شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 568-572


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأصلي وأسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه, وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجنائز]، ونسأل الله تعالى أن يحسن لنا ولكم وللمسلمين جميعاً الختام.

رقم هذا الدرس (194) من أمالي شرح بلوغ المرام .

وهذا يوم الأربعاء، 22 من شهر جمادي الأولى من سنة 1426ه‍.

وقد شرحنا أمس عدداً من الأحاديث المتعلقة بالجنائز والموت، ووصلنا بذلك إلى الحديث رقم (546)، وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية, ليس فيها قميص ولا عمامة ).

تخريج الحديث

والحديث متفق عليه.

فأولاً: رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن، وباب: الكفن بغير قميص، وباب الكفن بغير عمامة, إلى غير ذلك، كما هي عادة البخاري في سياق الحديث في عدة أبواب بحسب دلالاته وفوائده الفقهية.

ورواه مسلم أيضاً في كتاب الجنائز، باب كفن الميت، وأبو داود في الكفن، والترمذي أيضاً في الكفن، والنسائي وابن ماجه ومالك أيضاً في الموطأ كلهم في باب الكفن.

إذاً: هذا الحديث يصلح أن نقول: رواه السبعة، فقد رواه مع الشيخين أصحاب السنن وأحمد ومالك وغيرهم، ورواه أيضاً ابن حبان وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي وسواهم.

معاني ألفاظ الحديث

ثانياً: ما يتعلق بألفاظ الحديث.

قولها رضي الله عنها: ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ). الكفن: هو الثوب الذي يدرج فيه الميت، والكفْن بسكون الفاء: هو فعل التكفين، الكفْن: هو التكفين، وأما الكفَن بفتح الفاء فهو الثوب الذي يدرج فيه الميت ويلف به، فهو يطلق على مجموع الأثواب التي يلف بها الميت .

وقولها: ( كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ) فالأثواب: جمع ثوب، وهو يطلق على البردة وعلى غيرها.

وقولها هنا: ( بيض سحولية ) سَحولية بفتح السين, إشارة إلى مدينة سحول بـاليمن، حيث تصنع تلك الثياب، جهة نجران , ولذلك في بعض الأحاديث: ( نجرانية ). فالسحولية: هي منسوبة إلى سحول , وهي قرية في اليمن تصنع فيها تلك الثياب البيض.

وأما سُحولية بضم السين فقيل: إن المقصود بالسحولية هي: الثياب البيض. وقيل: السحولية هي: الثياب النظيفة، فيكون ذلك وصفاً للثياب.

وعلى الوجه الأول: فهو نسبة إلى البلد التي تصنع فيها تلك الثياب.

وقولها في بعض الروايات: ( ثياب سحولية بيض )، قد يرجح أن المقصود بالسَحولية بفتح السين يعني: الثياب التي جيء بها من مدينة سحول باليمن.

وفي بعض الروايات قالت: ( ثياب سحولية من كرسف ). والكرسف هو القطن.

وقولها رضي الله عنها: ( ليس فيها قميص ولا عمامة ) معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفن في قميص، ولم يكفن في عمامة، وإنما كان مجموع الثياب التي كفن بها ثلاثة فقط، قد يكون واحد منها لأعلى البدن، والثاني لأسفل البدن، والثالث لفافة على البدن كله، وليس في هذه الثياب التي كفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم قميص، القميص الذي كان يلبسه، وليس فيه العمامة التي كان يلفها على رأسه.

وقولها: ( ليس فيها قميص ولا عمامة ) قد يكون نفياً لما يتوهمه بعض الناس، فإنه جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفن أول الأمر في قميص لـعبد الله بن أبي بكر

). وبعد ذلك نزع القميص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأدرج في هذه الثياب البيض السحولية من قطن. وكأن قميص عبد الله بن أبي بكر كان للتنشيف, ولذلك: أخذه -كما في مسلم - عبد الله بن أبي بكر وقال: يكون ثوبي أكفن فيه، ثم قال بعد ذلك: لو كان خيراً لاختاره الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون كفناً له. فأعرض عن أن يكفن فيه؛ ولهذا وقع اللبس عند بعضهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كفن في قميص لهذا السبب.

وذهب بعضهم إلى أن قولها: ( ليس فيها قميص ولا عمامة ) معناه: غير القميص والعمامة. وهذا وجه, ولكنه مرجوح، يعني: أن يكون قولها: ( ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف, ليس فيها قميص ولا عمامة ) يعني: من غير ما أعد القميص والعمامة.

والراجح عن جمهور الأئمة والرواة هو الأول، أن يكون المقصود أنه لم يكن في كفنه لا قميص ولا عمامة. هذا معنى قولها رضي الله عنها.

الأحاديث المعارضة لحديث عائشة رضي الله عنها في تكفين النبي صلى الله عليه وسلم

ثالثاً: ما يتعلق بموضوع الكفن وعدد الثياب التي يكفن فيها الإنسان، فلا شك أن هذا الحديث هو أصح وأضبط حديث في كفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وفيما يكفن فيه الإنسان، وما يعارضه من الأحاديث فهي أحاديث ضعيفة.

على سبيل المثال: حديث علي رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في سبعة أثواب ). فهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وفي سنده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف، ومع ضعفه فهو مخالف للأحاديث الصحيحة؛ ولهذا حكم عليه جماعة من أهل العلم بأنه حديث منكر؛ لأنه من رواية راو ضعيف, ومع ضعفه فإنه مخالف، وقد سبق معنا مراراً أن الضعيف إذا خالف يكون الحديث منكراً، فهذا حديث علي عند أحمد في الكفن بسبعة أثواب.

وأيضاً: هناك حديث آخر يعارض حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفن في ثياب بينها قميص ). وهذا أيضاً ضعيف، ويمكن أن نقول: إنه منكر؛ لأنه من رواية يزيد بن أبي زياد , وهو وإن كان حديثه لا بأس به، إلا أن فيه ضعفاً يسيراً ولا يحتمل تفرده.

ولذلك نقول: إن حديث عائشة رضي الله عنها في الكفن هو أصح ما ورد، وهذا ما نص عليه الإمام الترمذي في صحيحه، قال: حديث عائشة رضي الله عنها هو أصح ما ورد في كفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخذ به أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم, رأوا أن يكفن المرء في ثلاثة أثواب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب.

وهكذا أيضاً ابن عبد البر قال في التمهيد نحو هذا، قال: إن حديث عائشة هو أصح ما ورد في الكفن، وأنه يكفن في ثلاثة أثواب، وأن ما عارضه فهو ضعيف.

عدد الثياب التي يكفن فيها الميت

وقد أخذ بهذا الحديث جمهور أهل العلم -كما أشرنا- من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، أن الإنسان يكفن في ثلاثة أثواب، هذه هي السنة، ولو كفن في أكثر منها أو أقل جاز ما دام ساتراً لبدن الميت، لكن المقصود السنة.

واحتج هؤلاء بحديث عائشة وما يشهد له من الأحاديث في هذا الباب, وهي أصح ما ورد.

وذهب طائفة من أهل العلم: إلى أنه يكفن في ثلاثة أثواب وفي قميص أيضاً ورداء، فقد تكون خمسة أثواب، وهذا ما يختاره المالكية، وهو أيضاً حاصل قول الأحناف، أنه يكفن في خمسة أثواب، وكأنهم أولاً: تأولوا الحديث، أن قولها: ( ليس فيها قميص ولا عمامة )، يعني: غير معدودة فيها، فإذا عددنا القميص والعمامة، يكون الحاصل خمسة أثواب.

وقد يستدلون ببعض الآثار الواردة، وهي كما قلنا ضعيفة, في أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في قميص، وبناءً عليه تكون عائشة رضي الله عنها عدت ثلاثة أثواب فقط وتركت عد الباقي.

ولا شك أن القول الأول هو الراجح, أن السنة أن يكفن الإنسان في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص وليس فيها عمامة.

فوائد الحديث

في حديث الباب فوائد منها:

أولاً: مشروعية أن يكفن الميت في ثلاثة أثواب، وهذا كما قلنا هو السنة للذكر، أما الأنثى: فقد قال أكثر الفقهاء: إنها تكفن في خمسة أثواب؛ لأنها أحوج إلى كمال الستر بعد الممات كما هي في الحياة أحوج إلى ذلك من الرجل .

كذلك من فوائد الحديث: أنه لا يكفن الميت في قميص, وهو الثوب المخيط كما قلنا, الذي يكون من أعلى البدن، وقد يكون إلى أسفله، ويكون مما يلي جسد الإنسان.

ومن فوائده: أنه لا يشرع للميت أن يكفن في عمامة أيضاً، وإنما يكون رأسه مدرجاً في اللفائف تبعاً لبدنه، ولا يمنع أن يلف على رأسه.

كذلك من الفوائد: أن الواجب في الكفن هو ما ستر بدن الميت، ولو أنه كفن في ثوب واحد أجزأه ذلك. ولذلك البخاري رحمه الله بوب في صحيحه: باب من كفن في ثوبين، وخرج حديث ابن عباس الذي جاء معنا أمس في قصة المحرم الذي وقصته راحلته فمات, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين )، وفي رواية: ( في ثوبيه ). فدل على أنه يمكن أن يكفن الميت في ثوبين أيضاً, ويمكن أن يكفن في ثوب واحد، وقد ورد عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: أنه أوصى أن يكفن في ثياب كان يصلي فيها.

وهكذا سعد بن أبي وقاص لما حضرته الوفاة: أمر ببردة كان حضر بها معركة بدر أن توضع في كفنه.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أمر ابنته الصديقة عائشة أن تكفنه في ثوب خلق. فقالت له عائشة: يا أبتاه! إنا موسرون. قال: يا ابنتي! إن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هو للمهلة -وفي رواية- والصديد، يعني: لا يحتاج إلى ثوب جديد, وإنما هو خلق، لكنه أمر أن يغسل رضي الله عنه وأرضاه.

من فوائد الحديث أيضاً: جواز الزيادة على ثلاثة في الكفن، فلو أنه كفن في خمسة أثواب كما يقوله المالكية وبعض الأحناف وبعض الفقهاء جاز ذلك، ولو كفن في أكثر منها جاز ذلك، بشرط: ألا يكون إسرافاً؛ لأن هذه الثياب سوف تودع في التراب .

أيضاً من فوائد الحديث: أن الكفن -وهذا سوف يأتي إشارة إليه- يراعى فيه أن يكون حسناً نظيفاً؛ ولهذا قالت هنا: ( ثلاثة أثواب بيض سحولية ). فيراعى أن يكون الكفن حسناً نظيفاً.

وأخذ بعضهم من الحديث: أنه يستحب أن يكون الكفن من القطن؛ لأنها قالت: ( من كرسف ). وهذا ليس بلازم؛ لأن هذا قد يكون أمراً اتفاقياً، والقطن ليس له خاصية في الكفن، لكن المهم أن يكون الكفن - كما قلنا- أن يكون أبيض, وأن يكون نظيفاً .

أيضاً: ما حكم الكفن في الحرير؟ لا يجوز، نأخذ من الفوائد: أنه لا يجوز الكفن في الحرير؛ لأنه كما يحرم على المسلم لبسه حياً كذلك يحرم كفنه به ميتاً .

فيه: نزع القميص عن الميت كما ذكرنا بالأمس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غسل في ثيابه ثم ألبس قميصاً أو جبة لـعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت منه، ففيه نزع القميص عن الميت.

أما عن حكم كفن المرأة بالحرير فإنه يجوز، كفن المرأة بالحرير جائز؛ لأنه يجوز لها أن تلبسه في الدنيا، وقد لا يكون فيه إسراف، قد يكون ثوب حرير قيمته عادية, وقد يكون مستعملاً لها.

ومن جانب آخر النبي صلى الله عليه وسلم مات يوم الإثنين الثاني من ربيع الأول في أول الصباح، سنة إحدى عشرة، بعد استكمال عشر سنوات من هجرته عليه الصلاة والسلام، ولذلك أخذ بعض الفقهاء فضيلة أن يموت الإنسان يوم الإثنين، وقد ورد عن أبي بكر الصديق أنه كان يتمنى أن يموت يوم الإثنين، ولكن نقول: هذا مما لا مدخل فيه للفضيلة؛ لأنه أمر قدري من الله تعالى وإليه، وكون أبي بكر رضي الله عنه يتمنى بأن يموت في اليوم الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من باب التفاؤل وشدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ورغبته في موافقته حتى في هذا الأمر.

والحديث متفق عليه.

فأولاً: رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن، وباب: الكفن بغير قميص، وباب الكفن بغير عمامة, إلى غير ذلك، كما هي عادة البخاري في سياق الحديث في عدة أبواب بحسب دلالاته وفوائده الفقهية.

ورواه مسلم أيضاً في كتاب الجنائز، باب كفن الميت، وأبو داود في الكفن، والترمذي أيضاً في الكفن، والنسائي وابن ماجه ومالك أيضاً في الموطأ كلهم في باب الكفن.

إذاً: هذا الحديث يصلح أن نقول: رواه السبعة، فقد رواه مع الشيخين أصحاب السنن وأحمد ومالك وغيرهم، ورواه أيضاً ابن حبان وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي وسواهم.

ثانياً: ما يتعلق بألفاظ الحديث.

قولها رضي الله عنها: ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ). الكفن: هو الثوب الذي يدرج فيه الميت، والكفْن بسكون الفاء: هو فعل التكفين، الكفْن: هو التكفين، وأما الكفَن بفتح الفاء فهو الثوب الذي يدرج فيه الميت ويلف به، فهو يطلق على مجموع الأثواب التي يلف بها الميت .

وقولها: ( كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ) فالأثواب: جمع ثوب، وهو يطلق على البردة وعلى غيرها.

وقولها هنا: ( بيض سحولية ) سَحولية بفتح السين, إشارة إلى مدينة سحول بـاليمن، حيث تصنع تلك الثياب، جهة نجران , ولذلك في بعض الأحاديث: ( نجرانية ). فالسحولية: هي منسوبة إلى سحول , وهي قرية في اليمن تصنع فيها تلك الثياب البيض.

وأما سُحولية بضم السين فقيل: إن المقصود بالسحولية هي: الثياب البيض. وقيل: السحولية هي: الثياب النظيفة، فيكون ذلك وصفاً للثياب.

وعلى الوجه الأول: فهو نسبة إلى البلد التي تصنع فيها تلك الثياب.

وقولها في بعض الروايات: ( ثياب سحولية بيض )، قد يرجح أن المقصود بالسَحولية بفتح السين يعني: الثياب التي جيء بها من مدينة سحول باليمن.

وفي بعض الروايات قالت: ( ثياب سحولية من كرسف ). والكرسف هو القطن.

وقولها رضي الله عنها: ( ليس فيها قميص ولا عمامة ) معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفن في قميص، ولم يكفن في عمامة، وإنما كان مجموع الثياب التي كفن بها ثلاثة فقط، قد يكون واحد منها لأعلى البدن، والثاني لأسفل البدن، والثالث لفافة على البدن كله، وليس في هذه الثياب التي كفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم قميص، القميص الذي كان يلبسه، وليس فيه العمامة التي كان يلفها على رأسه.

وقولها: ( ليس فيها قميص ولا عمامة ) قد يكون نفياً لما يتوهمه بعض الناس، فإنه جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفن أول الأمر في قميص لـعبد الله بن أبي بكر

). وبعد ذلك نزع القميص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأدرج في هذه الثياب البيض السحولية من قطن. وكأن قميص عبد الله بن أبي بكر كان للتنشيف, ولذلك: أخذه -كما في مسلم - عبد الله بن أبي بكر وقال: يكون ثوبي أكفن فيه، ثم قال بعد ذلك: لو كان خيراً لاختاره الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون كفناً له. فأعرض عن أن يكفن فيه؛ ولهذا وقع اللبس عند بعضهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كفن في قميص لهذا السبب.

وذهب بعضهم إلى أن قولها: ( ليس فيها قميص ولا عمامة ) معناه: غير القميص والعمامة. وهذا وجه, ولكنه مرجوح، يعني: أن يكون قولها: ( ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف, ليس فيها قميص ولا عمامة ) يعني: من غير ما أعد القميص والعمامة.

والراجح عن جمهور الأئمة والرواة هو الأول، أن يكون المقصود أنه لم يكن في كفنه لا قميص ولا عمامة. هذا معنى قولها رضي الله عنها.

ثالثاً: ما يتعلق بموضوع الكفن وعدد الثياب التي يكفن فيها الإنسان، فلا شك أن هذا الحديث هو أصح وأضبط حديث في كفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وفيما يكفن فيه الإنسان، وما يعارضه من الأحاديث فهي أحاديث ضعيفة.

على سبيل المثال: حديث علي رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في سبعة أثواب ). فهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وفي سنده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف، ومع ضعفه فهو مخالف للأحاديث الصحيحة؛ ولهذا حكم عليه جماعة من أهل العلم بأنه حديث منكر؛ لأنه من رواية راو ضعيف, ومع ضعفه فإنه مخالف، وقد سبق معنا مراراً أن الضعيف إذا خالف يكون الحديث منكراً، فهذا حديث علي عند أحمد في الكفن بسبعة أثواب.

وأيضاً: هناك حديث آخر يعارض حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفن في ثياب بينها قميص ). وهذا أيضاً ضعيف، ويمكن أن نقول: إنه منكر؛ لأنه من رواية يزيد بن أبي زياد , وهو وإن كان حديثه لا بأس به، إلا أن فيه ضعفاً يسيراً ولا يحتمل تفرده.

ولذلك نقول: إن حديث عائشة رضي الله عنها في الكفن هو أصح ما ورد، وهذا ما نص عليه الإمام الترمذي في صحيحه، قال: حديث عائشة رضي الله عنها هو أصح ما ورد في كفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخذ به أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم, رأوا أن يكفن المرء في ثلاثة أثواب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب.

وهكذا أيضاً ابن عبد البر قال في التمهيد نحو هذا، قال: إن حديث عائشة هو أصح ما ورد في الكفن، وأنه يكفن في ثلاثة أثواب، وأن ما عارضه فهو ضعيف.

وقد أخذ بهذا الحديث جمهور أهل العلم -كما أشرنا- من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، أن الإنسان يكفن في ثلاثة أثواب، هذه هي السنة، ولو كفن في أكثر منها أو أقل جاز ما دام ساتراً لبدن الميت، لكن المقصود السنة.

واحتج هؤلاء بحديث عائشة وما يشهد له من الأحاديث في هذا الباب, وهي أصح ما ورد.

وذهب طائفة من أهل العلم: إلى أنه يكفن في ثلاثة أثواب وفي قميص أيضاً ورداء، فقد تكون خمسة أثواب، وهذا ما يختاره المالكية، وهو أيضاً حاصل قول الأحناف، أنه يكفن في خمسة أثواب، وكأنهم أولاً: تأولوا الحديث، أن قولها: ( ليس فيها قميص ولا عمامة )، يعني: غير معدودة فيها، فإذا عددنا القميص والعمامة، يكون الحاصل خمسة أثواب.

وقد يستدلون ببعض الآثار الواردة، وهي كما قلنا ضعيفة, في أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في قميص، وبناءً عليه تكون عائشة رضي الله عنها عدت ثلاثة أثواب فقط وتركت عد الباقي.

ولا شك أن القول الأول هو الراجح, أن السنة أن يكفن الإنسان في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص وليس فيها عمامة.

في حديث الباب فوائد منها:

أولاً: مشروعية أن يكفن الميت في ثلاثة أثواب، وهذا كما قلنا هو السنة للذكر، أما الأنثى: فقد قال أكثر الفقهاء: إنها تكفن في خمسة أثواب؛ لأنها أحوج إلى كمال الستر بعد الممات كما هي في الحياة أحوج إلى ذلك من الرجل .

كذلك من فوائد الحديث: أنه لا يكفن الميت في قميص, وهو الثوب المخيط كما قلنا, الذي يكون من أعلى البدن، وقد يكون إلى أسفله، ويكون مما يلي جسد الإنسان.

ومن فوائده: أنه لا يشرع للميت أن يكفن في عمامة أيضاً، وإنما يكون رأسه مدرجاً في اللفائف تبعاً لبدنه، ولا يمنع أن يلف على رأسه.

كذلك من الفوائد: أن الواجب في الكفن هو ما ستر بدن الميت، ولو أنه كفن في ثوب واحد أجزأه ذلك. ولذلك البخاري رحمه الله بوب في صحيحه: باب من كفن في ثوبين، وخرج حديث ابن عباس الذي جاء معنا أمس في قصة المحرم الذي وقصته راحلته فمات, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين )، وفي رواية: ( في ثوبيه ). فدل على أنه يمكن أن يكفن الميت في ثوبين أيضاً, ويمكن أن يكفن في ثوب واحد، وقد ورد عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: أنه أوصى أن يكفن في ثياب كان يصلي فيها.

وهكذا سعد بن أبي وقاص لما حضرته الوفاة: أمر ببردة كان حضر بها معركة بدر أن توضع في كفنه.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أمر ابنته الصديقة عائشة أن تكفنه في ثوب خلق. فقالت له عائشة: يا أبتاه! إنا موسرون. قال: يا ابنتي! إن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هو للمهلة -وفي رواية- والصديد، يعني: لا يحتاج إلى ثوب جديد, وإنما هو خلق، لكنه أمر أن يغسل رضي الله عنه وأرضاه.

من فوائد الحديث أيضاً: جواز الزيادة على ثلاثة في الكفن، فلو أنه كفن في خمسة أثواب كما يقوله المالكية وبعض الأحناف وبعض الفقهاء جاز ذلك، ولو كفن في أكثر منها جاز ذلك، بشرط: ألا يكون إسرافاً؛ لأن هذه الثياب سوف تودع في التراب .

أيضاً من فوائد الحديث: أن الكفن -وهذا سوف يأتي إشارة إليه- يراعى فيه أن يكون حسناً نظيفاً؛ ولهذا قالت هنا: ( ثلاثة أثواب بيض سحولية ). فيراعى أن يكون الكفن حسناً نظيفاً.

وأخذ بعضهم من الحديث: أنه يستحب أن يكون الكفن من القطن؛ لأنها قالت: ( من كرسف ). وهذا ليس بلازم؛ لأن هذا قد يكون أمراً اتفاقياً، والقطن ليس له خاصية في الكفن، لكن المهم أن يكون الكفن - كما قلنا- أن يكون أبيض, وأن يكون نظيفاً .

أيضاً: ما حكم الكفن في الحرير؟ لا يجوز، نأخذ من الفوائد: أنه لا يجوز الكفن في الحرير؛ لأنه كما يحرم على المسلم لبسه حياً كذلك يحرم كفنه به ميتاً .

فيه: نزع القميص عن الميت كما ذكرنا بالأمس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غسل في ثيابه ثم ألبس قميصاً أو جبة لـعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت منه، ففيه نزع القميص عن الميت.

أما عن حكم كفن المرأة بالحرير فإنه يجوز، كفن المرأة بالحرير جائز؛ لأنه يجوز لها أن تلبسه في الدنيا، وقد لا يكون فيه إسراف، قد يكون ثوب حرير قيمته عادية, وقد يكون مستعملاً لها.

ومن جانب آخر النبي صلى الله عليه وسلم مات يوم الإثنين الثاني من ربيع الأول في أول الصباح، سنة إحدى عشرة، بعد استكمال عشر سنوات من هجرته عليه الصلاة والسلام، ولذلك أخذ بعض الفقهاء فضيلة أن يموت الإنسان يوم الإثنين، وقد ورد عن أبي بكر الصديق أنه كان يتمنى أن يموت يوم الإثنين، ولكن نقول: هذا مما لا مدخل فيه للفضيلة؛ لأنه أمر قدري من الله تعالى وإليه، وكون أبي بكر رضي الله عنه يتمنى بأن يموت في اليوم الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من باب التفاؤل وشدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ورغبته في موافقته حتى في هذا الأمر.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4784 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4394 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4213 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4095 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4021 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3974 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3917 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3900 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3879 استماع