونس بن عبد الأعلى الصدفي ، وأخذ عنه قراءة حمزة وورش ، وكذلك فإنه درس بـمصر العروض وأصبح عروضياً، يعرف بحور الشعر وأوزانه، فكان لا بد من التعامل باللغة العربية والشواهد من أشعار العرب، خصوصاً في التفسير، حيث أن هذا القرآن نزل بلغة العرب، فتعرف أي معنى استعمله العرب لهذه الكلمات.

بعد ذلك دب فيه الحنين إلى وطنه، فترك مصر ، ورجع إلى وطنه.

العودة إلى طبرستان ثم الرحيل إلى بغداد

بعد هذه الرحلة الطويلة يحن الإنسان إلى أهله وبلده وأقربائه، وفي الطريق مر بـبغداد وكتب فيها شيئاً ثم عاد إلى طبرستان ، عاد رجلاً آخر يختلف تماماً عن الشخص الذي خرج منها، رجع صاحب علم وتجربة وخبرة، فالأسفار تربي الشخص على أشياء كثيرة، ثم إن الترحال في هذه البلدان كما قال الشاعر:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا     وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفريج هم واكتساب معيشة     وعلم وآداب وصحبة ماجدِ

فلا شك أن هذه الأسفار كانت تصقل شخصيات هؤلاء العلماء، غير الفوائد العلمية الكثيرة التي كانوا يحصلونها، وهي الهدف الأساسي من الرحلة، فهنا يمكن أن يشعر الإنسان أو يشم شيئاً من فرح أهله به بعدما رجع ولدهم إليهم بهذه المنزلة العظيمة والعلوم الجليلة التي حصلها، ولما مكث بـطبرستان فترة أشبع فيها ما حصل له من الحنين إلى أهله وبلده، رجع إلى البلد التي يمكن أن يفيد فيها الآن أكثر، وهي بغداد حاضرة العلم في ذلك الزمان، ومقصد ومهوى أفئدة كثير من طلبة العلم، فاشتهر اسمه في العلم، وشاع خبره بالفهم والتقدم، ولكنه لم ينس بلده طبرستان وأهله وأقربائه، فرجع مرة ثانية في سنة (290هـ) فمكث قليلاً، ثم رجع إلى بغداد ، وهنا حط رحاله وألقى ترحاله واستقر فيها، وانقطع عن التدريس والتأليف في بغداد إلى أن ودع الحياة.

بعد ما انتهى ابن جرير من الري ذهب إلى بغداد ، ليلحق بالإمام أحمد رحمه الله؛ ليأخذ عنه الحديث، لكن الذي حصل أن الإمام أحمد رحمه الله توفي سنة (241هـ) قبل أن يصل ابن جريرإلى بغداد ، ففاته الإمام أحمد رحمه الله، لكنه أقام في مدينة السلام حاضرة العلم والعلماء في ذلك الوقت، يأخذ عن محدثيها الحديث، والفقه عن فقهائها على مختلف المذاهب، وبعد أن انتهى من بغداد انحدر إلى البصرة ، فسمع الحديث من محدثي البصرة من محمد بن موسى الحرشي ، وعماد بن موسى القزاز ، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، وبشر بن معاذ ، ومحمد بن بشار بندار ، ومحمد بن المعلّى.

بعدها انتقل من البصرة إلى واسط ، فسمع من شيوخ واسط ، ثم انتقل إلى الكوفة ، فأخذ عن كبار علماء الكوفة : من أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني ، وهناد بن السري المحدث المشهور، وإسماعيل بن موسى وغيرهم.. يقال: إنه سمع من أبي كريب مائة ألف حديث، وأخذ القراءات عن سليمان الطلحي.

بعد أن جمع علم البصرة والكوفة وواسط رجع إلى بغداد ثانية فإنه لم يرتو منها بعد، لكن الإنسان يأخذ أهم الموجود، ويريد أن يلحق علماء البلد الآخر، فإذا انتهى رجع إلى ما كان قد تركه في البلد الأول؛ خشية أن يفوته علماء البلد الثاني، أو يموت أو يذهب قبل أن يلحق على علمه.

أقام بـبغداد مدة، فدرس علوم القرآن عامة وعلم القراءات خاصة، وتلقى فقه الشافعي على الزعفراني ، وكتب عنه كتاباً في الفقه، ودرس في بغداد على أبي سعيد الاصطخري ، وعرف أبو جعفر الطبري في بغداد في هذه الفترة وبدأ يشتهر، وأقر له أهل العلم بالفضل، وبدأ نبوغه يظهر.

فإذاً: يظهر الإنسان بعلمه بعد مرحلة التأسيس، وليس هناك ظهور قبل التأسيس، وكان عمر رضي الله عنه يقول: [تفقهوا قبل أن تَسُودُوا أو تُسَوَّدُوا] لأن الإنسان إذا صار في منصب أو صار سيداً قبل أن يتفقه؛ فإن هذا المنصب سيمنعه عن الطلب من عدة جهات.

أولاً: ربما يستحي وهو في هذا المنصب أن يجلس مع الصغار ليطلب العلم.

ثانياً: أن المنصب له أشغال كثيرة، ولو تزوج وولد له أولاد أو صار في منصب صار في شغل.. في تجارة.. في وظيفة لها أشغال ومتطلبات، فلن يكون عنده وقتاً كافياً لطلب العلم، بخلاف ما لو كان منذ أول أمره قبل الارتباطات والمسئوليات يطلب العلم، فإذا صار سيداً أو صار في مكانة، ثم لم يتفقه افتضح بين الناس؛ لأنه ليس عنده شيء يعطيه.. ربما يسأل.. ربما يؤتى إليه، أو ربما يجعل حكماً في قضية، أو ربما يلجأ إليه في شيء ما عنده علم، فيفتضح بين الناس، وربما يحكم بشيء مخالف للشرع، أو يتاجر مثلاً في أشياء وهو ما فقه علم البيوع، فيرتكب محرمات في أثناء التجارة.

على أية حال، لا بد من مرحلة التأسيس والتفقه من الصغر، ثم إن النبوغ بين الناس والاشتهار بالعلم يكون بعد أن يؤسس نفسه.

بدأ الطبري رحمه الله يعرف بالعلم في بغداد بعدما رجع إليها في المرة الثانية، فبدأ يتكلم ويذكر اسمه في المجالس، وبدأ الإنصات لأقواله، والواحد إذا صار في درس الشيخ، فإن طلاب الشيخ ليسوا سواء، فهناك المعيد الذي يعيد الدرس بعد الشيخ، لمن يحتاج إلى إعادة لما كتب، أي: الذي جاء متأخراً وفاتته الحلقة.

تلاميذ الدرس رتب: هناك تلاميذ متقدمون، وهناك متوسطون وهناك مبتدئون، وهؤلاء التلاميذ المتقدمون لا شك أنهم قد يسألون عن أشياء مما ذكره الشيخ، أو من بعض المسائل، ويكون لهم رتبة فينبغون، وطريقة الحلق تساعد على نبوغ الطالب وتدرجه من مرحلة إلى مرحلة، وتبوئه مكانه الصحيح بين طلبة العلم.

لم يكتف الطبري رحمه الله بهذه الرحلة، وإنما رحل إلى الشام وكان فيها من أهل العلم من فيها، وذهب إلى السواحل والثغور من مدن الأجنان للحروب التي كانت مع الدولة البيزنطية، وأخذ القرآن برواية الشاميين، عن العباس بن الوليد المقرئ البيروتي وأقام بـبيروت ، حيث كانت بيروت حاضرة من حواضر العلم، ويكفي أنه كان يوجد فيها الأوزاعي التي فيها إلى الآن حي يعرف بحي الأوزاعي نسبة إلى ذلك العالم الأوزاعي الذي كان في بيروت، وهو من كبار علماء الشام رحمه الله تعالى.

فجلس في بيروت فترة من الزمن، ثم ذهب بعد ذلك إلى مصر ، وكان مشتاقاً للقاء علمائها، وكان فيها من العلماء كبار، فقد أخذ فيها مذهب مالك على أبي محمد عبد الله بن وهب ، وأخذ فيها على يونس بن عبد الأعلى ، وأخذ فيها على محمد وعبد الرحمن وسعد أبناء عبد الحكم ، ودرس فيها فقه الشافعي على الربيع بن سليمان المرادي ، وإسماعيل بن يحيى المزني ، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، بين مذهبي مالك والشافعي أقام في مصر فترة ثم رجع إلى الشام.

أقام بـالشام فترة ثم رجع إلى مصر ، يلحق بالعلماء قبل أن يموتوا، يحصل أشياء، ثم يرجع يقضي ما فاته في البلد الأول.. وهكذا.

ذهب إلى مصر مرة ثانية سنة (256هـ) والتقى بـيونس بن عبد الأعلى الصدفي ، وأخذ عنه قراءة حمزة وورش ، وكذلك فإنه درس بـمصر العروض وأصبح عروضياً، يعرف بحور الشعر وأوزانه، فكان لا بد من التعامل باللغة العربية والشواهد من أشعار العرب، خصوصاً في التفسير، حيث أن هذا القرآن نزل بلغة العرب، فتعرف أي معنى استعمله العرب لهذه الكلمات.

بعد ذلك دب فيه الحنين إلى وطنه، فترك مصر ، ورجع إلى وطنه.

بعد هذه الرحلة الطويلة يحن الإنسان إلى أهله وبلده وأقربائه، وفي الطريق مر بـبغداد وكتب فيها شيئاً ثم عاد إلى طبرستان ، عاد رجلاً آخر يختلف تماماً عن الشخص الذي خرج منها، رجع صاحب علم وتجربة وخبرة، فالأسفار تربي الشخص على أشياء كثيرة، ثم إن الترحال في هذه البلدان كما قال الشاعر:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا     وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفريج هم واكتساب معيشة     وعلم وآداب وصحبة ماجدِ

فلا شك أن هذه الأسفار كانت تصقل شخصيات هؤلاء العلماء، غير الفوائد العلمية الكثيرة التي كانوا يحصلونها، وهي الهدف الأساسي من الرحلة، فهنا يمكن أن يشعر الإنسان أو يشم شيئاً من فرح أهله به بعدما رجع ولدهم إليهم بهذه المنزلة العظيمة والعلوم الجليلة التي حصلها، ولما مكث بـطبرستان فترة أشبع فيها ما حصل له من الحنين إلى أهله وبلده، رجع إلى البلد التي يمكن أن يفيد فيها الآن أكثر، وهي بغداد حاضرة العلم في ذلك الزمان، ومقصد ومهوى أفئدة كثير من طلبة العلم، فاشتهر اسمه في العلم، وشاع خبره بالفهم والتقدم، ولكنه لم ينس بلده طبرستان وأهله وأقربائه، فرجع مرة ثانية في سنة (290هـ) فمكث قليلاً، ثم رجع إلى بغداد ، وهنا حط رحاله وألقى ترحاله واستقر فيها، وانقطع عن التدريس والتأليف في بغداد إلى أن ودع الحياة.

إن التسلسل التاريخي للعالم تجد أنه يبدأ يدرس ويصنف بعدما يرحل ويجمع ويحفظ، فتكون حياة العالم فيها مراحل: الطفولة التي هي حفظ القرآن والسنة ومتون في اللغة والمواريث والمصطلح.. ثم بعد ذلك يأخذ عن مشايخ البلد، ثم مشايخ البلاد التي جاورها يرحل ويجمع ويحصل ويحفظ ويكتب وينسخ، ثم يرجع بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة إلى بلده أو إلى البلد التي فيها جو علمي وطلبة علم كثيرين، ويجلس فيها ويكون له درس أو دروس، تكون المرحلة الأخيرة من حياة العالم التدريس والتصنيف، وهذا هو الخط العام لحياة العلماء.. التدريس والتصنيف.

رجع إلى بغداد رحمه الله بعدما اكتملت شخصيته العلمية، وحصل ما حصل، وجمع ما جمع، واستقر فيها إلى سنة (310هـ) حيث توفي باذلاً وقته للعلم، فاتحاً بابه لطلبة العلم، عاكفاً على تصنيف كتبه ومؤلفاته.

صار الطبري رحمه الله بتوفيق الله تعالى ثم بفضل ذلك الأب الذي دفعه للعلم منذ صغره، ثم بهذه النهمة والجمع والترحال صار موسوعة ودائرة معارف، فهو صاحب عقل منظم، كان يمتاز بالتنسيق، وأنت لا تجد مؤلفاً من المؤلفين المكثرين إلا وعنده جانب التنسيق والترتيب ناضجاً، ولذلك يستطيع أن يصنف، فالتصنيف يحتاج إلى عقلية ترتب وتنسق.

وكان مدرساً في غاية الجودة في التدريس، ولذلك كان عنده طلاب كثيرين، الطالب إذا أحس أن الشيخ يعتني به؛ ويحسِّ خلقه معه، يفتح صدره له؛ ويقبل الطلاب عليه، والمجاهد ينفع الأمة بالجهاد، والغني ينفع الأمة بالمال، والعالم ينفع الأمة بالتدريس والتصنيف، وهناك طلاب يُعتبرون صدقات جارية لأنه يعلم من بعده، والأجر للمعلم الذي علَّم الطالب الأول، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأمة أجراً، وكذلك المصنف يطلق عليه (ولد العالم المخلد) فالإنسان إذا اعتنى بتربية ولده، وعاش ولده صالحاً يدعو لأبيه؛ ينتفع الأب بدعاء ولده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم؛ انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فالولد الصالح طيلة حياته يدعو لأبيه ويعمل أعمال بر لأبيه، وتكتب أعماله مثل أجورها في صفحة أبيه، هو الذي رباه، وإذا انتهى الولد انتهى مورد الأجر بهذا الأب، لكن يعتبر تصنيف العالم يعتبر ولداً مخلداً؛ لأنه طيلة وجود هذا الكتاب يكون الأجر يدر على مؤلفه ومصنفه.

فتأمل الآن.. مثلاً كتاب مثل كتاب تفسير الطبري الذي هو أساس الكتب، وأعظم كتاب في التفسير على الإطلاق باعتراف علماء الأمة، وكل من بعد ابن جرير عالة عليه في التفسير، كما أن أعظم كتاب في الحديث هو صحيح البخاري، فأعظم كتاب في التفسير هو تفسير الطبري، طيلة رجوع العلماء وطلبة العلم والناس إلى هذا الكتاب، فإن ابن جرير يجري عليه عمله في قبره إن شاء الله، ويصل إليه مداد الأجر وافراً وهو في قبره، فتصنيف العالم ولده المخلد.

ولم يكف ابن جرير رحمه الله عن التعلم وهو في مرحلة التصنيف والتدريس، فالإنسان دائماً في تعلم فوائد جديدة، والعجيب في شخصية هذا الرجل أنه كان صاحب همة عالية جداً.

وإذا كانت النفوس كباراً      تعبت في مرادها الأجسامُ

إذا كانت النفوس كبار الهمم عالية، تعبت في تحقيق مطلوبها الأجسام، فاستمر ابن جرير رحمه الله حتى بلغ السادسة والثمانين من عمره لم تفتر عزيمته، ولم يخف نشاطه، ولم يجف قلمه حتى مات وهو في السادسة والثمانين وحتى في مرحلة الشيخوخة بدأ بتصنيف عدة كتب، وقطع في كل منها شوطاً ولم يتمها، كـفضائل علي وفضائل أبي بكر وفضائل عمر وفضائل العباس والموجز في الأصول وتهذيب الآثار وهو من أعظم كتب الحديث لكنه لم يتمه، كذلك ألف في الأصول كتاب الآذر، ولكنه لم يخرج منه شيئاً، وأراد أن يعمل كتاباً في القياس فلم يعمله، لكن خذ الكتب التي عملت كـالتفسير وتاريخ الطبري مثلاً.

يقول أبو القاسم الحسين بن حبيش الوراق : كان قد التمس مني أبو جعفر أن أجمع له كتب الناس في القياس -لأن التصنيف يحتاج فيه العالم إلى اطلاع على مصنفات ومؤلفات من كتب قبله في نفس الموضوع- فجمعت له نيفاً وثلاثين كتاباً، فأقامت عنده فترة مديدة، ثم كان من قطعه للحديث بشهور ما كان، فردها علي، وفيها علامات عليه بحمرة قد علم عليها، أي: قد اطلع، وعلم بعلامات.

قبيل مرض الوفاة كانت الهمة متجهة للتصنيف وزيادة التأليف، وهذه الهمة الجبارة لا شك أنها وليدة ذلك الإيمان القوي الحافز والدافع، ونتيجة التربية، ونتيجة ما قذف الله في قلب هذا الرجل من حب العلم، والنهمة التي رزقها الله إياها، إذا رزق الله طالب العلم نهمة في الجمع؛ فإنه لا يقف عند حد.

لم يؤلف الطبري رحمه الله في فنٍ واحدٍ، أو كان متخصصاً في فن واحد فقط، بل جمع مختلف العلوم الشرعية واللغوية وغيرها، فهو إمام في اللغة.. إمام في التاريخ.. إمام في الحديث.. إمام في التفسير.. إمام في القراءات.. وهكذا.

سمع ابن جرير الحديث من كثيرين، بعضهم من شيوخ البخاري ومسلم ، وحدث عنه خلائق، وهو من جهة أجيال المحدثين يعتبر من جيل الترمذي والنسائي ، مع العلم أن جيل الترمذي بعد جيل البخاري ، وجيل البخاري بعد جيل ابن المديني ، وجيل ابن المديني بعد جيل يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي.. وهكذا، فالإمام أحمد من جيل وعلي بن المديني ويحيى بن معين من هذه الطبقة، والطبري رحمه الله -كما قلنا- برع في جميع الفنون: فقه مقارن.. اختلاف العلماء.. تاريخ.. لغة.. نحو.. صرف.. عروض.. بيان.. مناظرات.. طب.. جبر.. رياضيات.. نظم شعر، وهكذا كله بعد التفسير، والحديث، والعقيدة والأصول.

قال الخونساري : له مصنفات مليحة في فنون عديدة، تدل على سعة علمه وغزارة فضله، وكان من الأئمة المجتهدين.

قال الخطيب البغدادي: وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه بمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله تعالى، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها.. عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام.. عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في التاريخ وهو تاريخ الأمم والملوك ، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه.

ونقل ياقوت الحموي وصفه عن أبي محمد عبد العزيز بن محمد الطبري قال: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ ما لا يجهله أحدٌ عرفه، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحدٍ من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له.

وهذا توفيق من الله، هناك علماء صنفوا لكن مصنفاتهم ذهبت، أحرقت واندثرت ولم يهتم بها أحد، أولادهم باعوا كتبهم، وتاجروا بها، وهناك مذاهب انقرضت وكانوا فقهاء كبار أيام ما كانوا، لكن لم تخدم مذاهبهم، والله سبحانه وتعالى يهيئ من يشاء لمن يشاء، فبعض العلماء مذاهبهم حملت وسارت بها الركبان، وصنفت فيها المصنفات، وبعض العلماء مذاهبهم اندثرت، أو بقيت منها أقوال في كتب الفقه مثلاً، وبعض المصنفات اندثرت وماتت، وبعض المصنفات حية، وابن جرير رحمه الله من هذا الصنف.. من العلماء الذين كتب الله لهم ولمصنفاتهم القبول والانتشار، وما يوجد أحد من العلماء في ذلك الوقت انتشر له مثلما انتشر لـابن جرير رحمه الله على تنوع ما ألف فيه من فنون العلم.

وقال ابن خزيمة وهو الإمام المحدث المشهور إمام أهل السنة : "ما أعلم تحت أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير".

ويقول الذهبي : الإمام العلم الفرد الحافظ أبو جعفر الطبري، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف، كان ثقة صادقاً حافظاً رأساً في التفسير، إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة وغير ذلك.

مؤلفات الطبري كثيرة جداً، ومن المؤلفات التي عرفناها جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، المعروف بـتفسير الطبري وقد طبع مرات عديدة، وتاريخ الأمم والملوك المعروف بـتاريخ الطبري ، واختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام ، والخفيف في أحكام شرائع الإسلام في الفقه وهو مختصر كتاب: لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام المعروف بـاختلاف الفقهاء في علم الخلاف، وهو كتاب واسع اختصره في كتاب الخفيف، فإذاً: اللطيف والخفيف هما كتابان للطبري في الفقه.

وكتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار هذا كتاب في الحديث طبع منه أربعة مجلدات وبقي منه بقايا وهو من الكتب العظيمة.

كذلك ألف كتاب آداب القضاة، وآداب النفوس، والقراءات وتنزيل القرآن، والبصير في معالم الدين، وفضائل علي، وفضائل أبي بكر، وفضائل عمر، وفضائل العباس، وكتاب في تعبير عبارة رؤية في الحديث، ومختصر مناسك الحج، ومختصر الفرائض، والموجز في الأصول، والرمي بالنشاب حتى الرمي بالقوس وطريقة الرمي يقال: إنه للطبري رحمه الله، والرسالة في أصول الفقه، والمسترشد وكتاب اختيار من أقاويل الفقهاء، هذه بعض الكتب التي ألفها صاحب القلم السيال والنفس الطويل ابن جرير رحمه الله تعالى.

يقول الخطيب البغدادي راوياً: إن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة، وإذا ضربت أربعين سنة في إنتاج كل يوم أربعين ورقة يكون الناتج ستمائة ألف ورقة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمد في عمره ستة وثمانين سنة، اطرح منها الطفولة والجمع والترحال والرحلات إلى أن استقر بـبغداد أربعين سنة هذه فترة تدريس وتصنيف، كل يوم يؤلف أربعين ورقة هذه ستمائة ألف ورقة.

يقول ياقوت الحموي : وحدث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب الصلة وهو كتاب وصل به تاريخ ابن جرير -أي: كمل مما انتهى إليه ابن جرير في التاريخ- أن قوماً من تلاميذ ابن جرير حصلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق.

تصنيف الطبري ليس كما يقولون كلام حشو، هذا لا يأتي إلا بعد جمع غزير، ما كان إنتاج الطبري بالغث.

الآن تجد بعض المُحْدَثِين الجدد يؤلف المجلدات، لكن إذا نظرت في الزبدة أو العلم الحقيقي إذا أخرجت العبارات الإنشائية والكلام الذي فيه ما فيه، يمكن أن يصفى لك مختصر كتاب فيه أوراق.

أما ابن جرير رحمه الله فكان كتابه زبداً، ليس فيه حشو، كان علمه المصنف في الكتب سميناً محيطاً بموضوع البحث.

وبعض الكتب عادت عليها عواجل الدهر وحوادث الأيام، ونكبات التاريخ، واحترق ما احترق، وتلف ما تلف، وغرق ما غرق، وضاع ما ضاع، فقد القسم الأكبر، وما وصلنا الآن هو الأقل مما تركه ابن جرير رحمه الله، لكن يكفي تفسير الطبري ثلاثين مجلداً، وتاريخ الأمم والملوك ثمانية مجلدات، وقطعتين من اختلاف الفقهاء ، لكن -مع الأسف- المستشرقين هم الذين اهتموا بـتاريخ الطبري وبمؤلفاته، تهذيب الآثار فيها مسند عمر ومسند علي ومسند عبد الله بن عباس وله فيها مسانيد أخرى للصحابة كثيرة.

ولنعلم أن ابن جرير رحمه الله لم يكن يحبس نفسه بين أربعة جدران، لا يعلم عن العالم، ولا يساهم في شيء، لا. كان محتكاً بالحياة والمجتمع والأمة والأحداث، ولم يكن في برج عاجٍ فقط يصنف، كان له طلاب ثم هذه الرحلة الطويلة التي رحلها أكسبته خبرة وتجارب في الناس والأحوال والأحداث.

رزق رحمه الله بطلاب وتلامذة أقوياء، كان يملي عليهم ويحدثهم ويقرئ القرآن والقراءات، ويصلي إمام بالجماعة، ويقصده الناس لسماع قراءته وتجويده، والصلاة خلفه، فالرجل لم يكن مثل بعض الناس الآن لا تعرف عنهم شيئاً ألبتة إلا من كتبهم، إنما لا تاريخ، لا سيرة، لا حياء، لا إيمان، لا دروس، لا خطابة، ولا مساهمة في حل مشكلات الناس، لم يكن الطبري رحمه الله كذلك، كان إماماً مدرساً مصنفاً مناظراً له أتباع، أخذوا علمه، وحملوا فقهه، ونشروا مذهبه، وكان يحنو على تلاميذه وطلابه ويعاملهم معاملة كريمة.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3530 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3496 استماع
اليهودية والإرهابي 3425 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3424 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3348 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع