خطب ومحاضرات
شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 601-607
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
رقم هذا الدرس (201) من شرح بلوغ المرام، وهذا هو يوم السبت: 21/جمادى الأولى/1427ه.
حقيقة البارحة أنا كنت في الرياض وكان عندي بعد الظهر برنامج، يعني: هذه فقط فائدة أحببت أن أستفتح بها، ثم بعد البرنامج موعد إلى العصر، وبعد العصر موعد إلى المغرب، وبعد المغرب موعد إلى العشاء، ثم انصرفنا إلى القصيم، وبعدما وصلت يمكن الساعة الحادية عشرة ونصف، ثم العشاء، ثم بدأت من أجل أني أرتب موضوع الدرس وأحضر وأجهز أوراقي، ففي هذه الأثناء أيضاً اتصل علي أحد الجيران وكان مكروباً وقال: أريدك ضروري جداً في أمر لا يحتمل التأخير، وجاء عندي لمدة ساعتين، وبعدها رجعت أرتب الدرس فوجدت أن الطفل يصيح يقول: قل لي قصة أنا أبغى قصة، والبنت تقول: بابا اقرأ علي، ووجدت أن الذهن مشوش وطار النوم، وما استطاع الإنسان يستفيد تحضيراً ولا نوماً ولا قراءة، ولما كان الصباح -بعد الفجر- أحاول، ولكن بدون فائدة من النوم لا مجال.
فقلت: إذاً: أقوم وأستفيد من الوقت وأحضر، وفعلاً قمت ووجدت أني خلال سويعات الصباح الأولى وكما: ( بورك لأمتي في بكورها )، رتبت موضوع هذا الدرس، والحمد لله.
فمن فوائد الحياة: أن الإنسان أحياناً عندما يكون عنده بحبوحة من الوقت وسعة يضيعها.. استرخاء، يقول: معي وقت، ويأتيه الوقت والأجل وهو لم يصنع شيئاً.
وعلى النقيض إذا شعر بأنه مضغوط وأن الوقت عنده قصير، استثمره أحسن ما يكون من الاستثمار، وهذا يؤكد على قضية الهمة في طلب العلم.
مر معنا بطبيعة الحال أحاديث كثيرة فيما يتعلق بموضوع الصلاة على الميت ودفنه والوقوف، والأجر المترتب على ذلك.
اليوم عندنا أيضاً عدد من الأحاديث يمكن سبعة أحاديث إن شاء الله متعلقة بدفن الميت وما يحتك به، وكذلك أحكام القبور.
أولها: الحديث رقم (578): حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ( ألحدوا لي لحداً وانصبوا علي اللبن نصباً، كما فعل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ). والحديث رواه مسلم .
ما يتعلق بتخريجه: فقد رواه مسلم في صحيحه كتاب الجنائز باب اللحد، ورواه أيضاً أبو داود وابن ماجه في الجنائز، باب اللحد، وخرجه الإمام أحمد في مسنده والبيهقي، والطحاوي وغيرهم.
وفيما يتعلق بمسائل الحديث وأبحاثه فسوف تأتي في الحديث الذي بعده، وهو الحديث رقم (579) .
قال المصنف رحمه الله: وللبيهقي عن جابر نحوه. وزاد: ( ورفع قبره عن الأرض قدر شبر )، وصححه ابن حبان .
فأولاً ما يتعلق بتخريج الحديث الثاني حديث جابر : فقد رواه البيهقي في كتاب الجنائز، باب لا يزاد في القبر أكثر من ترابه.
ورواه أيضاً ابن حبان كما أشار إليه المصنف وصححه، وذلك في كتاب التاريخ، وصف قبر المصطفى صلى الله وعليه وآله وسلم.
شواهد حديثي سعد وجابر السابقين
هم أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه، وفي سند الحديث عبد الأعلى بن عامر وهو ضعيف، ولكن له طرق، وهو حديث مشهور، وإن كان ضعيف الإسناد.
معاني ألفاظ حديثي سعد وجابر السابقين
أولها: ما يتعلق باللفظ -لفظ الحديث حديث سعد - يقول: ( ألحدوا لي )، (ألحدوا): بالهمزة المكسورة وفتح الحاء، ويجوز غير ذلك يجوز كسر الحاء: (ألحِدوا لي لحداً).
طيب. ما هو اللحد؟ يقول العلماء في اللغة: إن اللحد هو الميل، فالملحد هو المائل، ومنه يقال الملحد يعني: المائل عن الدين.
وقد استخدمت هذه الكلمة الآن -كلمة ملحد- بمعنى: المنكر لوجود الله وأصبح لها معنى خاصاً، فإذا قيل: فلان ملحد يعني: أنه ينكر وجود الله، فلو أن إنساناً وصف آخر وقال: هذا إنسان ملحد، ولما رفعت ضده قضية في المحكمة قال: صحيح. أنا قلت ملحد، لكن أنا لا أقصد أنه ينكر وجود الله، أقصد أن عنده بعض الأخطاء في فهمه للدين، هل يقبل تفسيره أو لا يقبل؟ لا يقبل؛ لأن كلمة ملحد أصبح لها مفهوم عرفي شائع عند الناس، فإذا قيل: إن فلان ملحد فمعناها عند الكافة: أنه لا يعترف بوجود الله ولا يؤمن بالأديان السماوية.
إذاً: هذا أصل الإلحاد هو الميل.
طيب. في الحديث حين يقول: ( ألحدوا لي لحداً ) ما هو اللحد؟
اللحد فيما يتعلق بشق القبر يعني: حفر القبر، اللحد: هو أن يحفر القبر حفراً عادياً في الأرض، ثم يحفر إلى جهة القبلة زيادة من داخل القبر، يعني: يكون في البداية شق الأرض بالحفر، يعني: عبارة عن مستطيل كما هو معروف، ثم من داخل القبر في أسفل القبر الذي سوف يوضع فيه الميت يتم حفر الأرض من الداخل إلى جهة القبلة، وهو المعمول به الآن في معظم أمصار المسلمين، فهذا هو معنى اللحد.
وكما في حديث ابن عباس : ( اللحد لنا والشق ).
يقابل اللحد الشق. ما هو الشق؟ هو الشق في الأرض هكذا المستطيل بدون أن يكون هناك حفر إلى جهة القبلة.
إذاً: فيه زيادة عن الشق أم لا؟ فيه زيادة.
اللبن جمع: لبنة على المشهور بكسر اللام وسكون الباء لِبنة أو لبنة، تجمع على لبن أو على لبنات، ولا يصلح أن نجمعها على ألبان؛ لأن الألبان جمع اللبن، إذا صح أن اللبن يجمع، ويمكن أن يجمع باعتبار هذا لبن الغنم أو البقر أو غير ذلك.
إذاً: أمر أن ينصب عليه اللبن يعني: على قبره، أن يوضع اللبن على قبره، يغطى قبره باللبن، واللبن غالباً ما يكون من الطين، وهذا هو الذي عليه جمهور السلف والأئمة: أن السنة أن يغطى قبر الميت باللبن، ومن الطين أو التراب أو نحوها، وأن يوضع بين اللبنات أيضاً الطين كما نص عليه الإمام أحمد وغيره، وقد ورد مرفوعاً، بحيث إن الفتحات التي بين اللبنات تغطى بالطين.
ومن الطريف هنا أن بعض العجم أخطئوا في قراءة الحديث، فكانوا يأتون إلى قبر ميت، ويصبون عليه اللبن صباً، ويظنون أن هذه هي السنة، أنه: (وصبوا علي اللبن صباً)، فكانوا يصبون اللبن على قبره يظنون أن في ذلك بركة أو أجراً أو سنة.
قوله: ( كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ). هذا كما مر معنا له حكم المرفوع، وبناءً عليه نقول: إن اللحد هو السنة، وهو أصح ما ورد، لقول سعد هنا: ( كما فعل برسول الله )، وقوله: ( كما فعل برسول الله )، يعني: اللحد ونصب اللبن يعني: الثنتين معاً هذا هو الأصل، أن كلا الأمرين هو المنقول والمفعول برسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا ما هو الأفضل.
وقد جاء أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا: هل يلحدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو يشقون له؟ فقالوا: نرسل للاحد ونرسل للشاق، وأيهما جاء أولاً حفر القبر، فجاء اللاحد أولاً، ويحمل هذا إن صح على أن الذين اختلفوا لم يكن عندهم توقيت من الرسول صلى الله عليه وسلم، إما بناءً على ضعف حديث ابن عباس أو لأنه لم يبلغهم، وهذا قد يحدث أن الصحابي قد يخفى عليه شيء من السنة، مع أن الحديث كما قلنا: فيه ضعف لوجود عبد الأعلى بن عامر فيه.
أيضاً: فيما يتعلق بحديث جابر أولاً: نشير إلى أن حديث جابر له رقم آخر غير حديث سعد، والسبب ما هو؟
أولاً: اختلاف الصحابة.
ثانياً أيضاً: اختلاف المتن.
فالواقع أن سياق المؤلف هنا فيه اختصار شديد، ولذلك هو قال: وللبيهقي عن جابر نحوه، وعادة كلمة نحوه أو ما أشبه ذلك تستخدم إذا كان اللفظ متقارباً جداً، بينما الواقع أن حديث البيهقي عن جابر لا علاقة له بـسعد بن أبي وقاص، وإنما حديث البيهقي عن جابر : ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لحدوا له لحداً، ورفعوا قبره عن الأرض قدر شبر )، فهو متعلق بقوله: (كما فعل برسول صلى الله عليه وسلم) أو شاهد لقول سعد : (كما فعل برسول صلى الله عليه وسلم).
استحباب اللحد في القبر
المسألة الأولى: قضية اللحد والشق، هل السنة اللحد للميت أو السنة الشق؟
وأولاً: أهل العلم اتفقوا على جواز الأمرين، ومن الجيد دائماً لطالب العلم أن يبدأ بالمتفق عليه، ويبدأ بالمجمع عليه؛ لأن أصول المسائل ورءوس المسائل هي المتفق عليها، وأنت ترى هنا مثلاً في هذه المسألة ومسائل كثيرة جداً نعرضها: أن العلماء متفقون على جواز الأمرين، ولكن الخلاف بينهم في الأفضلية، أو الخلاف أن هذا العمل مباح أو مكروه غالباً، وهذا يعطي سعة لطالب العلم أن الأمر لا يضيق فيه، والناس قد يختلفون وتختلف أوضاعهم وظروفهم ومناخاتهم وجغرافية بلادهم وأحوالهم وعوائدهم، ولا يسعهم أحياناً اجتهاد خاص، وإنما التوسعة على الناس هي التي تجعلهم يندفعون عن الفتنة، ويلتزمون بالدين، وتقل بينهم الخلافات مع وجود التوجيه والإرشاد.
فهذا مبدأ مهم أن يبدأ طالب العلم أولاً بالمتفق عليه، ثم ينتقل إلى المختلف فيه، وليس العكس.
فهنا المتفق عليه بين أهل العلم أن كلاً من اللحد والشق جائز ولا شيء فيه، وإنما الخلاف هو في الأفضلية، فبعض أهل العلم قالوا: إن اللحد أفضل، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل الحنابلة والظاهرية وغيرهم، وهو مذهب الأكثرين، ونقل عن جمع من الصحابة منهم: سعد بن أبي وقاص وجابر وعمر وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وحديث ابن عباس واضح هنا، وأبي أمامة : أن اللحد أفضل من الشق.
وحجتهم أولاً: أن هذا ما فعل بالنبي صلى الله وعليه وآله وسلم، ويدل عليه حديث سعد رضي الله عنه وحديث جابر أيضاً.
وقالوا: إن الله لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا ما هو الأفضل.
الدليل الثاني عندهم: حديث ابن عباس : ( اللحد لنا والشق لغيرنا ). وقد جاء من طرق، ولكن الحديث ضعيف -كما أسلفنا- فيه عبد الأعلى بن عامر، فالاستدلال به لا يتم.
إذاً: هذا هو القول الأول، وفيه أصح ما ورد في الباب حديث سعد بن أبي وقاص ؛ لأنه عند مسلم في الصحيح.
القول الثاني: أن الشق أفضل وعدم اللحد، وهذا منقول نقله جماعة عن الإمام الشافعي من الشافعية وغيرهم، وهو مشهور عن الإمام الشافعي أنه يقول: الشق أفضل من اللحد، والغريب أن هذا القول الذي نقل عن الإمام الشافعي أن الشافعي يحتج لهذا القول بعمل أهل المدينة يقول: لأن هذا الفعل هو الذي جرى عليه عمل أهل المدينة، وأنتم تعرفون أن الاحتجاج بعمل أهل المدينة ليس من طريقة الشافعي وإنما هو طريقة مالك .
فهذه من الأشياء التي تسجل، ويستفيد منها طالب العلم في البحث أن هذه المسألة ومسائل قليلة ربما يحتج بها الشافعي أو غيره بعمل أهل المدينة، وكيف يجاب عن عمل أهل المدينة؟
يجاب عن عمل أهل المدينة بأجوبة منها: أن يقال: إن ثبوت اللحد للنبي صلى الله عليه وسلم في قبره ولـسعد بن أبي وقاص ولجماعة من الصحابة يدل على أن هذا ليس عليه عمل أهل المدينة كلهم، وإنما أهل المدينة فيهم من يلحد وفيهم من يشق، وقد جاء في غيره من الأحاديث في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اختلفوا، فأرسلوا لمن يلحد وأرسلوا لمن يشق، مما يدل على أنه كان عندهم اثنان من الحفارين واحد يلحد وواحد يشق، وأنهم يستخدمون هذا وذاك.
الجواب الثاني: أن يقال: إن الشق فيما يتعلق ببعض أرض المدينة كالبقيع تقريباً؛ بسبب أن الأرض رخوة ولينة واللحد فيها لا يتأتى.
ولهذا بعض أهل العلم كما ذكره النووي وغيره يقولون: اللحد أفضل إن كانت الأرض صلبة والشق أفضل إن كانت الأرض رخوة، وهذا لا بأس به من هذا الوجه، يعني: فيه نوع من التفصيل، وإن كنا نقول: إنه قد لا يتأتى اللحد أحياناً في الأرض إذا كانت شديدة الرخاوة، لكن إذا كانت الأرض قد تصبر قليلاً ثم تنهار، فقد يكون الشق أفضل من حيث إنه لا يتعرض القبر للانهيار، ثم ينخسف ثم تنزل فيه الأمطار، وقد يقع فيه ما يقع.
فنحن نقول: من حيث الأصل إن اللحد أفضل، وهو مذهب الأكثرين، وهو الأصح دليلاً، ولكن إذا كانت الأرض رخوة وقد تنهار، فيكون الشق أفضل مراعاة لحال الأرض كما ذكرنا.
وأيضاً بعض المناطق التي تكون صلبة جداً أيضاً يراعى فيها هذا المعنى، فنحن نقرر الأصل: وهو أن اللحد أفضل، لكن مراعاة اختلاف طبيعة الأرض معتبرة، هذه مسألة.
معنى تسطيح القبر وتسنيمه
وفي هذه المسألة قضية: هل السنة أن يسنم القبر أو السنة أن يسطح القبر؟
وهذا اللفظ معروف عند العلماء والفقهاء والشراح، ما هو الفرق بين التسنيم والتسطيح؟
أن تكون الأرض كسنام الإبل، هذا يعتبر تسنيماً يعني: تكون فيها استدارة، تكون أرض القبر مرتفعة، ولكنها مستديرة أعلاها هو أوسطها، ثم ينخفض يميناً وينخفض شمالاً، هذا يسمى: التسنيم.
أما التسطيح فهو أن تكون مرتفعة.
ولكن ارتفاعاً مستوياً، ليس مائلاً ذات اليمين وذات الشمال، فكأنه يكون مستطيلاً، كله تقريباً على ارتفاع واحد، هذا معنى تسطيح القبر.
الخلاف في المفاضلة بين تسطيح القبر وتسنيمه
وقبل أن نجيب على هذا السؤال ينبغي أن نقول إن الفقهاء اتفقوا على جواز الأمرين: جواز التسطيح وجواز التسنيم، وإنما الخلاف في الأفضل منهما.
فقيل: إن التسنيم أفضل، يعني: أن يكون القبر كسنام البعير، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد ونقل عن كثير من فقهاء الشافعية المشهورين.
إذاً: هو مذهب الجمهور وعليه عمل الكثير من الصحابة، وقد جاء في صحيح البخاري عن سفيان التمار وهو من التابعين وهو ثقة، وقد خرج له البخاري في صحيحه قال: [ إنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً ]، وكأنه حصل في ذلك العصر شيء إما لسقوط الحجرة أو ما أشبه ذلك، فرأوا قبر النبي عليه الصلاة والسلام، ورآه مسنماً.
هذا دليل على أن هذا هو ما فعله الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام في قبره، وهو دليل على أنهم اتفقوا أن هذا أفضل.
وبعضهم قال: إن التسنيم في قبر النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقع بعد ذلك، فإن القبر في أول عهد بني أمية جرى له ما جرى، ثم سنموه.
وهذا مستبعد وليس هو الأصل، فالأصل أن نقول: إن أصل القبر قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنم كما ذكره سفيان التمار وغيره، ورأوا ذلك، والآثار في هذا صحيحة.
إذاً: هذا هو القول الأول وهو قول الجمهور والأكثرين أن السنة تسنيم القبر.
القول الثاني: أن السنة هو تسطيح القبر لا تسنيمه، وهذا أيضاً منقول عن الشافعي كما في القول الذي قبله، إذاً: الشافعي له في مسألة تسنيم القبر وله في مسألة اللحد والشق قولان مختلفان عن مذهب الجمهور، يعني: انفرد فيما يتعلق باستحباب الشق، وانفرد فيما يتعلق بتسطيح القبر.
فـالشافعي رضي الله عنه يميل إلى استحباب التسطيح، وقد جاء في هذا أثر عن فضالة بن عبيد أنه: مر بقبر فأمر به فسوي، ثم قال: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتسوية القبور ).
وأيضاً مما يستدل به لمذهب الشافعي ما جاء في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ).
فقالوا: إن التسوية كما في حديث أبي الهياج عن علي، وكما في حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بتسوية القبور يعني: أن يكون القبر مستوياً، وهذا هو التسطيح، ولا شك أن هذه الأحاديث صحيحة، ولكن لا يتم الاستدلال بها إلا إذا كان معنى التسوية واضحاً أنه يساوي التسطيح، والأقرب والله أعلم أن التسوية هنا لا تعني التسطيح، وإنما تعني: أنه إذا كان القبر مرتفعاً أكثر من اللازم؛ لأن السنة أن يكون القبر معتدل الارتفاع، بحيث يكون ترابه فقط فوقه، يعني: التراب المحفور من القبر وضع عليه بلا زيادة ولا نقص، هذه السنة. ويكره أن يزاد على القبر بتراب أو بناء.
فأما كون التراب مرتفعاً على القبر بهذا القدر سواءً كان مسطحاً أو مسنماً، فهذا له فوائد عظيمة منها: معرفة أنه قبر، بحيث إن الإنسان يتوقاه، ولا يطأ عليه، ولا يقعد عليه، ولا يقضي عليه الحاجة، ولا يهينه، هذه من الفوائد .
لكن الزيادة على ذلك بأن يوضع على القبر تراب كثير أو ما أشبه ذلك، هذا ليس من السنة.
فنقول: إن الأمر بالتسوية في حديث فضالة وأيضاً في حديث علي رضي الله عنه، معناها: أنهم يمرون بالقبور شديدة الارتفاع، فيأمر بتسويتها، يعني: إزالة ما زاد منها والاقتصار على القدر المسنون، وهو أن يكون تراب القبر فوقه، التراب الذي حفر من القبر يوضع فوق الميت، يدفن به من غير زيادة ولا نقص، فهذا هو الجواب على ما استدلوا عليه.
والأقرب والله أعلم، أن السنة أن يكون القبر مسنماً، ولو كان غير ذلك جاز أيضاً.
فوائد حديثي سعد وجابر السابقين
منها: وجوب دفن الميت، وهذا اتفاق .
ومنها: أيضاً أن هذا من فروض الكفايات التي يجب أن يقوم بها من يكفي .
ومن الفوائد: جواز اللحد والشق، وأن اللحد أفضل كما ذكرنا .
وفيه: قضية الاتباع والتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، حتى بعد مماته في صفة قبره، وهذا دليل على حرص الصحابة أيضاً على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن سعداً يوصي بعد موته أن يفعل به كما فعل بالنبي صلى الله وعليه وآله وسلم، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
وفيه أيضاً: مشروعية الوصية من الميت باتباع السنة في تجهيزه وفي غير ذلك، كما أوصى بها سعد رضي الله عنه .
وفيها: مشروعية وضع اللبن على قبر الميت، وأن هذا فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه: فضيلة لـسعد بن أبي وقاص في هذا الفعل .
والحديث فيه فوائد كثيرة؛ أيضاً فيه قضية التسنيم كما قال: ( ألا يرفع قبره عن الأرض قدر شبرٍ )، فهذا فيه الدليل على مشروعية ارتفاع القبر، وفيه دليل على أن السنة في القبور هي التسنيم.
وللحديثين شواهد: من أشهرها حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللحد لنا والشق لغيرنا )، والحديث رواه الأربعة، من هم الأربعة؟
هم أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه، وفي سند الحديث عبد الأعلى بن عامر وهو ضعيف، ولكن له طرق، وهو حديث مشهور، وإن كان ضعيف الإسناد.
في الحديثين عدد من الأبحاث:
أولها: ما يتعلق باللفظ -لفظ الحديث حديث سعد - يقول: ( ألحدوا لي )، (ألحدوا): بالهمزة المكسورة وفتح الحاء، ويجوز غير ذلك يجوز كسر الحاء: (ألحِدوا لي لحداً).
طيب. ما هو اللحد؟ يقول العلماء في اللغة: إن اللحد هو الميل، فالملحد هو المائل، ومنه يقال الملحد يعني: المائل عن الدين.
وقد استخدمت هذه الكلمة الآن -كلمة ملحد- بمعنى: المنكر لوجود الله وأصبح لها معنى خاصاً، فإذا قيل: فلان ملحد يعني: أنه ينكر وجود الله، فلو أن إنساناً وصف آخر وقال: هذا إنسان ملحد، ولما رفعت ضده قضية في المحكمة قال: صحيح. أنا قلت ملحد، لكن أنا لا أقصد أنه ينكر وجود الله، أقصد أن عنده بعض الأخطاء في فهمه للدين، هل يقبل تفسيره أو لا يقبل؟ لا يقبل؛ لأن كلمة ملحد أصبح لها مفهوم عرفي شائع عند الناس، فإذا قيل: إن فلان ملحد فمعناها عند الكافة: أنه لا يعترف بوجود الله ولا يؤمن بالأديان السماوية.
إذاً: هذا أصل الإلحاد هو الميل.
طيب. في الحديث حين يقول: ( ألحدوا لي لحداً ) ما هو اللحد؟
اللحد فيما يتعلق بشق القبر يعني: حفر القبر، اللحد: هو أن يحفر القبر حفراً عادياً في الأرض، ثم يحفر إلى جهة القبلة زيادة من داخل القبر، يعني: يكون في البداية شق الأرض بالحفر، يعني: عبارة عن مستطيل كما هو معروف، ثم من داخل القبر في أسفل القبر الذي سوف يوضع فيه الميت يتم حفر الأرض من الداخل إلى جهة القبلة، وهو المعمول به الآن في معظم أمصار المسلمين، فهذا هو معنى اللحد.
وكما في حديث ابن عباس : ( اللحد لنا والشق ).
يقابل اللحد الشق. ما هو الشق؟ هو الشق في الأرض هكذا المستطيل بدون أن يكون هناك حفر إلى جهة القبلة.
إذاً: فيه زيادة عن الشق أم لا؟ فيه زيادة.
اللبن جمع: لبنة على المشهور بكسر اللام وسكون الباء لِبنة أو لبنة، تجمع على لبن أو على لبنات، ولا يصلح أن نجمعها على ألبان؛ لأن الألبان جمع اللبن، إذا صح أن اللبن يجمع، ويمكن أن يجمع باعتبار هذا لبن الغنم أو البقر أو غير ذلك.
إذاً: أمر أن ينصب عليه اللبن يعني: على قبره، أن يوضع اللبن على قبره، يغطى قبره باللبن، واللبن غالباً ما يكون من الطين، وهذا هو الذي عليه جمهور السلف والأئمة: أن السنة أن يغطى قبر الميت باللبن، ومن الطين أو التراب أو نحوها، وأن يوضع بين اللبنات أيضاً الطين كما نص عليه الإمام أحمد وغيره، وقد ورد مرفوعاً، بحيث إن الفتحات التي بين اللبنات تغطى بالطين.
ومن الطريف هنا أن بعض العجم أخطئوا في قراءة الحديث، فكانوا يأتون إلى قبر ميت، ويصبون عليه اللبن صباً، ويظنون أن هذه هي السنة، أنه: (وصبوا علي اللبن صباً)، فكانوا يصبون اللبن على قبره يظنون أن في ذلك بركة أو أجراً أو سنة.
قوله: ( كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ). هذا كما مر معنا له حكم المرفوع، وبناءً عليه نقول: إن اللحد هو السنة، وهو أصح ما ورد، لقول سعد هنا: ( كما فعل برسول الله )، وقوله: ( كما فعل برسول الله )، يعني: اللحد ونصب اللبن يعني: الثنتين معاً هذا هو الأصل، أن كلا الأمرين هو المنقول والمفعول برسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا ما هو الأفضل.
وقد جاء أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا: هل يلحدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو يشقون له؟ فقالوا: نرسل للاحد ونرسل للشاق، وأيهما جاء أولاً حفر القبر، فجاء اللاحد أولاً، ويحمل هذا إن صح على أن الذين اختلفوا لم يكن عندهم توقيت من الرسول صلى الله عليه وسلم، إما بناءً على ضعف حديث ابن عباس أو لأنه لم يبلغهم، وهذا قد يحدث أن الصحابي قد يخفى عليه شيء من السنة، مع أن الحديث كما قلنا: فيه ضعف لوجود عبد الأعلى بن عامر فيه.
أيضاً: فيما يتعلق بحديث جابر أولاً: نشير إلى أن حديث جابر له رقم آخر غير حديث سعد، والسبب ما هو؟
أولاً: اختلاف الصحابة.
ثانياً أيضاً: اختلاف المتن.
فالواقع أن سياق المؤلف هنا فيه اختصار شديد، ولذلك هو قال: وللبيهقي عن جابر نحوه، وعادة كلمة نحوه أو ما أشبه ذلك تستخدم إذا كان اللفظ متقارباً جداً، بينما الواقع أن حديث البيهقي عن جابر لا علاقة له بـسعد بن أبي وقاص، وإنما حديث البيهقي عن جابر : ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لحدوا له لحداً، ورفعوا قبره عن الأرض قدر شبر )، فهو متعلق بقوله: (كما فعل برسول صلى الله عليه وسلم) أو شاهد لقول سعد : (كما فعل برسول صلى الله عليه وسلم).
وقوله هنا: (ألحدوا لي لحداً)، فيه مسألة أو أكثر من مسألة:
المسألة الأولى: قضية اللحد والشق، هل السنة اللحد للميت أو السنة الشق؟
وأولاً: أهل العلم اتفقوا على جواز الأمرين، ومن الجيد دائماً لطالب العلم أن يبدأ بالمتفق عليه، ويبدأ بالمجمع عليه؛ لأن أصول المسائل ورءوس المسائل هي المتفق عليها، وأنت ترى هنا مثلاً في هذه المسألة ومسائل كثيرة جداً نعرضها: أن العلماء متفقون على جواز الأمرين، ولكن الخلاف بينهم في الأفضلية، أو الخلاف أن هذا العمل مباح أو مكروه غالباً، وهذا يعطي سعة لطالب العلم أن الأمر لا يضيق فيه، والناس قد يختلفون وتختلف أوضاعهم وظروفهم ومناخاتهم وجغرافية بلادهم وأحوالهم وعوائدهم، ولا يسعهم أحياناً اجتهاد خاص، وإنما التوسعة على الناس هي التي تجعلهم يندفعون عن الفتنة، ويلتزمون بالدين، وتقل بينهم الخلافات مع وجود التوجيه والإرشاد.
فهذا مبدأ مهم أن يبدأ طالب العلم أولاً بالمتفق عليه، ثم ينتقل إلى المختلف فيه، وليس العكس.
فهنا المتفق عليه بين أهل العلم أن كلاً من اللحد والشق جائز ولا شيء فيه، وإنما الخلاف هو في الأفضلية، فبعض أهل العلم قالوا: إن اللحد أفضل، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل الحنابلة والظاهرية وغيرهم، وهو مذهب الأكثرين، ونقل عن جمع من الصحابة منهم: سعد بن أبي وقاص وجابر وعمر وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وحديث ابن عباس واضح هنا، وأبي أمامة : أن اللحد أفضل من الشق.
وحجتهم أولاً: أن هذا ما فعل بالنبي صلى الله وعليه وآله وسلم، ويدل عليه حديث سعد رضي الله عنه وحديث جابر أيضاً.
وقالوا: إن الله لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا ما هو الأفضل.
الدليل الثاني عندهم: حديث ابن عباس : ( اللحد لنا والشق لغيرنا ). وقد جاء من طرق، ولكن الحديث ضعيف -كما أسلفنا- فيه عبد الأعلى بن عامر، فالاستدلال به لا يتم.
إذاً: هذا هو القول الأول، وفيه أصح ما ورد في الباب حديث سعد بن أبي وقاص ؛ لأنه عند مسلم في الصحيح.
القول الثاني: أن الشق أفضل وعدم اللحد، وهذا منقول نقله جماعة عن الإمام الشافعي من الشافعية وغيرهم، وهو مشهور عن الإمام الشافعي أنه يقول: الشق أفضل من اللحد، والغريب أن هذا القول الذي نقل عن الإمام الشافعي أن الشافعي يحتج لهذا القول بعمل أهل المدينة يقول: لأن هذا الفعل هو الذي جرى عليه عمل أهل المدينة، وأنتم تعرفون أن الاحتجاج بعمل أهل المدينة ليس من طريقة الشافعي وإنما هو طريقة مالك .
فهذه من الأشياء التي تسجل، ويستفيد منها طالب العلم في البحث أن هذه المسألة ومسائل قليلة ربما يحتج بها الشافعي أو غيره بعمل أهل المدينة، وكيف يجاب عن عمل أهل المدينة؟
يجاب عن عمل أهل المدينة بأجوبة منها: أن يقال: إن ثبوت اللحد للنبي صلى الله عليه وسلم في قبره ولـسعد بن أبي وقاص ولجماعة من الصحابة يدل على أن هذا ليس عليه عمل أهل المدينة كلهم، وإنما أهل المدينة فيهم من يلحد وفيهم من يشق، وقد جاء في غيره من الأحاديث في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اختلفوا، فأرسلوا لمن يلحد وأرسلوا لمن يشق، مما يدل على أنه كان عندهم اثنان من الحفارين واحد يلحد وواحد يشق، وأنهم يستخدمون هذا وذاك.
الجواب الثاني: أن يقال: إن الشق فيما يتعلق ببعض أرض المدينة كالبقيع تقريباً؛ بسبب أن الأرض رخوة ولينة واللحد فيها لا يتأتى.
ولهذا بعض أهل العلم كما ذكره النووي وغيره يقولون: اللحد أفضل إن كانت الأرض صلبة والشق أفضل إن كانت الأرض رخوة، وهذا لا بأس به من هذا الوجه، يعني: فيه نوع من التفصيل، وإن كنا نقول: إنه قد لا يتأتى اللحد أحياناً في الأرض إذا كانت شديدة الرخاوة، لكن إذا كانت الأرض قد تصبر قليلاً ثم تنهار، فقد يكون الشق أفضل من حيث إنه لا يتعرض القبر للانهيار، ثم ينخسف ثم تنزل فيه الأمطار، وقد يقع فيه ما يقع.
فنحن نقول: من حيث الأصل إن اللحد أفضل، وهو مذهب الأكثرين، وهو الأصح دليلاً، ولكن إذا كانت الأرض رخوة وقد تنهار، فيكون الشق أفضل مراعاة لحال الأرض كما ذكرنا.
وأيضاً بعض المناطق التي تكون صلبة جداً أيضاً يراعى فيها هذا المعنى، فنحن نقرر الأصل: وهو أن اللحد أفضل، لكن مراعاة اختلاف طبيعة الأرض معتبرة، هذه مسألة.
مسألة ثانية أيضاً تتعلق بالحديث وخاصة قول جابر رضي الله عنه هنا: ( ورفع قبره عن الأرض )، يعني قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، ( ورفع قبره عن الأرض قدر شبر )، والشبر معروف أيضاً.
وفي هذه المسألة قضية: هل السنة أن يسنم القبر أو السنة أن يسطح القبر؟
وهذا اللفظ معروف عند العلماء والفقهاء والشراح، ما هو الفرق بين التسنيم والتسطيح؟
أن تكون الأرض كسنام الإبل، هذا يعتبر تسنيماً يعني: تكون فيها استدارة، تكون أرض القبر مرتفعة، ولكنها مستديرة أعلاها هو أوسطها، ثم ينخفض يميناً وينخفض شمالاً، هذا يسمى: التسنيم.
أما التسطيح فهو أن تكون مرتفعة.
ولكن ارتفاعاً مستوياً، ليس مائلاً ذات اليمين وذات الشمال، فكأنه يكون مستطيلاً، كله تقريباً على ارتفاع واحد، هذا معنى تسطيح القبر.
وأيضاً هنا نقول: أيهما أفضل؟
وقبل أن نجيب على هذا السؤال ينبغي أن نقول إن الفقهاء اتفقوا على جواز الأمرين: جواز التسطيح وجواز التسنيم، وإنما الخلاف في الأفضل منهما.
فقيل: إن التسنيم أفضل، يعني: أن يكون القبر كسنام البعير، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد ونقل عن كثير من فقهاء الشافعية المشهورين.
إذاً: هو مذهب الجمهور وعليه عمل الكثير من الصحابة، وقد جاء في صحيح البخاري عن سفيان التمار وهو من التابعين وهو ثقة، وقد خرج له البخاري في صحيحه قال: [ إنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً ]، وكأنه حصل في ذلك العصر شيء إما لسقوط الحجرة أو ما أشبه ذلك، فرأوا قبر النبي عليه الصلاة والسلام، ورآه مسنماً.
هذا دليل على أن هذا هو ما فعله الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام في قبره، وهو دليل على أنهم اتفقوا أن هذا أفضل.
وبعضهم قال: إن التسنيم في قبر النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقع بعد ذلك، فإن القبر في أول عهد بني أمية جرى له ما جرى، ثم سنموه.
وهذا مستبعد وليس هو الأصل، فالأصل أن نقول: إن أصل القبر قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنم كما ذكره سفيان التمار وغيره، ورأوا ذلك، والآثار في هذا صحيحة.
إذاً: هذا هو القول الأول وهو قول الجمهور والأكثرين أن السنة تسنيم القبر.
القول الثاني: أن السنة هو تسطيح القبر لا تسنيمه، وهذا أيضاً منقول عن الشافعي كما في القول الذي قبله، إذاً: الشافعي له في مسألة تسنيم القبر وله في مسألة اللحد والشق قولان مختلفان عن مذهب الجمهور، يعني: انفرد فيما يتعلق باستحباب الشق، وانفرد فيما يتعلق بتسطيح القبر.
فـالشافعي رضي الله عنه يميل إلى استحباب التسطيح، وقد جاء في هذا أثر عن فضالة بن عبيد أنه: مر بقبر فأمر به فسوي، ثم قال: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتسوية القبور ).
وأيضاً مما يستدل به لمذهب الشافعي ما جاء في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ).
فقالوا: إن التسوية كما في حديث أبي الهياج عن علي، وكما في حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بتسوية القبور يعني: أن يكون القبر مستوياً، وهذا هو التسطيح، ولا شك أن هذه الأحاديث صحيحة، ولكن لا يتم الاستدلال بها إلا إذا كان معنى التسوية واضحاً أنه يساوي التسطيح، والأقرب والله أعلم أن التسوية هنا لا تعني التسطيح، وإنما تعني: أنه إذا كان القبر مرتفعاً أكثر من اللازم؛ لأن السنة أن يكون القبر معتدل الارتفاع، بحيث يكون ترابه فقط فوقه، يعني: التراب المحفور من القبر وضع عليه بلا زيادة ولا نقص، هذه السنة. ويكره أن يزاد على القبر بتراب أو بناء.
فأما كون التراب مرتفعاً على القبر بهذا القدر سواءً كان مسطحاً أو مسنماً، فهذا له فوائد عظيمة منها: معرفة أنه قبر، بحيث إن الإنسان يتوقاه، ولا يطأ عليه، ولا يقعد عليه، ولا يقضي عليه الحاجة، ولا يهينه، هذه من الفوائد .
لكن الزيادة على ذلك بأن يوضع على القبر تراب كثير أو ما أشبه ذلك، هذا ليس من السنة.
فنقول: إن الأمر بالتسوية في حديث فضالة وأيضاً في حديث علي رضي الله عنه، معناها: أنهم يمرون بالقبور شديدة الارتفاع، فيأمر بتسويتها، يعني: إزالة ما زاد منها والاقتصار على القدر المسنون، وهو أن يكون تراب القبر فوقه، التراب الذي حفر من القبر يوضع فوق الميت، يدفن به من غير زيادة ولا نقص، فهذا هو الجواب على ما استدلوا عليه.
والأقرب والله أعلم، أن السنة أن يكون القبر مسنماً، ولو كان غير ذلك جاز أيضاً.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 | 4784 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 | 4394 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 | 4213 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 | 4095 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 | 4047 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 | 4021 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 | 3974 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 | 3917 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 | 3900 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 | 3879 استماع |