خطب ومحاضرات
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الخوف - حديث 500-503
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
رقم هذا الدرس: (180) من شرح بلوغ المرام، وهذه ليلة الإثنين الأول من شهر ربيع الأول من سنة (1426هـ)، هذا الدرس ينعقد في جامع الراجحي بـبريدة.
تعريف الخوف
والخوف: ضد الأمن.
والمقصود بالخوف هنا: حالة من الفزع أو ترقب العدو، تحمل على الاستعداد، وتمنع من أداء الصلاة وفق صيغتها المشروعة المعتادة.
أدلة مشروعية صلاة الخوف والصيغ الواردة فيها
وأيضاً في آية أخرى في البقرة.
في قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:238-239].
وهنا قوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، قال أحد الشرَّاح: إن الصلاة الوسطى هي صلاة الخوف، واحتج بالآية بعدها: فَإِنْ خِفْتُمْ [البقرة:239].
ونقول: إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وقد كان أول ما نزلت صفة صلاة الخوف كانت في صلاة العصر، على ما هو معروف في السيرة.
وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف عدة مرات، وثبت في ذلك أحاديث صحيحة.
فنقول: إن صفة صلاة الخوف ثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك أجمع العلماء على جوازها للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن اختلف بعض الفقهاء فيما بعد الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن المعروف في غزوة الخندق: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الصلوات، ولم يصلّ صلاة الخوف؛ والسبب في ذلك والله أعلم كما رجحه كثير من أهل العلم، وحرره الإمام ابن القيم في زاد المعاد وغيره: أن صلاة الخوف لم تكن شرعت يومئذ، إنما شرعت بعد ذلك؛ فلذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات في يوم الخندق.
ووردت صيغ عديدة لصلاة الخوف:
ذكر الإمام أحمد منها ستاً أو سبعاً، فقال: صح منها ستة أوجه أو سبعة أوجه، وذكر بعض الفقهاء أنها تصل إلى عشرة أوجه، فقال ابن حزم : إنها تصل إلى أربعة عشر وجهاً، وقال النووي وابن العربي : إنها ستة عشر وجهاً، وأوصلها العراقي -وهو أقصى ما رأيت- إلى سبعة عشر وجهاً، يعني: سبعة عشر صيغة أو هيئة لصلاة الخوف.
كأن أصح هذه الصيغ ما ذكره الإمام أحمد : إنها صحت من ستة أوجه أو سبعة أوجه، وسوف نذكر طرفاً من هذه الوجوه.
الاختلاف في ثبوت صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فالجمهور يرون أن صلاة الخوف باقية ومشروعة عند الحاجة إليها، وهذا مذهب الأئمة الأربعة في أقوالهم المشهورة عنهم: أن صلاة الخوف باقية كلما دعت الحاجة إليها، واستدل هؤلاء بالقرآن الكريم كما ذكرنا الآيتين، واستدلوا ثالثاً بالسنة النبوية، ومن ذلك ما سوف نذكره الآن:
حديث صالح بن خوات بن جبير عن أبيه وهو في الصحيحين، حديث ابن عمر وهو أيضاً في الصحيحين، حديث جابر وهو في الصحيحين .. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في صفة صلاة الخوف.
واستدلوا بالإجماع أيضاً كما ذكر ابن المنذر، وصاحب رحمة الأمة وغيرهم، إجماع العلماء على جواز صلاة الخوف، أو مشروعيتها، وهذا القول هو الراجح.
وثمة قول آخر ذهب إليه أبو يوسف من الحنفية، والمزني من الشافعية: أن صلاة الخوف غير مشروعة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقالوا: إنها كانت جائزة للنبي صلى الله عليه وسلم فحسب، واستدلوا بقوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، فقالوا: هذا نص على أنه يصلي صلاة الخوف ما دام فيهم، يعني: إذا لم يكن فيهم فكأن الحكم يزول حينئذٍ، وهذا استدلال ليس بوجيه؛ لأن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم تشريع وتعليم، ولو كان كل أمر مرهوناً بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وحضوره لبطل جزء كثير من الشريعة.
كما استدلوا أيضاً: بأن صلاة الخوف يعتريها تحرك وذهاب وإياب وعمل كثير مناف للصلاة، فقالوا: إن كونهم مع النبي صلى الله عليه وسلم هذا يخفف من تبعته وأثره، لكن في غير هذا الحال لا يشرع لهم صلاة الخوف.
ولا شك أن القول الأول هو القول المعتمد أن صلاة الخوف مشروعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمنه.
اليوم عندنا باب صلاة الخوف:
والخوف: ضد الأمن.
والمقصود بالخوف هنا: حالة من الفزع أو ترقب العدو، تحمل على الاستعداد، وتمنع من أداء الصلاة وفق صيغتها المشروعة المعتادة.
وقد جاءت صفة الخوف في القرآن الكريم في موضعين من كتاب الله كما في قوله: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ .. [النساء:102]، في سورة النساء.
وأيضاً في آية أخرى في البقرة.
في قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:238-239].
وهنا قوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، قال أحد الشرَّاح: إن الصلاة الوسطى هي صلاة الخوف، واحتج بالآية بعدها: فَإِنْ خِفْتُمْ [البقرة:239].
ونقول: إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وقد كان أول ما نزلت صفة صلاة الخوف كانت في صلاة العصر، على ما هو معروف في السيرة.
وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف عدة مرات، وثبت في ذلك أحاديث صحيحة.
فنقول: إن صفة صلاة الخوف ثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك أجمع العلماء على جوازها للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن اختلف بعض الفقهاء فيما بعد الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن المعروف في غزوة الخندق: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الصلوات، ولم يصلّ صلاة الخوف؛ والسبب في ذلك والله أعلم كما رجحه كثير من أهل العلم، وحرره الإمام ابن القيم في زاد المعاد وغيره: أن صلاة الخوف لم تكن شرعت يومئذ، إنما شرعت بعد ذلك؛ فلذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات في يوم الخندق.
ووردت صيغ عديدة لصلاة الخوف:
ذكر الإمام أحمد منها ستاً أو سبعاً، فقال: صح منها ستة أوجه أو سبعة أوجه، وذكر بعض الفقهاء أنها تصل إلى عشرة أوجه، فقال ابن حزم : إنها تصل إلى أربعة عشر وجهاً، وقال النووي وابن العربي : إنها ستة عشر وجهاً، وأوصلها العراقي -وهو أقصى ما رأيت- إلى سبعة عشر وجهاً، يعني: سبعة عشر صيغة أو هيئة لصلاة الخوف.
كأن أصح هذه الصيغ ما ذكره الإمام أحمد : إنها صحت من ستة أوجه أو سبعة أوجه، وسوف نذكر طرفاً من هذه الوجوه.
وقد اختلف العلماء في ثبوت صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فالجمهور يرون أن صلاة الخوف باقية ومشروعة عند الحاجة إليها، وهذا مذهب الأئمة الأربعة في أقوالهم المشهورة عنهم: أن صلاة الخوف باقية كلما دعت الحاجة إليها، واستدل هؤلاء بالقرآن الكريم كما ذكرنا الآيتين، واستدلوا ثالثاً بالسنة النبوية، ومن ذلك ما سوف نذكره الآن:
حديث صالح بن خوات بن جبير عن أبيه وهو في الصحيحين، حديث ابن عمر وهو أيضاً في الصحيحين، حديث جابر وهو في الصحيحين .. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في صفة صلاة الخوف.
واستدلوا بالإجماع أيضاً كما ذكر ابن المنذر، وصاحب رحمة الأمة وغيرهم، إجماع العلماء على جواز صلاة الخوف، أو مشروعيتها، وهذا القول هو الراجح.
وثمة قول آخر ذهب إليه أبو يوسف من الحنفية، والمزني من الشافعية: أن صلاة الخوف غير مشروعة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقالوا: إنها كانت جائزة للنبي صلى الله عليه وسلم فحسب، واستدلوا بقوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، فقالوا: هذا نص على أنه يصلي صلاة الخوف ما دام فيهم، يعني: إذا لم يكن فيهم فكأن الحكم يزول حينئذٍ، وهذا استدلال ليس بوجيه؛ لأن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم تشريع وتعليم، ولو كان كل أمر مرهوناً بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وحضوره لبطل جزء كثير من الشريعة.
كما استدلوا أيضاً: بأن صلاة الخوف يعتريها تحرك وذهاب وإياب وعمل كثير مناف للصلاة، فقالوا: إن كونهم مع النبي صلى الله عليه وسلم هذا يخفف من تبعته وأثره، لكن في غير هذا الحال لا يشرع لهم صلاة الخوف.
ولا شك أن القول الأول هو القول المعتمد أن صلاة الخوف مشروعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمنه.
سنأخذ اليوم إن شاء الله ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول منها: حديث صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: ( أن طائفة صلت معه -مع النبي صلى الله عليه وسلم- وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم )، متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، قال: ووقع في المعرفة لـابن مندة عن صالح بن خوات عن أبيه.
تخريج الحديث
والمصنف -رحمه الله- أشار إلى رواية ابن مندة في كتاب المعرفة، وهو كتاب مشهور مطبوع، أنه قال: عن صالح بن خوات عن أبيه، يعني: في أصل الرواية التي في الصحيحين: عن صالح بن خوات، عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرواية الأخرى: عن صالح بن خوات عن أبيه.
ولذلك نقول: إن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- كأنه يرجِّح الرواية الثانية: أن الحديث عن صالح بن خوات عن أبيه الذي هو خوات بن جبير، ولكن المتقدمون من الأئمة كانوا يرجحون الوجه الآخر، أن الحديث ليس عن أبيه، وإنما هو عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، والأقرب أنه عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري رضي الله عنه، وهذا الذي رجحه أبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي .. وغيرهما، فهو المعتمد وإن كان الحافظ ابن حجر حاول أن يجمع بين طريقين، فيقول: كلاهما صحيح، لكن الأقوى أن الحديث هو عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة، هذا فيما يتعلق بتخريج الحديث.
ترجمة راوي الحديث
أولاً: صالح بن خوات هذا تابعي، وهو من الثقات الذين خرَّج لهم الأئمة، خرج له البخاري ومسلم كما ترون هنا، وأبو داود والترمذي والنسائي .. وغيرهم وهو ثقة.
أما أبوه فهو: خوات بن جبير، وهو صحابي جليل، وقد شهد أحداً فما بعدها، وقيل: إنه شهد بدراً أيضاً، ومات بعد الأربعين عن نيف وسبعين سنة، وهو روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وقد روى عنه الطبراني وغيره قصة طريفة، قال: ( نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، فدخلت خبائي ثم نظرت فإذا نسوة يتحدثن، يقول: فخرجت فأعجبني حديثهن، فذهبت إلى خبائي ولبست ردائي ثم أتيت وجلست معهن، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا أبا عبد الله أبو عبد الله أبو صالح أبا عبد الله
طبعاً الرواية قد لا تكون بالقوية لكنها يتسامح في إيرادها في هذا السياق.
وهو صالح بن خوات بن جبير بن النعمان الأنصاري المدني .
سهل بن أبي حثمة، أيضاً قلنا: احتمال أن يكون الحديث عن سهل بن أبي حثمة وهو أيضاً أنصاري، ولد تقريباً بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة بثلاث سنوات، فهو من صغار الصحابة ومع ذلك له رواية، وقد كان عمره يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمان سنين كما ذكر الواقدي وغيره، ومات في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
معاني ألفاظ الحديث
قال: ( صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع )، وذات الرقاع يعني: صاحبة الرقاع، والرقاع جمع رقعة، وهي: إما أن تكون موضعاً في نجد، أو أن يكون المقصود كما ذكر أبو موسى وهو ممن شهد هذه الغزوة: أن ذات الرقاع سميت لأنهم كانوا يلفون على أرجلهم الخرق والرقاع وغيرها من الحفى وما أصاب أقدامهم، وكانت هذه الغزوة جهة نجد، يعني: خرج النبي صلى الله عليه وسلم جهة تقريباً الحناكية وما حولها في منطقة غطفان، وهي حوالي تسعين كيلو متر عن المدينة المنورة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أربعمائة ما بين راكب وراجل، ولم يحدث قتال بينه وبينهم، بل تكافوا ثم انصرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: ( طائفة صلت معه )، الطائفة جاء ذكرها في القرآن: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، وكذلك قوله سبحانه: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا [الأعراف:87]، وأيضاً في قوله: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [التوبة:122]، وهي تدل على الفئة أو المجموعة القليلة؛ لأنه قال: مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [التوبة:122]، فدل على أن مجموعة من الفرقة الأعم.
وورد عن ابن عباس قال: [ الطائفة ما بين واحد إلى ألف ]، ولذلك بعض العلماء قالوا: إنه قد يطلق الطائفة على واحد.. وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، وهذا يستخدم في اللغة، يقال: طائفة الثوب، يعني: جزء منه، لكن أغلب ما يطلق الطائفة على اثنين أو ثلاثة.
ولذلك نقول: إنه لو توقف الأمر على واحد كما ذكره ابن حزم وغيره لأجزأ أن يكون واحداً مع الإمام، ولو كانوا أكثر من ذلك فكذلك.
وقوله: (وطائفة وجاه العدو)، يعني: في وجه العدو، وقفت في مواجهة العدو.
وقوله: (ثبت)، يعني: استقر على حاله، ( ثم ثبت جالساً ) يعني: استقر على حاله جالساً حتى سلموا.
الاختلاف في مشروعية صلاة الخوف
هي أولاً: صلاة الخوف وحكمها، وقد ذكرنا الخلاف فيها قبل قليل، وأن الجمهور على مشروعيتها، وبقائها وثباتها خلافاً لمن نفى ذلك من الحنفية كـأبي يوسف أو من الشافعية كـالمزني، وطائفة قليلة من أصحاب الإمام الشافعي، وأن قول الجمهور هو المعتمد في ذلك.
طبعاً! في قول لأهل الشام ذكره ابن رشد في بداية المجتهد، أنه إذا احتاج إلى الخوف فإنه يجمع الصلوات كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق.
صفة صلاة الخوف بذات الرقاع
الطائفة الأولى: تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم.
والطائفة الثانية: تقف في مواجهة العدو.
وكأن العدو هنا قد يكون في غير جهة القبلة، فيقفون للحراسة والمصافة، فيصلي النبي صلى الله عليه وسلم بالطائفة الذين معه ركعة واحدة؛ لأن الصلاة قصر، هم مسافرون أيضاً فالرباعية سوف تصلى عندهم ركعتين، فيصلي النبي صلى الله عليه وسلم بالطائفة الأولى ركعة واحدة ثم يثبت قائماً، يعني: بعدما يقوم للركعة الثانية يطيل فيها، فهؤلاء الناس ينوون الانفصال عن الإمام ويتمون لأنفسهم ركعة ثانية خفيفة، ثم ينصرفون إلى مواجهة العدو ويأخذون مقاعد الطائفة الأولى التي لم تدخل في الصلاة.
والطائفة الأولى تأتي خلف النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك معه الركعة الثانية، فيصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية ويجلس؛ لأنه كملت صلاته صلى الله عليه وسلم بالتشهد، فيقومون هم ينوون الانفصال ويأتون بالركعة التي بقيت، ويسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم بهم.
يعني: ينوون الانفصال لإتمام الركعة التي بقيت عليهم، ثم يرجعون إليه في التشهد فيسلم بهم، هذا وجه، وهو الوجه المشهور المعتمد في الرواية، وهو الذي أخذ به الأئمة كـأحمد والشافعي .
وهناك وجه آخر: نقل عن القاسم بن محمد واعتمده مالك رحمه الله: أنه لا يسلِّم بهم وإنما يسلِّم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلمون لأنفسهم، هذا الوجه الثاني الذي أخذ به الإمام مالك.
وهذه الصفة التي هي صفة صلاة ذات الرقاع معروفة بهذا الاسم، صفة صلاة ذات الرقاع أو صلاة الخوف قد تكون هي أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكره بعضهم- هذه الصفة اختارها الإمام أحمد ومالك والشافعي، إذاً: هي ما اختاره جمهور أهل العلم.
لكن مالكاً رحمه الله اختار أنه يسلم الإمام ولا ينتظرهم، فهم لما انفصلوا عنه، انتهى أمر إمامتهم فيتمون الركعة الثانية لأنفسهم ويسلمون لأنفسهم أيضاً، على حسب رواية القاسم بن محمد ولا يسلم بهم الإمام، وأما الآخرون فيرون أنه ينتظر الإمام حتى يسلم بهم.
الإمام مالك رحمه الله يقول: إن هذا هو القياس، وهو الأصل أنه لا يسلِّم بهم الإمام، بينما الآخرون يقولون: هذا ليس هو القياس وليس هو الأصل، بل إن من العدل أنه كما أن الأولين أدركوا مع الإمام تكبيرة الإحرام وبدءوا الصلاة معه: أن الآخرين يدركون معه السلام فيختمون الصلاة معه، فيكون للأولين حظ التكبيرة وللآخرين حظ السلام مع الإمام.
والأقرب أن الأمر في ذلك واسع؛ لأنه ما دام نووا الانفصال عن الإمام، رجعوا إليه وأدركوه قبل أن يسلم فسلموا معه، فهذا لا يخالف القياس، وإن سلم الإمام واستمروا هم في صلاتهم وسلموا لأنفسهم فهم أيضاً مثل المسبوق الذي فاتته ركعة فقام وقضاها ثم سلم لنفسه، فهذه الجزئية لا تؤثر.
فوائد الحديث
صالح بن خوات بن جبير
هي من أقوى صفات صلاة الخوف، وأنها أقرب ما تكون إلى ما نطق به القرآن الكريم، فإنها تقريباً تشابه ما ذكر الله تعالى في قوله: (( فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ))[النساء:102]، يعني: الذهاب إلى العدو. الفائدة التاسعة: سعة الشريعة، فإن هذا في أمر تعبدي ورد فيه النص، ومع ذلك جاء فيه هذا السعة في تغيير صفة الصلاة، في تغيير اتجاه القبلة في الحركة .. إلى غير ذلك من الأوصاف التي تدل على سعة الشريعة ومراعاتها لتغير الأحوال والظروف. الفائدة العاشرة: الأخذ بالأسباب وأنه واجب، فإن الله سبحانه وتعالى لم يكلهم فقط إلى أن يصلوا، ويقول: ما دام أنتم تصلون تعبدون ربكم وتذكرون ربكم ناموا والملائكة تحرسكم! وإنما قال: ((وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ))[النساء:102]، ثم قال في الآية: (( وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ))[النساء:102]. فالمسلم الذي يظن أنه منصور بمجرد أن يكون مسلماً هو ينازع ويجادل في محكمات القرآن والسنة، فهم الآن في حالة حرب وقتال، ومع ذلك الله سبحانه وتعالى يأمرهم بالاستعداد والاحتياط ويبين لهم: أنه لا ينفع كونك تصلي، ممكن أنه لا يتسلط عليك العدو، بل قد يتسلط عليك وأنت تذكر ربك، فهذا يوجب الأخذ بالأسباب. الفائدة الحادية عشرة: جواز الانفصال عن الإمام لحاجة، وهذه فائدة جليلة! كما انفصل هؤلاء عن الإمام في الجماعة الأولى والجماعة الثانية، وقد يحتاج الإنسان للانفصال عن الإمام، مثل: لو أن الإنسان يصلي مع الإمام ثم بدره البول واحتاج إلى قضاء الحاجة؛ بحيث لا يستطيع إكمال الصلاة، هل يقطع الصلاة حينئذٍ؟ لا! ينتظر؟! لا يستطيع، ماذا يصنع؟ ينوي الانفصال ويتم الصلاة خفيفة، قد يمرض الإنسان، والله إنسان صلى ثم شعر بمغص شديد عنده في الكلية أو في الكبد، أو شيء من هذا القبيل وحسبي أنه محتاج إلى العناية، وإلى طوارئ بسرعة، فهنا ينوي الانفصال عن الإمام. وكذلك لو كان يستطيع أن ينقذ إنساناً أو يحل مشكلة ولا يمكن الانتظار إلى نهاية الصلاة، فحينئذٍ له أن ينوي الانفصال عن الإمام ويكمل الصلاة لنفسه. بل أشد من ذلك: الأنصاري لما صلى معمعاذ
وأطال ماذا صنع الرجل؟ نوى الانفصال وأكمل الصلاة لنفسه. الفائدة الثانية عشرة: أن هذه الصفة وما شابهها تكون في كل حالة خوف: يعني: خوف من العدو سواءً كان بأن نطرد العدو وأن نلحق العدو نخشى أن يفوتنا، أو العدو يلحقنا ونخشى أن يدركنا هذا خوف، أو قد يكون ليس بالضرورة عدو بشري، قد يكون سبعاً أو حيواناً أو حية، أو خاف -مثلاً- من أن يلحقه مطر أو طوفان أو بركان، أو شيء من هذه الأشياء المخوفة، فكل ذلك يدخل فيه فعل هذا إلا أن يكون في معصية، مثل إنسان يقاتل قتال معصية هل يصلي صلاة الخوف؟ لا؛ لأن القتال هذا مذموم ولا رخصة فيه. الفائدة الرابعة عشرة: أن ذلك يتحقق في كل طائفة كما قلنا: وقد يقال: أقل الطائفة اثنان أو ثلاثة على خلاف بينهم، وبعضهم قال: هذا يجزي، بل لواحد وهو الأقرب. الفائدة الخامسة عشرة: أن المعول عليه في ذلك حصول الثقة في مدافعة العدو: يعني: الطائفة التي لا يلزم أن يكون العدد متساوياً قد يكون أمام العدو مائة، والذين يصلون مع الإمام خمسين أو العكس، والمعول عليه هو حصول الثقة، بمعنى: أن المجموعة التي تواجه العدو قادرة على صد أي هجوم محتمل. الفائدة السادسة عشرة: أنه لا يجوز تقسيم الجيش إلى أربع فرق -مثلاً- أو ثلاث فرق، وإنما إلى طائفتين كما نصت عليه الآية الكريمة ونص عليه الحديث، طيب لو كانت صلاة المغرب ممكن الإمام يقسمهم إلى ثلاث، بحيث كل مجموعة تكون أدركت ركعة، لا.. وإنما لابد أن يكونوا طائفتين، ولعله في صلاة المغرب يأتي فرصة لمزيد من التفصيل. الفائدة السابعة عشرة: أن ذلك وإن كان الحديث في السفر إلا أن صلاة الخوف تكون في الحضر وتكون في السفر، فيجوز أن الإنسان يصلي صلاة الخوف في الحضر مثلما إذا هاجمهم عدو، ولكن في الحضر لا يقصرون. الفائدة الثامنة عشرة: أن ذلك يمكن أن يكون في صلاة الجمعة: يعني: يصلي بهؤلاء ركعة ثم يتمون، ويصلي بالمجموعة الثانية ركعة ثم يتمون. الفائدة التاسعة عشرة: أن هذه أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما هو ظاهر من السياق: (ابن عمر
: [ فإذا اشتد الخوف صلوا رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبلها ].إذاً: هذا الحديث متفق عليه وقد رواه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي: باب غزوة ذات الرقاع، ورواه مسلم أيضاً في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب صلاة الخوف، ورواه أبو داود في السفر، والنسائي في صلاة الخوف، والبيهقي .. وغيرهم.
والمصنف -رحمه الله- أشار إلى رواية ابن مندة في كتاب المعرفة، وهو كتاب مشهور مطبوع، أنه قال: عن صالح بن خوات عن أبيه، يعني: في أصل الرواية التي في الصحيحين: عن صالح بن خوات، عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرواية الأخرى: عن صالح بن خوات عن أبيه.
ولذلك نقول: إن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- كأنه يرجِّح الرواية الثانية: أن الحديث عن صالح بن خوات عن أبيه الذي هو خوات بن جبير، ولكن المتقدمون من الأئمة كانوا يرجحون الوجه الآخر، أن الحديث ليس عن أبيه، وإنما هو عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، والأقرب أنه عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري رضي الله عنه، وهذا الذي رجحه أبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي .. وغيرهما، فهو المعتمد وإن كان الحافظ ابن حجر حاول أن يجمع بين طريقين، فيقول: كلاهما صحيح، لكن الأقوى أن الحديث هو عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة، هذا فيما يتعلق بتخريج الحديث.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 | 4784 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 | 4394 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 | 4213 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 | 4095 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 | 4047 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 | 4021 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 | 3974 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 | 3917 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 | 3900 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 | 3879 استماع |