شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به - حديث 751-759


الحلقة مفرغة

عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ) رواه مسلم .

تخريج الحديث

الحديث رواه مسلم في كتاب النكاح, باب تحريم نكاح المحرم، ورواه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم في الأبواب أو في الباب ذاته، ورواه أبو عوانة ومالك وأبو داود والترمذي في كتاب الحج أيضاً.

معاني ألفاظ الحديث

قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا ينكح المحرم ) يَنكِح الأولى بفتح الياء وكسر الكاف، يعني: لا يتزوج، لا يجوز له أن يتزوج وهو محرم.

والثانية: (لا يُنكِح) بضم الياء وكسر الكاف، يعني: لا يزوج، فلا يجوز أن يكون المحرم زوجاً, يعني: ذكراً أو أنثى؛ لأن الزوج يطلق على الذكر والأنثى، لا يجوز للرجل أن يتزوج وهو محرم, ولا للمرأة أن تتزوج وهي محرمة، ولا يجوز له أن ينكح، يعني: أن يزوج غيره, كالولي الذي ينكح موليته أو بنته.

وقوله: ( يخطب ) المقصود هنا خطبة النكاح، وهي تقال بكسر الخاء: خِطبة, كما في قوله سبحانه: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]. أما التي بضم الخاء الخُطبة فهذه على المنبر، وأيضاً هناك خُطبة النكاح التي هي الخُطبة التي تقال عند العقد (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه).

إذاً: هناك خِطبة وهناك خُطبة، وبينهما هذا الفرق.

حكم نكاح المحرم وأقوال أهل العلم فيه

في الحديث مسألة، وهي: حكم نكاح المحرم، كون المحرم ينكح أو يُنكح، يتزوج أو يزوج، هذه المسألة فيها قولان.

القول الأول: أن ذلك لا يجوز، وأنه من محظورات الإحرام، أن يتزوج الإنسان أو يزوج غيره، وهذا قول الجمهور, فهو قول مالك والشافعي وأحمد من الأئمة الأربعة، وهو قول جمع من الصحابة كـعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وغيرهم.

واستدلوا بحديث الباب, قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب ). وقالوا: إن هذا نهي، والنهي يدل على التحريم، وبناء عليه فهو محظور، ولأن النكاح في القرآن الكريم غالباً يطلق على العقد، أغلب ما يطلق النكاح في القرآن الكريم على العقد, وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]. وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [الممتحنة:10], يعني: تتزوجوهن.

وجاء في موضع واحد في القرآن الكريم النكاح بمعنى الجماع، وهو قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]. فهنا ليس المقصود أن يعقد عليها، وإنما المقصود الجماع, بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ! لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ). فدل على أن النكاح في هذه الآية المقصود به الجماع, ولذلك نقول: النكاح يطلق على الجماع، ويطلق على العقد باعتبار أن العقد هو ذريعة ووسيلة وسبيل إلى الاستمتاع بين الزوجين.

فبالنسبة لكون الجماع من محظورات الإحرام فهذا متفق عليه، ومعروف، وبإجماع العلماء وبإجماع الأئمة إجماعاً قطعياً لا خلاف فيه، بل فيه فدية مغلظة ويفسد به الحج إذا وقع قبل عرفة بالإجماع، وإذا كان بعد عرفة فعند الأحناف خلاف في المسألة, والجمهور يرون أنه يفسد أيضاً.

هذا ما يتعلق بالجماع، فالجماع من محظورات الإحرام بلا إشكال، وإنما الخلاف في العقد، وهو الذي يدور حوله الحديث، فالجمهور وهم كما ذكرت مالك والشافعي وأحمد يرون أن العقد أيضاً من محظورات الإحرام بدليل هذا الحديث، حديث عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وقالوا: إن المقصود بالنكاح هو العقد، ولهم في ذلك أيضاً أحاديث وآثار تشهد لحديث عثمان .

القول الثاني: أن ذلك جائز, وهذا قول أبي حنيفة وسائر أصحابه، ونقل هذا القول أيضاً عن بعض الصحابة، فهو مذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وأنس، وكذلك يدل عليه صنيع البخاري رحمه الله، مع أن البخاري كثيراً ما يخالف الأحناف, إلا أنه في مسائل يوافقهم بمقتضى ما يظهر له من الترجيح أو الدليل.

ودليل هؤلاء على جواز العقد للمحرم: حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ). والحديث متفق عليه.

فقالوا: إن هذا الحديث من ابن عباس في الإخبار عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة وهو محرم دليل على جواز العقد حال الإحرام، وفي رواية أخرى: ( تزوجها وهو محرم, وبنى بها وهو حلال ). وهذا في البخاري، ومعنى (بنى بها): دخل بها، دخل عليها، خلا بها, هذا معنى البناء (وهو حلال).

فهذا الدليل على جواز نكاح المحرم، ولكن هذا الدليل مع أنه صحيح من حيث الثبوت فهو في البخاري ومسلم إلا أن في متنه إشكالاً, وقد عورض هذا النقل عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم بأنه تزوجها وهو حلال أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال. وهذه رواية يزيد بن الأصم عن ميمونة، ويزيد بن الأصم هو ابن أختها، أنه قال: ( تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهي حلال ). والحديث في صحيح مسلم، ورجح هذا بأن يزيد بن الأصم أقرب وأعرف بالقصة من غيره؛ لأنه قريب من العائلة، أما ابن عباس رضي الله عنه فهو كان مراهقاً صغير السن آنذاك, يعني: في وقت حج النبي صلى الله عليه وسلم, يقول: (وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام). فقد يخفى عليه هذا الأمر أو يكون التبس عليه فيه، فرواية يزيد بن الأصم إذاً مرجحة، وأيضاً هناك رواية أبي رافع : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بـسرف وهو حلال, وكنت السفير بينهما ). يقول أبو رافع، ولكن الحديث وإن كان رواه الترمذي وقال: حديث حسن، إلا أن في إسناده ضعفاً، ولكن يكفي عنه حديث يزيد بن الأصم , وربما يعزز حديث أبي رافع رضي الله عنه.

ولهذا نقول: إن الراجح هو مذهب الجمهور في أن المحرم لا يتزوج ولا يزوج.

فوائد الحديث

فوائد الحديث:

أولاً: تحريم عقد النكاح للمحرم، وتحريم عقده لغيره، أن يكون ولياً لغيره.

ومن فوائد الحديث: منع الخطبة، والأقرب أن نقول: إن الخطبة محرمة مثل النكاح؛ لأنها سبيل إليه، وصرح بعض الفقهاء بالكراهية؛ لأن الخطبة لا يقال: إنها تفسد، النكاح يقال: فاسد، وينبغي أن يعاد عقده، أما بالنسبة للخطبة فلا يجري فيها صحة أو فساد، وإنما هي أيضاً ذريعة إلى عقد النكاح، فهي محرمة من هذا الوجه.

وفيه: أن العقد لا يصح؛ لأنه وقع عليه النهي، والشارع لما ينهى عن شيء يريد ألا يحدث وألا يقع.

أما حكم المراجعة. واحد عنده زوجة، طلقها طلقة واحدة رجعية، هل يحق له أن يراجعها أثناء الإحرام أو لا يحق؟ يحق له، يجوز له أن يراجعها.

ما هو الفرق بين جواز الرجعة وبين منع العقد؟

الاستمرار، إذاً: نقول: يجوز له أن يراجع زوجته وهو محرم أو وهي محرمة، وقالوا: إن هذا يدخل تحت قاعدة فقهية وهي: أن الاستدامة أسهل من الابتداء، فبالنسبة للرجعة هي استمرار واستدامة لعقد ماض، ولذلك الزوج لا يزال زوجاً لها حتى في حال الطلاق قبل الرجعة ما دامت في العدة، وكذلك هي زوجة؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] فسماه بعلاً.

فلذلك نقول: إن الاستدامة التي هي الرجعة أمرها سهل، ولذلك تجوز حال العدة، أما الابتداء الذي هو عقد جديد، فهو أمر صعب، ولذلك نقول بالفرق بينهما.

ومن فوائد الحديث: تحريم الجماع ودواعيه للمحرم، وهذا إجماع من حيث الأصل، وقد ذكرت قبل قليل أن الجماع محرم, وهو من محظورات الإحرام, وهو مفسد للحج عند كافة أهل العلم إن وقع قبل عرفة، وعليه أن يمضي في فاسد هذا الحج, وعليه حجة من قابل هو وزوجه, وعليه بدنة أيضاً، وهذه هي أشد وأغلظ الكفارات والعقوبات في حال الحج، فإن كان بعد الوقوف بـعرفة فكذلك الحال عند جمهور العلماء, وخالف في ذلك الأحناف, فرأوا أن الحج صحيح، وإن كان بعد التحلل الأول فالحج صحيح عند الجماهير، وعليه فدية.

والحجة في ذلك: أنه لم يرد فيه حديث مرفوع, وهذا شيء عجيب، لم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء بخصوص هذه المسألة، ولكنه ثبت عن جمع من الصحابة كـعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس وغيرهم، وحكاه بعضهم إجماعاً، وخالف في ذلك الظاهرية وقوم، ولكن هذا مذهب الجماهير من أهل العلم.

وفيه أيضاً: أن النهي عن العقد للمحرم هو قبل التحلل الأول، وبناء عليه نقول: بعد التحلل الأول، إذا رمى جمرة العقبة, أو رماها وحلق ثم تحلل التحلل الأول وحل له كل شيء إلا النساء، هل يجوز له في هذه الحالة أن يعقد، أن ينكح أو يُنكح؟ نقول: نعم يجوز؛ لأنه حلال آنذاك، ولا يسمى محرماً, وإنما هو حلال، وقد صرح بهذا الفقهاء, واختاره ابن تيمية وغيره من فقهاء المذهب.

الحديث رواه مسلم في كتاب النكاح, باب تحريم نكاح المحرم، ورواه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم في الأبواب أو في الباب ذاته، ورواه أبو عوانة ومالك وأبو داود والترمذي في كتاب الحج أيضاً.

قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا ينكح المحرم ) يَنكِح الأولى بفتح الياء وكسر الكاف، يعني: لا يتزوج، لا يجوز له أن يتزوج وهو محرم.

والثانية: (لا يُنكِح) بضم الياء وكسر الكاف، يعني: لا يزوج، فلا يجوز أن يكون المحرم زوجاً, يعني: ذكراً أو أنثى؛ لأن الزوج يطلق على الذكر والأنثى، لا يجوز للرجل أن يتزوج وهو محرم, ولا للمرأة أن تتزوج وهي محرمة، ولا يجوز له أن ينكح، يعني: أن يزوج غيره, كالولي الذي ينكح موليته أو بنته.

وقوله: ( يخطب ) المقصود هنا خطبة النكاح، وهي تقال بكسر الخاء: خِطبة, كما في قوله سبحانه: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]. أما التي بضم الخاء الخُطبة فهذه على المنبر، وأيضاً هناك خُطبة النكاح التي هي الخُطبة التي تقال عند العقد (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه).

إذاً: هناك خِطبة وهناك خُطبة، وبينهما هذا الفرق.

في الحديث مسألة، وهي: حكم نكاح المحرم، كون المحرم ينكح أو يُنكح، يتزوج أو يزوج، هذه المسألة فيها قولان.

القول الأول: أن ذلك لا يجوز، وأنه من محظورات الإحرام، أن يتزوج الإنسان أو يزوج غيره، وهذا قول الجمهور, فهو قول مالك والشافعي وأحمد من الأئمة الأربعة، وهو قول جمع من الصحابة كـعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وغيرهم.

واستدلوا بحديث الباب, قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب ). وقالوا: إن هذا نهي، والنهي يدل على التحريم، وبناء عليه فهو محظور، ولأن النكاح في القرآن الكريم غالباً يطلق على العقد، أغلب ما يطلق النكاح في القرآن الكريم على العقد, وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]. وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [الممتحنة:10], يعني: تتزوجوهن.

وجاء في موضع واحد في القرآن الكريم النكاح بمعنى الجماع، وهو قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]. فهنا ليس المقصود أن يعقد عليها، وإنما المقصود الجماع, بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ! لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ). فدل على أن النكاح في هذه الآية المقصود به الجماع, ولذلك نقول: النكاح يطلق على الجماع، ويطلق على العقد باعتبار أن العقد هو ذريعة ووسيلة وسبيل إلى الاستمتاع بين الزوجين.

فبالنسبة لكون الجماع من محظورات الإحرام فهذا متفق عليه، ومعروف، وبإجماع العلماء وبإجماع الأئمة إجماعاً قطعياً لا خلاف فيه، بل فيه فدية مغلظة ويفسد به الحج إذا وقع قبل عرفة بالإجماع، وإذا كان بعد عرفة فعند الأحناف خلاف في المسألة, والجمهور يرون أنه يفسد أيضاً.

هذا ما يتعلق بالجماع، فالجماع من محظورات الإحرام بلا إشكال، وإنما الخلاف في العقد، وهو الذي يدور حوله الحديث، فالجمهور وهم كما ذكرت مالك والشافعي وأحمد يرون أن العقد أيضاً من محظورات الإحرام بدليل هذا الحديث، حديث عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وقالوا: إن المقصود بالنكاح هو العقد، ولهم في ذلك أيضاً أحاديث وآثار تشهد لحديث عثمان .

القول الثاني: أن ذلك جائز, وهذا قول أبي حنيفة وسائر أصحابه، ونقل هذا القول أيضاً عن بعض الصحابة، فهو مذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وأنس، وكذلك يدل عليه صنيع البخاري رحمه الله، مع أن البخاري كثيراً ما يخالف الأحناف, إلا أنه في مسائل يوافقهم بمقتضى ما يظهر له من الترجيح أو الدليل.

ودليل هؤلاء على جواز العقد للمحرم: حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ). والحديث متفق عليه.

فقالوا: إن هذا الحديث من ابن عباس في الإخبار عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة وهو محرم دليل على جواز العقد حال الإحرام، وفي رواية أخرى: ( تزوجها وهو محرم, وبنى بها وهو حلال ). وهذا في البخاري، ومعنى (بنى بها): دخل بها، دخل عليها، خلا بها, هذا معنى البناء (وهو حلال).

فهذا الدليل على جواز نكاح المحرم، ولكن هذا الدليل مع أنه صحيح من حيث الثبوت فهو في البخاري ومسلم إلا أن في متنه إشكالاً, وقد عورض هذا النقل عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم بأنه تزوجها وهو حلال أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال. وهذه رواية يزيد بن الأصم عن ميمونة، ويزيد بن الأصم هو ابن أختها، أنه قال: ( تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهي حلال ). والحديث في صحيح مسلم، ورجح هذا بأن يزيد بن الأصم أقرب وأعرف بالقصة من غيره؛ لأنه قريب من العائلة، أما ابن عباس رضي الله عنه فهو كان مراهقاً صغير السن آنذاك, يعني: في وقت حج النبي صلى الله عليه وسلم, يقول: (وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام). فقد يخفى عليه هذا الأمر أو يكون التبس عليه فيه، فرواية يزيد بن الأصم إذاً مرجحة، وأيضاً هناك رواية أبي رافع : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بـسرف وهو حلال, وكنت السفير بينهما ). يقول أبو رافع، ولكن الحديث وإن كان رواه الترمذي وقال: حديث حسن، إلا أن في إسناده ضعفاً، ولكن يكفي عنه حديث يزيد بن الأصم , وربما يعزز حديث أبي رافع رضي الله عنه.

ولهذا نقول: إن الراجح هو مذهب الجمهور في أن المحرم لا يتزوج ولا يزوج.

فوائد الحديث:

أولاً: تحريم عقد النكاح للمحرم، وتحريم عقده لغيره، أن يكون ولياً لغيره.

ومن فوائد الحديث: منع الخطبة، والأقرب أن نقول: إن الخطبة محرمة مثل النكاح؛ لأنها سبيل إليه، وصرح بعض الفقهاء بالكراهية؛ لأن الخطبة لا يقال: إنها تفسد، النكاح يقال: فاسد، وينبغي أن يعاد عقده، أما بالنسبة للخطبة فلا يجري فيها صحة أو فساد، وإنما هي أيضاً ذريعة إلى عقد النكاح، فهي محرمة من هذا الوجه.

وفيه: أن العقد لا يصح؛ لأنه وقع عليه النهي، والشارع لما ينهى عن شيء يريد ألا يحدث وألا يقع.

أما حكم المراجعة. واحد عنده زوجة، طلقها طلقة واحدة رجعية، هل يحق له أن يراجعها أثناء الإحرام أو لا يحق؟ يحق له، يجوز له أن يراجعها.

ما هو الفرق بين جواز الرجعة وبين منع العقد؟

الاستمرار، إذاً: نقول: يجوز له أن يراجع زوجته وهو محرم أو وهي محرمة، وقالوا: إن هذا يدخل تحت قاعدة فقهية وهي: أن الاستدامة أسهل من الابتداء، فبالنسبة للرجعة هي استمرار واستدامة لعقد ماض، ولذلك الزوج لا يزال زوجاً لها حتى في حال الطلاق قبل الرجعة ما دامت في العدة، وكذلك هي زوجة؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] فسماه بعلاً.

فلذلك نقول: إن الاستدامة التي هي الرجعة أمرها سهل، ولذلك تجوز حال العدة، أما الابتداء الذي هو عقد جديد، فهو أمر صعب، ولذلك نقول بالفرق بينهما.

ومن فوائد الحديث: تحريم الجماع ودواعيه للمحرم، وهذا إجماع من حيث الأصل، وقد ذكرت قبل قليل أن الجماع محرم, وهو من محظورات الإحرام, وهو مفسد للحج عند كافة أهل العلم إن وقع قبل عرفة، وعليه أن يمضي في فاسد هذا الحج, وعليه حجة من قابل هو وزوجه, وعليه بدنة أيضاً، وهذه هي أشد وأغلظ الكفارات والعقوبات في حال الحج، فإن كان بعد الوقوف بـعرفة فكذلك الحال عند جمهور العلماء, وخالف في ذلك الأحناف, فرأوا أن الحج صحيح، وإن كان بعد التحلل الأول فالحج صحيح عند الجماهير، وعليه فدية.

والحجة في ذلك: أنه لم يرد فيه حديث مرفوع, وهذا شيء عجيب، لم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء بخصوص هذه المسألة، ولكنه ثبت عن جمع من الصحابة كـعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس وغيرهم، وحكاه بعضهم إجماعاً، وخالف في ذلك الظاهرية وقوم، ولكن هذا مذهب الجماهير من أهل العلم.

وفيه أيضاً: أن النهي عن العقد للمحرم هو قبل التحلل الأول، وبناء عليه نقول: بعد التحلل الأول، إذا رمى جمرة العقبة, أو رماها وحلق ثم تحلل التحلل الأول وحل له كل شيء إلا النساء، هل يجوز له في هذه الحالة أن يعقد، أن ينكح أو يُنكح؟ نقول: نعم يجوز؛ لأنه حلال آنذاك، ولا يسمى محرماً, وإنما هو حلال، وقد صرح بهذا الفقهاء, واختاره ابن تيمية وغيره من فقهاء المذهب.

الحديث رقم (734): حديث أبي قتادة رضي الله عنه في قصة صيده حمار الوحش وهو غير محرم. قال أبو قتادة : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وكانوا محرمين: ( هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه ). متفق عليه.

أولاً: الحديث رواه البخاري في الجهاد والسير, ورواه أيضاً في الذبائح, ورواه في كتاب الحج لمناسباته المتعددة، وكذلك رواه مسلم في الحج, باب: تحريم الصيد على المحرم، ورواه أبو عوانة في مستخرجه وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة ومالك , ورواه أحمد، وله قصة لعله يأتي الإشارة إلى طرف منها.

الحديث الذي بعده -وهو مثله أيضاً في الباب- (735): حديث الصعب بن جثامة الليثي : ( أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حماراً وحشياً وهو بـالأبواء أو بـودان، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ).

حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب الحج, تحريم الصيد على المحرم، وأخرجه أيضاً في كتاب الهبة، وأخرجه مسلم في الحج, باب: تحريم الصيد على المحرم، ورواه أهل السنن النسائي والترمذي وابن ماجه, ورواه ابن حبان في صحيحه ومالك في موطئه والدارمي وغيرهم. ورووه غالبهم أو كلهم في كتاب المناسك، وكذلك أخرجه أحمد في مسنده.

ترجمة راوي الحديث

أولاً: راوي الحديث الصعب بن جثامة، والذي يظهر لي أن هذه أول مرة يمر فيها ذكره في بلوغ المرام, والعادة أننا نترجم للراوي في أول مرة يرد فيها اسمه، فـالصعب بن جثامة صحابي جليل، كان ينزل بـودان, وله هذه القصة, أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم، وقد توفي عام (12هـ), وقيل: إنه قتل أو توفي في خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه.

معاني ألفاظ الحديثين

ما يتعلق بالألفاظ، فيها ذكر الحمار الوحشي في الحديثين معاً، والحمار الوحشي هو نوع من الصيد؛ لأنه متوحش، وهو يشبه الحمار الأهلي من حيث الشكل, وهو من ذات الفصيلة، ولكنه وحشي فهو صيد؛ ولذلك يجوز أكله، وفي الغالب أنه مخطط ومعروف, كل من زار أماكن حديقة الحيوان ربما رأى ما يسمى بحمار الوحش، وهذا ما يتعلق به، وطبعاً غالباً هو يعيش في الصحاري.

( وهو بـالأبواء أو بـودان ) الأبواء جبل من أعمال الفرع، وودان هو أيضاً موضع قرب الجحفة على مسافة مائتين وأربعين كيلو تقريباً عن مكة المكرمة، وهي مواضع معروفة.

حكم قتل الصيد للمحرم

الحديثان فيهما مسألة قتل الصيد للمحرم، وأنه من محظورات الإحرام، ففي الحديث الأول قصة أبي قتادة رضي الله عنه, وهو أن أبا قتادة كان حلاً، لم يكن محرماً، وكان أصحابه محرمين، فرأى أصحابه يتضاحكون، فاستغرب ما الذي يضحكهم, فالتفت فإذا حمار وحش قد عرض، وهم يضحكون؛ لأنهم ينظرون إليه، ولا يريدون أن يخبروه، فركب على فرسه وطلب منهم أن يناولوه السهم فرفضوا ولم يعطوه شيئاً، طلب منهم أن يناولوه القوس فرفضوا ولم يعطوه شيئاً، فلحقه فأصابه وصاده، فحدث أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسألهم: ( هل كان منكم أحد أشار إليه أو أعانه؟ قالوا: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا ما بقي من لحمه ).

وهكذا الصعب بن جثامة فإنه صاد هذا الحمار من أجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صاده لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محرم، أما الصعب فكان حلالاً لم يكن محرماً.

ولذلك نقول في الحديث: مسألة: حكم قتل الصيد للمحرم.

والصيد للمحرم ثلاثة أقسام أو ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ما هو حرام بالإجماع، وذلك مثل الغزال والظبي, فإن هذه الأشياء من الأمور الوحشية، فتسمى صيداً، وكذلك هي حلال بمعنى أنها تؤكل مما يؤكل، فيحرم على المحرم صيدها، والأدلة على ذلك كثيرة، وسوف تأتي، هذا النوع الأول.

النوع الثاني: ما ليس بصيد, ويجوز للمحرم وغير المحرم قتله، وذلك مثل الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور, وسوف يأتي عنها حديث، فهذه يقتلها المحرم وغير المحرم.

القسم الثالث: مختلف فيه، وذلك كالأسد والنمر والفهد والذئب, ونحوها، فمنهم من ألحقها بالفواسق العادية التي تقتل، ومنهم من لم يلحقها، فوقع الاختلاف فيها.

أما ما هو صيد وهو القسم الأول: صيد المحرم، مثل الغزال وحمار الوحش، وأيضاً سائر الصيد، الطيور وغيرها فهي محرمة، والمقصود صيد البر، وأما صيد البحر فوقع النص على حله, كما في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]. ووقع الإجماع على هذا المعنى كما نقله ابن المنذر وابن حزم وابن قدامة وابن رشد , واستدلوا بالآية الكريمة، وهي قوله سبحانه: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96].

حكم أكل المحرم مما صاده الحلال وأقوال أهل العلم فيه

لكن اختلفوا في مسألة، وهي: أكل المحرم ما صاده الحلال، يعني: إذا كانوا رفقة بعضهم محرم وبعضهم حل، فالحل مثل قصة أبي قتادة أو الصعب بن جثامة صاد صيداً، هل يجوز للمحرم أن يأكل من هذا الصيد أو لا يجوز؟

هذا ما وقع فيه الاختلاف لهم على ثلاثة أقوال أيضاً:

القول الأول: أن ذلك لا يجوز مطلقاً، لا يجوز للمحرم أن يأكل ما صاده الحلال، وهذا مذهب ابن عباس وعلي وابن عمر وعائشة وإسحاق والليث والثوري .

واستدلوا بقول الله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]. فقالوا: الآية مطلقة، تدل على أن صيد البر حرام عليهم إذا كانوا محرمين، وكأنهم قالوا: إن صيد البر هنا معناه أن يصيدوه أو يأكلوه أيضاً. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ [المائدة:96], يعني: حرم عليكم صيده وحرم عليكم أكله، هذا مذهب هؤلاء.

كذلك استدلوا بحديث الباب, وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد على الصعب بن جثامة حمار الوحش, وقال: ( إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ). فدل على أنه يحرم على المحرم أن يأكل من الصيد الذي صاده الحلال. هذا هو القول الأول.

القول الثاني: أن ذلك يجوز مطلقاً، يعني: يجوز للمحرم أن يأكل من صيد البر الذي صاده غيره.

طبعاً اتفقنا أنه لا يجوز أن يصيده، لكن يجوز له أن يأكل منه مطلقاً، وهذا مذهب الحنفية.

واستدلوا لذلك بحديث طلحة أنه كان محرماً في أصحابه، وكان نائماً، فأهدي لهم صيد، فمنهم من أكل ومنهم من لم يأكل، فلما استيقظ طلحة رضي الله عنه سألوه, فصوب الذين أكلوا. والحديث رواه مسلم، فقال الحنفية: إن هذا دليل على أن المحرم يأكل من الصيد إذا صاده الحلال.

وكذلك حديث زيد بن كعب أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن حماراً وحشياً عقيراً بـالروحاء يعني: أخبر النبي عليه الصلاة والسلام, أنه عقر، أي: صاد حماراً وحشياً بـالروحاء, فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر فقسمه في الرفاق وكانوا محرمين)، فقالوا: هذا دليل على جواز ذلك؛ حيث أمر النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر فقسمه. وهذا الأثر رواه النسائي ومالك وأحمد , وصححه الحافظ ابن حجر وغيرهم.

قالت الحنفية: هذا دليل على أنه يجوز للمحرم أن يأكل من الصيد الذي صاده الحلال.

القول الثالث في المسألة: هو التفريق، فقالوا: يفرق بين من ساهم أو شارك المحرم في صيده بإشارة، أو بمساعدة وإعانة، أو بأنه شد له الرحل، أو ناوله القوس, أو أشار عليه حتى بالكلام، فهذا يحرم أن يأكل منه.

وأيضاً الشيء الثاني: المحرم إذا صيد من أجله, لو عرفت أن هذا الرجل إنما صاد هذا الصيد من أجلك وأنت محرم، فحينئذٍ يحرم عليك أن تأكل منه.

إذاً: القول الثالث: يفصلون, فيقولون: يجوز ولا يجوز، أما إنه لا يجوز إذا صيد من أجله أو كان شارك فيه أو أعان عليه بقول أو فعل فلا يجوز أن يأكل منه، وما سوى ذلك جاز؛ وذلك جمعاً بين الأدلة.

ومن الواضح أن هذا القول أرجح؛ لأنه يجمع بين حديث الصعب بن جثامة وحديث أبي قتادة وحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وحديث زيد بن كعب، فيجمع بين هذه الأحاديث التي في بعض منها أن النبي صلى الله عليه وسلم رده، وحتى رد النبي عليه السلام له لو كان لا يجوز ما رده عليه، وقال: إنه لا يجوز ولا يؤكل، فكونه رده النبي عليه السلام؛ لأنه علم أنه صيد من أجله، فيكون حراماً عليه ويكون حلالاً لغيره.

فهذا القول الثالث هو الذي تجتمع عليه الأدلة، وقد جاء في معناه حديث مرفوع عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ). والحديث رواه أهل السنن وابن حبان والحاكم , وصححه الشافعي، والواقع أنه حديث مرسل، وهذا القول هو القول الراجح, وهو قول الأكثرين المالكية والشافعية والحنابلة.

هناك مسألة أخرى أيضاً في الحديث, وهي: الجزاء على قتل الصيد.

إذاً: المسألة الثانية: أن قتل الصيد للمحرم حرام، وأما أكله ففيه ثلاثة أقوال, أرجحها أنه جائز له ما لم يكن صيد من أجله أو يكون شارك في صيده بقول أو فعل أو إعانة.

جزاء قتل الصيد لمن لم يكن متعمداً وأقوال أهل العلم فيه

المسألة الأخرى في الحديث، هي: الجزاء على قتل الصيد إذا كان ناسياً أو مخطئاً، والله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن الكريم أن قتل الصيد فيه الجزاء، وأي موضع هذا الذي ذكر الله تعالى فيه الجزاء على قتل الصيد؟

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]. هذا النهي عن قتل الصيد، قال سبحانه: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]. فذكر الله سبحانه وتعالى أن من قتل الصيد: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95] فذكر الدم، والإطعام، والصيام, ثلاث كفارات، وكل شيء على حسب ما قال ابن عباس وغيره أكثر أهل العلم: أن كل شيء في القرآن الكريم فيه (أو) فهو على التخيير، إلا إذا ورد في السنة ما يدل على تقييد ذلك، فهذا دليل على وجود الكفارة في قتل الصيد أو الجزاء على قتل الصيد، وقد حكم فيه الصحابة رضي الله عنهم عمر وغيره.

المقصود هنا الآن: الجزاء على قتل الصيد، الله سبحانه وتعالى قال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95].

الجزاء على قتل الصيد إذا كان غير متعمد مثل الناسي الذي نسي أنه محرم، أو المخطئ أيضاً الذي لم يقصد ذلك، أو الجاهل الذي لم يعلم بالتحريم، فما حكمه؟

هذه المسألة فيها قولان:

القول الأول: أنه يجب عليه الجزاء، ولو كان ناسياً أو مخطئاً، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي , وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد، فهو مذهب الجمهور، وكأنهم قالوا: إن قوله تعالى: مُتَعَمِّدًا [المائدة:95] أن هذا وصف طردي لا مفهوم له ولا يؤثر في الحكم.

القول الثاني: أنه لا جزاء عليهما، يعني: لا جزاء على الناسي, ولا جزاء على المخطئ, يرتفع عنه الجزاء، وهذه رواية عن الإمام أحمد , وهو مذهب الإمام محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير, وهو إمام له مذهب خاص معروف, ولكن مذهبه يكاد أن يكون انقرض, وله كتاب تهذيب الآثار , ذكر فيه رواياته واختياراته الفقهية، وأيضاً هو مذهب سعيد بن جبير وأبي ثور وداود الظاهري وغيرهم، وروي هذا القول بأنه ليس على الناسي ولا على المخطئ كفارة عن ابن عباس وابن عمر وطاوس وغيرهم.

واستدلوا بقوله تعالى: مُتَعَمِّدًا [المائدة:95]. وكأن هذا القول أقوى؛ لأنه أخذ بظاهر النص القرآني، وإعمال لهذا اللفظ الكريم في الآية في قوله تعالى: مُتَعَمِّدًا [المائدة:95] بالتفريق بين المتعمد وبين غيره.

أما الأولون وهم جمهور الأئمة الأربعة الذين هم الشافعي ومالك وأبو حنيفة ورواية عن أحمد، فهم هنا قالوا: إن المتعمد وغيره سواء في الكفارة، ولكن يختلف المتعمد عن غيره في الإثم، فإنه ليس على الناسي والمخطئ إثم, كما قال الله سبحانه: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]. فقالوا: ترفع عنه المؤاخذة ولكن عليه الكفارة.

فوائد الحديثين

في الحديثين فوائد: منها: حل حمار الوحش وأنه يجوز أكله.

وفيها: بيان ما يحل للمحرم وما لا يحل.

وفيها: تحريم الصيد على المحرم.

وفيها: تحريم الإعانة والدلالة على الصيد من المحرم.

وفي الحديث قبول الهداية.

وفيه أيضاً: رد الهدية إذا وجد ما يدعو إلى ردها؛ فإن النبي عليه السلام ردها على الصعب بن جثامة، وفي بعض الأحاديث أنه لما رأى ما في وجهه قال له: ( إنا لم نردها عليك إلا أنا حرم ).

وفي هذا أيضاً فائدة وهي: رعاية خواطر الناس وضمائرهم، واليقظة تجاه ما يخدش أحاسيسهم، فهكذا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ مشاعره في وجهه، لما رأى ما في وجهه قال له, يعني: أعطاه التعليل، فهكذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق, أنه يعرف من سيماء الناس ووجوههم إن كانوا راضين أو محزونين من موقف معين, فيعالج الأمر حتى بدون كلام, لا يحوجهم إلى أن يقولوا: ما هي الدعوى؟ ولماذا؟ لا، إنما النبي عليه الصلاة والسلام بمجرد ما لحظ في وجه الرجل الحزن علل بقوله: ( إنا لم نرده إليك إلا أنا حرم ), يعني: ليس الأمر راجعاً إليك، إنما هو لا يجوز لما يتعلق بنا.

وكذلك فيه بيان ما صاده الحلال للمحرم.

وفيه: أن ذلك لا يحرم على المحل، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم رده إلى الصعب ؛ حتى يستفيد منه أو يأكله أو يطعمه.

أولاً: راوي الحديث الصعب بن جثامة، والذي يظهر لي أن هذه أول مرة يمر فيها ذكره في بلوغ المرام, والعادة أننا نترجم للراوي في أول مرة يرد فيها اسمه، فـالصعب بن جثامة صحابي جليل، كان ينزل بـودان, وله هذه القصة, أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم، وقد توفي عام (12هـ), وقيل: إنه قتل أو توفي في خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه.

ما يتعلق بالألفاظ، فيها ذكر الحمار الوحشي في الحديثين معاً، والحمار الوحشي هو نوع من الصيد؛ لأنه متوحش، وهو يشبه الحمار الأهلي من حيث الشكل, وهو من ذات الفصيلة، ولكنه وحشي فهو صيد؛ ولذلك يجوز أكله، وفي الغالب أنه مخطط ومعروف, كل من زار أماكن حديقة الحيوان ربما رأى ما يسمى بحمار الوحش، وهذا ما يتعلق به، وطبعاً غالباً هو يعيش في الصحاري.

( وهو بـالأبواء أو بـودان ) الأبواء جبل من أعمال الفرع، وودان هو أيضاً موضع قرب الجحفة على مسافة مائتين وأربعين كيلو تقريباً عن مكة المكرمة، وهي مواضع معروفة.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4776 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4394 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4213 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4095 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4046 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4021 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3973 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3917 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3899 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3878 استماع