خطب ومحاضرات
شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 577-580
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه، وخيرته من خلقه سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى وأصحابه أجمعين.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وهذا يوم الأحد 15/جمادي الأولى/ 1427هـ. ورقم هذا الدرس: (196) من شرح بلوغ المرام، ولازلنا في أبواب صلاة الجنازة.
فعندنا اليوم الحديث رقم: (555)، وهو حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام ).
تخريج الحديث
ففيما يتعلق بالنقطة الأولى المتعلقة بتخريج الحديث، فإن الحديث رواه مسلم رحمه الله في صحيحه في كتاب الجنائز، باب: ترك الصلاة على قاتل نفسه، وكذلك رواه أبو داود في كتاب الجنائز، باب: الإمام لا يصلي على قاتل نفسه، والنسائي وابن ماجه كذلك في كتاب الجنائز، أما ابن ماجه فرواه في الجنائز في باب: الصلاة على أهل القبلة.
وقد روى الحديث أيضاً البيهقي وعبد الرزاق والإمام أحمد في مسنده والطحاوي والطيالسي وغيرهم.
معاني ألفاظ الحديث
والمشاقص: جمع، والمفرد: مشقص بفتح الميم، وهو نصل السهم، فالمشقص هو نصل السهم، وقد تطلق المشاقص على أنواع من النصال التي تكون طويلة أو عريضة أو ضعيفة القيمة والتأثير حتى يلعب بها الصبيان أحياناً.
حكم الصلاة على قاتل نفسه
من قتل نفسه بشيء سواء قتل نفسه بحديدة أو بترد من شاهق أو جبل أو باحتساء السم أو بأي وسيلة من الوسائل المباشرة في قتل النفس، ولا شك أن قتل النفس كبيرة مثل قتل الغير بل أشد، والله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:29-30].
فحرم الله تعالى على الإنسان قتل النفس، وجعل النفس أو الروح أمانة عنده يجب عليه أن يحافظ عليها، ولهذا لا يجوز للإنسان مثلاً أن يترك الأكل حتى يموت جوعاً، ولا أن يترك الشرب حتى يموت عطشاً، ولا أن يعالج نفسه بألوان من المعالجات الصعبة التي لا تستطيع النفس تحملها، كما لا يجوز له أن يحمل الآخرين مثل ذلك.
فمن قتل نفسه بشيء فهل يجوز أن يصلى عليه؟ هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال، ولعل الأقوال تكون واضحة لكم من خلال ما مر علينا بالأمس، القول الأول: بالجواز، والقول الثاني: أنه لا يجوز.
إذاً: القول الأول: أنه يصلى على القاتل نفسه، يصلى على قاتل نفسه أنه يصلى عليه، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وكثير من السلف والصحابة والتابعين، فهو قول الجمهور أنه يصلى عليه كما يصلى على غيره من أموات المسلمين، وأكثر ما يحتج به هؤلاء:
أولاً: الآثار المشهورة، وهي فعلاً آثار مشهورة عن كثير من الصحابة والتابعين في الصلاة على كل مسلم، حتى نقل مثلاً عن ابن سيرين رحمه الله - محمد بن سيرين - أنه كان يقول: (ما أدركت أحداً -يعني: من الصحابة ومن بعدهم- يتأثم من الصلاة على أهل القبلة). مطلقاً.
وكذلك نقل عن الحسن البصري رحمه الله أنه كان يقول: (يصلى على كل من قال: لا إله إلى الله، إن الصلاة عليه شفاعة).
وهناك نصوص كثيرة جداً لعلي أعرض لشيء منها فيما بعد.
إذاً: هم يحتجون أولاً بالآثار الكثيرة في الصلاة على كل مسلم كائناً ما كان عمله، وأنا أريد تكريس هذا المعنى والتأكيد عليه؛ لأن كثيراً من الناس دخلوا في أبواب من الظلم والضيق والتشديد على أنفسهم وعلى غيرهم بظن أن هذا ما يقتضيه اتباع السلف الصالح رضي الله عنه، بينما إذا قرأت سيرة السلف وجدت عندهم السعة والحكمة والبصيرة العظيمة.
إذاً: حجة هؤلاء أولاً: الآثار الكثيرة عن الصحابة والتابعين في الصلاة على جميع أهل القبلة وجميع المنسوبين إلى الإسلام، كائناً ما كان العمل الذي عملوه.
القول الثاني: أنه لا يصلى على قاتل نفسه، والآن على وجه الخصوص، يعني: ليس على مجمل أهل الذنوب أو المعاصي، وإنما على خصوص من قتل نفسه أنه لا يصلى عليه، وهذا القول معروف عن عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد رضي الله عنه، وعن الأوزاعي وعن أبي يوسف من الحنفية قالوا: لا يصلى على قاتل نفسه، واستدلوا بحديث الباب حديث جابر بن سمرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ) فقالوا: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه دليل على أن من قتل نفسه ينبغي ألا يصلى عليه أسوة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد يجاب على استدلالهم بأن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة عليه، ولكنه لم ينه الصحابة عن أن يصلوا عليه، بل ظاهر الحال أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا عليه، ولهذا قال: (لم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم) ولم يقل: إنه نهى عن الصلاة عليه، أو أن الصحابة لم يصلوا عليه، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون للزجر والتوبيخ والتأديب وتحذير الناس من فعل معين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام، إذا قدم رجل ليصلى عليه سألهم: هل عليه دين؟ فإذا قيل: ليس عليه دين صلى عليه، وإذا قيل: عليه دين، قال: صلوا على صاحبكم، وترك النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر الصلاة على أهل الديون، والمقصود من ذلك: حتى لا يتساهل الناس في إشغال ذممهم بالدين والاستدانة، وأخذ أموال الناس على الظن بوفائها في المستقبل، فلما فتح الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين كان يصلي عليه، وإذا كان عليه دين أوفاه من بيت المال ويقول: ( من ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي )؛ فقالوا: إن صاحب الدين لم يرتكب جرماً عظيماً أو إثماً أو كبيرة من كبائر الذنوب، بل قد يكون استدان لحظه أو لولده أو لنفقته، ومع ذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه، فيحمل تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه على هذا المحمل، أنه على سبيل الزجر والتوبيخ والنهي عن الفعل، وليس على سبيل التحريم المطلق، وترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه لا يعني ترك الصحابة الصلاة عليه أيضاً.
القول الثالث في المسألة وهو قول الحنابلة أنه يترك الصلاة عليه الإمام فحسب ويصلي عليه بقية الناس، وهذا القول هو مذهب الحنابلة وبه جمعوا بين النصوص، واحتجوا بحديث الباب أيضاً، فإن حديث الباب فيه ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه، لكن ليس فيه ترك الصحابة الصلاة عليه، ولهذا قال الحنابلة: إن الصواب أن يصلي عليه عامة الناس ودهماؤهم، ويترك الصلاة عليه الإمام الأعظم أو من في حكمه.
والمقصود بالإمام هنا: الإمام الأعظم، يعني: الخليفة أو الحاكم أو من في حكمه، إما من عالم جليل أو شهير نبيل يكون في ترك الصلاة عليه معنى، والله أعلم، هذا هو القول الثالث.
والواقع أن الراجح في هذه المسألة كما رجحناه أمس أن يقال: إن الأمر متوقف على المصلحة، وعلى الزجر، فإن اقتضى الزجر واقتضت المصلحة أن يترك الصلاة عليه أهل الفضل والعلم والتقديم تركوها، وإن اقتضت المصلحة أن يصلوا صلوا، ولهذا نقول: هناك من صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهناك من ترك الصلاة عليهم، فإن صليت فقد صلى عليه الصلاة والسلام وإن تركت فقد ترك، والأمر والله أعلم موكول ومتوقف على المصلحة.
والمصلحة تختلف من مكان إلى مكان، فقد تكون المصلحة تقتضي ترك الصلاة عليه لزجر الآخرين وتنبيههم وتعظيم بعض الأمور التي استهان بها الناس، فيتحدث أن فلاناً ترك الصلاة، وقد تكون المصلحة أن يصلى عليه، كأن يكون فيها مصلحة تأليف القلوب، قلوب جماعته وقومه وقبيلته وأهل بلده فيصلى عليه، وسيأتي مزيد من الإيضاح لهذه المسألة.
حكم الصلاة على من مات ولم يعرف حاله
إذاً: هذا هو القول الراجح. وكما ذكرت أن المسألة فيها نصوص وأقوال كثيرة جداً، ولذلك من النصوص أن الثوري رحمه الله كان يقول: (لا تترك الصلاة على أهل القبلة، حسابهم على الله عز وجل، صلاة الجنازة سنة). فيرى أن يصلى على كل ميت من المسلمين.
وهكذا الإمام مالك نص وقال: (يصلى على قاتل نفسه)، وهو من أصحاب القول الأول كما ذكرنا.
الشافعي أيضاً يقول: (لا تترك الصلاة على أحد مات من المسلمين براً كان أو فاجراً).
أبو حنيفة يقول مثل ذلك: (لا تترك الصلاة على أحد من المسلمين).
الأوزاعي يقول: (يصلى على كل من مات من أهل القبلة وإن عمل ما عمل).
إسحاق أيضاً يقول: (يصلى على كل أحد)، ويقصد كل أحد من المسلمين يقيناً. إذاً: هذا المعنى مهم.
وإذا قلنا: يصلى عليه، فمعنى ذلك الحكم له بأنه باق على الإسلام بظاهر الحال حياً وميتاً، وهذا المعنى معنى أصيل وعظيم ودارج، والذي يتأمل في السيرة النبوية وهدي الصحابة رضي الله عنهم يجد الأمر شديد الوضوح، فالصلاة على كل أحد حتى المنافقين كان الصحابة يصلون عليهم، اللهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه ربه بعد ذلك وقال: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، وأما الصحابة فكانوا يصلون على كل من قدم للصلاة عليه.
الموقف الصحيح من الصلاة على من لا يعرف حاله
وحتى القواعد العامة التي قد يطلقها بعض الأئمة مثل أن يقولوا مثلاً: من ترك الصلاة فقد كفر، هذه المسألة أولاً فيها الخلاف المعروف في تارك الصلاة، والجمهور لا يخرجونه من الملة، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والرواية الأخرى عن أحمد، ولكن حتى على القول الثاني عند أحمد في كفره فإن هذا تكفير الفعل ولا يعني تكفير المعين، بمعنى: أن تحكم أنت بردته عن الإسلام، لا يحكم بردته عن الإسلام إلا من يكون له مقام الحكم، وإلا فالأصل بقاؤه على الدين وعدم إخراجه منه.
وأيضاً قد يصلي الإنسان على أناس لا يعرف تفصيل أحوالهم، ليس عليك من أمرهم شيء، هذه شفاعة إلى الله سبحانه وتعالى فأنت تصلي مثلاً. بعض الناس في الحرم المكي أو الحرم المدني يتوقى أن يصلي على بعض أهل الجنائز، يقول: لا أدري ما حاله؟ وهذا ليس شأنك، ولو فتح هذا الباب لانفتح على المسلمين باب شر عظيم، وإنما ينبغي أنه كل من قدم للصلاة عليه في مسجد أن أصلي عليه وأمره إلى الله عز وجل .
وهنا يروى عن ابن تيمية رحمه الله كما نقل ابن القيم أنه يوماً من الأيام يقول: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له: إنه يقدم جنائز أصلي عليها ولا أدري هل هو مسلم أو على السنة أم لا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في المنام: الشرط يا أحمد ! الشرط، فكان ابن تيمية إذا صلى دعا وقال: اللهم إن كان عبدك هذا مسلماً فاغفر له وارحمه إلى غير ذلك، وهذا قد يلزم ابن تيمية رحمه الله بموجب اجتهاده إن صح هذا عنه أو بموجب ما رأى واطمأنت نفسه إليه، ولكن الواقع أن الشريعة أوسع من ذلك، ولا ينبغي الشرط فيما أعلم، الأصل عدم الشرط، وإنما تدعو لهذا المسلم: ( اللهم اغفر له وارحمه )، هذا هو المنصوص عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة دعاء الجنازة.
وهب أن هذا الإنسان منافق أو كافر ألم يكن الصحابة يصلون على المنافق الذي هو في الدرك الأسفل من النار؟ ولا يعرفون حقيقته ويقولون: اللهم اغفر له وارحمه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، ويدعون له بدعاء الجنازة؟ ولم يرد استثناء ولا شرط.
فنقول: تصلي وتدعو ولا تشترط ولا تستثن، والله تعالى هو الذي يعلم السرائر، فبالنسبة لك أجرك تام ودعاؤك على السنة، وبالنسبة له إن كان أهلاً للدعاء استجاب الله لك إن شاء، وإن لم يكن أهلاً للدعاء حجب الله دعاءك بما يعلم سبحانه من الأسباب، وليس عليك من ذلك بأس ولا حرج.
والناس بأمس الحاجة إلى هذا الأدب وهذا الفقه؛ لأن كثيراً من المصائب التي تقع بين المسلين وكثرة القيل والقال، أفضت إلى كثير من التعصب وأصبح الناس يكفر بعضهم بعضاً بأمور قد لا تكون موجبة للتكفير ولا لما دونه، بل يقع التردد في كونها خطأ أو ليست خطأ ويترتب على ذلك المهاجرة والمباعدة، حتى في حال الموت التي هي حال تقتضي الرحمة والشفقة والإنسانية أن يراقب الإنسان هذا الحال ويدعو للإنسان، ولهذا في يوم عرفة مثلاً كم في هذا الموقف من الناس الذين جاءوا إلى عرفة لعبادة ربهم ودعائه واعترافاً بالإسلام؟ هذا هو الأصل فيهم، وإيماناً بالله وبرسوله واتباعاً للأنبياء، ولكن قد يقع لكثير منهم من ألوان الغلط والزلل ما الله به عليم، بسبب الجهل وقلة العلماء وقلة الدعاة.
ففي يوم من الأيام جاء في بالي سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، وأن الأصل في هؤلاء أنهم جاءوا لهذا الغرض النبيل العظيم، فسألت الله لهم جميعاً، وقلت: كل من تعلم من أهل هذا الموقف أنه أهل أن يدعى له بخير أو مغفرة أو رحمة فإني أسألك له ذلك، ولو لم يستثن الإنسان أيضاً في هذا المقام ودعا لأهل الموقف لكان خيراً وبراً وبركة؛ لأنك تدعو لمسلم حاج مصل، وقد يكون وقع في ألوان من الغلط أو حتى من الكفر ولكن بجهل أو بتأويل، أو بعذر يوجب عدم الحكم على ذاته وعينه بالتكفير.
فوائد الحديث
أولاً: تحريم قتل النفس، وهذا محل اتفاق وهو أمر واضح، فإن قتل النفس مثل قتل الغير أو أشد فيه الوعيد الشديد والعقوبة العظيمة، وهو من كبائر الذنوب، لكن يقع لبعض الناس جهلاً أن قتل النفس كفر، أن الانتحار معناه الكفر، ولهذا بعضهم لا يترحم عليه ويظن أنه مات كافراً، وهذه المسألة تخفى حتى في بيئات ومجتمعات إسلامية متعلمة، ولديها فقه، يقع عندهم التباس ويظنون أن قتل النفس كفر، والواقع أن قتل النفس ليس كفراً, قتل النفس معصية، قتل النفس كبيرة من كبائر الذنوب، ولكن ليس كفراً.
وأيضاً: بعض الذين يقع لهم مثل هذا -قتل النفس- قد يكونون مدفوعين بحالات نفسية, فكثير من حالات الانتحار يكون بسبب أزمة نفسية أو مرض ضاغط على هذا الإنسان يجعله يفقد توازنه ويفقد تصرفه، ويتصرف دون وعي ولا معرفة، فلذلك الترحم على قاتل نفسه والاستغفار له، وقد جاء في صحيح مسلم : ( أن رجلاً هاجر إلى المدينة فاستوخم المدينة وأصابته الحمى -وقد يكون هو صاحب هذا الحديث, ولكن هذا الحديث مجمل والحديث الآخر مختصر- فحز عروقه بمشاقص وظل ينزف حتى مات, فرآه بعض الصحابة في المنام بهيئة حسنة وقد غطى يديه وقال له: ما صنع الله بك؟ قال: غفر الله لي بهجرتي إلى نبيه عليه الصلاة والسلام. قال: ما لي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك، فلما قص الصحابي هذه القصة على النبي صلى الله عليه وسلم استحسنها وقال: اللهم وليديه فاغفر ).
إذاً: من فوائد الحديث تحريم قتل النفس، وأنه من الذنوب والموبقات والكبائر العظام ولكنه ليس كفراً .
ومن فوائد الحديث: جواز الصلاة على أصحاب المعاصي والكبائر؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم صلوا عليهم .
ومنها: أنه يحسن بالإمام أو من يقوم مقامه أن يترك الصلاة على مثل هؤلاء إذا كان في ترك الصلاة عليهم مصلحة كالزجر، أو يصلي إذا كان في الصلاة عليهم مصلحة كتأليف القلوب وجمع القلوب على الخير.
معنى الوعيد بالخلود في النار في حق قاتل نفسه
وهذا سؤال جيد؛ لأنه يذكرنا بالحديث الذي في صحيح البخاري يقول: ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ فيها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسُم -أو بسَم- فسمه في يده في جهنم يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فهو يتردى منه في نار جهنم -يعني: بقصد الانتحار وقتل النفس- خالداً مخلداً فيها أبداً ) وهذا الحديث مما تكلم أهل العلم في معناه ودلالته، وقطعاً ويقيناً لا يقصد بهذا الخلود الخلود الأبدي السرمدي الذي هو خلود الكافرين لمن فعل المعصية، وإنما يؤول الحديث على أضرب:
إما أن نقول: إن المقصود من استحل هذا الفعل كما يقوله بعض الشراح، من فعل الفعل مستحلاً له. وهذا ضعيف.
وإما أن يقال: إن المقصود هنا: الزجر، وكثير من العلماء والسلف لهم طريقة في أحاديث الوعيد والزجر أن يقولوا: تجرى على ظاهرها ويترك التأويل لها حتى يرتدع الناس ويخافوا منها، مع الجزم بأن ظاهر الحديث في الخلود الذي هو خلود الكفار غير مراد.
ولهذا نقول: إن الأقرب والله أعلم في الحديث أن المقصود بالخلود هو خلود العصاة، وقد نص غير واحد من أهل العلم على أن الخلود في النار نوعان:
الأول: خلود الكافرين، وهو الخلود الأبدي السرمدي الذي لا يحول ولا يزول ولا نهاية له، كما في قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:169]، لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23]، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23] هذا هو الخلود الأول، وهو يعني البقاء السرمدي.
المعنى الثاني: الخلود الذي هو خلود أهل المعاصي من أهل القبلة، وهذا يقصد به المكث الطويل، فإن الخلود يسمى في اللغة: المكث الطويل، وأخلد إلى الشيء يعني: مكث به مكثاً طويلاً، ومنه أخلد في النوم إذا طال نومه، فمن معاني الخلود: طول البقاء، فيئول خلود أهل المعاصي من المسلمين في النار بطول البقاء.
والمصنف يقول: رواه مسلم . وهو كذلك.
ففيما يتعلق بالنقطة الأولى المتعلقة بتخريج الحديث، فإن الحديث رواه مسلم رحمه الله في صحيحه في كتاب الجنائز، باب: ترك الصلاة على قاتل نفسه، وكذلك رواه أبو داود في كتاب الجنائز، باب: الإمام لا يصلي على قاتل نفسه، والنسائي وابن ماجه كذلك في كتاب الجنائز، أما ابن ماجه فرواه في الجنائز في باب: الصلاة على أهل القبلة.
وقد روى الحديث أيضاً البيهقي وعبد الرزاق والإمام أحمد في مسنده والطحاوي والطيالسي وغيرهم.
أما ما يتعلق بغريب وألفاظ الحديث، فأغرب ما فيه كلمة: (مشاقص).
والمشاقص: جمع، والمفرد: مشقص بفتح الميم، وهو نصل السهم، فالمشقص هو نصل السهم، وقد تطلق المشاقص على أنواع من النصال التي تكون طويلة أو عريضة أو ضعيفة القيمة والتأثير حتى يلعب بها الصبيان أحياناً.
الحديث فيه مسألة فقهية وهي: حكم الصلاة على قاتل نفسه:
من قتل نفسه بشيء سواء قتل نفسه بحديدة أو بترد من شاهق أو جبل أو باحتساء السم أو بأي وسيلة من الوسائل المباشرة في قتل النفس، ولا شك أن قتل النفس كبيرة مثل قتل الغير بل أشد، والله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:29-30].
فحرم الله تعالى على الإنسان قتل النفس، وجعل النفس أو الروح أمانة عنده يجب عليه أن يحافظ عليها، ولهذا لا يجوز للإنسان مثلاً أن يترك الأكل حتى يموت جوعاً، ولا أن يترك الشرب حتى يموت عطشاً، ولا أن يعالج نفسه بألوان من المعالجات الصعبة التي لا تستطيع النفس تحملها، كما لا يجوز له أن يحمل الآخرين مثل ذلك.
فمن قتل نفسه بشيء فهل يجوز أن يصلى عليه؟ هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال، ولعل الأقوال تكون واضحة لكم من خلال ما مر علينا بالأمس، القول الأول: بالجواز، والقول الثاني: أنه لا يجوز.
إذاً: القول الأول: أنه يصلى على القاتل نفسه، يصلى على قاتل نفسه أنه يصلى عليه، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وكثير من السلف والصحابة والتابعين، فهو قول الجمهور أنه يصلى عليه كما يصلى على غيره من أموات المسلمين، وأكثر ما يحتج به هؤلاء:
أولاً: الآثار المشهورة، وهي فعلاً آثار مشهورة عن كثير من الصحابة والتابعين في الصلاة على كل مسلم، حتى نقل مثلاً عن ابن سيرين رحمه الله - محمد بن سيرين - أنه كان يقول: (ما أدركت أحداً -يعني: من الصحابة ومن بعدهم- يتأثم من الصلاة على أهل القبلة). مطلقاً.
وكذلك نقل عن الحسن البصري رحمه الله أنه كان يقول: (يصلى على كل من قال: لا إله إلى الله، إن الصلاة عليه شفاعة).
وهناك نصوص كثيرة جداً لعلي أعرض لشيء منها فيما بعد.
إذاً: هم يحتجون أولاً بالآثار الكثيرة في الصلاة على كل مسلم كائناً ما كان عمله، وأنا أريد تكريس هذا المعنى والتأكيد عليه؛ لأن كثيراً من الناس دخلوا في أبواب من الظلم والضيق والتشديد على أنفسهم وعلى غيرهم بظن أن هذا ما يقتضيه اتباع السلف الصالح رضي الله عنه، بينما إذا قرأت سيرة السلف وجدت عندهم السعة والحكمة والبصيرة العظيمة.
إذاً: حجة هؤلاء أولاً: الآثار الكثيرة عن الصحابة والتابعين في الصلاة على جميع أهل القبلة وجميع المنسوبين إلى الإسلام، كائناً ما كان العمل الذي عملوه.
القول الثاني: أنه لا يصلى على قاتل نفسه، والآن على وجه الخصوص، يعني: ليس على مجمل أهل الذنوب أو المعاصي، وإنما على خصوص من قتل نفسه أنه لا يصلى عليه، وهذا القول معروف عن عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد رضي الله عنه، وعن الأوزاعي وعن أبي يوسف من الحنفية قالوا: لا يصلى على قاتل نفسه، واستدلوا بحديث الباب حديث جابر بن سمرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ) فقالوا: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه دليل على أن من قتل نفسه ينبغي ألا يصلى عليه أسوة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد يجاب على استدلالهم بأن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة عليه، ولكنه لم ينه الصحابة عن أن يصلوا عليه، بل ظاهر الحال أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا عليه، ولهذا قال: (لم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم) ولم يقل: إنه نهى عن الصلاة عليه، أو أن الصحابة لم يصلوا عليه، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون للزجر والتوبيخ والتأديب وتحذير الناس من فعل معين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام، إذا قدم رجل ليصلى عليه سألهم: هل عليه دين؟ فإذا قيل: ليس عليه دين صلى عليه، وإذا قيل: عليه دين، قال: صلوا على صاحبكم، وترك النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر الصلاة على أهل الديون، والمقصود من ذلك: حتى لا يتساهل الناس في إشغال ذممهم بالدين والاستدانة، وأخذ أموال الناس على الظن بوفائها في المستقبل، فلما فتح الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين كان يصلي عليه، وإذا كان عليه دين أوفاه من بيت المال ويقول: ( من ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي )؛ فقالوا: إن صاحب الدين لم يرتكب جرماً عظيماً أو إثماً أو كبيرة من كبائر الذنوب، بل قد يكون استدان لحظه أو لولده أو لنفقته، ومع ذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه، فيحمل تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه على هذا المحمل، أنه على سبيل الزجر والتوبيخ والنهي عن الفعل، وليس على سبيل التحريم المطلق، وترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه لا يعني ترك الصحابة الصلاة عليه أيضاً.
القول الثالث في المسألة وهو قول الحنابلة أنه يترك الصلاة عليه الإمام فحسب ويصلي عليه بقية الناس، وهذا القول هو مذهب الحنابلة وبه جمعوا بين النصوص، واحتجوا بحديث الباب أيضاً، فإن حديث الباب فيه ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه، لكن ليس فيه ترك الصحابة الصلاة عليه، ولهذا قال الحنابلة: إن الصواب أن يصلي عليه عامة الناس ودهماؤهم، ويترك الصلاة عليه الإمام الأعظم أو من في حكمه.
والمقصود بالإمام هنا: الإمام الأعظم، يعني: الخليفة أو الحاكم أو من في حكمه، إما من عالم جليل أو شهير نبيل يكون في ترك الصلاة عليه معنى، والله أعلم، هذا هو القول الثالث.
والواقع أن الراجح في هذه المسألة كما رجحناه أمس أن يقال: إن الأمر متوقف على المصلحة، وعلى الزجر، فإن اقتضى الزجر واقتضت المصلحة أن يترك الصلاة عليه أهل الفضل والعلم والتقديم تركوها، وإن اقتضت المصلحة أن يصلوا صلوا، ولهذا نقول: هناك من صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهناك من ترك الصلاة عليهم، فإن صليت فقد صلى عليه الصلاة والسلام وإن تركت فقد ترك، والأمر والله أعلم موكول ومتوقف على المصلحة.
والمصلحة تختلف من مكان إلى مكان، فقد تكون المصلحة تقتضي ترك الصلاة عليه لزجر الآخرين وتنبيههم وتعظيم بعض الأمور التي استهان بها الناس، فيتحدث أن فلاناً ترك الصلاة، وقد تكون المصلحة أن يصلى عليه، كأن يكون فيها مصلحة تأليف القلوب، قلوب جماعته وقومه وقبيلته وأهل بلده فيصلى عليه، وسيأتي مزيد من الإيضاح لهذه المسألة.
والكلام هنا في ترك الصلاة من الإمام أو من في حكمه، وأما جمهور المسلمين فإن كل مسلم يموت يجب أن يصلى عليه؛ لأن صلاة الجنازة حكمها فرض كفاية، يجب أن يكون من الناس من يصلي، كما يجب أن يكون من الناس من يغسل هذا الميت ومن يكفنه، ولهذا بعض الفقهاء كالمالكية يجعلون الصلاة ملازمة للغسل، فكل من غسل وجبت الصلاة عليه.
إذاً: هذا هو القول الراجح. وكما ذكرت أن المسألة فيها نصوص وأقوال كثيرة جداً، ولذلك من النصوص أن الثوري رحمه الله كان يقول: (لا تترك الصلاة على أهل القبلة، حسابهم على الله عز وجل، صلاة الجنازة سنة). فيرى أن يصلى على كل ميت من المسلمين.
وهكذا الإمام مالك نص وقال: (يصلى على قاتل نفسه)، وهو من أصحاب القول الأول كما ذكرنا.
الشافعي أيضاً يقول: (لا تترك الصلاة على أحد مات من المسلمين براً كان أو فاجراً).
أبو حنيفة يقول مثل ذلك: (لا تترك الصلاة على أحد من المسلمين).
الأوزاعي يقول: (يصلى على كل من مات من أهل القبلة وإن عمل ما عمل).
إسحاق أيضاً يقول: (يصلى على كل أحد)، ويقصد كل أحد من المسلمين يقيناً. إذاً: هذا المعنى مهم.
وإذا قلنا: يصلى عليه، فمعنى ذلك الحكم له بأنه باق على الإسلام بظاهر الحال حياً وميتاً، وهذا المعنى معنى أصيل وعظيم ودارج، والذي يتأمل في السيرة النبوية وهدي الصحابة رضي الله عنهم يجد الأمر شديد الوضوح، فالصلاة على كل أحد حتى المنافقين كان الصحابة يصلون عليهم، اللهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه ربه بعد ذلك وقال: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، وأما الصحابة فكانوا يصلون على كل من قدم للصلاة عليه.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 | 4761 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 | 4393 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 | 4212 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 | 4094 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 | 4045 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 | 4019 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 | 3972 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 | 3916 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 | 3898 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 | 3877 استماع |