لقاء الباب المفتوح [84]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو المجلس الرابع والثمانون من لقاء الباب المفتوح والذي يتم كل خميس من كل أسبوع، وهذا هو الخميس الرابع من شهر شعبان عام (1415هـ) نفتتحه بالكلام على ما تبقى من تفسير سورة العلق.

تفسير قوله تعالى: (أرأيت الذي ينهى ...)

قال الله تبارك وتعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:9-14] كل هذا للتهديد؛ تهديد هذا الرجل الذي كان ينهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة، حتى إنه توعد وقال: لأطأن عنقه إذا سجد، ولكن أبى الله تعالى ذلك، فقد هم به ولكنه نكص على عقبيه ورأى أهوالاً عظيمة حالت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (ألم يعلم بأن الله يرى...)

قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14] يحتمل أن تكون من الرؤية بالعين، ويحتمل أن تكون من رؤية العلم، وكلاهما صحيح، فالرب عز وجل يرى بعلمه ويرى ببصره جل وعلا: لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5] والمراد بهذه الجملة التهديد، أي: ليعلم هذا الرجل أن الله تعالى يراه ويعلمه، وهو سبحانه وتعالى محيط بعمله فيجازيه عليه إما في الدنيا وإما في الدنيا والآخرة.

ثم قال: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [العلق:15] (كلا) بمعنى: حقاً، ويحتمل أن تكون للردع، أي: لردعه عن فعله السيئ الذي كان يقوم به تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بمعنى: حقاً لنسفع بالناصية، وجملة (لنسفعاً) جواب لقسم مقدر، والتقدير: والله لئن لم ينتهِ لنسفعاً بالناصية، وحذف جواب الشرط وبقي جواب القسم؛ لأن هذا من القاعدة في اللغة العربية: أنه إذا اجتمع قسم وشرط فإنه يحذف جواب المؤخر. قال ابن مالك في ألفيته :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم     جواب ما أخرت فهو ملتزم

وهنا المتأخر هو الشرط (لئن) والقسم مقدرٌ قبله في التقدير: والله لئن لم ينته لنسفعاً، ومعنى (لنسفعاً) أي: لنأخذن بشدة، والناصية مقدم الرأس، و(أل) فيها -أي: في الناصية- للعهد الذهني، والمراد بالناصية هنا ناصية أبي جهل الذي توعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صلاته ونهاه عنها، أي: لنسفعاً بناصيته، وهل المراد: الأخذ بالناصية في الدنيا، أو في الآخرة يجر بناصيته إلى النار؟ يحتمل هذا وهذا، يحتمل أنه يؤخذ بالناصية، وقد أخذ بناصيته في يوم بدر حين قتل مع من قتل من المشركين، ويحتمل أن يؤخذ بناصيته يوم القيامة فيقذف بالنار كما قال الله تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ [الرحمن:41] وإذا كانت الآية صالحة لمعنيين لا يناقض أحدهما الآخر فإن الواجب حملها على المعنيين جميعاً كما هو المعروف، والذي قررناه سابقاً ونقرره الآن: أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الآخر فالواجب الأخذ بالمعنيين جميعاً.

تفسير قوله تعالى: (ناصية كاذبة خاطئة)

قال تعالى: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [العلق:16] (ناصية) بدل من الناصية الأولى، وهي بدل نكرة من معرفة وهي جائزة في اللغة العربية، وإنما قال: (ناصية) من أجل أن يكون ذلك توطئة للوصف الآتي بعدها، وهو قوله: كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [العلق:16] (كاذبة) أي: أنها موصوفة بالكذب، ولا شك أن من أكبر ما يكون كذباً ما يحصل من الكفار الذين يدعون أن مع الله آلهة أخرى، فإن هذا أكذب القول وأقبح الفعل: (خاطئة) أي: مرتكبة للخطأ عمداً، وليعلم أن هناك فرقاً بين خاطئ ومخطئ (الخاطئ) من ارتكب الخطأ عمداً، و(المخطئ) من ارتكبه جهلاً، والثاني معذور والأول غير معذور، قال الله تبارك وتعالى: لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:37] أي: المذنبون ذنباً عن عمد، وقال تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] فقال الله: قد فعلت.

ومثل ذلك: القاسط والمقسط، القاسط: هو الجائر، والمقسط: هو العادل. قال الله تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9] وقال تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن:15].

إذاً (خاطئة) أي: مرتكبة للإثم عمداً.

تفسير قوله تعالى: (فليدع ناديه ...)

قال تعالى: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:17-18] اللام هنا للتحدي، أي: إن كان صادقاً وعنده قوة وقدرة فليدع ناديه، و(النادي) هو مجتمع القوم للتحدث بينهم والتخاطب والتفاهم استئناس بعضهم ببعض، وكان أبو جهل معظماً في قريش وله نادٍ يجتمع الناس إليه فيه، ويتكلمون في شئونهم، فهنا يقول الله عز وجل: إن كان صادقاً (فليدع ناديه) وهذا لا شك أنه تحد كما تقول لعدوك: إن كان لك قومٌ فتقدم، وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على التحدي، قال تعالى: سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:18] أي: عندنا من هم أعظم من نادي هذا الرجل وهم الزبانية؛ ملائكة النار -نسأل الله العافية- وقد وصف الله ملائكة النار بأنهم: غِلاظٌ شِدَادٌ [التحريم:6] غلاظ في الطباع شداد في القوة: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6] بل يمتثلون كل ما أمرهم الله به: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] لا يعجزون عن ذلك، فوصفهم بوصفين: أنهم في تمام الانقياد لله عز وجل: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6] وأنهم في تمام القدرة: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

وعدم امتثال أمر الله عز وجل إما أن يكون للعجز وإما أن يكون للمعصية، فمثلاً: الذي لا يصلي الفرض قائماً قد يكون لعجز، وقد يكون للعناد، فهو لا ينفذ أمر الله، لكن الملائكة الذين على النار ليس عندهم عجز، عندهم قوة وقدرة، وليس عندهم استكبار عن الأمر، بل عندهم تمام التذلل والخضوع، هؤلاء الزبانية لا يمكن لهذا وقومه وناديه أن يقابلوهم أبداً، ولهذا قال: سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:18] فإن قال قائل: أين الواو في قوله ندعُ؟ قلنا: إنها محذوفة لالتقاء الساكنين، لأن الواو ساكنة وهمزة الوصل ساكنة وإذا التقى ساكنان فإن كان الحرف صحيحاً كسر وإن كان غير صحيح حذف.

قال ابن مالك رحمه الله في الألفية:

إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق     وإن يكن ليناً فحذفه استحق

إذا التقى ساكنان وكان الحرف الأول صحيحاً ليس من حروف العلة كسر، مثل قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة:1] وأصلها (لم يكنْ) لأن (لم) إذا دخلت على الفعل جزمته، كما في قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] لكن هنا التقى ساكنان وكان الأول حرفاً صحيحاً فكسر، أما إذا كان الأول حرف لين -أي: حرف من حروف العلة- فإنه يحذف كما في هذه الآية سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:18].

تفسير قوله تعالى: (كلا لا تطعه واسجد واقترب)

قال تعالى: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19] يقال في (كلا) ما قيل في الأولى التي قبلها، والخطاب في قوله: (لا تطعه) أي: لا تطع هذا الذي ينهاك عن الصلاة، بل اسجد ولا تبال به، فإذا كان الله نهى نبيه أن يطيع هذا الرجل، فهذا يعني أنه جل وعلا سيدافع عنه، أي: افعل ما تؤمر ولا يهمنك هذا الرجل، واسجد لله عز وجل، والمراد بالسجود هنا: الصلاة؛ لكن عبر بالسجود عن الصلاة؛ لأن السجود ركن في الصلاة لا تصح الصلاة إلا به، فلهذا عبر به عنها، وقوله: وَاقْتَرَبَ [الأنبياء:97] أي: اقترب من الله عز وجل؛ لأن الساجد أقرب ما يكون من ربه، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: حري أن يستجاب لكم.

هذه السورة العظيمة كما سمعناها سورة عظيمة ابتدأها الله تعالى بما منَّ به على رسوله عليه الصلاة والسلام من الوحي، ثم اختتمها بالسجود والاقتراب من الله عز وجل.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم القيام بطاعته والقرب منه، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، إنه جوادٌ كريم.

قال الله تبارك وتعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:9-14] كل هذا للتهديد؛ تهديد هذا الرجل الذي كان ينهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة، حتى إنه توعد وقال: لأطأن عنقه إذا سجد، ولكن أبى الله تعالى ذلك، فقد هم به ولكنه نكص على عقبيه ورأى أهوالاً عظيمة حالت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.