يا أيها الإنسان


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أحبتي الكرام! يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث رحمةً للناس كلهم، وجاء بالهدى والنور المستقيم، وبعث بالشريعة السمحة العادلة التي ليس فيها ظلم ولا جور ولا حيف على أحد، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بغاية العدل، وغاية الرحمة، وغاية التكريم لهذا الإنسان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7] يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6].

لقد جاء ذكر الإنسان في القرآن الكريم بلفظ الإنسان في نحو خمسة وستين موضعاً، ذكر الله عز وجل فيها أشياء كثيرة تتعلق بالإنسان، منها: بدء خلق الإنسان، وكيف خلق، وممّ خلق، وعلى أي صفة خلق، والمراحل والأحوال التي يتقلب فيها، والمآل الذي يصير إليه، والحالات التي يكون عليها، والإنسان حين يكون مستقيماً وحين يكون منحرفاً، حين يكون غنياً وحين يكون فقيراً، حين يكون صحيحاً وحين يكون عليلاً، حين يكون مؤمناً وحين يكون كافراً في الدنيا والآخرة، الرجل والمرأة، الكبير والصغير، المأمور والأمير، الحاكم والمحكوم.

حتى إنك إذا نظرت في القرآن الكريم تكاد بأن تجزم أن القرآن كله إنما جاء يعالج قضية الإنسان، الطريق الصحيح الذي يسلكه الإنسان، والطريق المعوجة التي يُحذَّر الإنسان منها، إلى غير ذلك، وليست العبرة فقط بآيات ذكر فيها لفظ الإنسان مثل هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ [الإنسان:1] (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ ) خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] بل إن الأمر أوسع من ذلك، فأنت تجد الكلام على الإنسان وأصله في أشياء كثيرة.

مثلاً قصة آدم عليه الصلاة والسلام، وكيف خلقه الله عز وجل، وأسكنه الجنة، وأسجد له ملائكته قال الله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34] أي شيء أعظم في تكريم الإنسان، ورفع الإنسان؛ وبيان مقام الإنسان؟ من أن الله عز وجل يخلق آدم أبا البشر بيده؟ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده} فخلق الله تعالى آدم بيده من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه، قال تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29] نفخ فيه هذه الروح التي بها صار إنساناً، ثم أسجد له ملائكته، أشرف مخلوقاته أسجدهم لآدم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ).

مع أن الملائكة كانوا يقولون حين قال الله عز وجل لهم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30] قالوا مستغربين متسائلين، وهم يعلمون أن الله تعالى أعلم وأحكم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30] لأن الملائكة جبلوا على الخير قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].

فخلق الله عز وجل هذا الإنسان، وأسجد له ملائكته -لآدم عليه الصلاة والسلام- ونفخ فيه من روحه، وجعل الكرامة في بنيه من بعده، ولذلك كم خوطب الإنسان بقوله تعالى: يا بني آدم كقوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:27] حتى قال الله عز وجل: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70].

فالعقيدة الإسلامية في الإنسان أنه مخلوق مستقل، أول واحد في السلالة هو آدم عليه الصلاة والسلام، ثم تسلسل بنوه من بعده، وليس كما تقول النظريات الغربية الكافرة الملحدة في تطور الإنسان، وأنه كان في الأصل من جنس أو نوع آخر.

وتطور حتى صار إنساناً، الإنسان أصلاً خلق إنساناً متميزاً، ولذلك ينظر الإسلام للإنسان هذه النظرة، أنه مخلوق على هذه الصفة وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] تكريم لهذا الإنسان، ثم تجد في القرآن الكريم أيضاً خطاباً من الله عز وجل للناس بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21] وما الناس إلا أفراد، إنسان وإنسان وإنسان فالمجموع أناس، وكم في القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] كذلك (يَا عِبَادِيَ) في القرآن الكريم والسنة النبوية.

حتى قال الله عز وجل في حديث أبي ذر وهو في صحيح مسلم في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم....الخ}.

يخاطب الله عز وجل عباده ويتحبب إليهم، ويتودد إليهم، مع أنه تعالى غني عنهم، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملك الله تعالى شيئاً، ولا ضر الله عز وجل شيئاً قال الله: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً [آل عمران:144].

ومع ذلك يخاطبهم عز وجل هكذا، حتى قال الإمام الفضيل بن عياض معبراً عن شعوره العظيم الكبير، وهو يسمع ويقرأ في القرآن الكريم، أن رب العالمين، الغني، الواجد، الماجد، القوي، العزيز، يخاطبه يا عبادي! فيقول:

ومما زادني شرفاً وتيها     وكدت بأخمصي أطأ الثريا

كدت أن أضع رجلي على الثريا، لماذا؟! لأنه يملك أموالاً طائلة! أو لأنه يتربع على عرش أو كرسي، أو لأنه يتمتع بالسمعة والجاه! كلا! بل:

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

هل تشعر أخي الحبيب بهذا الشعور الذي شعر به الفضيل، وهو يقرأ هذه الآية أو يسمعها؟

ما سر تكريم الله لهذا الإنسان؟ هل سره لأن هذا الإنسان يتمتع بجسد قوي؟

كلا! فإن الفيل والأسد أكثر قوة من الإنسان وأشد منه، ولذلك فليس صحيحاً أن تكريم الإنسان يعود إلى الاهتمام بجسده، أو العناية بصحته، أو العناية بقوته، أو حفظه مما يضر ببدنه أو يقتله، كل هذا لا بأس به، بل هو مطلوب أن يعتني الإنسان بالصحة، وبالبدن، وبالتغذية، ويعتني بالحماية من كل ما يضر الإنسان هذا كله جاء الدين بطلبه، ولا شك في هذا، لكن تجد من آثار ذلك، أن الناس أصبحت العناية عندهم بأجسادهم حتى كأن سر إنسانية الإنسان في جسده!

مبالغة في الاعتناء بالجسد

وعلى سبيل المثال: انظر إلى الناس حين يشتغلون بالرياضة، وألوان الألعاب الرياضية، إنهم حينئذ إذا كانت القضية قضية بدن فقط؛ كأنما يربون عجولاً آدمية.

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أتعبت نفسك فيما فيه خسران

أقبل على الروح فاستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

ليست إنسانيتك لأنك صاحب جسم كبير أو قوي، فهناك في الحيوانات التي لم تتمتع بالإنسانية ما هو أقوى منك، وأعظم جسداً منك، تجد أن الناس يهتمون بقضية الجسم الاهتمام الكبير، يهتمون بأنواع التغذية، وربما تجد أقل إنسان عنده معرفة أو ثقافة اليوم يستطيع أن يعدد لك أنواع الأطعمة، والأطعمة التي فيها فيتامينات، والأطعمة التي فيها بروتينات، والأطعمة التي فيها دهنيات، ويعرف الأطعمة التي تصلح لهذه الطبقة، والأطعمة التي تصلح لطبقة أخرى، ويعرف الأطعمة تصلح للشتاء، والأطعمة التي تصلح للصيف، وأصبح الناس مختصين.

ثم تنتقل إلى قضية الطبخ، تجد الطبخ أصبح فناً مستقلاً فيه كتب خاصة، بل فيه مدارس ومعاهد مهمتها تعويد الناس على الطبخ، وتطور الأمر حتى أصبح في بعض المستوصفات جناح خاص لتعويد ربات البيوت -كما يقولون- على فنون الطبخ الصحيح.

ننتقل الى الحلويات بأنواعها، والاهتمامات الزائدة بها: حلويات لكل المناسبات.

فهذا اهتمام بالجسم، ليس اهتماماً عادياً، بل اهتمام تحول إلى نوع من العناية الزائدة بالجسم، حتى كأن إنسانية الإنسان في جسده، ثم إذا شعر الإنسان أن هناك خطراً يهدد جسده؛ أصبحت تجد هذا الهم الكبير، ولعل أقرب مثال نضربه ما نعانيه ويعانيه الناس اليوم من قضية المخاوف من الغازات السامة، من الكيماويات وغيرها التي يخشى الناس أن تنـزل بهم، أو تحل قريباً من ذلك.

فأصبح الإنسان يعتني عناية كبيرة بتسديد الثقوب والنوافد، بالورق اللاصق وأنواع الشمع والصمغ والستائر وغيرها، ويستخدم كافة الاحتياطات التي فيها وقاية وحماية للإنسان. أيضاً ليس لنا اعتراض على هذا الأمر، إلا إذا تعدى، حتى أنه حصل حالات وفاة، وأخرج أناس بوسائل الدفاع المدني بسبب سوء استخدامهم لهذه الطرائق.

فالأمر إذا تعدى حده انقلب إلى ضده، يهرب من الموت ويقع في الموت، سبحان الله! أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] إنسان بالغ في إغلاق النوافذ، وتسديد الثغرات والفتحات في البيت ونام، فكانت هذه النومة هي النومة الأخيرة في الدنيا، ما جاءه الموت عن طريق الغاز السام الذي كان يخشاه، إنما جاءه الموت عن طريق شدة الحذر من هذا الغاز السام الذي كان يخشاه.

الاعتناء بالروح أولى من الجسد

هل نطمع منك -يا أخي الكريم- أن يكون إغلاقك لمنافذ الفساد عن بيتك كإغلاقك لمنافذ دخول الهواء إلى بيتك؟ هل استطعت -فعلاً- أن تغلق منافذ الفساد التي تبث الفساد إلى بيتك عبر الشاشة، أو عبر الكلمة المسموعة، أو عبر ورق الجريدة أو المجلة، أو عبر الكتاب، أو الشريط، أو الاتصالات التي يجريها الأولاد أو تجريها البنات؟!

هذا السؤال يجب أن نطرحه؛ لأننا إذا كنا نعتقد أن تكريم الإنسان ليس في بدنه؛ فلا بد أن نطرح هذا السؤال، ليس تكريمك لبدنك بحيث يكون الاهتمام منصباً على البدن، إنما التكريم -تكريم الإنسان- لأن الله عز وجل نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وميزه بهذا العقل، وكلفه بحمل الرسالة، بحمل الدين، والاعتقاد الصحيح، والدعوة إلى الله عز وجل، وعبادة الله تعالى، فتكريم الإنسان هو بعبادته.

ولذلك أعظم وأشرف لفظ يمكن أن ينادى به إنسان هو أن يقال له: يا مؤمن! أو (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كما كان يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا؛ فأرعها سمعك، فإنها إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه]].

الإيمان سر التكريم

إن الإيمان الذي يتميز به الإنسان هو سر تكريمه، فهل حرصك وحفاظك على الإيمان في نفسك وأهلك، وولدك كحرصك على حمايتهم من الأمراض والأوبئة، أو كحرصك على توفير المطاعم والمشارب والمآكل والملابس لهم؟ هذا سؤال يطرح نفسه عليك أخي الكريم!

خرجت يوماً من الأيام في أحد الأمسيات؛ فوجدت أن الشوارع خالية في الوقت الذي كان كثير من الناس يتخوفون من مثل هذه الأشياء، فسألت نفسي: أين الأطفال الذين كانوا يؤذون الناس في الشوارع؟ أين الفرق الذي كانت تلعب الكرة؟ أين المجموعات التي كانت تكون على جنبات الطريق يمنة ويسرة؟ أين الشلل التي كانت تقضي أوقاتاً طويلة في لهو ولعب وكلام لا فائدة من ورائه؟ لقد ذهبوا، كيف ذهبوا؟! ذهبوا لأن الآباء والأبناء -وبصفة عامة- المجتمع بكافة مؤسساته بدءاً من المؤسسات العليا التي تمارس التوجيه أو التثقيف -كما يقولون- مؤسسات إعلامية، توجيهية تعليمية، ومروراً بالبيت، وانتهاءً بالفرد العادي، أصبح عندهم شعور أن هناك خطراً ينبغي أن يتقوه، ولذلك لجئوا إلى بيوتهم وابتعدوا عن منطقة هذا الخطر.

لكن أين كان هذا الأمر من القضايا الأخرى؟ لأنه يمكن أن يبقى الإنسان حياً ولكنه بدون صلاح، بدون استقامة، فتكون حياته وبالاً عليه.

أيها الإخوة: إن الله تعالى حين تكلم عن الإنسان قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:4-6].

فالإنسان إذا انحرف وضل، تحول من كونه إنساناً مكرماً عزيزاً إلى كونه أحط حتى من البهائم، كما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

فالإنسان إذا كان سر تكريمه هو التكليف، ومطالبته بالعبودية، ومنحه هذا العقل، إذا أهدر هذه الأشياء وضيعها، وأقبل على دنياه ونسي آخرته؛ أصبحت البهائم أعلى منـزلة منه، لماذا؟ لأنها لم تكلف بهذه الأشياء، ولذلك يوم القيامة يقال للبهائم: {كوني تراباً} لكن الكافر يتمنى أن يكون كذلك وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40] فلا يستطيع ذلك ولا يملكه ولا يحصل له.

كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً      وحسب المنايا أن يكن أمانيا

حين تتنقل إلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ تنظر كيف تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنسان، وبين كرامة الإنسان ومنـزلته، والكلام في السنة النبوية أيضاً يطول، وأعتقد أنه من الصعب جداً حصر الأحاديث التي تحدث النبي صلى الله عليه وسلم وتكلم فيها عن الإنسان، فهذا باب واسع جداً، لكن تجد على سبيل المثال من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام التي جاءت بلفظ الإنسان: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة، في رواية مسلم، والحديث أصله متفق عليه، لكن في رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل إنسانٍ تلده أمه على الفطرة} وكذلك قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه الترمذي: {كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه} أي ما قدر له من العمر والأجل.

ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري حين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الشيطان: {وأنه يأتي حتى يخطر بين الإنسان وبين نفسه، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر} وفي حديث أبي داود يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الإنسان ركب على ثلاثمائة وستين مفصلاً، وكل مفصل من هذه المفاصل عليه صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما العبد من الضحى} ركعتا الضحى تجزئان عن ثلاثمائة وستين صدقة مطلوبة منك يومياً.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الجنازة: {وأنه يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق} والحديث ذكره البخاري في كتاب الجنائز.

وعلى سبيل المثال: انظر إلى الناس حين يشتغلون بالرياضة، وألوان الألعاب الرياضية، إنهم حينئذ إذا كانت القضية قضية بدن فقط؛ كأنما يربون عجولاً آدمية.

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أتعبت نفسك فيما فيه خسران

أقبل على الروح فاستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

ليست إنسانيتك لأنك صاحب جسم كبير أو قوي، فهناك في الحيوانات التي لم تتمتع بالإنسانية ما هو أقوى منك، وأعظم جسداً منك، تجد أن الناس يهتمون بقضية الجسم الاهتمام الكبير، يهتمون بأنواع التغذية، وربما تجد أقل إنسان عنده معرفة أو ثقافة اليوم يستطيع أن يعدد لك أنواع الأطعمة، والأطعمة التي فيها فيتامينات، والأطعمة التي فيها بروتينات، والأطعمة التي فيها دهنيات، ويعرف الأطعمة التي تصلح لهذه الطبقة، والأطعمة التي تصلح لطبقة أخرى، ويعرف الأطعمة تصلح للشتاء، والأطعمة التي تصلح للصيف، وأصبح الناس مختصين.

ثم تنتقل إلى قضية الطبخ، تجد الطبخ أصبح فناً مستقلاً فيه كتب خاصة، بل فيه مدارس ومعاهد مهمتها تعويد الناس على الطبخ، وتطور الأمر حتى أصبح في بعض المستوصفات جناح خاص لتعويد ربات البيوت -كما يقولون- على فنون الطبخ الصحيح.

ننتقل الى الحلويات بأنواعها، والاهتمامات الزائدة بها: حلويات لكل المناسبات.

فهذا اهتمام بالجسم، ليس اهتماماً عادياً، بل اهتمام تحول إلى نوع من العناية الزائدة بالجسم، حتى كأن إنسانية الإنسان في جسده، ثم إذا شعر الإنسان أن هناك خطراً يهدد جسده؛ أصبحت تجد هذا الهم الكبير، ولعل أقرب مثال نضربه ما نعانيه ويعانيه الناس اليوم من قضية المخاوف من الغازات السامة، من الكيماويات وغيرها التي يخشى الناس أن تنـزل بهم، أو تحل قريباً من ذلك.

فأصبح الإنسان يعتني عناية كبيرة بتسديد الثقوب والنوافد، بالورق اللاصق وأنواع الشمع والصمغ والستائر وغيرها، ويستخدم كافة الاحتياطات التي فيها وقاية وحماية للإنسان. أيضاً ليس لنا اعتراض على هذا الأمر، إلا إذا تعدى، حتى أنه حصل حالات وفاة، وأخرج أناس بوسائل الدفاع المدني بسبب سوء استخدامهم لهذه الطرائق.

فالأمر إذا تعدى حده انقلب إلى ضده، يهرب من الموت ويقع في الموت، سبحان الله! أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] إنسان بالغ في إغلاق النوافذ، وتسديد الثغرات والفتحات في البيت ونام، فكانت هذه النومة هي النومة الأخيرة في الدنيا، ما جاءه الموت عن طريق الغاز السام الذي كان يخشاه، إنما جاءه الموت عن طريق شدة الحذر من هذا الغاز السام الذي كان يخشاه.

هل نطمع منك -يا أخي الكريم- أن يكون إغلاقك لمنافذ الفساد عن بيتك كإغلاقك لمنافذ دخول الهواء إلى بيتك؟ هل استطعت -فعلاً- أن تغلق منافذ الفساد التي تبث الفساد إلى بيتك عبر الشاشة، أو عبر الكلمة المسموعة، أو عبر ورق الجريدة أو المجلة، أو عبر الكتاب، أو الشريط، أو الاتصالات التي يجريها الأولاد أو تجريها البنات؟!

هذا السؤال يجب أن نطرحه؛ لأننا إذا كنا نعتقد أن تكريم الإنسان ليس في بدنه؛ فلا بد أن نطرح هذا السؤال، ليس تكريمك لبدنك بحيث يكون الاهتمام منصباً على البدن، إنما التكريم -تكريم الإنسان- لأن الله عز وجل نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وميزه بهذا العقل، وكلفه بحمل الرسالة، بحمل الدين، والاعتقاد الصحيح، والدعوة إلى الله عز وجل، وعبادة الله تعالى، فتكريم الإنسان هو بعبادته.

ولذلك أعظم وأشرف لفظ يمكن أن ينادى به إنسان هو أن يقال له: يا مؤمن! أو (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كما كان يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا؛ فأرعها سمعك، فإنها إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه]].

إن الإيمان الذي يتميز به الإنسان هو سر تكريمه، فهل حرصك وحفاظك على الإيمان في نفسك وأهلك، وولدك كحرصك على حمايتهم من الأمراض والأوبئة، أو كحرصك على توفير المطاعم والمشارب والمآكل والملابس لهم؟ هذا سؤال يطرح نفسه عليك أخي الكريم!

خرجت يوماً من الأيام في أحد الأمسيات؛ فوجدت أن الشوارع خالية في الوقت الذي كان كثير من الناس يتخوفون من مثل هذه الأشياء، فسألت نفسي: أين الأطفال الذين كانوا يؤذون الناس في الشوارع؟ أين الفرق الذي كانت تلعب الكرة؟ أين المجموعات التي كانت تكون على جنبات الطريق يمنة ويسرة؟ أين الشلل التي كانت تقضي أوقاتاً طويلة في لهو ولعب وكلام لا فائدة من ورائه؟ لقد ذهبوا، كيف ذهبوا؟! ذهبوا لأن الآباء والأبناء -وبصفة عامة- المجتمع بكافة مؤسساته بدءاً من المؤسسات العليا التي تمارس التوجيه أو التثقيف -كما يقولون- مؤسسات إعلامية، توجيهية تعليمية، ومروراً بالبيت، وانتهاءً بالفرد العادي، أصبح عندهم شعور أن هناك خطراً ينبغي أن يتقوه، ولذلك لجئوا إلى بيوتهم وابتعدوا عن منطقة هذا الخطر.

لكن أين كان هذا الأمر من القضايا الأخرى؟ لأنه يمكن أن يبقى الإنسان حياً ولكنه بدون صلاح، بدون استقامة، فتكون حياته وبالاً عليه.

أيها الإخوة: إن الله تعالى حين تكلم عن الإنسان قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:4-6].

فالإنسان إذا انحرف وضل، تحول من كونه إنساناً مكرماً عزيزاً إلى كونه أحط حتى من البهائم، كما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

فالإنسان إذا كان سر تكريمه هو التكليف، ومطالبته بالعبودية، ومنحه هذا العقل، إذا أهدر هذه الأشياء وضيعها، وأقبل على دنياه ونسي آخرته؛ أصبحت البهائم أعلى منـزلة منه، لماذا؟ لأنها لم تكلف بهذه الأشياء، ولذلك يوم القيامة يقال للبهائم: {كوني تراباً} لكن الكافر يتمنى أن يكون كذلك وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40] فلا يستطيع ذلك ولا يملكه ولا يحصل له.

كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً      وحسب المنايا أن يكن أمانيا

حين تتنقل إلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ تنظر كيف تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنسان، وبين كرامة الإنسان ومنـزلته، والكلام في السنة النبوية أيضاً يطول، وأعتقد أنه من الصعب جداً حصر الأحاديث التي تحدث النبي صلى الله عليه وسلم وتكلم فيها عن الإنسان، فهذا باب واسع جداً، لكن تجد على سبيل المثال من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام التي جاءت بلفظ الإنسان: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة، في رواية مسلم، والحديث أصله متفق عليه، لكن في رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل إنسانٍ تلده أمه على الفطرة} وكذلك قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه الترمذي: {كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه} أي ما قدر له من العمر والأجل.

ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري حين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الشيطان: {وأنه يأتي حتى يخطر بين الإنسان وبين نفسه، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر} وفي حديث أبي داود يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الإنسان ركب على ثلاثمائة وستين مفصلاً، وكل مفصل من هذه المفاصل عليه صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما العبد من الضحى} ركعتا الضحى تجزئان عن ثلاثمائة وستين صدقة مطلوبة منك يومياً.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الجنازة: {وأنه يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق} والحديث ذكره البخاري في كتاب الجنائز.

إذاً الإنسان مخلوق مكرم مميز، خلقه الله عز وجل، وأسجد له ملائكته، وميزه بالعقل والتكليف، وطالبه بالعبودية له، وجعل لهذا الإنسان حقوقاً لا بد من رعايتها، ولذلك لا يمكن أن تجد مذهباً أو ديناً في الدنيا ضمن وكفل حقوق الإنسان مثل الإسلام، لماذا؟ لأن نظرة الإسلام إلى الإنسان نظرة صحيحة، أما النظم والمذاهب والأديان الأرضية الأخرى المنحرفة، فهي -أصلاً- تنظر إلى الإنسان نظرة فاسدة.

مثل الذين يعتبرون أن أصل الإنسان حيواناً تطور، وتسلسل في الرقي حتى صار إنساناً، فمثل هؤلاء ينظرون إلى الإنسان نظرة حيوانية، ولهذا يهمهم من الإنسان الجانب الجسدي، تغذية الإنسان، متعته الجنسية، متعته في الأكل والشرب، الأشياء المادية، أما الجانب الأخلاقي، والجانب التعبدي، والإيماني، فلا يعنيهم في الإنسان، وانظر في الحضارة الغربية اليوم، الغرب يعتني بالإنسان في الجوانب البدنية، لكنه ضيع الإنسان تماماً في النواحي الأخلاقية، والروحية الإيمانية، ولهذا ضجوا وصاحوا، يقولون: إن الإنسان في الغرب جسدٌ بلا روح، وإن الحضارة الغربية أشبعت الإنسان وأروته بالماء والطعام والشراب، ولكن الظمأ العاطفي، الحاجة إلى الإيمان، الحاجة إلى التدين، هذه الحضارة فشلت في إشباعها عند الإنسان.

دعوة الرسل جاءت لتحرير الإنسان

لقد بين الله عز وجل في مواضع كثيرة؛ أن الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما جاءوا لتحرير الإنسان، جاءوا لتحرير الإنسان من ألوان العبودية لغير الله عز وجل، سواءً كانت العبودية لطاغوت يحكم الناس بغير شريعة الله عز وجل، ويفرض على الناس من ألوان التسلط والإذلال ما لا طاقة لهم به، أو كانت العبودية لملك، أو كانت العبودية لمال، أو كانت العبودية لجاه، أو كانت لزوجة، أي لون من ألوان العبودية والذل؛ جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحرير الإنسان من هذه العبودية.

حتى العبودية للعادة، التي يحكمها الناس فيما يخالف شرع الله عز وجل، ويعتبرون أن العادة تقود الإنسان إلى أشياء كثيرة، وربما إذا طولبوا بشيء، قالوا: ما سمعنا بهذا.

أي: أن العادات المألوفة في مجتمعنا تخالف هذا الأمر، كما قال المشركون الأولون؛ حينما جاءهم الرسل عليهم الصلاة والسلام: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون:24].

لقد جاء الرسل لتحرير الإنسان من جميع ألوان العبودية والتسلط، وجاءوا لتكريمه، كما قال الله عز وجل: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] حتى العبودية لملائكة -مثلاً- أو لرسل؛ جاءت الديانات السماوية لرفض هذه العبودية، ولذلك نعى الله تعالى على النصارى عبوديتهم لعيسى عليه الصلاة والسلام، حيث زعموا أنه إله من دون الله أو رب، ولهذا قال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31].

دعوى الغرب في حقوق الإنسان كاذبة

فكل ألوان العبودية لغير الله عز وجل مرفوضة في الإسلام، وهذا الأمر وأعني به، وأن الرسل جاءوا لتحرير الإنسان وجعله إنساناً يتمتع بالكرامة والحقوق التي وهبه الله تعالى إياها، ليس هذا أمراً يأخذه الإنسان عن طريق المطالبات والمظاهرات والاحتجاجات، كما هي الحال بالنسبة للنظام الغربي، والدول الغربية، فالدول الغربية حصل فيها الإنسان على بعض حقوقه، بل أصبحت -مع الأسف الشديد- الدول الغربية تتغنى بما يسمونه حقوق الإنسان، ومنظمة حقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة الذي يحترم حقوق الإنسان -كما يزعمون- ومعاهدات الدول الغربية التي تكفل حقوق الرجل، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، ومن هذا المنطلق أنشئوا المؤسسات، والجمعيات، والمعاهدات الطويلة العريضة التي يزعمون أنهم يكفلون بها حقوق الإنسان.

وليس الكلام الآن عن نظرتهم، إنما المقصود: متى ما وصل الغربيون إلى هذا الوضع الذي يزعمون به أنهم كرموا الإنسان وحفظوا حقوقه؟

وصلوا بعد أزمنة طويلة جداً من اضطهاد الإنسان واحتقار الإنسان، وبعدما صارت مظاهرات ومطالبات، وجهود، وأشياء كثيرة، وعاشوا قروناً طويلة وهم يئنون تحت ضغوط الاضطهاد بكافة صوره وألوانه وأشكاله، سواء الاضطهاد من حكامهم وملوكهم وسلاطينهم، أو الاضطهاد من رجال الكنيسة الذين كانوا يحكمونهم باسم الدين ظلماً وزوراً وبهتاناً، أو الاضطهاد بأي صورة من الصور، وفي الأخير وصلوا إلى ما يعتبرونه حقوق الإنسان.

للإنسان حقوق وعليه واجبات

أما الإسلام فإنه يعتبر أن قضية حفظ حقوق الإنسان جزءٌ من الدين، صحيح أن الإنسان يجب أن يعرف حقوقه ليطالب بها في حالة وجود من يمنعه بعض هذه الحقوق، فالإنسان يجب أن يعرف ما له من الحقوق، كما يعرف ماذا عليه من الواجبات، بمعنى: أن الدين جاء ليقول لك: أيها الإنسان، هذا مكانك في الإسلام، مثل ما أنك مطالب بأشياء تجاه زوجتك، وتجاه أولادك، وتجاه جيرانك، وتجاه مجتمعك، تجاه الدولة التي تعيش فيها، وتجاه القريب، والبعيد.

كذلك أنت لك حقوق على هؤلاء، فلك حقوق على زوجتك، ولك حقوق على ولدك، ولك حقوق على والدك، ولك حقوق على جارك، ولك حقوق على المسئول عنك، ولك حقوق على الدولة التي تعيش فيها، وكما أنت تؤدي الحقوق التي عليك، يجب أن تأخذ الحقوق التي لك، فالأمور هذه متلازمة.

وليس صحيحاً أن ينظر الناس نظرة واحدة فقط، كل الكلام الذي نسمعه -تقريباً أو غالباً- يتكلم عن شيء واحد، وهي الحقوق والواجبات التي عليك أن تؤديها، لكن الأشياء التي لك وينبغي أن تطالب بها وتأخذها، هذه قل من يتحدث عنها، ولذلك ضمر الإنسان، وقلَّت قيمته، وفقد أهميته، وأصبح يعتبر أن أي شيء يعطى له من حقوقه يعتبره هدية ثمينة، ومكرمة غالية، وإحساناً كبيراً، وفضلاً لا حق له فيه أصلاً، وهذا خطأ كبير.

أذكر أني قرأت كتاباً يتكلم عن وضع إحدى الدول قبل عشرات السنين، وكان فيها من يسمونه بالإمام، إمام جبار وظالم، كان يبخس الناس أشياءهم، ويعتدي على حقوقهم، وكانوا يعيشون في حالة من الفقر وشظف العيش، حتى إن الأطفال يأتون إلى المدرسة وهم أشباه العراة لا يكادون يجدون ما يستر عوراتهم، فجاء مدرس من المدرسين، وكان يجلس مع ذلك الذي يسمونه إماماً، فاقترح عليه لو وزع على الأطفال ملابس يستر بها سوءاتهم وعوراتهم، ويتقون بها من أذى الحر والقر، فتكرم وجاد وأعطاه ثوباً ثوباً، بعد أن مضت سنة جاء هذا الأستاذ نفسه، واقترح عليه مرة أخرى، وقال: أنت أعطيتهم العام الماضي وشكروا لك، ودعوا لك، وأثنوا عليك، وذكر أشياء، لكن لو أنك كررت هذه فإن نفوسهم قد تطلعت إليه، واشتاقت أن تعود بما أعطيتهم في العام الماضي في مثل مكانك، فقال: لا يمكن هذا أن يكون؛ لأنني إن أعطيتهم هذا العام مثل ما أعطيتهم العام الماضي ظنوا أن هذا حق من حقوقهم، ففي العام القادم لو لم أعطهم فيمكن أن يطالبوني به، وأنا لا أريد أن يفهم أحد أن عليَّ له حق من الحقوق، إنما يفهم أن ما أطيه هو فضل وتكرم وجود، إن أعطيته شكر وإن منعته رضي وصبر ودعا، واعتبر أن الأمر مني وإلي.

إذاً من الخطأ الكبير أن أتكلم عن الحقوق على الإنسان، ولا أتكلم عن الحقوق التي للإنسان، فإن الإنسان -بمقتضى كونه إنساناً كرمه الله عز وجل- ينبغي أن يعرف ماذا عليه من الواجبات فيؤديها، وفي المقابل ينبغي أن يعرف ماذا له من الحقوق فيطالب بها في حالة تأخرها أو تخلفها، لأن المشكلة عندنا ليست مشكلة الإنسان بذاته كفرد، إنما المشكلة مشكلة أمة، عندما تتصور أن فرداً واحداً كما في الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح لما قال: {اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك} هذا صحيح لا إشكال فيه، لكن لو تصورت أمة كاملة وتسلب حقوقها، تسلب كرامتها ومكانتها، تسلب ما أعطاها الله عز وجل إياه بنص الكتاب ونص السنة، فإن معنى ذلك أن هذه الأمة كلها قد فقدت معنى إنسانيتها، ومعنى كونها أمة كلفها الله عز وجل بواجبات وأشياء لا تستطيع أن تقوم بها، لأنها جُردت من إنسانيتها حين سلبت هذه الحقوق التي هي لها في أصل الشرع.

لقد بين الله عز وجل في مواضع كثيرة؛ أن الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما جاءوا لتحرير الإنسان، جاءوا لتحرير الإنسان من ألوان العبودية لغير الله عز وجل، سواءً كانت العبودية لطاغوت يحكم الناس بغير شريعة الله عز وجل، ويفرض على الناس من ألوان التسلط والإذلال ما لا طاقة لهم به، أو كانت العبودية لملك، أو كانت العبودية لمال، أو كانت العبودية لجاه، أو كانت لزوجة، أي لون من ألوان العبودية والذل؛ جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحرير الإنسان من هذه العبودية.

حتى العبودية للعادة، التي يحكمها الناس فيما يخالف شرع الله عز وجل، ويعتبرون أن العادة تقود الإنسان إلى أشياء كثيرة، وربما إذا طولبوا بشيء، قالوا: ما سمعنا بهذا.

أي: أن العادات المألوفة في مجتمعنا تخالف هذا الأمر، كما قال المشركون الأولون؛ حينما جاءهم الرسل عليهم الصلاة والسلام: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون:24].

لقد جاء الرسل لتحرير الإنسان من جميع ألوان العبودية والتسلط، وجاءوا لتكريمه، كما قال الله عز وجل: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] حتى العبودية لملائكة -مثلاً- أو لرسل؛ جاءت الديانات السماوية لرفض هذه العبودية، ولذلك نعى الله تعالى على النصارى عبوديتهم لعيسى عليه الصلاة والسلام، حيث زعموا أنه إله من دون الله أو رب، ولهذا قال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31].