المراجعات - 1 -


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعــد:

فكان حق هذا المجلس أن يكون هو المجلس (109) من أمالي شرح بلوغ المرام، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على التمام، ولكني رأيت لاعتبارات خاصة أن ألحق هذا الدرس بسلسة الدروس العلمية العامة بحيث يكون رقمه (43) وهو ينعقد في هذه الليلة الأربعاء (30/ من شهر ربيع الثاني/ من سنة 1412هـ)، وذلك بعنوان "المراجعات" وكان حقه أيضاً أن يكون في ليلة الإثنين كالمعتاد، ولكننا لاستغراقنا في هذا الأسبوع والأسبوع القادم -إن شاء الله تعالى- في الحديث عن قضية اليهود، وموقفهم من الإسلام، وما يتعلق بها، رأيت أن تأخير هذا الموضوع قد لا يكون مناسباً، وقد حاك في نفسي أن أتحدث به إليكم أيها الأحبة.. في هذه الليلة، فلترفع الأقلام إذاً، ولتطوى الصحف.

وإني لأعتذر إليكم أيها الأحبة الطلاب على مثل هذا الخلل الذي لم يكن معتاداً إلا لظرف خاص -كما أسلفت-.

والمراجعات فكرة قديمة طرحتها أكثر من مرة، أنني سوف أقدم بين الحين والآخر مجموعة من الأخطاء، والملاحظات، والأوهام، والاجتهادات، التي تبين لي أنني لم أكن فيها على حق، وأن أقدمها إليكم حال ما تتوفر عندي، وذلك لاعتبارات عدة منها:

التبرؤ من الأخطاء

أولاً: تبرأً وتنصلاً من عهدة كلام يكون الإنسان قاله أو أداه، ثم تبين له خطأه، فيحب أن يُعذر ويبين أن هذا الكلام الذي قاله ليس بصواب، وأنه يبرأ من تبعاته وعهدته ولا يرتضيه، وهذا هو المسلك الواجب على كل مسلم، أو طالب علم، تجاه ما يصدر منه من قول، أو فعل، مقروءً، أو مكتوباً، أو غير ذلك.

ظهور الأخطاء عن طريق الآخرين

وأمر آخر يدعو إلى طرح مثل هذه المراجعات بين الحين والآخر، وهو:

أن الإنسان قلما يكتشف خطأه بنفسه، وإنما يساعده على اكتشاف خطئه الآخرون، من الأعداء، أو من الأصدقاء!

فأما الأصدقاء فهم كالمرآة يكتشف الإنسان فيها نفسه، ومحاسنه، وعيوبه، ولذلك قال القائل:

شاور سواك إذا نابتك نائبة     يوماً وإن كنت من أهل المشورات

العين تبصر فيها ما دنا ونأى     ولا ترى نفسها إلا بمرآة

فصديقك كالمرآة، وقد جاء في حديث فيه نظر: {المؤمن مرآة أخيه}.

أما الأعداء فهم يجهدون في البحث عن العيوب والزلاَّت، ويظنون أنهم بذلك يحطون من قدر الإنسان، وهم في الحقيقة يرفعون منـزلته، لأنهم يساعدونه على معرفة أخطائه وعيوبه، ويعينونه على التخلص منها، ولذلك دعا لهم الشاعر الحكيم فقال:

عداتي لهم فضلٌ عليَّ ومنة     فلا أبعد الرحمن عني الآعادي

هُمُ بحثوا عن سوءتي فاجتنبتها     وهم نافسوني فاكتسبت المعالي

وما رأيك بإناء يتظافر على غسله وتنظيفه العدو والصديق، والمحب والمبغض؟! لا بد أنه سينظف بإذن الله ويتطهر يوماً من الأيام.

ومن حق هؤلاء وأولئك أن تشعرهم بالامتنان على ما يفعلون، وذلك من خلال مثل هذه المجالس التي يتاح لك فيها أن تقول: نبهني أخٌ كريمٌ محب على أنني أخطأت في مسألة كذا، وأنا أستغفر الله تعالى وأتوب إليه، فيتشجع هذا الأخ على أن يعاود مراسلتك، أو مهاتفتك، أو مشافهتك بما يجد عليك من خطأ؛ لأنه رأى أنك تجاوبت معه، وأنك ممنون مسرور من ذلك الخطأ الذي نبهك عليه، أو من ذلك التنبيه الذي نبهك عليه، ولذلك كانت هذه المراجعات أيضاً.

بيان أن كشف الأخطاء ليس عيباً

أمر ثالث: أن دعاة الإسلام، وطلبة العلم هم أحوج الناس أن يكشفوا للناس قدرتهم على البوح بأخطائهم، والاعتراف بزلاتهم وسقطاتهم، وأنهم لا يرون في هذا عيباً ولا عاراً ولا حرجاً، فعلم الله أنني لا أجد في نفسي حرجاً أن أقول: إنني أخطأت في مسألة كذا، وفي مسألة كذا، وفي مسألة كذا، متى ما تبين للإنسان الخطأ بدليله، والصواب بدليله.

صحيح أن هذا لا يعني أن الإنسان سيلغي شخصيته، ويوافق الآخرين على ما يقولون أو ما يرونه؛ فهذا أمر ليس مشروعاً بحال من الأحوال، ولا يجوز للإنسان أن يعترف بشيء أنه خطأ وهو يرى أنه صواب.

لكن متى ما تبين أنه على خطأ؛ فإنه لا يجد في نفسه أدنى حرج -بحمد لله- أن يقول: هذا خطأ، أستغفر الله وأتوب إليه، وجزى الله من نبهني عليه خيراً.

وذلك أننا جميعاً بشر، ويجب أن نعرف أن الخطأ من طبيعة البشر، وهي صفة ملازمة لهم مهما كانوا، فضلاً عن أن الناس العاديين تكثر أخطاؤهم، خاصة مع كثرة ما يتحدثون به في الدروس، والمحاضرات، والمجالس، وغيرها فاحتمال الخطأ منهم وارد بل هو كثير.

وجزى الله جل جلاله كل خير من أعانني على معرفة خطأ، أو التعرف عليه، أو دلني عليه، وإنني أدعو الله له الآن، وحق له علي أن أدعو الله له بظهر الغيب.

أقول هذا وأنا في انتظار كل ما يأتيني منكم أيها الإخوة سواء عن طريق المراسلة، أو عن طريق الهاتف، أو عن طريق المشافهة، من الأخطاء التي ترونها، وأعتقد أن هذا دليل على أننا بدأنا نسلك الطريق الصحيح؛ لأن الأمة ما ضلت وزلت وهلكت، إلا يوم أسلمت قيادتها لأفراد في كل مجالات الحياة، فصارت مثلاً تنظر إلى شخص تقدره من الناحية العلمية فلا تقبل إلا قوله، ولا ترتضي إلا رأيه، ولا تقبل عليه اعتراضاً، ولو كان هذا الاعتراض مصيباً.

والواقع أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا في الذروة من العلم، والعمل، والصدق، والاجتهاد، والتجرد، وصحة القلب والعقل، وسلامة الرأي، ومع ذلك خَطَّأ بعضهم بعضاً في مسائل، وخالف بعضهم بعضاً في مسائل كثيرة جداً، وردَّ بعضهم على بعض، ولم يكن ذلك تنقصاً لمن أخطأ، ولا تضليلاً له، ولا تبديعاً، ولا تفسيقاً، ولا تكفيراً، بل هذا خطأ وقع فيه فلان يصحح له، وهذا صواب من فلان، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: " قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب".

وطالما رجع أهل العلم في مسائل بعد مناظرات إلى ما ذهب إليه مناظرهم وخصمهم.

فنسأل الله تعالى أن يوفق الجميع إلى معرفة الحق واتباعه، وأن يكون الحق رائدهم، وطلبهم، وبغيتهم، لا يقدمون عليه شيئاً، لا نفساً، ولا أهلاً، ولا مالاً، ولا بلداً، ولا شيئاً، إنما يعشقون الحق، فمتى ما ظفروا به فرحوا، فظهر الفرح والبشر في وجوههم، وعلى قسماتهم، وفي محياهم، فطاروا به وتحدثوا به، كالإنسان الذي ظفر بشيءٍ نادر ثمين، فهو لا يستطيع أن يخفي فرحته، بل كالطفل الذي يظهر بشيءٍ يحبه فيتحدث بوضوح، وبانبساط، وباسترسال عن فرحه الغامر بهذا الشيء الذي ظفر به!

ينبغي أن نفرح بالحق متى عرفناه، ولا نجامل في هذا الفرح أو نستره، بل نعلنه لأنه من نعمة الله تعالى التي تحدث بها وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].

أيها الأحبة.. وبعد هذا التمهيد لا أزعم أنني سوف أقدم لكم الآن كبير شيء من الملاحظات، أو المراجعات، أو التصحيحات، وذلك بأنني أعدكم إن شاء الله وعداً أرجو أن لا أخلفه أنه خلال شهرين سوف أقدم لكم الحلقة الثانية من المراجعات، وسوف تكون مخصصة لذكر ما وقفت عليه، أو نبهت إليه من اجتهادات لم يحالفها الصواب، أو أحاديث استشهدت بها وليست صحيحة إما أن تكون ضعيفة أو غير ذلك، أو أقوال، أو أشياء أرى أن من الضروري التنبيه عليها.

أولاً: تبرأً وتنصلاً من عهدة كلام يكون الإنسان قاله أو أداه، ثم تبين له خطأه، فيحب أن يُعذر ويبين أن هذا الكلام الذي قاله ليس بصواب، وأنه يبرأ من تبعاته وعهدته ولا يرتضيه، وهذا هو المسلك الواجب على كل مسلم، أو طالب علم، تجاه ما يصدر منه من قول، أو فعل، مقروءً، أو مكتوباً، أو غير ذلك.

وأمر آخر يدعو إلى طرح مثل هذه المراجعات بين الحين والآخر، وهو:

أن الإنسان قلما يكتشف خطأه بنفسه، وإنما يساعده على اكتشاف خطئه الآخرون، من الأعداء، أو من الأصدقاء!

فأما الأصدقاء فهم كالمرآة يكتشف الإنسان فيها نفسه، ومحاسنه، وعيوبه، ولذلك قال القائل:

شاور سواك إذا نابتك نائبة     يوماً وإن كنت من أهل المشورات

العين تبصر فيها ما دنا ونأى     ولا ترى نفسها إلا بمرآة

فصديقك كالمرآة، وقد جاء في حديث فيه نظر: {المؤمن مرآة أخيه}.

أما الأعداء فهم يجهدون في البحث عن العيوب والزلاَّت، ويظنون أنهم بذلك يحطون من قدر الإنسان، وهم في الحقيقة يرفعون منـزلته، لأنهم يساعدونه على معرفة أخطائه وعيوبه، ويعينونه على التخلص منها، ولذلك دعا لهم الشاعر الحكيم فقال:

عداتي لهم فضلٌ عليَّ ومنة     فلا أبعد الرحمن عني الآعادي

هُمُ بحثوا عن سوءتي فاجتنبتها     وهم نافسوني فاكتسبت المعالي

وما رأيك بإناء يتظافر على غسله وتنظيفه العدو والصديق، والمحب والمبغض؟! لا بد أنه سينظف بإذن الله ويتطهر يوماً من الأيام.

ومن حق هؤلاء وأولئك أن تشعرهم بالامتنان على ما يفعلون، وذلك من خلال مثل هذه المجالس التي يتاح لك فيها أن تقول: نبهني أخٌ كريمٌ محب على أنني أخطأت في مسألة كذا، وأنا أستغفر الله تعالى وأتوب إليه، فيتشجع هذا الأخ على أن يعاود مراسلتك، أو مهاتفتك، أو مشافهتك بما يجد عليك من خطأ؛ لأنه رأى أنك تجاوبت معه، وأنك ممنون مسرور من ذلك الخطأ الذي نبهك عليه، أو من ذلك التنبيه الذي نبهك عليه، ولذلك كانت هذه المراجعات أيضاً.

أمر ثالث: أن دعاة الإسلام، وطلبة العلم هم أحوج الناس أن يكشفوا للناس قدرتهم على البوح بأخطائهم، والاعتراف بزلاتهم وسقطاتهم، وأنهم لا يرون في هذا عيباً ولا عاراً ولا حرجاً، فعلم الله أنني لا أجد في نفسي حرجاً أن أقول: إنني أخطأت في مسألة كذا، وفي مسألة كذا، وفي مسألة كذا، متى ما تبين للإنسان الخطأ بدليله، والصواب بدليله.

صحيح أن هذا لا يعني أن الإنسان سيلغي شخصيته، ويوافق الآخرين على ما يقولون أو ما يرونه؛ فهذا أمر ليس مشروعاً بحال من الأحوال، ولا يجوز للإنسان أن يعترف بشيء أنه خطأ وهو يرى أنه صواب.

لكن متى ما تبين أنه على خطأ؛ فإنه لا يجد في نفسه أدنى حرج -بحمد لله- أن يقول: هذا خطأ، أستغفر الله وأتوب إليه، وجزى الله من نبهني عليه خيراً.

وذلك أننا جميعاً بشر، ويجب أن نعرف أن الخطأ من طبيعة البشر، وهي صفة ملازمة لهم مهما كانوا، فضلاً عن أن الناس العاديين تكثر أخطاؤهم، خاصة مع كثرة ما يتحدثون به في الدروس، والمحاضرات، والمجالس، وغيرها فاحتمال الخطأ منهم وارد بل هو كثير.

وجزى الله جل جلاله كل خير من أعانني على معرفة خطأ، أو التعرف عليه، أو دلني عليه، وإنني أدعو الله له الآن، وحق له علي أن أدعو الله له بظهر الغيب.

أقول هذا وأنا في انتظار كل ما يأتيني منكم أيها الإخوة سواء عن طريق المراسلة، أو عن طريق الهاتف، أو عن طريق المشافهة، من الأخطاء التي ترونها، وأعتقد أن هذا دليل على أننا بدأنا نسلك الطريق الصحيح؛ لأن الأمة ما ضلت وزلت وهلكت، إلا يوم أسلمت قيادتها لأفراد في كل مجالات الحياة، فصارت مثلاً تنظر إلى شخص تقدره من الناحية العلمية فلا تقبل إلا قوله، ولا ترتضي إلا رأيه، ولا تقبل عليه اعتراضاً، ولو كان هذا الاعتراض مصيباً.

والواقع أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا في الذروة من العلم، والعمل، والصدق، والاجتهاد، والتجرد، وصحة القلب والعقل، وسلامة الرأي، ومع ذلك خَطَّأ بعضهم بعضاً في مسائل، وخالف بعضهم بعضاً في مسائل كثيرة جداً، وردَّ بعضهم على بعض، ولم يكن ذلك تنقصاً لمن أخطأ، ولا تضليلاً له، ولا تبديعاً، ولا تفسيقاً، ولا تكفيراً، بل هذا خطأ وقع فيه فلان يصحح له، وهذا صواب من فلان، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: " قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب".

وطالما رجع أهل العلم في مسائل بعد مناظرات إلى ما ذهب إليه مناظرهم وخصمهم.

فنسأل الله تعالى أن يوفق الجميع إلى معرفة الحق واتباعه، وأن يكون الحق رائدهم، وطلبهم، وبغيتهم، لا يقدمون عليه شيئاً، لا نفساً، ولا أهلاً، ولا مالاً، ولا بلداً، ولا شيئاً، إنما يعشقون الحق، فمتى ما ظفروا به فرحوا، فظهر الفرح والبشر في وجوههم، وعلى قسماتهم، وفي محياهم، فطاروا به وتحدثوا به، كالإنسان الذي ظفر بشيءٍ نادر ثمين، فهو لا يستطيع أن يخفي فرحته، بل كالطفل الذي يظهر بشيءٍ يحبه فيتحدث بوضوح، وبانبساط، وباسترسال عن فرحه الغامر بهذا الشيء الذي ظفر به!

ينبغي أن نفرح بالحق متى عرفناه، ولا نجامل في هذا الفرح أو نستره، بل نعلنه لأنه من نعمة الله تعالى التي تحدث بها وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].

أيها الأحبة.. وبعد هذا التمهيد لا أزعم أنني سوف أقدم لكم الآن كبير شيء من الملاحظات، أو المراجعات، أو التصحيحات، وذلك بأنني أعدكم إن شاء الله وعداً أرجو أن لا أخلفه أنه خلال شهرين سوف أقدم لكم الحلقة الثانية من المراجعات، وسوف تكون مخصصة لذكر ما وقفت عليه، أو نبهت إليه من اجتهادات لم يحالفها الصواب، أو أحاديث استشهدت بها وليست صحيحة إما أن تكون ضعيفة أو غير ذلك، أو أقوال، أو أشياء أرى أن من الضروري التنبيه عليها.

لكنني الآن سوف أقدم لكم مقدمات ضرورية بمثل موضوع المراجعات، مقدمات لا بد منها، لأنني لاحظت على بعض الإخوة الذين يقدمون ملاحظات، أو اعتراضات، أنه قد تغيب عن بعضهم، ولا أقول: عن كلهم، لأن منهم قسم كبير -كما أسلفت قبل قليل- أصابوا كبد الحقيقة وعين الصواب، ولكن منهم قسماً قد تغيب عنهم بعض الأمور التي سوف أسردها الآن، فيفهمون الكلام على غير وجهه، أو يذهبون به إلى غير مذهبه، والله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان.

صحة الفهم وحسن القصد

النقطة الأولى: كيف تستطيع أن تفهم الكلام؟

إن الكلام الذي يقوله زيد أو عبيد من الناس، ينبغي أن يفهم في إطاره العام، فالكلام خاصة حين يكون شفهياً، قد يعتريه زيادة أو نقص، وقد تدخل كلمة بدلاً من أخرى، وقد يسارع الإنسان إلى قول وهو يعني قولاً آخر، هذا من طبيعة الإنسان البشر، أنه يقع منه مثل ذلك، خاصة إذا كان يتكلم بكلام شفهي بخلاف أن يكون مكتوباً.

والحقيقة أني أحرص على أن أكتب ما أقول في حالات كثيرة جداً، لكن هذا لا يتسنى في حالات أخرى كثيرة بسبب ضيق الوقت، وعدم سعة المجال للكتابة، كما لا يسعنا بسبب صعوبة القراءة، وأنها قد تورث عند المستمعين تثاقلاً ومللاً، إلى غير ذلك، فيلجأ الإنسان إلى كتابة نقاط، أو عناصر، أو عموميات، ويشرحها في ما بين ذلك.

فربما وقع الإنسان في ما وقع فيه، ولذلك كان أهل العلم من السابقين واللاحقين حين يريدون أن يفهموا كلام فلان وعلان، لا يراعون حروفه وألفاظه، لأن حروف وألفاظ البشر ليست وحياً، ليست كلام المعصوم عليه الصلاة والسلام، الذي يكون له منطوق ومفهوم، وله دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام، وينبغي أن يأخذ كله بالاعتبار! لا. هذا كلام إنسان يفهم في إطاره العام، يفهم في عمومه، يأخذ منه الفحوى والمقصود، ولا تتوقف عند حروف، أو ألفاظ، أو كلمات معينة.

ضوابط النقد عند ابن القيم

ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (1-220) كلاماً مهماً، بهذا الصدد، يقول: " صحة الفهم، وحسن المقصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عباده، بل ما أعطي عبداً عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبه يأمن العبد طريق المغضوب عليهم، الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم -إذاً لاحظ: حسن القصد، وحسن الفهم-: ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمِرْنَا أن نسأل الله أن يهدينا طريقهم في كل صلاة. وقال: والعلم بمراد المتكلم -وهذا هو الشاهد- يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول -يعني على اللفظ- أوضح لأرباب الألفاظ -المعنيين بالألفاظ- والحوالة على الثاني -يعني المعنى- أوضح لأرباب المعاني، والفهم، والتدبر، وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها، وهضمها تارة، أو تحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين، انتهى كلامه.

إذاً: يغلط الناس على المتكلمين أحياناً بأسباب منها:

الأول: أنهم يعتنون باللفظ لا بالمعنى، والذي ينبغي أن يعتني الإنسان بالمعنى ولا يتوقف عند الحروف والألفاظ متى ما كانت محتملة.

الأمر الثاني: أنهم قد يقعدون ويقصرون بهذه الألفاظ عن عمومها، ويهضمونها عن ما تدل عليه، وعن ما يراد لها.

الأمر الثالث: أنهم قد يحملونها فوق ما تحتمل، وفوق ما تريد، ويفهمون من الكلمات فوق معانيها، فيجعلون للكلام منطوقاً ومفهوماً، ودلالة تضمن، ودلالة اقتضاء، ودلالة كذا، بل أكثر من هذا كله أنهم يجعلون كلمات ما وراء الكلمات، ويفهمون ما وراء السطور، وما وراء الحروف، وما بين السطور، وما أمامها، وما خلفها، ويضيفون إلى كلام المتكلم أنه يقصد كذا، ويريد كذا ويعني كذا.

وكلمة يقصد، ويريد، ويعني، ليست من المتكلم إنما هي من المتلقي، ولا يجوز أبداً أن يُحمل المتكلم وزر المتلقي، دع ما في قلوب العباد لله عز وجل، فإن الله عز وجل لم يتح لأحد من البشر أن يعرف ماذا في قلوب العباد، إلا إذا باحت ألسنتهم، أما دخائل القلوب فإنه لا يعملها إلا الله عز وجل.

ولا ينبغي للعبد أن يسترسل مع نفسه في تصور ما في قلوب الآخرين، فربما يخطئ، وربما تظلم، وربما تظن بإنسان ظناً وهو غير ذلك، فأولى بك ثم أولى أن تتقي الله عز وجل وأن تبتعد عن محاكمة قلوب الناس.

فليس هناك نظام في الدنيا، من الأنظمة البشرية، ولا أَذِنَ دين من الأديان السماوية أن نحاكم ما في قلوب الناس، حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، كانوا يأخذون الناس بظواهرهم ويكلون سرائرهم إلى الله عز وجل.

ضوابط النقد عند السبكي

ومما يلتحق بالكلام الذي ذكره الإمام ابن القيم قبل قليل، كلام آخر جميل ذكره السبكي في كتابه قاعدة في الجرح والتعديل وقاعدة في المؤرخين يقول: " كثيراً ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، فيغير على الكتاب -يعني الكتاب الذي وجدت فيه هذه الكلمة- يغير على الكتاب والمؤلف، ومن عاشره، ومن استن بسنته. قال: " مع أن المؤلف لم يرد ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل، فإذا كان هذا الرجل ثقة ومشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتابته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي: التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله ".

فهذه نقطة هامة: أن يفهم الكلام على عمومه، وعلى ظاهره، وعلى ما يقتضيه السياق العام، وعلى ما تدل عليه القرائن، وعلى ما عهد من قائله، دون أن تؤخذ الكلمات أو الحروف، ويجعل لها مفهوماً، ومنطوقاً، ودلالات ظاهرة وغير ظاهرة، ومعاني إلى ما سوى ذلك، فضلاً عن أن يدخل الإنسان إلى محاكمة ما في القلوب، فدع القلوب لربها جل وعلا، فهو الذي سوف يوقف العباد بين يديه: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] ويحاسبهم على الظاهر والباطن، والسر والعلانية.

فهذه نقطة، ولذلك أقول: إن الكلمات التي قد تكون أحياناً في دروسٍ، أو محاضرات، أو غيرها؛ ينبغي أن يفطن فيها إلى ذلك، ويعرف: أنه حتى جهابذة أهل العلم في هذا العصر، وفي كل عصر، يعلمون أن الخطأ في اللفظ وارد؛ سواء كان خطأً نحوياً، أم خطأً لغوياً، أم خطأً علمياً، لكن المعنى واضح، ومراد المتكلم واضح، لكنه أبدل كلمة بكلمة، وهذا كثير جداً لا يأتي عليه الحصر، في كلامي وفي كلام غيري.

ولعلي أذكر لكم أن سماحة الوالد الإمام الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله قال قبل فترة في محاضرة في الرياض، حينما سئل بعض الأسئلة، سئل عن إيراد الحديث الضعيف في المواعظ والرقائق قال ما نصه، وقد نقلت هذا من الشريط وأنا حين أنقل ذلك أرى أنه كلام للشيخ ولغيره يقول -سماحته-: " قبل الإجابة على الأسئلة أخبر الجميع أنني لا أسمح لأحد أن يكتب المحاضرة التي صدرت مني، هذه أو غيرها، أو ينشرها، إلا بعد عرضها علي، لأن النقل من الأشرطة قد يقع فيه بعض الأخطاء، فلا أسمح لأحد أن يطبعها، أو ينشرها في الصحف، إلا بعد عرضها علي لتصحيح بعض الأخطاء، ثم السماح بنشرها، فهذه وغيرها من المحاضرات، لأن بعض الناس قد ينشرون عني، أو عن غيري، بعض المحاضرات، يكون فيها أخطاء مطبعية، أم أخطاء ما فهمها من الشريط، فأرجو من جميع إخواني ألا ينشروا عني شيئاً، من محاضرة، أو تعليق على الندوة في جامع الملك خالد، أو غير ذلك مما يؤخذ من الأشرطة، إلا بعد عرضه عليَّ مكتوباً حتى يصحح، ثم ينشر بعد ذلك سواء كان مستقلاً، أو في الصحف " انتهى كلامه.

وصحيح نحن لن ننشر كلام الشيخ الآن، وإنما نقلته وقرأته عليكم فأنتم تسمعونه الآن كما يمكن أن تسمعوه في الشريط الذي تكلم فيه الشيخ، لتعلموا أن كل إنسان يعلم أن الحديث الشفهي قد لا يكون منضبطاً دقيقاً بالحروف والألفاظ، ولذلك جرت العادة أن كل كلام قبل أن يطبع، أو ينشر، بل حتى مذكرات بلوغ المرام، أنتم تعلمون جميعاً أنه حين لم يتح لي الوقت لمراجعتها، وتصحيحها أولاً بأول، وكلت إلى مجموعة من خيرة الطلاب أن يقوموا بمراجعتها وقراءتها، ومراجعتي فيما يشكل عليهم منها، حتى نصححه جميعاً، فهذه مسألة.

الأخذ بالظاهر وترك النيات والمقاصد

النقطة الأخرى: ولعلي أشرت إلى شيء منها، ولكن لا بأس أن أوردها مستقلة، هي: أن الواجب على طلبة العلم والمتحدثين، والدعاة إلى الله تعالى، وعلى سائر الناس، بل الواجب للمسلم على أخيه، أياً كان هذا المسلم، طالب علم أو غيره، داعية أو غير داعية، الواجب للمسلم على أخيه أن يأخذ الظاهر ويترك النية والمقصد إلى الله عز وجل، فلا يفسر كلامه إلا بظاهره، ويترك ما في القلب، وماذا يريد هذا الإنسان وما وراء الألفاظ، وما وراء العبارات.

وإنني أجد نفسي مضطراً أن أقول لكم ما أعلمه من نفسي: إني لا أعلم من نفسي الآن أنني أسعى في نصرة مذهب فقهي معين، على مذهب فقهي آخر، ولا اتجاه دعوي معين على اتجاه دعوي آخر، ولا شخص، ولا بلد، ولا طائفة، ولا غير ذلك.

وإنما يشهد الله أن الذي أعلمه من نفسي أنني عاشق للحق، متى ما عرفته فرحت به، وقلت به، ودعوت إليه، وأنني لا أسعى في قول، ولا فعل، لا في مجلس عام، ولا في خاص إلى نصرة مذهب، أو فريق، أو طائفة، أو شخص على آخر.

إنما أسعى إلى نصرة الحق الذي أعلمه، وكوني أخطأت في معرفة الحق، هذا وارد، بل هو واقع، وإن لم أستطع أن أحدد متى وأين أخطأت، إلا بتوفيق من الله تعالى، أو بمساعدة من إخواني، إلا أنني أعلم على سبيل العموم والإجمال أن هذا واقع لا شك فيه، بل هو كثير، ونسأل الله تعالى أن يعيننا على معرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه.

هذا ما أعلمه من نفسي، ومع ذلك فقد يكون في القلب مسارد، وخفايا، وأسرار، وأمور، حتى الإنسان قد لا يكتشفها من نفسه، لكن الإنسان إذا لم يألُ نصحاً، وبذل وسعه فإنه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

أهمية الفهم العلمي الموضوعي

أهمية الفهم العلمي الموضوعي للكلام الذي تسمعه، في عمومه وفي جملته، فافهم الكلام فهماً موضوعياً علمياً، وإياك أن تبني على الكلام قصوراً من الظنون، والتوقعات، والاحتمالات وغير ذلك، فإن هذا سبب في عدم الانتفاع بالعلم، وفي إيذاء الآخرين، والرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر لما قال له: {يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله، قال: قلت: يا رسول الله! أي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها قلت يا رسول الله: فإن لم أفعل، قال: تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق. قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نفسك} إن لم تنفع فلا أَقَلَّ من أن لا تضر، ولا تؤذي الناس بالظنون، والأوهام، والاحتمالات، وما أشبه ذلك من الأمور التي هي تضرك أنت قبل أن تضر غيرك، بل قد لا تضر غيرك بحال من الأحوال إلا أذى.

فينبغي ألا تحمل من الكلام ما لا يدل عليه، فإن هذا داء طالما شكا منه أهل العلم، وإنني أعجب أن أقرأ كلاماً للشاطبي في كتابه القيم العظيم الاعتصام نقله، ثم نقل كلاماً آخر يشبهه للإمام ابن بطة -رحمة الله على الجميع- يقول بعد كلام طويل...

" وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة -يقوله الشاطبي- وذكرهم فيها محدث، لم يكن عليه من تقدم.

وتارة أُحْمَلُ على التزام الحرج، والتنطع في الدين -يعني: أنه ينسب إلى هذا- وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم، لا أتعداه، وهم يتعدونه، ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم، أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب الموافقات ".

على كل حال لا يلزم أن يكون ما يذكره الشاطبي من هذه المسائل موافقاً عليه، لكني أذكر الكلام للغرض الذي تعرفونه، ولا داعي لأن نتعقب كلامه في موضوعات لا تتعلق بالهدف المقصود.

قال: "وتارة نُسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أنني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم في هداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.

وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة، بناءً منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها، وهي الناجية، ما عليه العموم ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا عليَّ في جميع ذلك، أو وهموا، والحمد لله على كل حال ".

" فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال: عجبت من حالي وسفري وفي حضري، مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت في مكة وخراسان وغيرهما من الأماكن، أكثر من لقيت بها، موافقاً، أو مخالفاً، دعاني إلى متابعته على ما يقوله، تصديق قوله والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما أقول، وأجزت له ذلك، كما يفعله أهل هذا الزمان، سماني موافقاً -إذا وافقته على كل اجتهاداته وآرائه، خطئها وصوابها، قال: هذا موافق، وهذا جيد، هذا معنى كلامه: سماني موافقاً- وإن وقفت في حرف من قوله، أو في شيء من فعله، سماني مخالفاً.

وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد، سماني خارجياً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني مشبهاً، وإن كان في الرؤية سماني سالمياً، وإن كان في الإيمان سماني مرجئاً، وإن كان في الأعمال سماني قدرياً، وإن كان في المعرفة سماني كرامياً، وإن كانت في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبياً، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضياً، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهرياً، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنياً، وإن أجبت بتأويل سماني أشعرياً، وإن جحدتهما سماني معتزلياً، وإن كانت السنن مثل القراءة -كأنه يعني: القراءة في الصلاة، الجهر أو نحو ذلك- سماني شافعياً، وإن كان في القنوت سماني حنفياً، وإن كان في القرآن سماني حنبلياً، وإن ذكرت رجحان ما ذهب إليه كل واحد من الأخيار إذ ليس في الحكم والحديث محاباة، قالوا: طعن في تزكيتهم.

ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرءون عليَّ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسماء، ومهما وافقتُ بعضهم عادني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئاً، وإني مستمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم ".

ما أعجب ما يقوله ابن بطة! كأنه يتكلم عن أهل زماننا ما عندهم إلا حكم بالجملة، ما عندهم حكم بالتقسيط.

ليس عندهم حكم على المسألة، إنما عندهم حكم على قائلها، وعلى معتقدها، وعلى من ذهب إليها، وعلى وعلى... نسأل الله العفو والعافية والمسامحة!

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: " هذا تمام الحكاية ".

فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع، فقلما تجد عالماً مشهوراً، أو فاضلاً مذكوراً، إلا وقد نُبز بهذه الأمور، أو بعضها، لأن الهوى قد يداخل المخالف، بل إن سبب الخروج عن السنة الجهل بها والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة أنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه، والتقبيح لقوله وفعله، حتى ينسب هذه المناسب، فهذه مسألة أخرى ينبغي التفطن لها.

ضرورة عدم بتر الكلام

نعم، لا بد من التنبيه إلى وهي ضرورة عدم بتر الكلام، وهذه المسألة هي على طريقة فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] فإن بعضهم يبتر كلامك، وينقل منه شيئاً، ويغر به الآخرين، ويضلهم بذلك، ويوهمهم أنك قلت: كذا وكذا، وأنت لم تقل، ولو نقل الكلام كله من أوله إلى آخره، بسياقه، وبجملته، لما كان له أن يُفهم الناس غير ما فهم -غير ما قصدت- ولكنه نقل بعض الكلام ثم أضاف إليه من عنده شيئاً كثيراً، يوهم الناس أنك تقصد كذا، وتعني كذا، وتريد كذا، وأن مرادك كذا، ونيتك كذا، ومقصودك وما في قلبك كيت وكيت!

وهذا غير سائغ وليس من الإنصاف في شيء، فإننا نجد السلف رضي الله عنهم ينقلون البدعة ويشرحونها ثم يردون عليها.

وإني أجد كلاماً كثيراً في كلام الإمام ابن تيمية -رحمه الله- خاصة، وفي كلام ابن القيم رحمه الله أيضاً، أنه قد ينقل في صفحات كلام القوم، بل قد يعقد مناظرة بين صاحب مذهب وصاحب مذهب آخر، فيستعرض المذهب الأول في صفحات وهو يقول: قال الأول، ثم إذا انتهى رجع وقال: قال الثاني، وأتى على كل ما ذكره الأول بالنقض، والتغيير، والرد.

فلو أنَّ إنساناً نقل الكلام الأول وقال: هذا كلام ابن القيم، أو نقل الكلام الثاني وقال: هذا كلام ابن القيم لكان مخطئاً في ذلك خطأً عظيماً.

والذي ينبغي للإنسان أن يتقي الله تعالى، فلا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا ينقل كلام الناس على وفق ما يريد وما يشتهي!

وإني ذاكر لكم الآن مثالاً واحداً سئلت عنه في أكثر من مناسبة، منها مناسبة لعلكم جميعاً اطلعتم عليها، سألني عنه أخي الكريم الأستاذ الشاعر: عبد الرحمن العشماوي في المقابلة التي أجراها معي، ونشرت بعنوان (على طريق الدعوة) فقد ذكر لي أن بعض الناس يقولون عني أني سئلت منذ زمن، في أول أحداث الخليج في العام الماضي عن الحرب، فقلت: إنها لن تقوم حرب، وأبشر بطول سلامة، فتعجبت من ذلك! ولم أكن حين سألني هذا السؤال متذكراً كل ما قلت، فذكرت الجواب الذي سمعتموه، وهو جواب صحيح على كل حال.

ولكنني بعد ذلك رجعت إلى الكلام الذي قلته، وكتبته في هذه الورقة، كتبت السؤال والجواب، حتى تفهموا وتعلموا كم يجني الناس على الكلام الذي ينقلونه، وتعرفون مصداق ما قيل:

وما آفة الأخبار إلا رواتها

مع أنه كلام مسجل في شريط سمعه الداني والقاصي، الخاص والعام، ومع ذلك يقع اللبس!

وأنا أقرأ عليكم الآن نص السؤال، ونص الجواب.

السؤال: ماذا يكون علينا إذا قامت الحرب على العراق؟

هل نذهب إلى الجبهة ونترك النساء والأطفال، ونذهب إلى الحرب إذا لزم الأمر؟

الجواب: الذي أعتقده، أن الحرب مع العراق -والله تعالى أعلم- لن تقوم بشكل حرب مع العراق، لأن قوى الدول الغربية أحضرت أسلحة وقوىً هائلة تستخدم لأول مرة في العالم، وهذه القوى أحضرت من أجل ألا تكون حرب بين أمريكا والعراق، وإنما من أجل أن تضرب أمريكا ضربتها على العراق، وتنهي وجوده خلال 7دقائق -كما تقول التقارير- أي: تنهي قوته خلال 7دقائق، ولا يكون هناك حاجة للحرب أصلاً، هذه خطتهم، وهذا تفكيرهم، وعلى حسب إمكانياتهم، فإن هذا الأمر ليس مستبعداً، ويكفي أن عندهم من الطائرات ما يسمونها: بطائرات الشبح، التي خلال حركة بسيطة -وهي لا يمكن أن تكشف بالرادار- تستطيع أن تدمر وسائل الاتصالات بالدولة المحاربة، من الهاتف، والخطوط، والكهرباء، وغيرها، وبذلك تنشل حركة الدولة ويسهل القضاء عليها.

فلا أعتقد أن هناك حرب حقيقية نحتاج أن نجند أنفسنا في هذه الحرب، لكن المؤمن يجند نفسه في كل وقت، لأن الخطر ليس معناه خطر العراق فحسب، فإذا ذهب العراق ذهب الخطر، لكن قد يكون الخطر من النصارى أنفسهم، من اليهود، لماذا نستبعد هذا؟!

فالمؤمن يجب أن يستعد ويتدرب على التسلح، ويربي نفسه تربية عسكرية.

أما هذا السؤال فإني أقول: أبشر بطول سلامة إن شاء الله! انتهى الكلام.

مقصودي من هذا الكلام أن أقول: ظاهر من السؤال ومن الجواب، إذا فهمناه بالصيغة التي ذكرته لكم قبل قليل، أن السائل يتساءل هل يذهب هو ويترك أطفاله وزوجته في البيت، بدون أحد يقوم عليهم؟

لأنه تصور أنه سوف تقوم حرب تحتاج إلى استنفار، وإلى تجنيد الأمة بكاملها، وإلى أن يخرج الرجل ويترك أهل بيته ويترك أطفاله، ويترك عمله.

فكان الجواب: أبشر بطول سلامة إن شاء الله، لن يحتاج إلى مثل هذا الأمر، لماذا؟

لأن هناك قوى كبيرة، وكثيرة مدججة، ستجعل إمكانية القضاء على قوة العدو -وهو العراق آنذاك- أمراً لا يحتاج معه إلى حرب بالمعنى الصحيح، بقدر ما هي ضربة موجعة تنهي قوة العدو.

وهذا الكلام نستطيع أن نقول: إنه بهذا الإجمال هو الذي حصل فعلاً.

وأما مسألة أنه لن تقوم حرب، أو لن يكون هناك حرب أصلاً، فلا أذكر أني قلت ذلك، وهذا هو الموضع الوحيد الذي اعتمد عليه البعض في ما ذكر.

ثم لنفترض أنني أو أن غيري من الدعاة قال: إنه يتوقع ألا تقوم حرب، ثم حصل الأمر خلاف ما ظن وخلاف ما توقع، فماذا كان يعني هذا؟

نحن نعلم أن كثيراً من التحاليل الغربية، بل (60%) منها كانت تتوقع أن لا تقوم حرب، والمحللون أناس مختصون، وعلى أرقى المستويات، وبعضهم في مواقع المسئولية.

وقد قرأت لوزير الخارجية في الاتحاد السوفيتي آنذاك، بالخط العريض، أنه لن تقوم الحرب، وهو رجل في موقع المسئولية في دولة كبرى، فضلاً عن المحلليين الذين توقعوا ذلك وهم كثير، فماذا يضير هذا!

بل قرأنا جميعاً في صحيفة سيارة لكاتب وأديب معروف، وهو يشغل منصباً دبلوماسياً أيضاً في بلد ما، أنه قال بالخط العريض، أنه لن تقوم حرب، وأنه سينسحب العراق في اللحظات الأخيرة، واضطر بعدما قامت الحرب إلى أن يكتب في الصحيفة اعتذاراً عن ذلك، وبياناً أنه أخطأ في التوقع، ولن يكون له بد في أن يكتب اعتذاراً لأن الكلام كتب في الجريدة ولا يمكن أن يتناساه أو يتجاهله.

فماذا كان بعد هذا؟

ولماذا تكون الكلمات التي يقولها الدعاة هي التي في المحك؟

صحيح أننا نفرح باهتمام الناس بكلام طلبة العلم والدعاة، وعنايتهم به، لكن أيضاً ينبغي أن يفهم هذا الكلام في إطاره العام، وأن يوضع في موضعه، فهذا ظن إنما ظننت ظناً، حتى الذي توقع أن لا تقوم الحرب يقول: إنما ظننت ظناً.

وَهم ليس بنص، ولا مبني على نص، وإنما هو احتمال وتوقع قابل للخطأ وللصواب، وأثبتت الأيام أنه غير صحيح وأنه خطأ.