خطب ومحاضرات
أساليبهم في حرب الإسلام
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
أيها الأحبة الكرام، موضوع هذا الدرس هو: وسائلهم في حرب الإسلام، وهذا هو المجلس الثالث والثمانون من سلسلة الدروس العلمية العامة، في ليلة الإثنين، السابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة من سنة (1413هـ).
أولاً: قواعد أربع لا بد منها:
القاعدة الأولى: العداوة والصراع في الحياة سنة إلهية
وهكذا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وهم خلق عند الله تعالى في السماء، ومع ذلك لهم أعداء، والرسل عليهم الصلاة والسلام لهم أعداء، وأي أعداء قال تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97].
فذكر أن هناك من اليهود وغيرهم من هم أعداء لجبريل عليه الصلاة والسلام، أما الرسل صلى الله عليهم جميعاً وسلم، فإن العداوة لهم برزت أشد البروز، لأن لكلٍ منهم شريعةً ومنهجاً وأتباعاً وديناً، وربما أقام النبي عليه الصلاة والسلام دولة، وحارب أعداءه وقاومهم، ولهذا قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].
فانظر كلمة (كل) ما من نبي إلا وله أعداء، مع أن النبي قد لا يكون له أتباع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد} فهناك من الأنبياء من لم يكن لهم تابع، لكن كان لهؤلاء أعداء يحاربونهم ويناصبونهم، وقال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].
وهذا يبين سبب خلق النار، وما فيها من السعير والعذاب، لأن النار أعدت لهؤلاء الذين فسدت فطرهم، وخربت عقولهم، وتحجرت قلوبهم، فهم لا يسمعون. وإن كانوا ذوي آذان، ولا يبصرون وإن كان لهم عيون، ولا يعتبرون وإن كان في صدورهم قلوب، لكنها لا تعي ولا تعقل، قال الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
فهؤلاء الذين هم أعداء الرسل، وأعداء الله والملائكة، وأعداء الدين والحق، هم وقود النار، فهذه قاعدة لا بد من فهمها وبيانها، مهما حاولت وجادلت وتحريت وتلطفت، واستخدمت من الأساليب والطرق، فلن تعدم عدواً، ولن يعدم المؤمن أحداً يؤذيه حتى ولو كان على قمة جبل.
ولستُ بناجٍ من مقالةِ شانئٍ ولو كنتُ في رأسٍ على جبلٍ وعر |
القاعدة الثانية: الأعداء جبهة واحدة ضد الإسلام
مع أن التاريخ شاهدٌ بالكثير من القصص والأخبار، التي كان اليهود فيها أعداء للنصارى، وكان النصارى فيها أعداء لليهود، ومع ذلك قال الله تعالى لليهود: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51] قال بعض المفسرين: المعنى أن بعض النصارى أولياء لبعض، وبعض اليهود أولياء لبعض. وقال آخرون: بل المعنى أن اليهود والنصارى يجتمعون ويوحدون كلمتهم إذا واجهوا دين الحق والإسلام، فينسون العداوات فيما بينهم لمواجهة هذا العدو المشترك، كما هو المشاهد اليوم، فإننا نجد تحالف القوى العظمى ضد الإسلام، اليهودية، والنصرانية، والعلمانية، وبقايا الشيوعية، كلها أصبحت جبهة واحدة ضد الإسلام.
وليسَ غريباً ما نرى منْ تصارعٍ هو البغيُ لكنْ بالأسامي تجددا |
وأصبـحَ أحـزاباً تناحرُ بينها وتبدو بوجهِ الدينِ صفاً موحدا |
إنهم جميعاً يظهرون العداوة لهذا الدين: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
من كل ذئب إذا واتته فرصته أهوى إليك بناب الغدر عن كثب |
وإن بدا جانب الأيام معتدلاً سهلاً أتاكَ بثغرِ أغيدٍ شنب |
ما شئتَ من مقتٍ ما شئت أدبِ ما شئت من ذلةٍ في خده الثربِ |
إن الأفاعي وإن لانتْ ملامسها ماذا على نابها من كاملِ العطبِ |
كانوا المطيةِ للأعداء مذ درجوا فينا وما برحوا في كلُ محتربِ |
رسل الفساد وما حلوا وما رحلوا إلا وكانوا به أعدى من الجربِ |
القاعدة الثالثة: تعاون المسلمين مع الأعداء
إن من السهل أن نلقي الملامة على عدونا، سواءً الاستعمار، أو الصهيونية، أو الحكومات الجائرة، أو أمريكا، أو القوى الخفية، أو القوى المعلنة، ولكن هذا الكلام ليس دقيقاً، فهو -أعني العدو- إنما نفد من خلالنا، وبحبل منا بلغ ما يريد، حتى الشيطان نفسه، وهو أعظم الأعداء، إنه يقول يوم القيامة في خطبته الشهيرة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22].
وقد صدق في بعض ما قال وهو كذوب، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فإنه ما كان له من سلطان، إنما سلطانه على الذين آمنوا به وتولوه، قال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100].
وإذا نظرنا اليوم إلى عدونا، وقد نفذ إلى مجتمعاتنا، وإلى بلاد الإسلام كلها، فإننا من الممكن أن نتصور أنه كان يمكن أن يحدث النقيض، وكان من الممكن أن يؤثر جهد المسلمين وكيدهم في عدوهم، وكان هناك احتمال أن يقع غزو فكريٌ إسلامي على الأمم الكافرة، ولكن الذي حصل هو أن أعداء الإسلام قووا وضعف المسلمون، ووجد العدو في المسلمين من القبول والاستجابة ما مكن له، فعلينا أن نلوم أنفسنا، وأن نعود إلى ذواتنا، وأن ندرك أنه ما كان هناك شئ ليحدث لولا أننا تجاوبنا مع هذا الكيد، فحقيق بنا أن نخاطب هذه الأمة المكلومة المجروحة بكلمات الشاعر الذي يقول لها:
ادفني قتلاكِ وارضي بالمصيبةْ واذهبي عاصفةِ الليل غريبةْ |
واحملي العارَ الذي أنجبتهِ وتواري في الزنازينِ الرهيبةْ |
أنتِ ضيعت البطولات سدى يا شعوباً لم تعلمها المصيبةْ |
القاعدة الرابعة: كيد الأعداء ومكرهم ضعيف
وسبحان الله! قد يتصور بعض البسطاء، والذين لا علم عندهم، وغير المتأملين، قد يتصورون نوع تعارض ظاهري، بين الآيات التي وردت في شأن كيد الكافر، يقول الله تعالى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76] ويقول: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25] أي: في ضياع، ولا قيمة له ولا بقاء له، فهذه الآيات تدل على ضعف كيد الشيطان، وأتباع الشيطان من الكافرين، وزواله، وذهابه وضلاله وأنه لا يبلغ أثره.
وبالمقابل هناك آيات أخرى تتحدث عن عظيم كيدهم ومكرهم، قال الله تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46].
فسبحان الله! انظر إلى واقع الحياة المشهود اليوم لترى مصداق ما أخبر به الله جل وعلا في كتابه الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد، فأنت اليوم حين تقرأ عن خطب أعداء الإسلام ودراساتهم واحتياطاتهم؛ تحس بعمق الكيد وخبثه ودهائه، وأنهم يحسبون لكل شيء حساباً، ويدبرون أدق التدبير وأعظمه وألطفه، فلهم حيل وأساليب خفية لطيفة لا يدركها أكثر الناس، فهنا تتذكر قول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46] فهو مكرٌ دقيق، مكرٌ لو بلغ أثره وتحقق مقصوده لزالت الجبال بسببه، لكننا نجد أن الجبال باقية في مكانها، إذاً مكرهم دقيق ولطيف وبعيد، ولكن آثاره أقل مما يدبرون ويتصورون.
فإذا نظرت في المقابل إلى الآيات الأخرى التي تتكلم عن ضعف كيدهم، قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76] وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25]؛ وجدت مصداق ذلك اليوم في أعمال كثيرة ظنوا هم أنها بأيديهم، فإذا بالأمر يكون خلاف ما يتوقعون، فتجد الثغرات التي تقع في النتائج المترتبة على أعمالهم ولو بعد حين، وتكتشف ضعف الكيد ووهنه وكثرة ثغراته في أمور كثيرة، منها: مثلاً مواجهة الشيوعية اليوم. لقد كان العالم الغربي يتعامل مع الشيوعية على أنها قوة باقية لعشرات السنين، وصرحوا بذلك، كما في كتاب نصر بلا هزيمة لـنيكسن وغيره، ولم يكن هناك أي دراسة تتوقع سقوط الشيوعية في الغرب بهذه السرعة، فإذا ببناء الشيوعية يتهاوى خلاف ما كانوا يتوقعون، فلما تهاوى، حاولوا أن يصطادوا في الماء العكر، وقالوا: نحن كنا وراء سقوطالشيوعية، وسربوا أخباراً عن أعمال الفاتيكان في بولندا للقضاء على الشيوعية، وعن اتصالاتٍ خفية، وعلى أن العالم الغربي هو الذي كان يسعى إلى إسقاط الشيوعية.
نعم كان للعالم الغربي يدٌ في ذلك، لكن اليد الغربية كانت يداً واهية ضعيفة، وأما الذي أسقط الشيوعية فهي السنن الإلهية العظيمة التي سبق الحديث عنها.
مثال آخر: حرب الخليج، لقد ظن العالم الغربي أنه سوف يخرج من حرب الخليج ظافراً منتصراً، وسوف يتوج ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، الذي بموجبه يخضع العالم لهيمنة الصليب، ممثلاً في الولايات المتحدة أو في الأمم المتحدة وهما لفظان أو اسمان لمسمى واحد، فإذا بحرب الخليج تتمخض عن أحداث لا يتوقعونها، مثلاً: كانوا يتوقعون أن يتخطف المؤمنون بعد حرب الخليج في بيوتهم بلادهم، وأن يضعف شأن الإسلام، فإذا بهم يواجهون أن العالم الإسلامي عاش فراغاً كبيراً بعد حرب الخليج، وأن الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يلبي طموحات الناس وتطلعاتهم ورغباتهم وأمورهم، هو العودة إلى الدين الحق، فشهد العالم الإسلامي كله صحوة إسلامية عظيمة، زادت وتنامت بعد حرب الخليج الثانية.
مثال آخر: ظنوا أنهم قد قضوا على جميع التحديات التي كانت من بقايا الشيوعية، فإذا بتحديات جديدة تبرز أمامهم في بلاد العالم الإسلامي، وفي البلقان، وفي الصين، وفي غيرها.
مثال رابع: حرب البلقان، سواءً في البوسنة والهرسك أو في غيرها. إنها مثلٌ شاهدٌ يدل على ضعف الكيد الكافر، فهي قوة إسلامية ضعيفة قليلة، ومع ذلك وقف الصرب أمامها عاجزين مقهورين، على رغم سنة كاملة من الضرب والحرب والحصار والتقتيل والإبادة، ومع ذلك -أيضاً- وقف العالم الغربي عاجزاً محتاراً، فإن بقاء الحرب يهدد قوة الغرب ويهدد هيبة الأمم المتحدة، وربما ينذر بخطرٍ كبير، وربما تتحول جزيرة البلقان إلى بحرٍ من الدم، وهذا ما توقعت وتنبأت به استخبارات بريطانيا وغيرها، ومع ذلك هم عاجزون عن حل هذه المشكلة.
مثال خامس: قضية الصومال. إنهم يدركون أن الأمر خطير، ولهذا أعلنوا أمس واليوم أن القوات الأمريكية سوف تنسحب قريباً، وأنه خلال شهرٍ واحد سوف تكون بعض هذه القوات قد غادرت وانسحبت، وحلت محلها قوات أخرى من دولٍ متعددة، وواجهوا سلبيات هناك لم تكن لهم في حساب.
المهم أنهم قد يقدرون ويحسبون ويخططون ويرسمون، لكن تأتي النتائج خلاف ما كانوا يتوقعون، كما قال الله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]؛ إن علينا أن نؤمن بالله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى هو وحده المتصرف في الأكوان، فهو الرب الذي لا يُقضى شيء إلا بإذنه، ولا يقع في الكون إلا ما يريد، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. فالذي ينفذ هو أمر الله تبارك وتعالى، وليس أمر الغرب أو الشرق، ولا أمر هذه الدولة أو تلك، ولا يقع في الكون شيء إلا بإذن الله عز وجل.
زعمتْ أوروبا أن تحارب ربها وليغلبنَّ مغالب الغلابِ |
إن النموذج الفرعوني ظاهرٌ اليوم عياناً، فهذا فرعون كان يقول: إن هؤلاء -أي موسى وأتباعه-: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء:54] أي: قلة وحفنة، كما يعبرون بلغة العصر الحاضر: وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [الشعراء:55] وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:56] فهم يقولون: هؤلاء أقلية، ويحاولون أن يعرقلوا خطة الحضارة، وسير الأمور، ونظام الإدارة، ونحن حذرون يقظون، وسوف نقاومهم بكل الوسائل. هذا هو الظن الفرعوني، الظن البشري الجاهلي، عمل على حسب التأييد الشعبي، وعلى ملء عقول الناس، وعلى تشويه نظراتهم، حتى قال عن موسى عليه الصلاة والسلام: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] وقد قال الحافظ ابن كثير، قال: قيل في المثل: أصبح فرعون واعظاً. ففرعون يخاف على الدين، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ [غافر:26] وفرعون يبعد الفساد ويحاربه: أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] وهذا يقوله فرعون في مواجهة موسى عليه صلوات الله وسلامه، وجمع فرعون الكهنة، ورجال الدين في زمانه، وجبرهم لصالحه، فكانوا يحضرون الحفلات والمناسبات وغيرها، ويؤيدونه، ولما مات قاموا وصاحوا وبكوا وأعولوا وجمعوا الشعوب بهذه المناسبة، لما مات أحد الفراعنة، لكن النتيجة على الرغم من القوة التأله والطغيان النتيجة: هذا فرعون جثة ملقاة على جانب البحر: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90] يقول الله تبارك وتعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92].
فقذف البحر بجثته إلى الخارج لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92] وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره، أن جبريل عليه الصلاة والسلام يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه؛ مخافة أن تدركه الرحمة} أي أن جبريل عليه السلام يضع في فم فرعون الطين الأسود، خشية أن تدركه رحمة الله. فهذا هو إلههم الذي كانوا يعبدون ويؤلهون، وكانوا له يسجدون، وبحمده يسبحون، هاهو جثة ملقاة على البحر، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، إذاً هذه قواعد أربع لا بد أن نعيدها باختصار:
القاعدة الأولى: العداوة والصراع في الحياة سنة إلهية.
القاعدة الثانية: الأعداء مهما اختلفوا فيما بينهم يوحدون صفوفهم في مواجهة الإسلام.
القاعدة الثالثة: لم يكن كيد العدو ليبلغ مبلغه؛ لولا أنه وجد من المسلمين تجاوباً معه.
القاعدة الرابعة: إن كيد الكافرين ضعيف وهو إلى تبابٍ وإلى ضلال.
إن العداوة والصراع في هذه الحياة قائمة إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وليست هذه العداوة بالضرورة مبنية على خطأ ممن نصبت له العداوة، ولا على ظلم، ولا على اعتداء؛ بل إن الله تعالى، وهو الإله الكريم الجواد الرحيم الرحمن المتفضل على عباده بكل خير، ومع ذلك كان له من خلقه أعداء، كما قال الله عز وجل: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98].
وهكذا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وهم خلق عند الله تعالى في السماء، ومع ذلك لهم أعداء، والرسل عليهم الصلاة والسلام لهم أعداء، وأي أعداء قال تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97].
فذكر أن هناك من اليهود وغيرهم من هم أعداء لجبريل عليه الصلاة والسلام، أما الرسل صلى الله عليهم جميعاً وسلم، فإن العداوة لهم برزت أشد البروز، لأن لكلٍ منهم شريعةً ومنهجاً وأتباعاً وديناً، وربما أقام النبي عليه الصلاة والسلام دولة، وحارب أعداءه وقاومهم، ولهذا قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].
فانظر كلمة (كل) ما من نبي إلا وله أعداء، مع أن النبي قد لا يكون له أتباع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد} فهناك من الأنبياء من لم يكن لهم تابع، لكن كان لهؤلاء أعداء يحاربونهم ويناصبونهم، وقال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].
وهذا يبين سبب خلق النار، وما فيها من السعير والعذاب، لأن النار أعدت لهؤلاء الذين فسدت فطرهم، وخربت عقولهم، وتحجرت قلوبهم، فهم لا يسمعون. وإن كانوا ذوي آذان، ولا يبصرون وإن كان لهم عيون، ولا يعتبرون وإن كان في صدورهم قلوب، لكنها لا تعي ولا تعقل، قال الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
فهؤلاء الذين هم أعداء الرسل، وأعداء الله والملائكة، وأعداء الدين والحق، هم وقود النار، فهذه قاعدة لا بد من فهمها وبيانها، مهما حاولت وجادلت وتحريت وتلطفت، واستخدمت من الأساليب والطرق، فلن تعدم عدواً، ولن يعدم المؤمن أحداً يؤذيه حتى ولو كان على قمة جبل.
ولستُ بناجٍ من مقالةِ شانئٍ ولو كنتُ في رأسٍ على جبلٍ وعر |
إن الأعداء مهما وجد بينهم من التباغض والتباين والتناقض والتباعد، فإنهم إذا واجهوا الحق وواجهوا الإسلام؛ وحدوا صفوفهم في مواجته، خاصةً إذا قويت شوكة الدين وعز جانبه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
مع أن التاريخ شاهدٌ بالكثير من القصص والأخبار، التي كان اليهود فيها أعداء للنصارى، وكان النصارى فيها أعداء لليهود، ومع ذلك قال الله تعالى لليهود: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51] قال بعض المفسرين: المعنى أن بعض النصارى أولياء لبعض، وبعض اليهود أولياء لبعض. وقال آخرون: بل المعنى أن اليهود والنصارى يجتمعون ويوحدون كلمتهم إذا واجهوا دين الحق والإسلام، فينسون العداوات فيما بينهم لمواجهة هذا العدو المشترك، كما هو المشاهد اليوم، فإننا نجد تحالف القوى العظمى ضد الإسلام، اليهودية، والنصرانية، والعلمانية، وبقايا الشيوعية، كلها أصبحت جبهة واحدة ضد الإسلام.
وليسَ غريباً ما نرى منْ تصارعٍ هو البغيُ لكنْ بالأسامي تجددا |
وأصبـحَ أحـزاباً تناحرُ بينها وتبدو بوجهِ الدينِ صفاً موحدا |
إنهم جميعاً يظهرون العداوة لهذا الدين: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
من كل ذئب إذا واتته فرصته أهوى إليك بناب الغدر عن كثب |
وإن بدا جانب الأيام معتدلاً سهلاً أتاكَ بثغرِ أغيدٍ شنب |
ما شئتَ من مقتٍ ما شئت أدبِ ما شئت من ذلةٍ في خده الثربِ |
إن الأفاعي وإن لانتْ ملامسها ماذا على نابها من كاملِ العطبِ |
كانوا المطيةِ للأعداء مذ درجوا فينا وما برحوا في كلُ محتربِ |
رسل الفساد وما حلوا وما رحلوا إلا وكانوا به أعدى من الجربِ |
إن هذا الكيد الموجه ضد الإسلام، والموجه ضد المسلمين، لم يكن ليبلغ مبلغه ويحقق أثره لولا أنه وجد آذاناً صاغية من المسلمين، ووجد تربة خصبةً لزرعه في بلاد الإسلام، ولهذا قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]. ثم قال في الآية التي بعدها: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الأنعام:113] وقال سبحانه: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120].
إن من السهل أن نلقي الملامة على عدونا، سواءً الاستعمار، أو الصهيونية، أو الحكومات الجائرة، أو أمريكا، أو القوى الخفية، أو القوى المعلنة، ولكن هذا الكلام ليس دقيقاً، فهو -أعني العدو- إنما نفد من خلالنا، وبحبل منا بلغ ما يريد، حتى الشيطان نفسه، وهو أعظم الأعداء، إنه يقول يوم القيامة في خطبته الشهيرة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22].
وقد صدق في بعض ما قال وهو كذوب، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فإنه ما كان له من سلطان، إنما سلطانه على الذين آمنوا به وتولوه، قال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100].
وإذا نظرنا اليوم إلى عدونا، وقد نفذ إلى مجتمعاتنا، وإلى بلاد الإسلام كلها، فإننا من الممكن أن نتصور أنه كان يمكن أن يحدث النقيض، وكان من الممكن أن يؤثر جهد المسلمين وكيدهم في عدوهم، وكان هناك احتمال أن يقع غزو فكريٌ إسلامي على الأمم الكافرة، ولكن الذي حصل هو أن أعداء الإسلام قووا وضعف المسلمون، ووجد العدو في المسلمين من القبول والاستجابة ما مكن له، فعلينا أن نلوم أنفسنا، وأن نعود إلى ذواتنا، وأن ندرك أنه ما كان هناك شئ ليحدث لولا أننا تجاوبنا مع هذا الكيد، فحقيق بنا أن نخاطب هذه الأمة المكلومة المجروحة بكلمات الشاعر الذي يقول لها:
ادفني قتلاكِ وارضي بالمصيبةْ واذهبي عاصفةِ الليل غريبةْ |
واحملي العارَ الذي أنجبتهِ وتواري في الزنازينِ الرهيبةْ |
أنتِ ضيعت البطولات سدى يا شعوباً لم تعلمها المصيبةْ |
إن كيد العدو ضعيف، ومكره إلى تباب، قال الله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
وسبحان الله! قد يتصور بعض البسطاء، والذين لا علم عندهم، وغير المتأملين، قد يتصورون نوع تعارض ظاهري، بين الآيات التي وردت في شأن كيد الكافر، يقول الله تعالى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76] ويقول: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25] أي: في ضياع، ولا قيمة له ولا بقاء له، فهذه الآيات تدل على ضعف كيد الشيطان، وأتباع الشيطان من الكافرين، وزواله، وذهابه وضلاله وأنه لا يبلغ أثره.
وبالمقابل هناك آيات أخرى تتحدث عن عظيم كيدهم ومكرهم، قال الله تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46].
فسبحان الله! انظر إلى واقع الحياة المشهود اليوم لترى مصداق ما أخبر به الله جل وعلا في كتابه الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد، فأنت اليوم حين تقرأ عن خطب أعداء الإسلام ودراساتهم واحتياطاتهم؛ تحس بعمق الكيد وخبثه ودهائه، وأنهم يحسبون لكل شيء حساباً، ويدبرون أدق التدبير وأعظمه وألطفه، فلهم حيل وأساليب خفية لطيفة لا يدركها أكثر الناس، فهنا تتذكر قول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46] فهو مكرٌ دقيق، مكرٌ لو بلغ أثره وتحقق مقصوده لزالت الجبال بسببه، لكننا نجد أن الجبال باقية في مكانها، إذاً مكرهم دقيق ولطيف وبعيد، ولكن آثاره أقل مما يدبرون ويتصورون.
فإذا نظرت في المقابل إلى الآيات الأخرى التي تتكلم عن ضعف كيدهم، قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76] وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25]؛ وجدت مصداق ذلك اليوم في أعمال كثيرة ظنوا هم أنها بأيديهم، فإذا بالأمر يكون خلاف ما يتوقعون، فتجد الثغرات التي تقع في النتائج المترتبة على أعمالهم ولو بعد حين، وتكتشف ضعف الكيد ووهنه وكثرة ثغراته في أمور كثيرة، منها: مثلاً مواجهة الشيوعية اليوم. لقد كان العالم الغربي يتعامل مع الشيوعية على أنها قوة باقية لعشرات السنين، وصرحوا بذلك، كما في كتاب نصر بلا هزيمة لـنيكسن وغيره، ولم يكن هناك أي دراسة تتوقع سقوط الشيوعية في الغرب بهذه السرعة، فإذا ببناء الشيوعية يتهاوى خلاف ما كانوا يتوقعون، فلما تهاوى، حاولوا أن يصطادوا في الماء العكر، وقالوا: نحن كنا وراء سقوطالشيوعية، وسربوا أخباراً عن أعمال الفاتيكان في بولندا للقضاء على الشيوعية، وعن اتصالاتٍ خفية، وعلى أن العالم الغربي هو الذي كان يسعى إلى إسقاط الشيوعية.
نعم كان للعالم الغربي يدٌ في ذلك، لكن اليد الغربية كانت يداً واهية ضعيفة، وأما الذي أسقط الشيوعية فهي السنن الإلهية العظيمة التي سبق الحديث عنها.
مثال آخر: حرب الخليج، لقد ظن العالم الغربي أنه سوف يخرج من حرب الخليج ظافراً منتصراً، وسوف يتوج ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، الذي بموجبه يخضع العالم لهيمنة الصليب، ممثلاً في الولايات المتحدة أو في الأمم المتحدة وهما لفظان أو اسمان لمسمى واحد، فإذا بحرب الخليج تتمخض عن أحداث لا يتوقعونها، مثلاً: كانوا يتوقعون أن يتخطف المؤمنون بعد حرب الخليج في بيوتهم بلادهم، وأن يضعف شأن الإسلام، فإذا بهم يواجهون أن العالم الإسلامي عاش فراغاً كبيراً بعد حرب الخليج، وأن الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يلبي طموحات الناس وتطلعاتهم ورغباتهم وأمورهم، هو العودة إلى الدين الحق، فشهد العالم الإسلامي كله صحوة إسلامية عظيمة، زادت وتنامت بعد حرب الخليج الثانية.
مثال آخر: ظنوا أنهم قد قضوا على جميع التحديات التي كانت من بقايا الشيوعية، فإذا بتحديات جديدة تبرز أمامهم في بلاد العالم الإسلامي، وفي البلقان، وفي الصين، وفي غيرها.
مثال رابع: حرب البلقان، سواءً في البوسنة والهرسك أو في غيرها. إنها مثلٌ شاهدٌ يدل على ضعف الكيد الكافر، فهي قوة إسلامية ضعيفة قليلة، ومع ذلك وقف الصرب أمامها عاجزين مقهورين، على رغم سنة كاملة من الضرب والحرب والحصار والتقتيل والإبادة، ومع ذلك -أيضاً- وقف العالم الغربي عاجزاً محتاراً، فإن بقاء الحرب يهدد قوة الغرب ويهدد هيبة الأمم المتحدة، وربما ينذر بخطرٍ كبير، وربما تتحول جزيرة البلقان إلى بحرٍ من الدم، وهذا ما توقعت وتنبأت به استخبارات بريطانيا وغيرها، ومع ذلك هم عاجزون عن حل هذه المشكلة.
مثال خامس: قضية الصومال. إنهم يدركون أن الأمر خطير، ولهذا أعلنوا أمس واليوم أن القوات الأمريكية سوف تنسحب قريباً، وأنه خلال شهرٍ واحد سوف تكون بعض هذه القوات قد غادرت وانسحبت، وحلت محلها قوات أخرى من دولٍ متعددة، وواجهوا سلبيات هناك لم تكن لهم في حساب.
المهم أنهم قد يقدرون ويحسبون ويخططون ويرسمون، لكن تأتي النتائج خلاف ما كانوا يتوقعون، كما قال الله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]؛ إن علينا أن نؤمن بالله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى هو وحده المتصرف في الأكوان، فهو الرب الذي لا يُقضى شيء إلا بإذنه، ولا يقع في الكون إلا ما يريد، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. فالذي ينفذ هو أمر الله تبارك وتعالى، وليس أمر الغرب أو الشرق، ولا أمر هذه الدولة أو تلك، ولا يقع في الكون شيء إلا بإذن الله عز وجل.
زعمتْ أوروبا أن تحارب ربها وليغلبنَّ مغالب الغلابِ |
إن النموذج الفرعوني ظاهرٌ اليوم عياناً، فهذا فرعون كان يقول: إن هؤلاء -أي موسى وأتباعه-: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء:54] أي: قلة وحفنة، كما يعبرون بلغة العصر الحاضر: وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [الشعراء:55] وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:56] فهم يقولون: هؤلاء أقلية، ويحاولون أن يعرقلوا خطة الحضارة، وسير الأمور، ونظام الإدارة، ونحن حذرون يقظون، وسوف نقاومهم بكل الوسائل. هذا هو الظن الفرعوني، الظن البشري الجاهلي، عمل على حسب التأييد الشعبي، وعلى ملء عقول الناس، وعلى تشويه نظراتهم، حتى قال عن موسى عليه الصلاة والسلام: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] وقد قال الحافظ ابن كثير، قال: قيل في المثل: أصبح فرعون واعظاً. ففرعون يخاف على الدين، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ [غافر:26] وفرعون يبعد الفساد ويحاربه: أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] وهذا يقوله فرعون في مواجهة موسى عليه صلوات الله وسلامه، وجمع فرعون الكهنة، ورجال الدين في زمانه، وجبرهم لصالحه، فكانوا يحضرون الحفلات والمناسبات وغيرها، ويؤيدونه، ولما مات قاموا وصاحوا وبكوا وأعولوا وجمعوا الشعوب بهذه المناسبة، لما مات أحد الفراعنة، لكن النتيجة على الرغم من القوة التأله والطغيان النتيجة: هذا فرعون جثة ملقاة على جانب البحر: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90] يقول الله تبارك وتعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92].
فقذف البحر بجثته إلى الخارج لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92] وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره، أن جبريل عليه الصلاة والسلام يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه؛ مخافة أن تدركه الرحمة} أي أن جبريل عليه السلام يضع في فم فرعون الطين الأسود، خشية أن تدركه رحمة الله. فهذا هو إلههم الذي كانوا يعبدون ويؤلهون، وكانوا له يسجدون، وبحمده يسبحون، هاهو جثة ملقاة على البحر، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، إذاً هذه قواعد أربع لا بد أن نعيدها باختصار:
القاعدة الأولى: العداوة والصراع في الحياة سنة إلهية.
القاعدة الثانية: الأعداء مهما اختلفوا فيما بينهم يوحدون صفوفهم في مواجهة الإسلام.
القاعدة الثالثة: لم يكن كيد العدو ليبلغ مبلغه؛ لولا أنه وجد من المسلمين تجاوباً معه.
القاعدة الرابعة: إن كيد الكافرين ضعيف وهو إلى تبابٍ وإلى ضلال.
ثانياً: فائدة طرح الموضوع:
إن كشف أساليب الأعداء سنة قرآنية وطريقة نبوية، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم خطط المشركين فقال: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا [الإسراء:73] وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا [الإسراء:76] إلى غير ذلك.
وذكر خطط اليهود فقال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [المائدة:41] وذكرت خطط النصارى فقال: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً [آل عمران:75].
وذكر خطط المنافقين فقال: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا * هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:3-4].
إذاً فذكر خطط الأعداء وكشفها، منهج قرآني وسنة نبوية، ولها فوائد عظيمة منها:
التطعيم
فأثمرت هذه الخطة نتيجة عكسية، المشركون ما كانوا يريدون أن يزيد الإيمان، ولا أن يزيد التوكل، ولكن الله تعالى جعل النعمة في طي النقمة.
وربما نقمٌ في طيها نعم وربما صحت الأبدان بالعلل |
إذاً الإرهاب النفسي والتخويف كان مقصوداً، لكن المؤمنين الواعين المتوكلين على الله تعالى، تمردوا على هذا النوع من الحرب، وجعلوه لصالحهم.
مثلٌ آخر: قال الله تعالى: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
المسلم المعاصر اليوم حين يقال له -مثلاً-: سيقول الذي أشركوا عن دعاة الإسلام ورجاله وعلمائه كيت وكيت، وسوف ينشر في الصحف كذا وكذا، وسوف يقال في الإذاعة كذا وكذا، فإنه إذا رأى هذا الكلام وقرأه أو سمعه؛ فإنه لم يتأثر به بل قال: هذا مصداق ما علمنا أنهم سيقولون كذا ويقولون كذا. إذاً كشف هذه الخطط فيها تطعيم للمسلم أن يتأثر بها، فإذا قيل له: سوف يقول أعداء الإسلام -مثلاً- عن دعاة الإسلام إنهم متطرفون. فإذا قرأ في الجريدة: المتطرفون، قال: هذا ما كنا نُحذّره من قبل، فالذين حذرونا كانوا مصيبين وصادقين، وقد عرفوا دخيلة هؤلاء وخبيئتهم، وماذا يقولون وماذا تنطوي عليه جوانحهم.
مواجهتها بالطرق المناسبة
تقوية الإيمان
رص الصفوف وجمع الكلمة
تطعيم المؤمن ضد هذه الأساليب، بحيث تؤدي أساليب الأعداء إلى مردود عكسي، فتزيد الإيمان بدلاً من أنهم كانوا يريدون أن تضعفه، وتوثقه ولا يرتاب المؤمنون بسببها ولا يشكون. مثال: قال الله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] هذه خطة، عمل أبو سفيان وقريش على نشر إشاعة مؤداها: إن قريشاً قد حشدت حشودها للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستئصال شأفتهم، وقالوا ربما تكون هذه الإشاعة سبباً في ضعف المسلمين وترددهم، أو تراجع بعضهم وقلة يقينهم وإيمانهم، قال الله تعالى: فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
فأثمرت هذه الخطة نتيجة عكسية، المشركون ما كانوا يريدون أن يزيد الإيمان، ولا أن يزيد التوكل، ولكن الله تعالى جعل النعمة في طي النقمة.
وربما نقمٌ في طيها نعم وربما صحت الأبدان بالعلل |
إذاً الإرهاب النفسي والتخويف كان مقصوداً، لكن المؤمنين الواعين المتوكلين على الله تعالى، تمردوا على هذا النوع من الحرب، وجعلوه لصالحهم.
مثلٌ آخر: قال الله تعالى: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
المسلم المعاصر اليوم حين يقال له -مثلاً-: سيقول الذي أشركوا عن دعاة الإسلام ورجاله وعلمائه كيت وكيت، وسوف ينشر في الصحف كذا وكذا، وسوف يقال في الإذاعة كذا وكذا، فإنه إذا رأى هذا الكلام وقرأه أو سمعه؛ فإنه لم يتأثر به بل قال: هذا مصداق ما علمنا أنهم سيقولون كذا ويقولون كذا. إذاً كشف هذه الخطط فيها تطعيم للمسلم أن يتأثر بها، فإذا قيل له: سوف يقول أعداء الإسلام -مثلاً- عن دعاة الإسلام إنهم متطرفون. فإذا قرأ في الجريدة: المتطرفون، قال: هذا ما كنا نُحذّره من قبل، فالذين حذرونا كانوا مصيبين وصادقين، وقد عرفوا دخيلة هؤلاء وخبيئتهم، وماذا يقولون وماذا تنطوي عليه جوانحهم.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |