شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 596-600


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, ونصلي ونسلم على خاتم رسله, سيدنا وإمامنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحمد لله، هذا يوم الخميس التاسع عشر من شهر جمادى الأولى لسنة (1427هـ), وهذا الدرس رقمه مائتان من أمالي شرح بلوغ المرام , ولدينا اليوم وجبة جديدة من الأحاديث المتعلقة بالجنازة, وفيها عدد من الأبحاث المهمة.

الأول: من هذه الأحاديث ورقمه خمسمائة وثلاث وسبعون, حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إذا رأيتم الجنازة فقوموا, فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع ) متفق عليه.

تخريج الحديث

في هذا الحديث عدة مباحث.

أولاً: ما يتعلق بتخريج الحديث, فقد رواه البخاري في صحيحه، باب: من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع, ومسلم أيضاً في الجنائز باب: القيام للجنازة, وفي الباب نفسه -القيام للجنازة- رواه أبو داود والترمذي والبيهقي .. وغيرهم, وقد خرجه أيضاً أحمد والبيهقي والطحاوي وسواهم.

شواهد الحديث

وهذا الحديث فيه القيام للجنازة إذا مرت وكانت محمولة، وله شواهد صحيحة عن جماعة من الصحابة, فمن شواهده حديث عن عامر بن ربيعة، وهو في الصحيحين في البخاري ومسلم .

ومن شواهده أيضاً حديث جابر وفيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ بجنازة فقام, فقالوا: إنها جنازة يهودي, فقال: إن الموت فزع ), وحديث جابر هذا أيضاً رواه مسلم .

ومن شواهده أيضاً: حديث قيس بن سعد بن عبادة وسهل بن حنيف، وفيه: أنهما كانا في الشام أو العراق فمرت جنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض -يعني: من أهل الكتاب- فقالوا: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقام, فقيل: إنها جنازة يهودي, فقال صلى الله عليه وسلم: أليست نفساً )، وهذا الحديث أيضاً رواه مسلم .

وفي الباب حديث علي رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: ( قام النبي صلى الله عليه وسلم ثم قعد ), قام للجنازة ثم قعد, والشافعي يقول: هذا الحديث ناسخ للحديث الأول.

طيب. إذاً: هذه شواهد الحديث, وبهذا نعرف أن عندنا في مسألة القيام للجنازة كم حديث؟

أولاً: حديث الباب, حديث أبي سعيد .

ثانياً: حديث عامر بن ربيعة , وهو متفق عليه.

ثالثاً: حديث جابر , وهو في مسلم .

رابعاً: حديث قيس بن سعد وسهل بن حنيف هذا حديث واحد, وهو أيضاً في مسلم .

خامساً: حديث علي بن أبي طالب وهو في مسلم .

ففي المسألة خمسة أحاديث, وإن كان حديث علي يختلف عنها بذكر ما يوحي بالنفخ كما سوف نعرض له.

معاني ألفاظ الحديث

ثانياً: ما يتعلق بغريب وألفاظ الحديث: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع ) ما معنى الوضع هنا وأين توضع؟

يحتمل معنيين: إما أن توضع في الأرض, وإما أن توضع في القبر في اللحد , وكلا المعنيين محتمل, ولهذا قال حتى توضع في اللحد.

فنقول: إن قوله: (حتى توضع) يحتمل أي: حتى تدفن, وبناء عليه يكون المشروع فيمن تبعوا الجنازة ألا يقعدوا في المقبرة, وإنما يقوموا حتى ينتهي دفنها.

الاحتمال الثاني: أن يكون قوله: (حتى توضع), يعني: حتى توضع على الأرض, وهذا الاحتمال أرجح أن المقصود حتى توضع على الأرض؛ لأن الأمر ليس متعلقاً فقط بالاتباع, وإنما بالقيام، يعني: لو رأيت الجنازة وهي في المسجد يستحب لك أن تقوم, لكن إذا وضعت الجنازة فاقعد.

وقد ورد في بعض الألفاظ: ( حتى توضع على الأرض ), مما يدل على أن هذا هو المقصود بالوضع.

الأقوال في حكم القيام للجنازة

في الحديث مسألة وهي مسألة القيام للجنازة, هل يشرع إذا رأى الناس الجنازة محمولة على الأكتاف؛ هل يقوموا أو لا يشرع؟

وفي هذه المسألة قولان مشهوران:

القول الأول: أن القيام للجنازة مستحب, وهذا مذهب الحنابلة وإسحاق بن راهويه من أئمة الحديث، وابن حزم الظاهري، وقد نصره في كتاب المحلى, وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين والأئمة, ويصح أن ينسب هنا لـأبي سعيد الخدري وعامر بن ربيعة وجابر وقيس بن سعد وسهل بن حنيف , ونقل أيضاً عن ابن عمر وسواهم, فهو مذهب من ذكرنا.

حجة هؤلاء في الاستحباب حديث الباب, وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فقوموا ), وقالوا: إن الأمر هنا للاستحباب ليس للوجوب؛ لما ذكرناه غير مرة أن الأمر لا يتعلق بعبادة محضة, وإنما يتعلق بآداب وأخلاق وإرشاد، فببابه الاستحباب في الأمر, والكراهية في النهي, وليس الوجوب أو التحريم.

وكذلك أيضاً حديث أبي سعيد من أدلتهم، وحديث عامر، وحديث جابر، وحديث قيس بن سعد، وحديث سهل بن حنيف , هذه أدلتهم نحو أربعة أحاديث تقريباً.

وقد يستدل الأولون أيضاً بحديث علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد ), ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد, قيامه دليل على الاستحباب, وقعوده دليل على عدم الوجوب, وأن الأمر فيه سعة, قعد لئلا يشق عليهم، وليبين لهم أن القعود جائز؛ لأن حديث علي ليس نصاً في النسخ.

القول الثاني: أن الباب منسوخ, وأنه لا يشرع القيام للجنازة إذا جاءت, وإنما كان هذا أول الأمر بـالمدينة، ثم نسخ, وهذا القول بالنسخ هو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وجماعة من الأئمة، وهو مذهب أبي يوسف أيضاً ومحمد بن الحسن وغيرهم.

حجتهم في النسخ حديث علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد ), وقالوا: إن علياً احتج بهذا الحديث على من طلب إليه القيام, فدل على أن علياً حفظ الأمر بالقيام وحفظ النسخ, وهو ترك القيام، والأمر الثاني هو الذي صار إليه التشريع, ولهذا لا يشرع للإنسان أن يقوم للجنازة.

وقال الترمذي كما في جامعه بعد حديث علي , قال: إن معنى (قعد) أي: ترك القيام بعد ذلك، فهو ناسخ, وقد قال الشافعي كما ذكرنا: إنه ناسخ للقيام.

وعند التحقيق فإن حديث علي رضي الله عنه ليس فيه التصريح بالنسخ؛ لأن العلماء يقولون: إنه لا يقال بالنسخ إلا إذا تعذر الجمع بين النصين أو تعذر الجمع بين الفعلين.

والآن نحن أمام فعلين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام وليست نصوص أقوال, وأيضاً الأفعال النسخ فيها بعيد، بمعنى أن كون النبي صلى الله عليه وسلم قام مرة وقعد مرة هذا نظيره مسائل كثيرة جداً؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ينهى عن شيء ويفعله، أو قد يأمر بشيء ويتركه.

ففي مثل هذا المقام نقول: إن الأمر بالشيء محمول على الاستحباب, وتركه لبيان الجواز, وأن النهي عن الشيء محمول على الكراهة لا على التحريم, وأن فعله هو لبيان أن الأمر ليس للتحريم, فيحمل كل حديث على حال, أو يحمل أن الفعل في حال والترك في حال أخرى, يعني: فالأمر ليس نصاً قطعياً في النسخ حتى كون النبي صلى الله عليه وسلم ترك القيام؛ قد يكون ترك القيام لأنه ثقل عليه, قد يكون ترك القيام في بعض الحالات لعارض، قد يكون ترك القيام -كما قلنا- لبيان أن الأمر ليس للوجوب, فليس نصاً لا يحتمل إلا القول بالنسخ, والنسخ هو إبطال حكم شرعي؛ ولهذا لا يصار إليه إلا عند تعذر ما سواه, أي: عند تعذر إمكانية الجمع بين عدد من النصوص.

إذاً: نقول: إن حديث علي ليس نصاً في النسخ.

وأيضاً مما يحتج به على هذا الباب أنه نقل عن جماعة من الصحابة, أنهم كانوا يقومون وهم من أكثر الناس قرباً من النبي صلى الله عليه وسلم كمن ذكرنا, ويبعد أن يخفى النسخ على مثلهم على كثرة ما يقع من الجنائز وما يؤتى بها في مسجد الجنائز.

الحجة الثانية للقائلين بالنسخ؛ حجتهم الأولى حديث علي , وحجتهم الثانية يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم أول الأمر لما كان بـالمدينة ؛ لأن اليهود كانوا يقومون للجنازة, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه موافقتهم على ما لم يرد فيه نص, ثم ترك موافقتهم بعد ذلك.

وهذا أيضاً ضعيف لا يثبت فيه شيء بخصوص هذه المسألة.

ولهذا نقول: إن الأقوى في هذه المسألة هو أنه يستحب للإنسان القيام, لكن من ترك القيام فلا شيء عليه؛ لأن الأمر دائر على الاستحباب.

حكم قيام المشيع للجنازة

أما ما يتعلق بالمشيع للجنازة؛ لأن حديث أبي سعيد فيه نصين: النص الأول: ( إذا رأيتم الجنازة فقوموا ), النص الثاني: ( فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع ).

ففيما يتعلق بالشطر الثاني من حديث أبي سعيد وفيه: ( من تبعها فلا يجلس حتى توضع ) فيه قيام المشيع للجنازة, ونقول هنا: إن قيام المشيع للجنازة مستحب عند أكثر أهل العلم كـأبي حنيفة وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين لحديث الباب, وكأنه حكم آخر غير حكم القيام للجنازة إذا عرضت، يعني: قد تكون جالساً في الشارع وجيء بجنازة فتقوم, فإذا تعدتك الجنازة وكنت خلفها رجعت وقعدت.

أما المشيع فهو الذي يتبع الجنازة, فهذا السنة في حقه أن يقوم ولا يقعد حتى توضع, وهذا مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين ومنصوص عنهم، ومذهب أحمد وأبي حنيفة .

القول الثاني: أن ذلك واجب وليس مستحباً فقط، وهو مذهب إسحاق والأوزاعي ؛ ولعلهم أخذوا بظاهر حديث الباب.

القول الثالث له: أن ذلك منسوخ مثلما في المسألة الأولى، وهو مذهب الباقين كـمالك وغيره.

والأقرب أيضاً في هذا الحكم أنه مستحب؛ فالذي يتبع الجنازة يستحب له القيام حتى في المقبرة, وألا يجلس حتى توضع, ولكن بينا أن الراجح في قوله: (حتى توضع) ليس حتى تدفن ويفرغ منها, وإنما حتى توضع على الأرض, فإذا وضعت على الأرض قعد الناس, هذا هو الأقرب.

ولذلك بعض الناس في المقابر يتكلفون الوقوف حتى ينتهى من دفن الجنازة, وهذا إذا كان له حاجة مثل كونه يعمل بأعمال تتعلق بتجهيزها أو دفنها أو ما أشبه ذلك فلا بأس فيه, وإن كان أيضاً بتأول واجتهاد ورأي فأيضاً لا بأس فيه؛ لأن الأمر كما قلنا فيه اختلاف, وإلا فالأفضل أن يعرف الإنسان أن القول الراجح في هذه المسألة أنه لا يشرع الوقوف, ولا نقول: إنه مكروه، لكن لا يعتقد أن الوقوف مشروع على القول الذي اخترناه.

فوائد الحديث

وفي الحديث فوائد:

منها: القيام للجنازة كما هو واضح: ( إذا رأيتم الجنازة فقوموا.. ).

ومنها: أن المقصود إذا كانت الجنازة محمولة, أما إذا كانت موضوعة فإنه يجلس كما في آخر الحديث.

وفيه أيضاً: قيام المشيع، وأنه لا يجلس حتى توضع على الأرض أو توضع في القبر.

وفيه: أن القيام بقصد احترام الملائكة الذين مع الجنازة كما جاء في بعض النصوص أن مع الميت ملائكة, وأن هذا أحد التعليلات.

والتعليل الثاني: أن الموت فزع؛ فيقوم الإنسان لهذا الفزع.

والتعليل الثالث: أن هذه النفس الميتة هي نفس خلقها الله وكرمها: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] فيقوم الإنسان لهذا المعنى أيضاً, هذا هو الوارد وهو أصح ما في الباب.

وبعضهم تكلفوا تأويلات بعيدة وليست صحيحة, مثل قول بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قام؛ لأن الجنازة -جنازة اليهودي- كان فيها رائحة كريهة، رائحة بخور أو شيء يضعونه من حنوط وسواه للميت.. وهذا بعيد:

أولاً: لأنه ليس فيه نص, ولم يصح به نقل.

وأيضاً: القيام لا يمنع الرائحة, إنما الذي يمنع الرائحة هو مغادرة المكان, وهذا لم ينقل.

وبعضهم قال: إنه قام لئلا تعلوه الجنازة؛ يعني: يكون هو قاعداً وجنازة اليهودي فوقه, وهذا أيضاً لا أصل له ولا يصح؛ لأن الأمر منصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً: فيه مسألة تعليل الأحكام, من فوائد الحديث تعليل الأحكام الشرعية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل القيام بـ: ( إن الموت فزع )، وعلل القيام بأن الميت نفس خلقها الله, وهذا دليل على تعليل الأحكام.

وأيضاً: يمكن أن نلتمس من الحديث أن الأحكام المعللة لا يتهاون أو يتساهل في نسخها , وهذا يقوي جانب القول بأن الاستحباب باقٍ, يعني: الحكم المعلل لا يسهل نسخه؛ لأن تعليله يقوي جانبه ويعززه, فإذا كانت العلة عامة دل على أن الأصل عدم النسخ, يعني: النبي صلى الله عليه وسلم لما قام وعلل القيام بأن الموت فزع, أليس الموت فزعاً أمس واليوم وغداً، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الزمان وفي كل زمان.

إذاً: العلة باقية أو لا؟ باقية, وكذلك لما قال: ( أليست نفساً )، هنا القيام لكل نفس خلقها الله, أليس كل ميت نقول عنه: إنه نفس؟

إذاً: هذا نقول عنه في زمن النبوة, ونقول عنه في زمن الخلفاء الراشدين، وبني أمية، والآن، وفي العصور القادمة.

إذاً: التعليل باقٍ, فإذا كان التعليل باقياً فالأصل أن يكون الحكم المعلل باقياً أيضاً.

فهذه من الفوائد الأصولية التي قلَّ من يشير إليها, وهي أن الحكم إذا كان معللاً فالأصل بقاؤه وعدم نسخه مادامت العلة باقية.

في هذا الحديث عدة مباحث.

أولاً: ما يتعلق بتخريج الحديث, فقد رواه البخاري في صحيحه، باب: من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع, ومسلم أيضاً في الجنائز باب: القيام للجنازة, وفي الباب نفسه -القيام للجنازة- رواه أبو داود والترمذي والبيهقي .. وغيرهم, وقد خرجه أيضاً أحمد والبيهقي والطحاوي وسواهم.

وهذا الحديث فيه القيام للجنازة إذا مرت وكانت محمولة، وله شواهد صحيحة عن جماعة من الصحابة, فمن شواهده حديث عن عامر بن ربيعة، وهو في الصحيحين في البخاري ومسلم .

ومن شواهده أيضاً حديث جابر وفيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ بجنازة فقام, فقالوا: إنها جنازة يهودي, فقال: إن الموت فزع ), وحديث جابر هذا أيضاً رواه مسلم .

ومن شواهده أيضاً: حديث قيس بن سعد بن عبادة وسهل بن حنيف، وفيه: أنهما كانا في الشام أو العراق فمرت جنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض -يعني: من أهل الكتاب- فقالوا: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقام, فقيل: إنها جنازة يهودي, فقال صلى الله عليه وسلم: أليست نفساً )، وهذا الحديث أيضاً رواه مسلم .

وفي الباب حديث علي رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: ( قام النبي صلى الله عليه وسلم ثم قعد ), قام للجنازة ثم قعد, والشافعي يقول: هذا الحديث ناسخ للحديث الأول.

طيب. إذاً: هذه شواهد الحديث, وبهذا نعرف أن عندنا في مسألة القيام للجنازة كم حديث؟

أولاً: حديث الباب, حديث أبي سعيد .

ثانياً: حديث عامر بن ربيعة , وهو متفق عليه.

ثالثاً: حديث جابر , وهو في مسلم .

رابعاً: حديث قيس بن سعد وسهل بن حنيف هذا حديث واحد, وهو أيضاً في مسلم .

خامساً: حديث علي بن أبي طالب وهو في مسلم .

ففي المسألة خمسة أحاديث, وإن كان حديث علي يختلف عنها بذكر ما يوحي بالنفخ كما سوف نعرض له.

ثانياً: ما يتعلق بغريب وألفاظ الحديث: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع ) ما معنى الوضع هنا وأين توضع؟

يحتمل معنيين: إما أن توضع في الأرض, وإما أن توضع في القبر في اللحد , وكلا المعنيين محتمل, ولهذا قال حتى توضع في اللحد.

فنقول: إن قوله: (حتى توضع) يحتمل أي: حتى تدفن, وبناء عليه يكون المشروع فيمن تبعوا الجنازة ألا يقعدوا في المقبرة, وإنما يقوموا حتى ينتهي دفنها.

الاحتمال الثاني: أن يكون قوله: (حتى توضع), يعني: حتى توضع على الأرض, وهذا الاحتمال أرجح أن المقصود حتى توضع على الأرض؛ لأن الأمر ليس متعلقاً فقط بالاتباع, وإنما بالقيام، يعني: لو رأيت الجنازة وهي في المسجد يستحب لك أن تقوم, لكن إذا وضعت الجنازة فاقعد.

وقد ورد في بعض الألفاظ: ( حتى توضع على الأرض ), مما يدل على أن هذا هو المقصود بالوضع.

في الحديث مسألة وهي مسألة القيام للجنازة, هل يشرع إذا رأى الناس الجنازة محمولة على الأكتاف؛ هل يقوموا أو لا يشرع؟

وفي هذه المسألة قولان مشهوران:

القول الأول: أن القيام للجنازة مستحب, وهذا مذهب الحنابلة وإسحاق بن راهويه من أئمة الحديث، وابن حزم الظاهري، وقد نصره في كتاب المحلى, وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين والأئمة, ويصح أن ينسب هنا لـأبي سعيد الخدري وعامر بن ربيعة وجابر وقيس بن سعد وسهل بن حنيف , ونقل أيضاً عن ابن عمر وسواهم, فهو مذهب من ذكرنا.

حجة هؤلاء في الاستحباب حديث الباب, وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فقوموا ), وقالوا: إن الأمر هنا للاستحباب ليس للوجوب؛ لما ذكرناه غير مرة أن الأمر لا يتعلق بعبادة محضة, وإنما يتعلق بآداب وأخلاق وإرشاد، فببابه الاستحباب في الأمر, والكراهية في النهي, وليس الوجوب أو التحريم.

وكذلك أيضاً حديث أبي سعيد من أدلتهم، وحديث عامر، وحديث جابر، وحديث قيس بن سعد، وحديث سهل بن حنيف , هذه أدلتهم نحو أربعة أحاديث تقريباً.

وقد يستدل الأولون أيضاً بحديث علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد ), ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد, قيامه دليل على الاستحباب, وقعوده دليل على عدم الوجوب, وأن الأمر فيه سعة, قعد لئلا يشق عليهم، وليبين لهم أن القعود جائز؛ لأن حديث علي ليس نصاً في النسخ.

القول الثاني: أن الباب منسوخ, وأنه لا يشرع القيام للجنازة إذا جاءت, وإنما كان هذا أول الأمر بـالمدينة، ثم نسخ, وهذا القول بالنسخ هو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وجماعة من الأئمة، وهو مذهب أبي يوسف أيضاً ومحمد بن الحسن وغيرهم.

حجتهم في النسخ حديث علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد ), وقالوا: إن علياً احتج بهذا الحديث على من طلب إليه القيام, فدل على أن علياً حفظ الأمر بالقيام وحفظ النسخ, وهو ترك القيام، والأمر الثاني هو الذي صار إليه التشريع, ولهذا لا يشرع للإنسان أن يقوم للجنازة.

وقال الترمذي كما في جامعه بعد حديث علي , قال: إن معنى (قعد) أي: ترك القيام بعد ذلك، فهو ناسخ, وقد قال الشافعي كما ذكرنا: إنه ناسخ للقيام.

وعند التحقيق فإن حديث علي رضي الله عنه ليس فيه التصريح بالنسخ؛ لأن العلماء يقولون: إنه لا يقال بالنسخ إلا إذا تعذر الجمع بين النصين أو تعذر الجمع بين الفعلين.

والآن نحن أمام فعلين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام وليست نصوص أقوال, وأيضاً الأفعال النسخ فيها بعيد، بمعنى أن كون النبي صلى الله عليه وسلم قام مرة وقعد مرة هذا نظيره مسائل كثيرة جداً؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ينهى عن شيء ويفعله، أو قد يأمر بشيء ويتركه.

ففي مثل هذا المقام نقول: إن الأمر بالشيء محمول على الاستحباب, وتركه لبيان الجواز, وأن النهي عن الشيء محمول على الكراهة لا على التحريم, وأن فعله هو لبيان أن الأمر ليس للتحريم, فيحمل كل حديث على حال, أو يحمل أن الفعل في حال والترك في حال أخرى, يعني: فالأمر ليس نصاً قطعياً في النسخ حتى كون النبي صلى الله عليه وسلم ترك القيام؛ قد يكون ترك القيام لأنه ثقل عليه, قد يكون ترك القيام في بعض الحالات لعارض، قد يكون ترك القيام -كما قلنا- لبيان أن الأمر ليس للوجوب, فليس نصاً لا يحتمل إلا القول بالنسخ, والنسخ هو إبطال حكم شرعي؛ ولهذا لا يصار إليه إلا عند تعذر ما سواه, أي: عند تعذر إمكانية الجمع بين عدد من النصوص.

إذاً: نقول: إن حديث علي ليس نصاً في النسخ.

وأيضاً مما يحتج به على هذا الباب أنه نقل عن جماعة من الصحابة, أنهم كانوا يقومون وهم من أكثر الناس قرباً من النبي صلى الله عليه وسلم كمن ذكرنا, ويبعد أن يخفى النسخ على مثلهم على كثرة ما يقع من الجنائز وما يؤتى بها في مسجد الجنائز.

الحجة الثانية للقائلين بالنسخ؛ حجتهم الأولى حديث علي , وحجتهم الثانية يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم أول الأمر لما كان بـالمدينة ؛ لأن اليهود كانوا يقومون للجنازة, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه موافقتهم على ما لم يرد فيه نص, ثم ترك موافقتهم بعد ذلك.

وهذا أيضاً ضعيف لا يثبت فيه شيء بخصوص هذه المسألة.

ولهذا نقول: إن الأقوى في هذه المسألة هو أنه يستحب للإنسان القيام, لكن من ترك القيام فلا شيء عليه؛ لأن الأمر دائر على الاستحباب.