طائفة من الحيل النفسية


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نحمد الله تعالى أن جمعنا بعد هذا الانقطاع الذي طال بعض الشيء، فالحمد لله تعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، ونشكره على آلائه التي لا تعد ولا تحصى، ونسأله تعالى أن يستعملنا وإياكم في طاعته إنه على كل شيء قدير أما بعد:

فهذا الدرس هو الثاني والسبعون، في هذه الليلة ليلة الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول، من سنة (1413هـ)، وعنوان هذا الدرس: (طائفةٌ من الحيل النفسية) وقد سبق أن تحدثت إليكم في هذا الموضع، عن (الأمة الغائبة) وكان خلاصة تلك المحاضرة أن الأمة الإسلامية تعيش حالة غياب.

ولا أعني بالغياب -كما تبادر إلى ذهن بعض الأخوات المتسرعات- أننا نحكم على هذه الأمة بالكفر -مثلاً- معاذ الله من ذلك، فإننا نرجو أن نكون من أبعد الناس عن هذا، والأصل فيمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة أنه مسلم، إلا إذا ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام التي تخرجه عن الملة بيقين لاشك فيه، وإلا فإننا نبقى على استصحاب الأصل في إسلامه، وإنما أردت بمحاضرة (الأمة الغائبة) بوضوحٍ تام، أن نقول: إن الأمة لا تقوم بدورها الواجب في نشر الإسلام، والدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقارعة الظلم الذي يقع عليها أو على غيرها، بل إن أغلب هذه الأمة يتذرعون بالحيل المختلفة، ويقعدون عن القيام بما أوجب الله عليهم، فليس مقصدنا بالغياب أنه لا يوجد في الأرض أمةٌ مسلمة.

كيف ونحن نقرأ صباح مساء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} وهذا حديث متواتر.

إذاً مقصدنا بوضوح أن الأمة لا تقوم بدورها كما يجب، وتقع الأحداث الكثيرة دون أن تؤدي الأمة واجبها، بل -أحياناً- دون أن تقوم الأمة بالتعبير عن رأيها ولو بالكلام فحسب، فالأمر كما قيل:

ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ     ولا يستأمرون وهم شهودُ

وكانت محاضرة (الأمة الغائبة) أشبه ما تكون بالمقدمة لموضوع الحيل النفسية، ثم وفق الله تعالى أن ألقيت محاضرة بمدينة الطائف، كان عنوانها (الحيل النفسية) وعرضت فيها للعديد من تلك الحيل، وسوف أستكملها في هذه الجلسة -إن شاء الله تعالى- بشيءٍ من الاختصار، لأننا بحاجة ماسة الآن إلى الوقت، وسأتحدث إليكم في هذه الكلمة عن أربع نقاط:

أحبتي! إن مما يشغل البال كثيراً في هذا الزمان ويقلق الإنسان؛ أننا نجد أن هذا العدد الكبير من الأمة يعيش حالة انكماش وانقباض عن أداء الدور المنوط به شرعاً، والكثيرون يعتمدون على غيرهم، ويلقون باللآئمة على سواهم، فبعضهم يحتج بالزمان، وقد رد عليهم الشاعر، فقال:

نعيب زماننا والعيب فينا      وما لزماننا عيبٌ سوانا

ونهجو ذا الزمان بغير جرمٍ      ولو نطق الزمانُ بنا هجانا

وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ      ويأكلُ بعضنا بعضاً عِيانا

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى يُؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار} وقال أيضاً: {لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر} أي: أن الدهر مخلوق لله تعالى وهو الذي يدبره ويصرفه كيف يشاء.

التقاعس عن الدعوة وتعليقها بأفراد

فالكثيرون يحتجون بالزمان والأوضاع، أو يحتجون بأن فلاناً وفلاناً قاموا بالواجب، ويتعللون بذلك عن القيام بواجبهم هم، ونحن على قناعةٍ تامة، أن أمر الدعوة إلى الله وأمر الدين إذا كان منوطاً بأشخاص يعدون على الأصابع، فإن معنى ذلك أنه عرضةُُ لخطرٍ شديد، فهؤلاء الأشخاص قد يموتون، وقد يعجزون ويهرمون، وقد يحال بينهم وبين ما يريدون القيام به من الكلام أو المحاضرة أو الدرس أو الدعوة، وقد يعرض لهم ما يعرض للبشر من الخطأ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم {كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون} فالعالم قد يخطئ، والداعية قد يخطئ أيضاً، والإنسان مهما بلغ من التحري والدقة يظل بشراً، وأبونا آدم عليه الصلاة والسلام ورثنا نحن منه جبلة البشرية، وطبيعة الإنسانية التي هي عرضةٌ للخطأ، قال تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122].

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي      درج الجنان بها وفوز العابد

ونسيت أن الله أخرج آدماً      منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ

إذاً الإنسانُ يخطئ، فإذا نحن علقنا أمر الإسلام على فلان العالم، أو الداعية، أو المجاهد؛ فمعنى ذلك أننا جعلنا أمرنا مرهوناً بأشخاص يعرض لهم ما يعرض لغيرهم من البشر، وبدون شك فإن السهام إذا تكاثرت على موقع واحد، فإنها تؤثر فيه على المدى الطويل، فهذا سهمٌ يصيب، وهذا سهمٌ يوشك أن يصيب، وهذا سهمٌ يدمي، وهذا سهمٌ قد يصل إلى القلب وإلى السويداء، وبالتالي يتوقف العمل وتتوقف الدعوة إلى الله تعالى.

الدعوة واجب الجميع

إذاً يجب أن ندرك -أيها الإخوة- جميعاً أن أمر الدعوة إلى الله، وأمر الإسلام، والعلم الشرعي، والجهاد، وأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل أمور الدين، أنها لا تستقر وتستقيم ويضمن لها بإذن الله تعالى الدوام والحفظ ومقارعة كيد الأعداء، إلاَّ إذا كانت هماً لأعداد غفيرة من الأمة، فإن أقوى القُوى وأعتاها وأشدها حينئذٍ تقف عاجزة.

ونحن نجد أنه عبر التاريخ القريب لهذه الأمة، يوم كانت الدعوة هماً لأفراد قلائل، تمكن خصوم الإسلام من إيقافهم، أو مضايقتهم، أو إحراجهم، أو محاصرتهم، أو حتى من اغتيالهم، وبذلك توقفت وتراجعت مسيرة الدعوة الإسلامية سنين إلى الوراء، وربما عشرات السنين؛ لكن لما صار الإسلام هماً لشعبٍ كامل في الجزائر مثلاً، أو في السودان، أو في أفغانستان، أو في بعض البلاد؛ وجدنا أن قوى دولية ضخمة وهائلة، تقف عاجزةً أمامها، فقد وقفت الشيوعية عاجزة أمام أعدادٍ قليلة من المسلمين في أفغانستان لا يملكون -بعد الإيمان بالله تعالى- إلا أسلحةً متواضعة، ثم سقطت الشيوعية وظل الإسلام قائماً في أفغانستان.

واليوم يقف رابع أقوى جيش في العالم في يوغسلافيا عاجزاً عن مزيدٍ من التقدم في بلاد البوسنة والهرسك مع أنهم لا يملكون إلا أسلحة متواضعة، لأن هذا الهم أصبح هماً شعبياً.

إذاً القضية التي تشغل بالي وبال غيري وإخواني من الدعاة إلى الله تعالى، أننا نقول: إلى متى تظلون أو يظل بعض الإخوة متفرجين؟ يروون أن فلاناً قال كذا، وفلاناً فعل كذا، ويشكرون فلاناً، ويدعون لفلان، وينتقدون فلاناً، ثم يقف دورهم عند هذا الحد، لماذا لا ينـزل الجميع إلى الساحة ويشاركون الجميع بإمكانيتهم، كلٌ بحسب ما أعطاه الله تعالى؟! لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

المساهمة بما يستطيع

ولهذا تلاحظون دائماً أننا ندندن حول مسألة المشاركة، لأننا لا يعجبنا أن تكون المشاركة مجرد حضور محاضرات أو دروس، هؤلاء الحضور سرعان ما ينفضون أو ينشغلون بهمومهم، أو تتوقف المحاضرة لإجازةٍ أو لسببٍ آخر فينتهي هؤلاء، لا ثم لا! نحن نريد أن يكون هؤلاء دعاةً إلى الله تعالى كل بحسب إمكانياته، وبحسب ما أعطاه الله عز وجل بحيث لا يتوقفون أبداً.

ولهذا ننادي بالمساهمة والمشاركة ونعرض لها، وندعو إليها، ولعل من آخر المحاضرات التي كنت ألقيتها هنا محاضرة: عنوانها: (تسع وخمسون طريقة لمقاومة التنصير) وقلتُ: إني أبقيت رقماً فارغاً حتى يشارك عدد من الإخوة في مثل هذا العمل، والحمد لله وجدت مشاركة طيبة تبشر بخير، فوجدت أن بعض الإخوة في التسجيلات في الرياض -وأقول: جزاهم الله خيراً- جعلوا هذه الخطط التسع والخمسين في ورقة باختصار، ووضعوا أمامها خانات ليسجل كل إنسان أمام الطريقة التي يستطيع أن يساهم فيها علامة معينة، ووجدتُ أن بعض الإخوة اختصروا هذه الطرق في أوراق مختصرة في نحو عشر صفحات، ونشروها وإن كنت لا أعلم بذلك، لكن وصلني هذا وسرني لأنه نوع من المشاركة.

نموذج لمساهمة في الدعوة

وأعرض أيضاً نموذجاً لمجموعة كبيرة من الرسائل والاتصالات وصلتني، وهذا النموذج من إحدى الأخوات في قطر، وقالت: إنني تعجبت أنك لم تذكر نشاط المنصرين في قطر، فهل هذا دليلُُ على أنه لا يوجد لهم نشاط أم هو نشاط سري؟

وأقول: كلا! لهم نشاط، وهو نشاط علني أيضاً، لكن ربما لم يصلني عدد كبير من الوثائق، وربما ضاق الوقت عن ذكر شيء منها. وذكرت الأخت أنها لما استمعت إلى الأشرطة، قامت بالآتي:

أولاً: استمعتُ إلى الأشرطة.

ثانياً: تبنيتُ القضية مناقشةً مع الأخوات، أو توزيع الأشرطة، أو كتابة موضوع عن التنصير في بعض المجلات أو الجرائد.

ثالثاً: لأنني مازلتُ متفرغة نوعاً ما، تعاقدت مع مُدرسةٍ لمعرفة بعض المصطلحات، وبعض الكلمات الإنجليزية التي أحتاجها.

رابعاً: قمتُ بأخذ أرقام البريد لبعض الجهات المهمة كالوزارات، مثل وزارة التربية والتعليم، وزارة النقل والمواصلات، والمستشفيات الحكومية، والفنادق، والجرائد، ثم قمت بتسجيل عشرين نسخة من وسائل المنصرين، وعشرين نسخة من تسع وخمسين طريقة، ووضعتُ كل شريطين في مغلف، مصحوبة برسالة مناصحة ومناشدة، ثم بعثت بها إلى عشرين جهة، ما بين وزارة ومؤسسة وهيئة، وبعثت الأخت بنموذج من الرسالة التي بعثت بها.

خامساً: المراسلة.

سادساً: الدعاء للمسلمين، والدعاء على النصارى.

هذا الأمر هو نموذج للمشاركة، وكل ما نريده وكل ما يهمنا هو أن يكون الجميع مشاركين في قضية الإسلام، وفي الدعوة إلى الله، وتبني مثل هذه القضايا.

فالكثيرون يحتجون بالزمان والأوضاع، أو يحتجون بأن فلاناً وفلاناً قاموا بالواجب، ويتعللون بذلك عن القيام بواجبهم هم، ونحن على قناعةٍ تامة، أن أمر الدعوة إلى الله وأمر الدين إذا كان منوطاً بأشخاص يعدون على الأصابع، فإن معنى ذلك أنه عرضةُُ لخطرٍ شديد، فهؤلاء الأشخاص قد يموتون، وقد يعجزون ويهرمون، وقد يحال بينهم وبين ما يريدون القيام به من الكلام أو المحاضرة أو الدرس أو الدعوة، وقد يعرض لهم ما يعرض للبشر من الخطأ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم {كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون} فالعالم قد يخطئ، والداعية قد يخطئ أيضاً، والإنسان مهما بلغ من التحري والدقة يظل بشراً، وأبونا آدم عليه الصلاة والسلام ورثنا نحن منه جبلة البشرية، وطبيعة الإنسانية التي هي عرضةٌ للخطأ، قال تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122].

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي      درج الجنان بها وفوز العابد

ونسيت أن الله أخرج آدماً      منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ

إذاً الإنسانُ يخطئ، فإذا نحن علقنا أمر الإسلام على فلان العالم، أو الداعية، أو المجاهد؛ فمعنى ذلك أننا جعلنا أمرنا مرهوناً بأشخاص يعرض لهم ما يعرض لغيرهم من البشر، وبدون شك فإن السهام إذا تكاثرت على موقع واحد، فإنها تؤثر فيه على المدى الطويل، فهذا سهمٌ يصيب، وهذا سهمٌ يوشك أن يصيب، وهذا سهمٌ يدمي، وهذا سهمٌ قد يصل إلى القلب وإلى السويداء، وبالتالي يتوقف العمل وتتوقف الدعوة إلى الله تعالى.

إذاً يجب أن ندرك -أيها الإخوة- جميعاً أن أمر الدعوة إلى الله، وأمر الإسلام، والعلم الشرعي، والجهاد، وأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل أمور الدين، أنها لا تستقر وتستقيم ويضمن لها بإذن الله تعالى الدوام والحفظ ومقارعة كيد الأعداء، إلاَّ إذا كانت هماً لأعداد غفيرة من الأمة، فإن أقوى القُوى وأعتاها وأشدها حينئذٍ تقف عاجزة.

ونحن نجد أنه عبر التاريخ القريب لهذه الأمة، يوم كانت الدعوة هماً لأفراد قلائل، تمكن خصوم الإسلام من إيقافهم، أو مضايقتهم، أو إحراجهم، أو محاصرتهم، أو حتى من اغتيالهم، وبذلك توقفت وتراجعت مسيرة الدعوة الإسلامية سنين إلى الوراء، وربما عشرات السنين؛ لكن لما صار الإسلام هماً لشعبٍ كامل في الجزائر مثلاً، أو في السودان، أو في أفغانستان، أو في بعض البلاد؛ وجدنا أن قوى دولية ضخمة وهائلة، تقف عاجزةً أمامها، فقد وقفت الشيوعية عاجزة أمام أعدادٍ قليلة من المسلمين في أفغانستان لا يملكون -بعد الإيمان بالله تعالى- إلا أسلحةً متواضعة، ثم سقطت الشيوعية وظل الإسلام قائماً في أفغانستان.

واليوم يقف رابع أقوى جيش في العالم في يوغسلافيا عاجزاً عن مزيدٍ من التقدم في بلاد البوسنة والهرسك مع أنهم لا يملكون إلا أسلحة متواضعة، لأن هذا الهم أصبح هماً شعبياً.

إذاً القضية التي تشغل بالي وبال غيري وإخواني من الدعاة إلى الله تعالى، أننا نقول: إلى متى تظلون أو يظل بعض الإخوة متفرجين؟ يروون أن فلاناً قال كذا، وفلاناً فعل كذا، ويشكرون فلاناً، ويدعون لفلان، وينتقدون فلاناً، ثم يقف دورهم عند هذا الحد، لماذا لا ينـزل الجميع إلى الساحة ويشاركون الجميع بإمكانيتهم، كلٌ بحسب ما أعطاه الله تعالى؟! لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

ولهذا تلاحظون دائماً أننا ندندن حول مسألة المشاركة، لأننا لا يعجبنا أن تكون المشاركة مجرد حضور محاضرات أو دروس، هؤلاء الحضور سرعان ما ينفضون أو ينشغلون بهمومهم، أو تتوقف المحاضرة لإجازةٍ أو لسببٍ آخر فينتهي هؤلاء، لا ثم لا! نحن نريد أن يكون هؤلاء دعاةً إلى الله تعالى كل بحسب إمكانياته، وبحسب ما أعطاه الله عز وجل بحيث لا يتوقفون أبداً.

ولهذا ننادي بالمساهمة والمشاركة ونعرض لها، وندعو إليها، ولعل من آخر المحاضرات التي كنت ألقيتها هنا محاضرة: عنوانها: (تسع وخمسون طريقة لمقاومة التنصير) وقلتُ: إني أبقيت رقماً فارغاً حتى يشارك عدد من الإخوة في مثل هذا العمل، والحمد لله وجدت مشاركة طيبة تبشر بخير، فوجدت أن بعض الإخوة في التسجيلات في الرياض -وأقول: جزاهم الله خيراً- جعلوا هذه الخطط التسع والخمسين في ورقة باختصار، ووضعوا أمامها خانات ليسجل كل إنسان أمام الطريقة التي يستطيع أن يساهم فيها علامة معينة، ووجدتُ أن بعض الإخوة اختصروا هذه الطرق في أوراق مختصرة في نحو عشر صفحات، ونشروها وإن كنت لا أعلم بذلك، لكن وصلني هذا وسرني لأنه نوع من المشاركة.

وأعرض أيضاً نموذجاً لمجموعة كبيرة من الرسائل والاتصالات وصلتني، وهذا النموذج من إحدى الأخوات في قطر، وقالت: إنني تعجبت أنك لم تذكر نشاط المنصرين في قطر، فهل هذا دليلُُ على أنه لا يوجد لهم نشاط أم هو نشاط سري؟

وأقول: كلا! لهم نشاط، وهو نشاط علني أيضاً، لكن ربما لم يصلني عدد كبير من الوثائق، وربما ضاق الوقت عن ذكر شيء منها. وذكرت الأخت أنها لما استمعت إلى الأشرطة، قامت بالآتي:

أولاً: استمعتُ إلى الأشرطة.

ثانياً: تبنيتُ القضية مناقشةً مع الأخوات، أو توزيع الأشرطة، أو كتابة موضوع عن التنصير في بعض المجلات أو الجرائد.

ثالثاً: لأنني مازلتُ متفرغة نوعاً ما، تعاقدت مع مُدرسةٍ لمعرفة بعض المصطلحات، وبعض الكلمات الإنجليزية التي أحتاجها.

رابعاً: قمتُ بأخذ أرقام البريد لبعض الجهات المهمة كالوزارات، مثل وزارة التربية والتعليم، وزارة النقل والمواصلات، والمستشفيات الحكومية، والفنادق، والجرائد، ثم قمت بتسجيل عشرين نسخة من وسائل المنصرين، وعشرين نسخة من تسع وخمسين طريقة، ووضعتُ كل شريطين في مغلف، مصحوبة برسالة مناصحة ومناشدة، ثم بعثت بها إلى عشرين جهة، ما بين وزارة ومؤسسة وهيئة، وبعثت الأخت بنموذج من الرسالة التي بعثت بها.

خامساً: المراسلة.

سادساً: الدعاء للمسلمين، والدعاء على النصارى.

هذا الأمر هو نموذج للمشاركة، وكل ما نريده وكل ما يهمنا هو أن يكون الجميع مشاركين في قضية الإسلام، وفي الدعوة إلى الله، وتبني مثل هذه القضايا.

دور الشيطان في الحيل النفسية

النقطة الثانية التي سأقف عندها هي: نظرة في العنوان.

كنت أعلنت عن الدرس يوماً من الأيام بعنوان: (العوائق النفسية) ثم بدلته إلى (الحيل النفسية) والعوائق والحيل قريب من قريب، ثم خطر في بالي خاطر فقال لي: وأين الشيطان الذي ذكر الله تعالى أنه مسلط على ابن آدم، والذي توعد الإنسان فقال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] وقال إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40] وفي آية أخرى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]؟!

فخطر في بالي أن تسميتنا لهذا الأمر بالحيل النفسية أو بالعوائق النفسية أمرٌ يحتاج إلى مراجعة، وكان الأولى أن نسميه الحيل الشيطانية، أو العوائق الشيطانية، لأنه وإن كانت من داخل النفس إلا أن للشيطان فيها نصيباً كبيراً، فإنها غالباً من كيد الشيطان أو وسوسته، والنفس قبلت هذا الكيد وتأثرت به؛ فتحول إلى حيلةٍ يقنع الإنسان بها نفسه، وينبغي أن نجعل للشيطان حينئذٍ دوراً ولا نغفل دور النفس، لأن من الحيل -أيضاً- أن نلقي باللائمة على الشيطان ونتخلى عن أنفسنا في قبول كيد الشيطان والتأثر بوسوسته، مع أن الشيطان نفسه يقول يوم القيامة كما ذكر الله عز وجل وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].

إذاً الشيطان يقول: (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ونقول النفوس: ملومة، والشيطان ملوم أيضاً، فهو أغوى وكاد ووسوس، والنفوس قبلت هذا الوسواس، لأنها نفوسٌ ضعيفة أمارة بالسوء أو نفوسٌ لوامة.

أمور تعصم من النفس والشيطان

ينبغي أن نعتبر هذه الحيل حيلاً نفسيةً شيطانية، وأن ندرك أن النفس والشيطان والهوى كلها ضد هذا الإنسان، ولا عصمة له من كيد الشيطان ومن وسوسة النفس وقبولها إلا بأمور:

الأمر الأول: الإيمان بالله تعالى والاعتصام به والتوكل عليه، فإن العبد يقول دائماً وأبداً: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فلا تحول من المعصية إلى الطاعة، ومن العجز إلى القوة، ومن الضعف والخور إلى القوة في الخير، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الكفر أيضاً إلى الإيمان لا قيام للعبد بذلك كله إلاَّ بعون الله تعالى، قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].

فلابد من الإيمان بالله، والتوكل عليه، وسؤاله والاعتماد عليه، وأن يعرف العبد أنه لا يستطيع أن يصنع شيئاً بنفسه إلاَّ بقوة الله.

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى     فأول ما يجني عليه اجتهاده

الأمر الثاني: الطاعة. فإن القلب إذا كان مليئاً بالطاعات، سواءً كانت طاعات قلبية، مثل محبة الله والتوكل عليه والإيمان به، ومحبة الخير، وما أشبه ذلك من أعمال القلوب، أو كانت أعمال بدنية، كالقراءة والصلاة والذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والبر والإحسان والصدقة والصيام وغير ذلك، إذا كانت حياة الإنسان مليئة بهذه الطاعات، كان الشيطان من الإنسان أبعد، وإذا قلَّت الطاعة وكثرت المعصية، كان هذا مرتعاً خصباً للشيطان.

فالإنسان مثل البيت، إذا دخل الشيطان إلى البيت فوجد ذكر الله، ووجد التسبيح والتحميد وقراءة القرآن، قال لأصحابه: "لا مبيت لكم ولا عشاء" وهرب. وإذا دخل البيت فوجد فيه المعاصي، ووجد فيه الغناء، والمنكرات، ووجد أنه لا يذكر الله تعالى فيه؛ قال لمن معه من جنوده: "أدركتم المبيت والعشاء" وجلس، فأضل أهل البيت وأغواهم، فينبغي على العبد أن يحصن نفسه بالطاعات الظاهرة والباطنة.

الأمر الثالث -الذي يحول دون التأثر بهذه الحيل النفسية والشيطانية-: اعتدال الإنسان في نظرته، وآرائه، ومزاجه، وعلمه، وعمله. فإن العبد إذا كان معتدلاً عُصِمَ بإذن الله تعالى، والاعتدال خيرٌ كله، وهو من القصد الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة: {والقصد القصد تبلغوا}.

أما إذا كان الإنسان بعيداً عن العدل والاعتدال، وعنده نوعٌ من الغلو أو الإفراط، أو الشذوذ في أقواله، أو آرائه، أو أعماله، فإن ذلك يغريه -غالباً- بأن يقع ضحية الحيل النفسية، ويجره الشيطان بسببها.

الأمر الرابع: كثرة التجربة في مجال الخير، فإن من جرَّب عرف، وكثير من الناس يتوقفون بأسباب ضعف التجربة، فيظن الأمر صعباً، ولو جرب لأدرك أنه أقل مما كان يخاف، فإذا أُذِنَ للعبدِ بِأن يجرب ويقوم بالأعمال ويؤدي ما يستطيع، فإنه ينتقل -بإذن الله- من نصرٍ إلى نصر، ومن تجربةٍ إلى تجربة أخرى أحسن منها.

الأمر الخامس: السلامة من الآفات والأمراض الظاهرة والباطنة.. فإن أمراض القلوب من الحقد والحسد والبغضاء والتعاظم والعجب والكبر وسواها؛ تصيب الإنسان كثيراً ببعض الحيل النفسية، وتجعله عرضة لوسوسة الشيطان وكيده، ومثله -أيضاً- الأمراض البدنية، فإنها إذا أبطأت بالإنسان كثيراً ما تؤثر في نفسه، وتسبب اعتلالاً في مزاجه ونقصاً في أحكامه. فعلى العبدِ أن يدرك ذلك كله، وأن يعتصم بالله، ويكثر من الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم على كل حال.

النقطة الثانية التي سأقف عندها هي: نظرة في العنوان.

كنت أعلنت عن الدرس يوماً من الأيام بعنوان: (العوائق النفسية) ثم بدلته إلى (الحيل النفسية) والعوائق والحيل قريب من قريب، ثم خطر في بالي خاطر فقال لي: وأين الشيطان الذي ذكر الله تعالى أنه مسلط على ابن آدم، والذي توعد الإنسان فقال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] وقال إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40] وفي آية أخرى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]؟!

فخطر في بالي أن تسميتنا لهذا الأمر بالحيل النفسية أو بالعوائق النفسية أمرٌ يحتاج إلى مراجعة، وكان الأولى أن نسميه الحيل الشيطانية، أو العوائق الشيطانية، لأنه وإن كانت من داخل النفس إلا أن للشيطان فيها نصيباً كبيراً، فإنها غالباً من كيد الشيطان أو وسوسته، والنفس قبلت هذا الكيد وتأثرت به؛ فتحول إلى حيلةٍ يقنع الإنسان بها نفسه، وينبغي أن نجعل للشيطان حينئذٍ دوراً ولا نغفل دور النفس، لأن من الحيل -أيضاً- أن نلقي باللائمة على الشيطان ونتخلى عن أنفسنا في قبول كيد الشيطان والتأثر بوسوسته، مع أن الشيطان نفسه يقول يوم القيامة كما ذكر الله عز وجل وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].

إذاً الشيطان يقول: (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ونقول النفوس: ملومة، والشيطان ملوم أيضاً، فهو أغوى وكاد ووسوس، والنفوس قبلت هذا الوسواس، لأنها نفوسٌ ضعيفة أمارة بالسوء أو نفوسٌ لوامة.

ينبغي أن نعتبر هذه الحيل حيلاً نفسيةً شيطانية، وأن ندرك أن النفس والشيطان والهوى كلها ضد هذا الإنسان، ولا عصمة له من كيد الشيطان ومن وسوسة النفس وقبولها إلا بأمور:

الأمر الأول: الإيمان بالله تعالى والاعتصام به والتوكل عليه، فإن العبد يقول دائماً وأبداً: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فلا تحول من المعصية إلى الطاعة، ومن العجز إلى القوة، ومن الضعف والخور إلى القوة في الخير، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الكفر أيضاً إلى الإيمان لا قيام للعبد بذلك كله إلاَّ بعون الله تعالى، قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].

فلابد من الإيمان بالله، والتوكل عليه، وسؤاله والاعتماد عليه، وأن يعرف العبد أنه لا يستطيع أن يصنع شيئاً بنفسه إلاَّ بقوة الله.

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى     فأول ما يجني عليه اجتهاده

الأمر الثاني: الطاعة. فإن القلب إذا كان مليئاً بالطاعات، سواءً كانت طاعات قلبية، مثل محبة الله والتوكل عليه والإيمان به، ومحبة الخير، وما أشبه ذلك من أعمال القلوب، أو كانت أعمال بدنية، كالقراءة والصلاة والذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والبر والإحسان والصدقة والصيام وغير ذلك، إذا كانت حياة الإنسان مليئة بهذه الطاعات، كان الشيطان من الإنسان أبعد، وإذا قلَّت الطاعة وكثرت المعصية، كان هذا مرتعاً خصباً للشيطان.

فالإنسان مثل البيت، إذا دخل الشيطان إلى البيت فوجد ذكر الله، ووجد التسبيح والتحميد وقراءة القرآن، قال لأصحابه: "لا مبيت لكم ولا عشاء" وهرب. وإذا دخل البيت فوجد فيه المعاصي، ووجد فيه الغناء، والمنكرات، ووجد أنه لا يذكر الله تعالى فيه؛ قال لمن معه من جنوده: "أدركتم المبيت والعشاء" وجلس، فأضل أهل البيت وأغواهم، فينبغي على العبد أن يحصن نفسه بالطاعات الظاهرة والباطنة.

الأمر الثالث -الذي يحول دون التأثر بهذه الحيل النفسية والشيطانية-: اعتدال الإنسان في نظرته، وآرائه، ومزاجه، وعلمه، وعمله. فإن العبد إذا كان معتدلاً عُصِمَ بإذن الله تعالى، والاعتدال خيرٌ كله، وهو من القصد الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة: {والقصد القصد تبلغوا}.

أما إذا كان الإنسان بعيداً عن العدل والاعتدال، وعنده نوعٌ من الغلو أو الإفراط، أو الشذوذ في أقواله، أو آرائه، أو أعماله، فإن ذلك يغريه -غالباً- بأن يقع ضحية الحيل النفسية، ويجره الشيطان بسببها.

الأمر الرابع: كثرة التجربة في مجال الخير، فإن من جرَّب عرف، وكثير من الناس يتوقفون بأسباب ضعف التجربة، فيظن الأمر صعباً، ولو جرب لأدرك أنه أقل مما كان يخاف، فإذا أُذِنَ للعبدِ بِأن يجرب ويقوم بالأعمال ويؤدي ما يستطيع، فإنه ينتقل -بإذن الله- من نصرٍ إلى نصر، ومن تجربةٍ إلى تجربة أخرى أحسن منها.

الأمر الخامس: السلامة من الآفات والأمراض الظاهرة والباطنة.. فإن أمراض القلوب من الحقد والحسد والبغضاء والتعاظم والعجب والكبر وسواها؛ تصيب الإنسان كثيراً ببعض الحيل النفسية، وتجعله عرضة لوسوسة الشيطان وكيده، ومثله -أيضاً- الأمراض البدنية، فإنها إذا أبطأت بالإنسان كثيراً ما تؤثر في نفسه، وتسبب اعتلالاً في مزاجه ونقصاً في أحكامه. فعلى العبدِ أن يدرك ذلك كله، وأن يعتصم بالله، ويكثر من الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم على كل حال.

النقطة الثالثة: عرض سريعٌ لما سبق قد عرضتُ فيما سبق لأربع حيل نفسية أذكرها الآن باختصار:

الحيلة الأولى: التواضع الوهمي، أما التواضع الحقيقي فمطلوب، وتسميته تواضعاً تيسيراً وإلاَّ فهو في الواقع ليس تواضعاً، فإن أكبر الناس علماً أو عملاً أو تجارة لو عرف قدر نفسه لاحتقرها وازدراها، لكن ينبغي للإنسان أن يتواضع لله تعالى.

التواضع مطلوب ولكن في حدوده

التواضع مطلوب ولكن في حدوده:

وهذا التواضع لا يجوز أن يؤدي إلى ألا يرى الإنسان نفسه أهلاً لشيء، ولا قادراً على أن يفعل شيئاً من أعمال الخير، وليست المشكلة فقط بمجرد الشعور الموجود عند بعض الناس حين يقول: الله يرحم الحال، والله المستعان، وأنا لستُ أهلاً لشيء، وأنا إنسان ضعيف، هذا كله كلام جميل ولا بأس به، المشكلة أن يتحول هذا إلى مبدأٍ مستقر يحكم تصرفات الإنسان، ويحكم مواقفه، فإذا قلتَ له: يا أخي درِّس قال: الله المستعان أنا لا أصلح للتدريس إذاً علِّم القرآن. قال: أنا أحتاج إلى من يعلمني. إذاً اخطُب. قال: أنا لا أستطيع أن أجمع كلمتين إحداهما إلى الأخرى.

إذاً ماذا تستطيع أن تعمل؟ تحول هذا التواضع إلى غِلٍّ وقيدٍ يقيد الإنسان ويقعده عن الأعمال الصالحة، وهذا نوعٌ من إنكار نعمة الله تعالى قال الله عز وجل: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل:83].

فأول مراحل شكر النعمة أن تعرف النعمة فتشكر الله تعالى عليها عارفاً بها، فإن الله تعالى قد أعطاك الكثير، قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] فلماذا تجحد نعمة الله تعالى عليك ولا تقوم بشكرها؟.

أنت تجد أن هدي السلف رضي الله عنهم بل الأنبياء كان غير هذا!! فالأنبياء وأتباعهم كانوا لا يرون لأنفسهم فضلاً، وإنما يرون الفضل لله عز وجل، ويزدرون أنفسهم ويتواضعون لله تعالى، بل إن النبي صلى عليه وسلم لما دخل مكة فاتحاً دخلها متواضعاً متذللاً متضرعاً، حتى طأطأ رأسه عليه الصلاة والسلام، مع أن هذا في موقع النصر.

وكذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم السحاب، خرج فزعاً يخشى أن يكون عذاباً، ومثله لما حصل الخسوف والكسوف خاف صلى الله عليه وسلم وخرج يجر إزاره ثم صلى بالناس، وخشي أن يكون عقوبةً تنـزل بالمسلمين.

التواضع لا يمنع من العمل والأداء

التواضع لا يمنع من العمل والأداء:

فهذا التواضع لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجاهد، ويدير الجيوش، ويعلم الناس العلم ويصالح ويحارب ويسالم ويدعو ويخطب ويأمر وينهى، ويقوم بكل الواجبات الشرعية، فأنت تجد مثلاً ابن عباس رضي الله عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان متواضعاً شديد التواضع، كثير البكاء من خشية الله تعالى، حتى قيل: إنه رضي الله عنه عميت عيناه من كثرة البكاء. وكان يقول:

إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما     ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ

ومع ذلك كان يقول عند قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] يقول: [[أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله]] وكذلك عند قوله تعالى في قصة أهل الكهف: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22] يقول رضي الله عنه: [[أنا من القليل الذين يعلمونهم]] كما نقل عنه غير واحد من المفسرين.

فهذا التواضع لم يمنعه من أن يعلم الناس ويبين ما يعرف، بل هذا نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو المتواضع العارف بحق الله تعالى ومع ما ذكر الله تعالى عنه وشكره لنعم الله: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]. مع ذلك كان يقول كما ذكر الله تعالى عنه: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]. فأعْرَب وأعلن أنه يستطيعُ أن يقوم بأمر الوزارة في حكومة العزيز، وما ذلك رغبةً منه في المنصب ولا طمعاً في الدنيا، لكن من أجل أن يخدم دينه وعقيدته ورسالته التي بعث بها. وهكذا عثمان بن أبي العاص قال: {يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم}.

ومثله ابن تيمية -رحمه الله- كان يقول كلاماً عن نفسه قوياً جزلاً عظيماً، كان يقول: من قام بأمر الإسلام غيري؟! ومن الذي رفع رايته؟... وإنما قال ذلك لما هضم بعض الناس حقه، واتهموه بما هو منه براء، ومن قبل ذكر الله تعالى عن المتقين أنهم كانوا يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].

إذاً نريد منك أولاً ألا يكون تواضعك وهضمك لنفسك، ومعرفتك بقدر نفسك، حائلاً دون قيامك بالواجبات، وأن تقول عند المُلمات: أنا لها أنا لها. وكما قيل:

وتزعم أنك جرمٌ صغير     وفيك انطوى العالم الأكبرُ.<


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع