شرح سنن أبي داود [070]


الحلقة مفرغة

شرح حديث: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب كيف الأذان.

حدثنا محمد بن منصور الطوسي حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: حدثني أبي: عبد الله بن زيد قال: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله! أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟! فقلت له: بلى. قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به؛ فإنه أندى صوتاً منك، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته، فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق -يا رسول الله- لقد رأيت مثلما رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد) ].

قوله: [ باب كيف الأذان ].

المقصود من هذه الترجمة بيان كيفية الأذان، أي: ألفاظه، وصيغه، وكيفية أدائه، وبيان كيف يؤذن المؤذن، والألفاظ التي يؤذن بها، وهل يرفع صوته بذلك، واستحباب اختيار من يكون صوته ندياً، فإنه يكون مقدماً على غيره في ذلك، كل هذا هو المقصود من الترجمة.

وقد أورد المصنف رحمه الله جملة من الأحاديث التي فيها بيان كيفية الأذان، وهي بصيغ مختلفة في الزيادة والنقصان، وكذلك الإقامة، وما صح من ذلك فإن الاختلاف فيه من قبيل اختلاف التنوع، فكلها حق، وإذا أخذ المؤذن بأي صيغة مما ورد وثبت فإن ذلك يكون صحيحاً ويكون حقاً، وهو مثل ألفاظ التشهد وألفاظ الاستفتاح التي جاءت بصيغ مختلفة، فأي واحد منها يُعمل به فإنه يكون حقاً ما دام أنه ثابت، ويسمى الاختلاف هنا اختلاف تنوع، واختلاف التنوع لا يؤثر، والألفاظ المختلفة أو الأقوال المختلفة أو المتعددة كلها أنواع للحق لا اختلاف بينها ما دام أنها ثبتت كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست من قبيل اختلاف التضاد الذي يكون فيه أحد الطرفين مصيباً والآخر مخطئاً، والذي ليس فيه كل مجتهد مصيب، بل المصيب واحد؛ لأن الحق واحد، فمن أصاب الحق حصّل أجرين، ومن أخطأه حصّل أجراً واحداً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) أي أن المجتهدين ينقسمون إلى مصيب، ومخطئ، وإنما يصيب الحق من يصيبه ويخطئه من يخطئه، والكل مأجور مع التفاوت في الأجر، ولكن يصلح أن يقال: كل مجتهد مصيب أجراً، ولا يعدم المجتهد الأجر أو الأجرين، ولكن ليس كل مجتهد مصيباً حقاً؛ لأن الحق لا يتنوع إلا في اختلاف التنوع، أما اختلاف التضاد فلا، كأن يكون الأمر حلالاً وحراماً، أو تبطل به الصلاة، وتصح به الصلاة، أو ينقض الوضوء ولا ينقض الوضوء، فكل هذا من قبيل اختلاف التضاد، والمصيب فيه واحد فقط.

وأما اختلاف التنوع كاختلاف ألفاظ الأذان، واختلاف ألفاظ التشهد، واختلاف ألفاظ الاستفتاح، فكل ما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الألفاظ فإن كل ذلك حق، وهو من قبيل اختلاف التنوع، وكلها أنواع وأوجه للحق.

وأورد المصنف رحمه الله حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري رضي الله تعالى عنه في شأن الأذان...

وقد مرّ في الحديث الماضي أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بشأن الأذان، أي: اهتم بشأن ما يكون وسيلة إلى إعلام الناس بدخول الوقت، وذُكر له نصب الراية عند دخول الوقت، حتى إذا رأوها يُذَكِّر بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، ثم ذُكر له شبور اليهود فلم يعجبه ذلك، ثم ذُكر له ناقوس النصارى فلم يعجبه ذلك، ولكنه مال إلى استعماله، وأراد أن يأمر به مع كونه كارهاً له، وقبل أن يَنفُذَ ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه في منامه أنه أتاه آتٍ فعلّمه الأذان، كما مرّ آنفاً، وهو خمس عشر جملة، فيها التربيع للتكبير أولاً، ثم الشهادة لله بالوحدانية والإلهية مرتين، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة مرتين، ثم (حي على الصلاة) مرتين، و(حي على الفلاح) مرتين، و(الله أكبر) في آخر الأذان مرتين، وفي الختام: (لا إله إلا الله)، فيكون المجموع خمس عشرة جملة.

ثم علمه الإقامة، وهي إحدى عشر جملة، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمره أن يلقي الأذان على بلال لأنه أندى منه صوتاً، وصاحب الرؤيا لم يكن هو المؤذن، بل لأن بلالاً أندى منه صوتاً، أي: أرفع منه صوتاً، فألقاه عليه وأذن به بلال ، ولما سمع عمر رضي الله عنه أذان بلال بهذه الألفاظ وكان عمر قد رآها في المنام، وطاف به طائف في المنام مثلما طاف بـعبد الله بن زيد ، جاء عمر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد رأى مثل الذي رأى عبد الله بن زيد ، فقال عليه الصلاة والسلام: (فلله الحمد).

إذاً: ثبت أن من ألفاظ الأذان والإقامة أن تكون ألفاظ الأذان خمس عشرة جملة، وأن تكون ألفاظ الإقامة إحدى عشرة جملة.

فهذا نوع من ألفاظ الأذان، وهو حق وثابت عن رسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها رؤيا حق)، وأقرها واعتبرها، وجاءه الوحي بذلك، فأمر بأن يؤذن بهذا الأذان، وأن تكون الإقامة كذلك بهذه الصيغة التي جاءت عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه.

وقد جاءت ألفاظ الأذان كلها ذكراً لله عز وجل وثناء عليه، وتوحيداً له، ودعوة إلى الصلاة وإلى الفلاح، وما يترتب على الصلاة من فلاح ونجاح وخير في الدنيا والآخرة.

فجاء في أول الأذان: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر) وجاء في صحيح مسلم : أنه يقول: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر) أي: يقول كل تكبيرتين في نَفَس واحد، ويؤتى بهما جملة واحدة، كما جاء في الصحيح: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر يقول أحدكم: الله أكبر الله أكبر وإذا قال: الله أكبر الله أكبر، يقول أحدكم: الله أكبر الله أكبر، وإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله..) إلى آخر الأذان، فكان ذكر الأربع التكبيرات في جملتين، أي: في نَفَسين، وأكثر ألفاظ الأذان هي التكبير؛ لأن التكبير جاء أربع مرات في أول الأذان، ومرتين في آخره قبل (لا إله إلا الله) فهذه ست جُمل كلها بلفظ التكبير، وفي ذلك تعظيم لله عز وجل وثناء عليه، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه الذي يرجع إليه كل شيء سبحانه وتعالى.

ثم بعد ذلك الشهادة لله بالوحدانية مرتين (أشهد أن لا إله إلا الله) وهي شهادة بتوحيده سبحانه وتعالى، فهو الواحد في إلاهية وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته، ففي ذلك إعلان الشهادة بالتوحيد.

ثم بعد ذلك الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ومن المعلوم أنه لابد من الشهادتين معاً، والشهادتان متلازمتان، لا تنفع أحدهما بدون الأخرى من حين بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ولن ينفع أحداً أن يشهد أن لا إله إلا الله دون أن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد من الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة -يهودي ولا نصراني- ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، فالشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة جاءت في ألفاظ الأذان، وكل منهما مكررة، فكررت (أشهد أن لا إله إلا الله) مرتين، وكررت (أشهد أن محمداً رسول الله) مرتين.

ومعنى (لا إله إلا الله) أي: لا معبود بحق سواه، فهو الإله الحق، والآلهة التي تُعبد من دون الله كلها باطلة، وصرف العبادة لها شرك بالله عز وجل يبطل العمل ويحبطه، ولا ينفع مع الشرك عمل؛ لقول الله عز وجل عن الكافرين المشركين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، فإذا فقد شرط الإخلاص وحصل الشرك ودعوة غير الله معه وجعل الإنسان لله شريكاً في العبادة فعند ذلك يكون عمله مردوداً ما دام أنه مبني على الشرك وليس مبنياً على التوحيد، فلابد من الإخلاص لله وحده.

ولابد -أيضاً- من شهادة أن محمداً رسول الله، وهي تعني: تصديقه في جميع أخباره، وامتثال جميع أوامره، واجتناب نواهيه، وأن لا نعبد الله إلا طبقاً لما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا فإن اليهود والنصارى الذين يقولون: إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم رسول إلى العرب خاصة ولم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كفار ومصيرهم إلى النار، ولا ينفعهم أي عمل يعملونه ولا أي قربة يتقربون بها؛ لأنه لابد من أن تكون الأعمال مستندة إلى التوحيد وإلى متابعة النبي الكريم محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

ثم بعد ذلك (حي على الصلاة) وهذا هو المقصود من الأذان، لأن ما قبل ذلك وما بعده ثناء على الله عز وجل وتوحيد له، والمقصود من الأذان هو النداء للصلاة، فقول المؤذن: (حي على الصلاة) هو مقصود الأذان، ومعناه: هلموا وأقبلوا وتعالوا إلى الصلاة، وليس المقصود من ذلك أن الناس يصلون في بيوتهم؛ لأنه ليس هذا ما تقتضيه عبارة (حي على الصلاة)، ولو كان الناس يصلون في بيوتهم لما كان هناك حاجة للمساجد، ولأصبح المؤذن يقول: صلوا في بيوتكم! وإنما بُنيت المساجد لذكر الله عز وجل وللصلاة، والمؤذن يقول: (حي على الصلاة) داعياً لأداء الصلاة في المساجد، فهذا أمر مطلوب، وصلاة الجماعة واجبة، وأدلة وجوبها متعددة، وسيأتي الإشارة إليها وذكرها فيما بعد، والمقصود هنا أن جملة (حي على الصلاة) تدل على صلاة الجماعة؛ لأن معناها: تعالوا إلى الصلاة، وهلموا إلى الصلاة.

ثم بعد ذلك (حي على الفلاح) وهذه ثمرة الصلاة وثمرة الأعمال الصالحة، وهي الفلاح في الدنيا والآخرة.

ثم بعد ذلك (الله أكبر الله أكبر) وهو تأكيد وتكرار لما سبق.

وفي الختام (لا إله إلا الله) التي هي كلمة التوحيد المشتملة على ركنين: النفي العام، والإثبات الخاص.

فالنفي العام هو نفي العبادة عن كل ما سوى الله.

والإثبات الخاص هو إثباتها لله وحده لا شريك له.

فمعنى (لا إله إلا الله) أي: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، وأي عبادة تكون لغير الله استقلالاً أو اشتراكاً مع الله فهي شرك بالله ولا تنفع صاحبها، بل كل عمل له قد حبط؛ لقول الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

وكذلك بالنسبة للإقامة، فهي مشتملة على التكبير، ولكنه على النصف مما جاء في الأذان؛ لأن التكبير في الأذان أربع تكبيرات، وفي الإقامة تكبيرتان، والشهادة لله بالوحدانية مرة واحدة في الإقامة، وفي الأذان تقال مرتين، والشهادة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة مرة واحدة في الإقامة، وفي الأذان تقال مرتين، و(حي على الصلاة) مرة واحدة في الإقامة، وفي الأذان تقال مرتين، و(حي على الفلاح) مرة واحدة في الإقامة، وفي الأذان تقال مرتين، ويزاد في الإقامة (قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة)، ثم (الله أكبر الله أكبر) في آخرها على ما هي عليه في الأذان، وفي الختام (لا إله إلا الله) التي هي كلمة التوحيد، وهي ختام الأذان وختام الإقامة، على حد سواء.

وكل من الأذان والإقامة يسمى أذاناً؛ لأن الإقامة أذان، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)، والمقصود بالأذانين الأذان والإقامة، فالإقامة يقال لها: أذان؛ لأنها إعلام بالقيام للصلاة، والأذان: إعلام بدخول وقت الصلاة، فكلاهما إعلام، أي: أذان.

قوله: [ عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ].

أي: عندما همّ أو أراد أن يأمر، وقد جاء في الرواية التي ستأتي: (لما أجمع) يعني: لما أجمع أمره على أن يستعمل الناس الناقوس وهو كاره، ومعناه أنه في تلك الأثناء وفي ذلك الوقت الذي أراد أن يأمر بذلك أو فهم منه أنه يميل إليه مع الكراهة نام عبد الله بن زيد بن عبد ربه فرأى في منامه ذلك الرجل الذي كان معه ناقوس، وكان الاتجاه إلى أنه يستعمل الناقوس، فقال: ألا تبيع هذا الناقوس؟ فقال: وماذا تريده؟ قال: أريد أن نعلم به في صلاتنا. فقال: ألا أدلك على ما هو خير منه؟ ثم ذكر له ألفاظ الأذان، فقوله: (لما أمر) يعني: لما أراد أن يأمر. وهذا من جنس قوله: ِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، يعني: إذا أردتم القيام للصلاة، وفي الحديث: (إذا دخل الخلاء) أي: إذا أراد دخول الخلاء.

قوله: [ طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده ].

هذه هي الرؤيا التي رآها عبد الله بن زيد .

قوله: [ فقلت: يا عبد الله! أتبيع هذا الناقوس؟ ].

هذا خطاب للشخص الذي لا يُعرف؛ لأن كل مخلوق يعتبر عبداً لله عز وجل، وما من أحد إلا وهو عبد لله عز وجل، وليس المقصود بأن اسمه عبد الله، قال الله عز وجل: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93].

قوله: [ ثم استأخر عني غير بعيد ].

يعني أنه تأخر قليلاً، ولكنه لم يبتعد، ثم علمه الإقامة.

وليس في هذا دليل واضح على استحباب أن يغير المؤذن موقفه في الإقامة، بحيث يتأخر عن موقف الأذان، فالاستدلال بهذا غير واضح، ولعل تأخره هنا يدل على أنه أراد أولاً أن يبين له شيئاً، ثم أراد أن يبين له بتأخره قليلاً أن الإقامة شيء آخر، وقد كان المؤذنون يصعدون فوق السطوح ويصعدون المنارة، وأما الآن فمكان المؤذن واحد، وهو عند مكبر الصوت في الأذان والإقامة.

وينبغي استعمال الميكرفون في الأذان وفي الإقامة على حدٍ سواء، فلو أقام المؤذن بدون استخدام الميكرفون فلن يسمع صوته إلا من حوله من الناس، وأما الباقون فلا يعرفون شيئاً إلا إذا قام الناس.

ومن فوائد استخدام الميكرفون أن الصوت يصل إلى خارج المسجد بمسافة تكفي لإسماع جيران المسجد، فينتبه من يكون غافلاً ويدرك الصلاة، أو يدرك ما أمكن منها، ومن كان متجهاً إلى المسجد فسوف يعرف أن الصلاة قد قامت، ففائدة الميكرفون كبيرة، وليس هناك ما يمنع منه، حيث إن الفائدة موجودة، والمضرة لا تحصل بهذا.

قوله: [ فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما رأيت، فقال: (إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به؛ فإنه أندى صوتاً منك) ].

هذا فيه دليل على أن المؤذن يتم اختياره بأن يكون حسن الصوت، أي: ندي الصوت ورفيع الصوت جهورياً أيضاً؛ لأن المقصود أن يصل الصوت إلى أماكن بعيدة، حيث قال: (إنه أندى منك صوتاً)، وهذا فيه إشارة إلى أن عبد الله بن زيد له حق في ذلك؛ لأنه هو الذي أُلقي عليه الأذان، ولكن ما دام أن بلالاً أندى منه فإنه يقدّم عليه؛ لأن قوله: (أندى منك صوتاً) يدل على أن له حق، حيث لم يقل: ألقه إلى بلال فليؤذن به. بل بين السبب الذي لولاه لأمره هو أن يؤذن، لكن القضية ليست قضية إنسان سبق، أو كان هو السبب وأن هذا الشيء جاء عن طريقه، وإنما الأصل هو الفائدة والمصلحة العامة، وهي أن يختار للأذان من يكون ندياً، ومن يكون رفيع الصوت، ومن يبلغ صوته إلى أماكن بعيدة.

وقد سبق في الحديث الذي مرّ أن الأنصار تزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل بلالاً مؤذناً إلا لأن عبد الله بن زيد بن عبد ربه كان مريضاً، وهذه الرواية تبين أن السبب ليس مرض عبد الله بن زيد ، لأن بلالاً أندى منه صوتاً، وهو يدل على أن الأصل في الاختيار أنه يختار من يكون أندى صوتاً وأرفع صوتاً من غيره، والظاهر أن ندي الصوت هو المرتفع العالي مع حسن الصوت.

قوله: [ فقمت مع بلال ، فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته ... ].

يعني: سمع أذان بلال بالألفاظ التي رآها هو أيضاً في المنام.

[ فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق -يا رسول الله- لقد رأيت مثلما رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلله الحمد) ].

لقد حمد النبي عليه الصلاة والسلام الله لأنهم اتفقوا على هذه الرؤيا وتواطئوا عليها، ولأن الله تعالى هداهم ووفقهم في هذا الأمر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتماً به اهتماماً عظيماً، فجاءت الشريعة بأن النداء أو الإخبار بدخول الوقت إنما يكون بذكر الله عز وجل وتوحيده، وكذلك الشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والمناداة للصلاة بأن يقال: (حي على الصلاة) (حي على الفلاح) ثم بعد ذلك يكون الختام بكلمة التوحيد التي هي (لا إله إلا الله)، والتي هي مفتاح الأمر وختامه، كما كان عليه الصلاة والسلام في مكة يأتي إلى الناس ويدعوهم قائلاً: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)، وقال عليه الصلاة والسلام في وصيته لـمعاذ بن جبل : (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وكذلك هي الختام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله؛ فإنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، فختام الأذان هو كلمة التوحيد، وختام الإقامة كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله)، كما سبق بيانه مفصلاً.

تراجم رجال إسناد حديث: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس ...)

قوله: [ حدثنا محمد بن منصور الطوسي ].

محمد بن منصور الطوسي ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي .

والذين يقال لهم: محمد بن منصور في الكتب الستة اثنان: أحدهما: محمد بن منصور الطوسي ، والآخر: محمد بن منصور الجواز المكي ، الذي يروي عنه النسائي بكثرة، وهو يروي عن سفيان بن عيينة المكي والجواز ليس من رجال أبي داود، وإنما هو من رجال النسائي وحده، ولهذا فإن الذي يأتي عند أبي داود ممن يسمى محمد بن منصور إنما هو الطوسي هذا؛ لأن محمد بن منصور الجواز من رجال النسائي وحده كما قلنا، وقد أكثر عنه النسائي ، فيذكره كثيراً، ولا سيما في الرواية عن سفيان بن عيينة عن الزهري .

[ حدثنا يعقوب ].

هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا أبي ].

هو إبراهيم بن سعد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن محمد بن إسحاق ].

هو محمد بن إسحاق المدني ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.

[ حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ].

وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه ].

وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في (خلق أفعال العباد) مسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبيه ].

هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه، وهو صحابي مشهور، أخرج حديثه البخاري في (خلق أفعال العباد)، وأصحاب السنن.

اختلاف الرواة في بعض ألفاظ حديث: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس ...)

[ قال أبو داود : هكذا رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد ، وقال فيه ابن إسحاق عن الزهري : الله أكبر الله أكبر. الله أكبر الله أكبر، وقال معمر ويونس عن الزهري فيه: الله أكبر الله أكبر، لم يثنيا ].

أورد أبو داود رحمه الله عدة روايات لهذا الحديث، فرواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه جاءت مثل اللفظ الذي جاء عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي ، وهو بتربيع التكبير في الأول، ومثله -أيضاً- رواية محمد بن إسحاق عن الزهري أيضاً؛ لأن فيها التربيع، فالروايتان عن محمد بن إسحاق متفقتان على تربيع التكبير في الأول أربع مرات: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر) وجاء عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه مثل ما جاء في الطريقة السابقة، بل إن محمد بن إسحاق قد جاء عنه من طريق أخرى ما يوافق هذه الطريقة السابقة التي فيها تربيع التكبير.

تراجم رجال إسناد حديث (لما أمر رسول الله بالناقوس...) المختلفين في بعض الألفاظ

قوله: [ قال أبو داود : هكذا رواية الزهري ].

الزهري هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سعيد بن المسيب ].

سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الله بن زيد ].

وقد مر ذكره.

[ وقال معمر ].

هو: معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ويونس ].

هو يونس بن يزيد الأيلي ثم المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الزهري فيه ].

يعني: في هذا الحديث: (الله أكبر الله أكبر).

وقوله: [ لم يثنيا ].

أي: ليس فيه تربيع، والمحفوظ هو التربيع؛ لأنه هو الذي جاء بالروايات المختلفة وبالطرق المتعددة، فهي المحفوظة، مع أنها كلها قصة واحدة وتتعلق برؤيا عبد الله بن زيد بن عبد ربه ، فالمعتمد والمعتبر هو ما جاء من التربيع دون ما جاء من التثنية.

شرح حديث: (يا رسول الله علمني سنة الأذان ...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله! علمني سنة الأذان. قال: فمسح مقدم رأسي وقال: (تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. ترفع بها صوتك، ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله. تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح. فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله) ].

أورد المصنف رحمه الله حديث أبي محذورة رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان صفة الأذان وكيفيته، وهو يشتمل على كيفية أخرى للأذان، وهي مثل الطريقة السابقة التي جاءت عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه ، إلا أن فيها ترجيعاً، ويكون الترجيع للشهادتين بأن يؤتى بها أولاً بخفض الصوت، ثم يؤتى بها برفع الصوت، فتكون الصيغ تسع عشرة جملة، وفي حديث عبد الله بن زيد خمس عشرة جملة، لأنه ليس فيه ترجيع، وحديث أبي محذورة فيه الترجيع.

والترجيع أربع كلمات أو جمل هي (أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله)، تذكر مرتين: مرة في البداية بخفض صوت، ثم مرة أخرى برفع صوت، فتكون الألفاظ تسع عشرة جملة بإضافة الأربع التي هي بسبب الترجيع، والترجيع معناه أنه يرجع إلى اللفظ الذي قاله أولاً بخفض صوت فيأتي به برفع صوت.

فحديث أبي محذورة مثل حديث عبد الله بن زيد إلا أن فيه زيادة الترجيع ويكون الترجيح عند هذه الكلمات الأربع، أي: الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة أربع مرات بخفض الصوت وأربع مرات برفع الصوت.

وإذا كان في أذان الصبح يضيف إلى ذلك: (الصلاة خير من النوم) مرتين، ويؤتى بها في ذلك الوقت لبيان أن الصلاة خير من هذا النوم الذي تلذذ فيه المتلذذون، وطاب لهم فيه فراش، وحصل لهم الارتياح والاطمئنان والهدوء، ومن المعلوم أنه ليس هناك تناسب بين الصلاة والنوم، فالصلاة عبادة لله عز وجل، والنوم إذا كان بنية التقوّي على عبادة أو على أمر ينفع فهذا شيء طيب، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه قد يترتب عليه مضرة بأن ينام عن الصلاة، أو أن يؤخر الصلاة، ويترتب على ذلك ضرر.

فالمقصود من قول (الصلاة خير من النوم) هو أن ما تدعون إليه خير مما أنتم فيه، فهبُّوا من نومكم، وقوموا من فُرشكم، وتوضئوا واستعدوا للصلاة، وهلموا إلى المساجد لأداء الصلاة.

ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر)؛ لأن صلاة العشاء تأتي في أول الليل حيث يكون الناس بحاجة إلى الراحة والنوم بعد التعب والكدح في النهار، وصلاة الفجر تأتي في الوقت الذي طاب فيه الفراش وحصل الاستغراق في النوم والارتياح والتلذذ به، فجاء عند ذلك النداء: الصلاة خير من النوم لبيان أن ما يدعون إليه خير مما هم فيه.

قوله: [ قلت: يا رسول الله! علمني سنة الأذان ].

القائل هو أبو محذورة رضي الله عنه، والسنة في اللغة: الطريقة، كما في الحديث: (عليكم بسنتي)، يعني: طريقتي ومنهجي. فمعنى سنة الأذان: طريقة الأذان، أو الكيفية التي يكون بها الأذان.

فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجمل التسع عشرة، ويضاف إليها في الفجر (الصلاة خير من النوم) مرتين، فيكون المجموع إحدى وعشرين جملة في أذان الفجر، وفي غير الفجر تكون تسع عشرة جملة.

قوله: [ قال: فمسح مقدّم رأسي ].

هذا أبلغ في التعليم، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر : (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)؛ لأن هذا يكون أبلغ وأمكن في النفس، وكما فعل جابر بن عبد الله لـمحمد بن علي بن الحسين في قصة حجة الوداع، لما جاء إليه جماعة، وطلبوا منه أن يحدثهم، فسألهم عن أسمائهم، حتى عرف من بينهم محمد بن علي بن الحسين فقربه وجعل يده على صدره، وجعل يحدثهم بحديث صفة حج الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أطول حديث في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، الذي جاء من طريق محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بـالباقر رحمة الله عليه.

فهذه الطريقة في التعليم تجعل الحفظ يكون أمكن، وتساعد الإنسان على أن يتذكر الشيء الذي قيل له، ويعرف الهيئة التي كانت عند التحديث.

تراجم رجال إسناد حديث: (يا رسول الله علمني سنة الأذان ...)

قوله: [ حدثنا مسدد ].

هو ابن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي و


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2891 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2845 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2837 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2732 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2704 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2695 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2689 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2681 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2656 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2652 استماع