الطريقة المثلى للتفقه في الدين


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة والأخوات: إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الخلق، ولذلك فهو المستحق وحده لأن يعبد، فالذي له الخلق هو الذي له الأمر، ولذلك جمع الله بينهما في قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فكما أن الله هو الخالق المتصرف في الأكوان، المقدر للأقدار، فهو -أيضاً- سبحانه المستحق للعبادة، المشرع لعباده.

ولذلك فإنه لا يحق لأحدٍ أن يقبل ديناً من عند غير الله، وهذه القضية هي قضية أصولية جوهرية في الإسلام، فحق التشريع هو لله وحده، وهو الحاكم والحكم بين عباده، ومن قبل من غير الله ديناً أو شرعاً أو حكماً أو تحليلاً أو تحريماً؛ فقد اتخذ من هذا الذي تلقى عنه إلهاً من دون الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] ويبين سبحانه أن ما عدا الشريعة فهو الهوى، فيقول: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18] وهذه القضية الواضحة هي جزء من معنى الإيمان بالله عز وجل وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقد ذكر الله تعالى في كتابه صنفين من الناس:-

الصنف الأول: هو صنف المنافقين، الذين لا يقبلون حكم الله ولا ينقادون له إلا حين يوافق أهواءهم، فيقبلونه ليس لأنه حكم الله، لكن لأنه يوافق الهوى، وقد ذمهم الله عز وجل بقوله: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُون * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور:48-50].

الصنف الثاني: هم المؤمنون المسلمون، المستسلمون لله عز وجل، وهذا الاسم الذي يحملونه، الإسلام: يعني الانقياد والطواعية التامة لحكم الله ورسوله، سواء أوافق الهوى أم خالفه، وقد مدحهم الله عز وجل وأثنى عليهم بقوله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:51-52].

فالأمر بيّن واضح، المؤمن المسلم منقاد لحكم الله ورسوله، والذي يعترض على حكم الله أو يأباه أو يرفض الانصياع له فهو منافق وليس بمؤمن، ولذلك فإن المؤمن لا يحول بينه وبين امتثال حكم الله ورسوله، إلا أن يعرف هذا الحكم، فإذا عرفه انقاد له برغبة وقبول واستسلام، كما قال الله عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] لا يحول بين المسلم وبين تنفيذ الحكم الإلهي إلا معرفة هذا الحكم، فإذا عرفه استجاب له، سواء أعرف العلة من وراء ذلك أم لم يعرفها، وسواء أوافق هوى الناس أم لم يوافقه، وسواء أوافق هوى النفس أم لم يوافقه، فهذا حكم الله ينقاد له مسلماً بلا حرج.

ولذلك فإن من المهم أن يعرف كل مسلم تحلى بهذه الصفة أن لله عز وجل في كل واقعة حكم، وهذه قاعدة أصولية مهمة، فما من قضية تقع إلا ولله ورسوله فيها حكم، إما تحليل أو تحريم أو كراهة أو استحباب أو إباحة، ولا تخلو قضية أو واقعة من حكم لله ورسوله.

ولذلك فإن المسلم لا ينفك عن امتثال حكم الله ورسوله في كل واقعة تعرض له في حياته، والمسلم يستطيع معرفة حكم الله ورسوله، إما عن طريق البحث في الكتب والنظر في الأدلة والتوصل إلى هذا الحكم، إن كان أهلاً لذلك، أو عن طريق سؤال أهل العلم الذين أمر الله عز وجل من لا يعلم بسؤالهم، فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7].

ولذلك -أيضاً- أمر الله عز وجل المؤمنين أن يكون من بينهم من يتفقه في الدين، فقال سبحانه: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين [التوبة:122] لأنفسهم ولقومهم: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] وأثنى الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة على الفقه في الدين وعلى المتفقهين فيه، كما في الحديث المتفق عليه، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} ولما سئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من أكرم الناس؟

قال في آخر الحديث: {فعن معادن العرب تسألوني؟

قالوا: نعم، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} والحديث -أيضاً- متفق عليه، ولاشك أن المقصود بالفقه في هذين الحديثين المعنى العام، الذي هو المعرفة بالدين، والمعرفة بالعقائد الصحيحة، والمعرفة بكتاب الله، والمعرفة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكننا سنتحدث في هذه المحاضرة عن المعنى الاصطلاحي الخاص للفقه في الدين، ونعني به معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، معرفة الحلال والحرام والمستحب والمكروه والمباح، من الأدلة الشرعية المعروفة، وليس المقصود بالحديث التفقه في الدين بمعناه العام.

نعمة توجه الصحوة لطلب الدليل

أيها الإخوة: إن من نعمة الله على هذه الأمة في هذا العصر خاصة، أن مَنّ الله عليها بوجود هذه الصحوة الإسلامية، التي عمت سائر البقاع، وسائر الأجناس وكافة الطبقات، فأصبحت تجد في المسلمين من كبارهم ومن شبابهم، من رجالهم ومن نسائهم، من أقبلوا على هذا الدين بصدق وإخلاص، ومن اتجهوا للتفقه في الدين، ومعرفة الأحكام، وهذه نعمه يمتن الله بها علينا في هذا العصر، حيث نرى بأعيننا إقبال الناس على الإسلام، ورغبتهم فيه، في حين أنه مر بالمسلمين -منذ وقت غير بعيد- زمان قلَّ فيه المقبلون على الخير، وضعف شأنهم، وحتى الذين كانوا مستقيمين لم يكن لدى أكثرهم وعي صحيح، ولا حرص قوي على التفقه في الدين، ومعرفة حكم الله ورسوله فيما يعرض لهم.

ومن الجوانب الإيجابية المشرقة في هذه الصحوة الإسلامية، أنها صحوة تعتمد على البصيرة، وعلى الكتاب والسنة، وكم هو أمر طيب أن تجد كثيراً من الشباب ذكوراً وإناثاً يسألون عن حكم الله في مسألة ما، وما حكم كذا؟ ما حكم كذا؟ فإذا سمعوا ممن يفتيهم الحكم في هذه المسألة تحليلاً أو تحريماً، بادروا بأدب وحسن خلق واحترام وتلطف إلى السؤال عن الدليل الذي اعتمد عليه فيما أفتى به من تحليل أو تحريم، وهذا أمر كان معروفاً بين الصحابة والتابعين، حتى إن علياً رضي الله عنه، يقول -في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره-: {كنت إذا حدثني أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بحديث استحلفته بالله، فإذا حلف لي صدقته} وهذا صحابي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـعلي رضي الله عنه يقول له: احلف لي بالله أنك سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هكذا، فإذا حلف له صدقه، وما زال الصحابة والتابعون يسألون عن حجة من أفتى.

إن من الجوانب المشرقة في الصحوة الإسلامية التي نعيشها اليوم، أن تعتمد على البحث عن الدليل وعن الحجة، التي يعتمد عليها المتكلم في حكم الله ورسوله، وهذا أمر طيب، فقد مر على المسلمين زمان طويل، ضعف فيه انتماؤهم للكتاب والسنة، وغلب عليهم التقليد الأعمى في كثير من الأحيان، بل وتعصبوا لآراء الرجال وأقوالهم، حتى إن أحد المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية يقول: كل نص خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول! فهو يقول: إن كل آية أو حديث خالفت ما ذهب إليه إمامه فإن هذه الآية أو الحديث إما أنها منسوخة وإما أنها مؤولة، فأصبح يقدم كلام إمام على كلام الله ورسوله، بل ويقول أحدهم في كتاب له في التفسير، عند قول الله تبارك وتعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:24] يقول: فلا يجوز الأخذ بما خالف أقوال الأئمة الأربعة وإن كان قول صحابة، وإن كان حديثاً، وإن كان آية قرآنية!

وهذا الكلام يوجد في كتب توجد اليوم بين المسلمين في المكتبات، وقد أبدى كثير من العلماء امتعاضهم من هذا التعصب الممقوت الذي يرفضه الأئمة المتبعون ويأبونه ولا يقرونه، حتى قال أحد أئمة الأندلس وهو المنذر بن سعيد البلوطي يشكو ما وصل إليه قومه من التقليد وترك الدليل، يقول:

عذيري من قوم يقولون كلما     طلبت دليلاً هكذا قال مالك

فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك

فان عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله: فهو آفك

فإن قلت: قال الله ضجوا وعولوا     وصاحوا وقالوا: أنت قرن مماحك

وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك

وأشهب وسحنون من أئمة المالكية.

إن الأئمة -أيها الإخوة- المتبوعين وغيرهم من علماء السلف يرفضون مثل هذا اللون من التعصب الممقوت، ونحمد الله أن قلَّ التعصب أو اختفت هذه الظاهرة في كثير من البلاد الإسلامية، وأصبح كثير من المتفقهين وطلاب العلم يبحثون عن الدليل، فإذا صح الدليل آثروه على أقوال أئمتهم وعلى آراء الرجال.

ولهذا فإنني آثرت أن أتحدث عن بعض القضايا المتعلقة بهذا الأسلوب، والواقع الذي تعيشه الصحوة الإسلامية، وهو أسلوب التفقه في الدين، وكيفية أخذ الحكم من القرآن والسنة، ومثل هذا الموضوع لا تفي فيه محاضرة، بل ولا محاضرات، وهو أمر يطول، لهذا فإنني سوف أقتصر على الحديث عن ثلاث نقاط:-

الأولى: الحديث عن الاختلاف بين العلماء، والموقف الصحيح منه.

والثانية: هي الحديث عن قضية الاجتهاد والتقليد.

والنقطة الثالثة: هي الإشارة إلى بعض المحاذير والأخطاء التي يتخوف من وقوع بعض المتفقهين فيها.

أيها الإخوة: إن من نعمة الله على هذه الأمة في هذا العصر خاصة، أن مَنّ الله عليها بوجود هذه الصحوة الإسلامية، التي عمت سائر البقاع، وسائر الأجناس وكافة الطبقات، فأصبحت تجد في المسلمين من كبارهم ومن شبابهم، من رجالهم ومن نسائهم، من أقبلوا على هذا الدين بصدق وإخلاص، ومن اتجهوا للتفقه في الدين، ومعرفة الأحكام، وهذه نعمه يمتن الله بها علينا في هذا العصر، حيث نرى بأعيننا إقبال الناس على الإسلام، ورغبتهم فيه، في حين أنه مر بالمسلمين -منذ وقت غير بعيد- زمان قلَّ فيه المقبلون على الخير، وضعف شأنهم، وحتى الذين كانوا مستقيمين لم يكن لدى أكثرهم وعي صحيح، ولا حرص قوي على التفقه في الدين، ومعرفة حكم الله ورسوله فيما يعرض لهم.

ومن الجوانب الإيجابية المشرقة في هذه الصحوة الإسلامية، أنها صحوة تعتمد على البصيرة، وعلى الكتاب والسنة، وكم هو أمر طيب أن تجد كثيراً من الشباب ذكوراً وإناثاً يسألون عن حكم الله في مسألة ما، وما حكم كذا؟ ما حكم كذا؟ فإذا سمعوا ممن يفتيهم الحكم في هذه المسألة تحليلاً أو تحريماً، بادروا بأدب وحسن خلق واحترام وتلطف إلى السؤال عن الدليل الذي اعتمد عليه فيما أفتى به من تحليل أو تحريم، وهذا أمر كان معروفاً بين الصحابة والتابعين، حتى إن علياً رضي الله عنه، يقول -في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره-: {كنت إذا حدثني أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بحديث استحلفته بالله، فإذا حلف لي صدقته} وهذا صحابي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـعلي رضي الله عنه يقول له: احلف لي بالله أنك سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هكذا، فإذا حلف له صدقه، وما زال الصحابة والتابعون يسألون عن حجة من أفتى.

إن من الجوانب المشرقة في الصحوة الإسلامية التي نعيشها اليوم، أن تعتمد على البحث عن الدليل وعن الحجة، التي يعتمد عليها المتكلم في حكم الله ورسوله، وهذا أمر طيب، فقد مر على المسلمين زمان طويل، ضعف فيه انتماؤهم للكتاب والسنة، وغلب عليهم التقليد الأعمى في كثير من الأحيان، بل وتعصبوا لآراء الرجال وأقوالهم، حتى إن أحد المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية يقول: كل نص خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول! فهو يقول: إن كل آية أو حديث خالفت ما ذهب إليه إمامه فإن هذه الآية أو الحديث إما أنها منسوخة وإما أنها مؤولة، فأصبح يقدم كلام إمام على كلام الله ورسوله، بل ويقول أحدهم في كتاب له في التفسير، عند قول الله تبارك وتعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:24] يقول: فلا يجوز الأخذ بما خالف أقوال الأئمة الأربعة وإن كان قول صحابة، وإن كان حديثاً، وإن كان آية قرآنية!

وهذا الكلام يوجد في كتب توجد اليوم بين المسلمين في المكتبات، وقد أبدى كثير من العلماء امتعاضهم من هذا التعصب الممقوت الذي يرفضه الأئمة المتبعون ويأبونه ولا يقرونه، حتى قال أحد أئمة الأندلس وهو المنذر بن سعيد البلوطي يشكو ما وصل إليه قومه من التقليد وترك الدليل، يقول:

عذيري من قوم يقولون كلما     طلبت دليلاً هكذا قال مالك

فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك

فان عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله: فهو آفك

فإن قلت: قال الله ضجوا وعولوا     وصاحوا وقالوا: أنت قرن مماحك

وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك

وأشهب وسحنون من أئمة المالكية.

إن الأئمة -أيها الإخوة- المتبوعين وغيرهم من علماء السلف يرفضون مثل هذا اللون من التعصب الممقوت، ونحمد الله أن قلَّ التعصب أو اختفت هذه الظاهرة في كثير من البلاد الإسلامية، وأصبح كثير من المتفقهين وطلاب العلم يبحثون عن الدليل، فإذا صح الدليل آثروه على أقوال أئمتهم وعلى آراء الرجال.

ولهذا فإنني آثرت أن أتحدث عن بعض القضايا المتعلقة بهذا الأسلوب، والواقع الذي تعيشه الصحوة الإسلامية، وهو أسلوب التفقه في الدين، وكيفية أخذ الحكم من القرآن والسنة، ومثل هذا الموضوع لا تفي فيه محاضرة، بل ولا محاضرات، وهو أمر يطول، لهذا فإنني سوف أقتصر على الحديث عن ثلاث نقاط:-

الأولى: الحديث عن الاختلاف بين العلماء، والموقف الصحيح منه.

والثانية: هي الحديث عن قضية الاجتهاد والتقليد.

والنقطة الثالثة: هي الإشارة إلى بعض المحاذير والأخطاء التي يتخوف من وقوع بعض المتفقهين فيها.

ففيما يتعلق بالخلاف بين العلماء، يتبرم كثير من الناس من وجود هذا الخلاف ويضيقون به ذرعاً، سواء من العوام الذين لا يطيقون قضية: في المسألة أقوال، وإنما يريدون أن تقول لهم حلال أو حرام فقط، أو حتى من بعض الطلاب الذين يعتقدون أن بالإمكان جمع المسلمين كلهم على حكم واحد في كل مسألة، فيقول البعض: إن من الممكن أن نضع حداً للخلاف بين العلماء وبين المسلمين، وأن نجمع المسلمين على قول واحد في جميع المسائل.

عدم إمكانية جمع المسلمين على مذهب واحد

وأقول إن هذا القول مما يثير له العجب، وهو قول غير صحيح في نظري لأسباب:-

أولاً: طبائع البشر تختلف وتتفاوت تفاوتاً عظيماً، سواء في ذلك العلماء أو غيرهم.

ثانياً: الصحابة رضي الله عنهم، وهم أفضل البشر بعد الأنبياء علماً وعملاً وإخلاصاً وتجرداً، وأقواهم عقولاً، وأعلمهم باللغة، وأسلمهم فطرة، ومع ذلك اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل كثيرة جداً مبثوثة في كتب العلم، ثم إن الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في السابق هي موجودة اليوم، بل هي اليوم موجودة بصورة أعظم مما كانت موجودة في الماضي، وما يقوله البعض من أن العلم تيسر، والمطابع أصبحت تدفع بأعداد كبيرة من الكتب إلى آخره، هذا كله غير كافٍ في إثبات إمكانية جمع المسلمين على كلمة واحدة في كل مسألة.

لذلك فإنني أقول: إن من المهم أن نعرف أن الخلاف بين العلماء أمر لابد منه -في الأصل- وعلينا ألا نتعب أنفسنا في التخلص من هذا الخلاف بالكلية، ورفضه نهائياً، أو دعوة الناس إلى أن نجمعهم على قول واحد في جميع المسائل الجزئية والفرعية، لكن الموقف الصحيح الذي يجب أن نتخذه من هذا الخلاف، هو الذي يجب أن نبحث فيه وندرسه بصورة صحيحة حتى يكون الخلاف بين العلماء إيجابياً مثمراً، وليس خلافاً ضاراً بالمسلمين.

الموقف من خلاف العلماء

فأولاً: يجب على المتفقه وطالب العلم أن يحرص على معرفة الخلاف بين العلماء في المسائل التي يبحثها ويريد أن يصل فيها إلى الحق، ولذلك من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه -كما يقول بعض السلف-.

ويقول الإمام أيوب السختياني رحمه الله: أجسر الناس على الفتيا أقلهم معرفةً باختلاف العلماء، وأورع الناس عن الفتيا، أكثرهم وأعلمهم باختلاف العلماء، وذلك لأن الإنسان إذا لم يعرف الخلاف يأخذ المسائل -أحياناً- بشيء من البساطة، دون أن يدرك الأقوال الأخرى، والأدلة التي تمسك بها هؤلاء الأقوام، فإذا اطلع على الخلاف أصبح متصوراً للموضوع كاملاً، وقادراً على أن يختار من بين هذه الآراء والأقوال ما يجده أسعد بالدليل وأقرب إلى الكتاب والسنة، فهذه قضية.

القضية الثانية: أنه لا يجوز أن نختار من أقوال العلماء ما يعجبنا أو ما نشتهيه نفسياً دون دليل ودون تعليل، فبعضهم يعرض الأقوال في مسألة من المسائل، ثم يقول: أنا أميل إلى هذا القول، فتقول له: لماذا؟

هل معك حديث أو آية، أو تعليل صحيح، أو قياس؟

فيقول: لا، ولكنني أطمئن لهذا القول، وتطمئن إليه نفسي، واطمئنان النفس ليس من ضمن الأدلة الشرعية.

ثالثاً: يجب عدم التشدد أو التشديد على المخالفين، بل التحلي بالحلم وسعة الصدر، ولذلك كثر عن السلف الثناء على الحلم ومدح أهله وبيان أنه قرين العلم، يقول عطاء -مثلاً-: ما أوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ويقول طاوس: ما حمل العلم بمثل جراب حلم، ويقول الشعبي: زين العلم حلم أهله، وهذه الآثار كلها رواها الدارمي في سننه.

إذاً: فعلينا أن نتحلى بالحلم وسعة الصدر، ومادمنا نعرف أن الخلاف واقع، فليس من الصواب أن نحمل على المخالفين، ونتهمهم -دائماً- بأنهم غير متجردين، أو بأنهم متمسكين بآرائهم، لأنك إذا قلت عن أحد: إنه متمسك برأيه، وقد ناقشته في مسألة فلم يقبل، فإنه هو يقول عنك الكلام نفسه، فيقول: فلان متمسك برأيه وقد ناقشته في مسألة فلم يقبل، وليس قبول كلامك فيه بأولى من قبول كلامه فيك.

رابعاً: ينبغي أن يعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة، أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه، وأبى الله أن تكون العصمة إلا لرسله، ومن عدا ذلك فلا يمكن أن يسلم من الخطأ بصفة نهائية، وإذا كان الصحابة قد خطّأ بعضهم بعضاً في مسائل من العلم، فغيرهم من باب الأولى.

وهناك أشياء من العلم يسميها العلماء المسائل الشاذة أو شواذ العلم، وكل عالم أو فقيه أو إمام تجد له مسألة أو مسألتين أو أكثر من ذلك خالف فيها جماهير العلماء، وخالف فيها الدليل الصحيح -أيضاً- لكن عن اجتهاد وحسن نية، وليس إعراضاً عن الحق، فعلى الإنسان أن يعرف هذه الشواذ من العلماء فيجتنبها؛ مهما يكن هذا الإمام أو العالم الذي وقع فيها، إماماً مشهوراً ومتبوعاً ومتفقاً على جلالته، فخطؤه لا ينقص من قدره، وإنما يثبت بشريته فحسب، وكما قيل:-

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها      كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

خامساً: يجب عدم التعصب للأشخاص أو الشيوخ، والدخول في معارك في تفضيل فلان على فلان، سواء من الأئمة الذين ماتوا وبقيت آثارهم ومذاهبهم، أو من العلماء الذين من الله على هذه الأمة بوجودهم اليوم، فلا نشتغل بأن فلاناً أفضل من فلان، ومذهبه أحسن من مذهبه وأقواله أصوب، ونثير معاركاً كلامية طويلة في هذا الباب، وأستأنس لهذه القضية بالقصة التي رواها الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال:{كان رجل من اليهود يبيع سلعة في السوق، فأعطي بها ثمناً أقل مما يريد، فكأنه لم يرتضِ هذا الثمن، فقال: لا والذي فضل موسى على العالمين - يعني لا أبيع هذه السلعة- فتصدى له رجل من الأنصار فلطمه، وقال: تقول: والذي فضل موسى على العالمين، ومحمد صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فذهب هذا اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشتكى إليه، وقال: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً، وقال: إن فلاناً الأنصاري قد لطمني في وجهي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأنصاري، وقال له: لم لطمته؟

قال: يا رسول الله إنه قال: والذي فضل موسى على العالمين، وأنت بين أظهرنا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رؤي الغضب في وجهه، وقال: لا تفضلوني، لا تفضلوا بين الأنبياء، فإنني حين يصعق الناس ثم ينفخ في الصور أكون أول من يفيق -أو في أول من يفيق- فأنظر فإذا موسى قابض بقائمة العرش، فلا أدري أأفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور}.

وهذا الحديث يمكن أن نأخذ منه عدم الدخول في معارك في المفاضلة بين العلماء، خاصةً إذا كان ذلك يوهم تنقص بعضهم وازدرائه أو نسبتهم إلى شيء من الجهل أو الهوى أو ما شابه ذلك، أو يدعو إلى تفرق أو اختلاف.

فهذه أهم القضايا التي يجب أن نضعها في اعتبارنا ونحن ننظر في الخلاف بين العلماء، ولا يجوز -أيها الإخوة- أن تكون هذه القضايا التي وسعت الصحابة والتابعين والمسلمين الأولين ميداناً للخصومة والتنافر والتنافس بين المسلمين.

وأقول إن هذا القول مما يثير له العجب، وهو قول غير صحيح في نظري لأسباب:-

أولاً: طبائع البشر تختلف وتتفاوت تفاوتاً عظيماً، سواء في ذلك العلماء أو غيرهم.

ثانياً: الصحابة رضي الله عنهم، وهم أفضل البشر بعد الأنبياء علماً وعملاً وإخلاصاً وتجرداً، وأقواهم عقولاً، وأعلمهم باللغة، وأسلمهم فطرة، ومع ذلك اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل كثيرة جداً مبثوثة في كتب العلم، ثم إن الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في السابق هي موجودة اليوم، بل هي اليوم موجودة بصورة أعظم مما كانت موجودة في الماضي، وما يقوله البعض من أن العلم تيسر، والمطابع أصبحت تدفع بأعداد كبيرة من الكتب إلى آخره، هذا كله غير كافٍ في إثبات إمكانية جمع المسلمين على كلمة واحدة في كل مسألة.

لذلك فإنني أقول: إن من المهم أن نعرف أن الخلاف بين العلماء أمر لابد منه -في الأصل- وعلينا ألا نتعب أنفسنا في التخلص من هذا الخلاف بالكلية، ورفضه نهائياً، أو دعوة الناس إلى أن نجمعهم على قول واحد في جميع المسائل الجزئية والفرعية، لكن الموقف الصحيح الذي يجب أن نتخذه من هذا الخلاف، هو الذي يجب أن نبحث فيه وندرسه بصورة صحيحة حتى يكون الخلاف بين العلماء إيجابياً مثمراً، وليس خلافاً ضاراً بالمسلمين.

فأولاً: يجب على المتفقه وطالب العلم أن يحرص على معرفة الخلاف بين العلماء في المسائل التي يبحثها ويريد أن يصل فيها إلى الحق، ولذلك من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه -كما يقول بعض السلف-.

ويقول الإمام أيوب السختياني رحمه الله: أجسر الناس على الفتيا أقلهم معرفةً باختلاف العلماء، وأورع الناس عن الفتيا، أكثرهم وأعلمهم باختلاف العلماء، وذلك لأن الإنسان إذا لم يعرف الخلاف يأخذ المسائل -أحياناً- بشيء من البساطة، دون أن يدرك الأقوال الأخرى، والأدلة التي تمسك بها هؤلاء الأقوام، فإذا اطلع على الخلاف أصبح متصوراً للموضوع كاملاً، وقادراً على أن يختار من بين هذه الآراء والأقوال ما يجده أسعد بالدليل وأقرب إلى الكتاب والسنة، فهذه قضية.

القضية الثانية: أنه لا يجوز أن نختار من أقوال العلماء ما يعجبنا أو ما نشتهيه نفسياً دون دليل ودون تعليل، فبعضهم يعرض الأقوال في مسألة من المسائل، ثم يقول: أنا أميل إلى هذا القول، فتقول له: لماذا؟

هل معك حديث أو آية، أو تعليل صحيح، أو قياس؟

فيقول: لا، ولكنني أطمئن لهذا القول، وتطمئن إليه نفسي، واطمئنان النفس ليس من ضمن الأدلة الشرعية.

ثالثاً: يجب عدم التشدد أو التشديد على المخالفين، بل التحلي بالحلم وسعة الصدر، ولذلك كثر عن السلف الثناء على الحلم ومدح أهله وبيان أنه قرين العلم، يقول عطاء -مثلاً-: ما أوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ويقول طاوس: ما حمل العلم بمثل جراب حلم، ويقول الشعبي: زين العلم حلم أهله، وهذه الآثار كلها رواها الدارمي في سننه.

إذاً: فعلينا أن نتحلى بالحلم وسعة الصدر، ومادمنا نعرف أن الخلاف واقع، فليس من الصواب أن نحمل على المخالفين، ونتهمهم -دائماً- بأنهم غير متجردين، أو بأنهم متمسكين بآرائهم، لأنك إذا قلت عن أحد: إنه متمسك برأيه، وقد ناقشته في مسألة فلم يقبل، فإنه هو يقول عنك الكلام نفسه، فيقول: فلان متمسك برأيه وقد ناقشته في مسألة فلم يقبل، وليس قبول كلامك فيه بأولى من قبول كلامه فيك.

رابعاً: ينبغي أن يعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة، أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه، وأبى الله أن تكون العصمة إلا لرسله، ومن عدا ذلك فلا يمكن أن يسلم من الخطأ بصفة نهائية، وإذا كان الصحابة قد خطّأ بعضهم بعضاً في مسائل من العلم، فغيرهم من باب الأولى.

وهناك أشياء من العلم يسميها العلماء المسائل الشاذة أو شواذ العلم، وكل عالم أو فقيه أو إمام تجد له مسألة أو مسألتين أو أكثر من ذلك خالف فيها جماهير العلماء، وخالف فيها الدليل الصحيح -أيضاً- لكن عن اجتهاد وحسن نية، وليس إعراضاً عن الحق، فعلى الإنسان أن يعرف هذه الشواذ من العلماء فيجتنبها؛ مهما يكن هذا الإمام أو العالم الذي وقع فيها، إماماً مشهوراً ومتبوعاً ومتفقاً على جلالته، فخطؤه لا ينقص من قدره، وإنما يثبت بشريته فحسب، وكما قيل:-

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها      كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

خامساً: يجب عدم التعصب للأشخاص أو الشيوخ، والدخول في معارك في تفضيل فلان على فلان، سواء من الأئمة الذين ماتوا وبقيت آثارهم ومذاهبهم، أو من العلماء الذين من الله على هذه الأمة بوجودهم اليوم، فلا نشتغل بأن فلاناً أفضل من فلان، ومذهبه أحسن من مذهبه وأقواله أصوب، ونثير معاركاً كلامية طويلة في هذا الباب، وأستأنس لهذه القضية بالقصة التي رواها الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال:{كان رجل من اليهود يبيع سلعة في السوق، فأعطي بها ثمناً أقل مما يريد، فكأنه لم يرتضِ هذا الثمن، فقال: لا والذي فضل موسى على العالمين - يعني لا أبيع هذه السلعة- فتصدى له رجل من الأنصار فلطمه، وقال: تقول: والذي فضل موسى على العالمين، ومحمد صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فذهب هذا اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشتكى إليه، وقال: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً، وقال: إن فلاناً الأنصاري قد لطمني في وجهي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأنصاري، وقال له: لم لطمته؟

قال: يا رسول الله إنه قال: والذي فضل موسى على العالمين، وأنت بين أظهرنا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رؤي الغضب في وجهه، وقال: لا تفضلوني، لا تفضلوا بين الأنبياء، فإنني حين يصعق الناس ثم ينفخ في الصور أكون أول من يفيق -أو في أول من يفيق- فأنظر فإذا موسى قابض بقائمة العرش، فلا أدري أأفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور}.

وهذا الحديث يمكن أن نأخذ منه عدم الدخول في معارك في المفاضلة بين العلماء، خاصةً إذا كان ذلك يوهم تنقص بعضهم وازدرائه أو نسبتهم إلى شيء من الجهل أو الهوى أو ما شابه ذلك، أو يدعو إلى تفرق أو اختلاف.

فهذه أهم القضايا التي يجب أن نضعها في اعتبارنا ونحن ننظر في الخلاف بين العلماء، ولا يجوز -أيها الإخوة- أن تكون هذه القضايا التي وسعت الصحابة والتابعين والمسلمين الأولين ميداناً للخصومة والتنافر والتنافس بين المسلمين.