شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة - حديث 493-499


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

هذا الدرس رقمه (178)، من أمالي شرح بلوغ المرام في هذه الليلة، ليلة الإثنين (18/صفر/1426هـ).

وأيضاً في هذه الليلة إن شاء الله سنحاول أن نأتي على ما تبقى من الأحاديث في باب صلاة الجمعة؛ لأن غالبها أحاديث إما أن تكون مرت معنا فيما سبق، أو مرت معنا مسائلها، أو هي أحاديث ضعيفة ليس فيها مباحث كثيرة.

فالحديث الأول عندنا هو: حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات كل جمعة )، والمصنف رحمه الله خرج هذا الحديث، فقال: رواه البزار بإسناد لين. طبعاً الإسناد اللين معناه أنه ضعيف.

تخريج الحديث

الحديث رواه البزار في مسنده بسند معروف، وفي سنده خالد بن يوسف بن خالد السمتي وهو وأبوه ضعيفان، فهو ضعيف، وأبوه ضعيف جداً بل هو متهم، وهو وإن كان من الفقهاء إلا أن من أهل العلم من اتهمه، حتى نقل عن يحيى بن معين أنه كان يقول عنه: زنديق، والكثير من الأئمة تكلموا فيه، فقالوا: ليس بثقة ولا مأمون إلى غير ذلك.

ونحن نسوق هذه العبارات، ونود أن نذكر أن هذه العبارات من أئمة وعلماء وفي مقام الجرح والتعديل، ومعرفة الصحيح والضعيف من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس فيها حجة لأن يتعلم الطالب الجرأة على الناس واستخدام مثل هذه الألفاظ والعبارات في غير محلها:

فشتان ما بين اليزيدين في الندى

فلذلك أنبه إلى أهمية التوقي في العبارات، وكون الإنسان يقرأ مثل هذه الألفاظ لا يعني أنه يجرؤ عليها أو يستخف بها.

إضافة إلى مجموعة من الضعفاء والمجاهيل في الإسناد من أبناء وأحفاد سمرة بن جندب .

فالخلاصة: أن الحديث ليس فقط فيه لين كما قال المصنف، بل هو شديد الضعف، وقد رواه الطبراني أيضاً بالإسناد نفسه، وزاد: ( والمسلمين والمسلمات ).

معاني ألفاظ الحديث

قوله في الحديث: (يستغفر) يعني: يطلب المغفرة لهم، والأقرب أن هذا محمول على أي حال، متى يستغفر لهم؟

في خطبة الجمعة؛ لأنها هي التي يسمع بها دعاء الخطيب، بينما لو استغفر له في صلاته لم يكن هذا معلوماً.

وأيضاً: لأن الخطبة محل إجابة كما سبق معنا إحدى الروايات في ساعة الإجابة أنها من حين يدخل الإمام للخطبة إلى أن تقضى الصلاة.

والاستغفار: مأخوذ من الغفر وهو الستر، ومنه المغفر، وهو الذي يلبسه المقاتل ليستر به بدنه، فالغفر إذاً هو الستر، واستعير لمعنى محو الذنوب وإزالة أثرها عن الإنسان.

الدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات في خطبة الجمعة

في الحديث مسألة فقهية يسيرة، وهي مسألة الدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات في خطبة الجمعة، وما هو حكمها؟

وقد ذكر ذلك كثير من الفقهاء كالشافعية والمالكية والأحناف في كتبهم: أنه يستحب ويسن أن يدعو الخطيب للمؤمنين والمؤمنات في خطبته، فعلى هذا القول الدعاء لهم حكمه أنه سنة أو مستحب.

ومن أدلتهم: حديث الباب، وهو حديث واه لا يحتج بمثله في الأحكام الشرعية.

ومنها: ما رواه أو ذكره ابن شهاب الزهري بلاغاً، قال: ( بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيجلس على المنبر إلى قوله: في الخطبة الثانية استغفر ثم نزل فصلى )، وقوله: (استغفر) يحتمل أن يكون استغفر صلى الله عليه وسلم لنفسه ولغيره كما أمره ربه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وهذا الحديث مرسل كما هو واضح قد رواه أبو داود وغيره، وهو من البلاغات المنقطعة التي أيضاً لا تثبت أسانيدها، وابن القيم رحمه الله وغيره من أهل العلم ذكروا هذا مطلقاً دون أن يسوقوا له دليلاً.

إذاً: هذا هو القول الأول أنها سنة أو مشروع.

والواقع أن هذا القول بالسنية يمكن أن يقال: إنه بالاتفاق يشرع للخطيب أن يدعو، فالخطبة من مقاصدها الدعاء، فلذلك الدعاء أن يدعو الخطيب لنفسه ولغيره فالأصل أنه مشروع، ولهذا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنه من دعا لقوم ثم خص نفسه دونهم فقد خانهم ).

فمن الطبيعي أن الخطيب إذا دعا سوف يدعو لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات، لكن يدعو بجوامع الدعاء، وفرق بين هذا وبين أن يكون هناك تنصيص على صيغة دعاء يقال إنها سنة يستحب أن يحافظ الخطيب عليها، بمعنى: أن يقول مثلاً: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات بمقتضى هذا الحديث، ولذلك بعضهم ذكر الإجماع كما في الإنصاف وغيره، قال: بلا نزاع، يعني: أصل الدعاء ومشروعيته لعامة المسلمين من غير تحديده أو تقييده بلفظ أو نص.

القول الثاني: أن ذلك ركن في الخطبة، وهذا منقول عن الشافعية يرون أن الدعاء ركن.

والقول بالركنية بعيد جداً؛ لأنه السنية الآن لم تثبت بخصوص هذا الدعاء فكيف نقول بالوجوب أو بالركنية التي لو لم يفعلها الإنسان لبطلت خطبته؟ بل الدعاء كله لا يصح أن يكون ركناً، والمقصود الأصلي في الخطبة هو الذكر والوعظ كما في قوله سبحانه، وكما ذكرنا سابقاً: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].

وقد ذكر بعض الشافعية في حجتهم أن هذا هو المنقول أو المأثور عن السلف.

وفي الواقع أنهم لم يذكروا من من السلف يؤثر وينقل عنه القول بالركنية أو التزام هذا الدعاء، وحتى لو أنهم التزموا هذا الدعاء فإنه أبعد ما يكون عن أن يوصف بأنه ركن في الخطبة.

إذاً: القول بالركنية قول بعيد جداً.

والصواب: أنه حتى السنية لا نقول بسنية هذا الدعاء بلفظه، لكن نقول: من سنن الخطبة الدعاء، ومن سنن الدعاء أن يدعو بالجوامع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات .

الدعاء لولي الأمر في خطبة الجمعة

يلحق بهذا أيضاً مسألة ثانية، وهي قد تكون أهم من الأولى: مسألة الدعاء لولي الأمر في الخطبة، ما هو حكمها؟

وهذه مسألة أيضاً خلافية تكلم فيها الأئمة، وممن تكلم فيها الإمام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة وغيره، والفقهاء في مسألة الدعاء للإمام ولولي الأمر في الخطبة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن ذلك مستحب، وهذا قول المالكية وبعض الحنابلة، ولذلك قال في المغني: إن دعا الإمام لسلطان المسلمين فحسن، ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يقول: لو كان لي دعوة مستجابة لصرفتها إلى السلطان. ولا أدري عن صحة هذا النقل عنه، ولكن ورد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يدعو في الخطبة لـأبي بكر وعمر، وهذا مما ذكره ابن تيمية وغيره، وذكره ابن قدامة في المغني.

وورد أن منهم من أنكر عليه أنه كان يقدم عمر على أبي بكر في دعائه ولم ينكروا عليه أصل الدعاء، فهذا من الأدلة النقلية.

قد يستدل لهم من الناحية العقلية: بأن الدعاء يكون بحسب الأهمية، وصلاح حال ولي الأمر تصلح به حال الأمة كلها، ولذلك كان الدعاء له مهماً لهذا المأخذ.

القول الثاني: أن الدعاء لولي الأمر في خطبة الجمعة جائز، وهذا قول الشافعية واختاره الإمام النووي كما في المجموع، وهو أيضاً المعتمد عند الحنابلة.

وأدلة هؤلاء قالوا: أصل الدعاء لمعين جائز، يعني: لو أنك في صلاة الفريضة مثلاً في السجود ودعوت لفلان أو فلان بأسمائهم لجاز ذلك، ولو دعوت لأحد لا بعينه لكن بوصفه كان جائزاً أيضاً.

ومن دعاء القرآن رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [إبراهيم:41]، فقالوا: إنه كما يجوز أن تدعو لشخص بعينه، أو تدعو لوالدك، يجوز أن تدعو لولي الأمر في الخطبة.

القول الثالث: أن ذلك غير مشروع، بل قد يصرح بعضهم ببدعيته كما ذكر ذلك الإمام الشاطبي من المالكية وغيره، وهو قول عند بعض الشافعية وبعض المالكية: يرون عدم مشروعية الدعاء للسلطان أو ولي الأمر في الصلاة.

ومن أدلتهم: أثر عن عطاء بن أبي رباح فقيه أهل مكة رحمه الله أنه: قيل له، يعني: عن الذي يدعو به الناس في الخطبة -في وقته يعني- وكان الخطيب يدعو لولي الأمر أو شيء من هذا القبيل، ( فقيل له: هل كان هذا مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. إنما هذا محدث، وإنما كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً ووعظاً )، فقالوا: إن عطاء وصف هذا الدعاء بأنه محدث، وأثر عطاء عند ابن أبي شيبة والبيهقي والنووي يقول: إسناده صحيح.

وقد يقال: يعترض على كلام عطاء بأنه ثبت الدعاء عن أبي موسى كما ذكرناه قبل قليل، وأنه دعا لـأبي بكر وعمر، فلا يكون الدعاء بذاته محدثاً، وإن كنت سأوضح بعض هذه النقطة.

إذاً المسألة هذه فيها ثلاثة أقوال:

إما أنه: مستحب.

أو أنه: جائز ومباح.

أو أنه: غير مشروع أو مبتدع.

القول الراجح في هذه المسألة:

أولاً: أقول: إنه ينبغي أن تناقش هذه المسألة بهدوء ولا يكون فيها ما هو خارج البحث العلمي؛ لأن كثيراً من الناس لا يدخلون على المسائل باعتدال وإنصاف فلا يصلون إلى الصواب، فيدخل إنسان مثلاً وهو من شدة محبته وولائه لولي الأمر يريد أن يعزز مقامه بكل وسيلة، فيشتد في ذلك حتى إنه ينكر على من لم يدع، وكأن الدعاء لم يعد سنة أو مباحاً، وإنما تحول إلى واجب ينكر على من لم يفعله، وهذا نوع من الدخول على المسائل العلمية بروح غير علمية وغير محايدة.

وفي الطرف الآخر: من الناس من يكون عنده نوع من الكراهية أو الحنق على الحاكم أو السلطان، بحيث إنه لا يحب أن يذكر إلا بالسوء، فإذا وجد من يدعو له تبرم من ذلك وتضايق، وإذا بحث في المسألة بحثها بحث الذي يريد أن يثبت عدم مشروعية الدعاء.

والذي أراه: أن البحث العلمي كما رأيتموه يقتضي أنها مسألة من مسائل الفروع التي ينظر فيها بالأدلة، وإذا نظرت لم تجد في المسألة أدلة لا في الإثبات ولا في النفي، فبقيت هذه المسألة على أصل الفسحة الشرعية التي إن اقتضت المصلحة الدعاء دعا وإن اقتضت المصلحة عدم الدعاء لم يدع، وإن دعا شخص لم ينكر عليه، وإن ترك آخر لم ينكر عليه.

فنقول: إن تصنيف الخطباء أو استدعاءهم أحياناً حتى؛ لأن فلاناً دعا أو فلاناً لم يدع، أو تجنبهم لهذا السبب ليس بجيد، والأولى والأفضل أن تبقى هذه المسألة على سهولتها وسعتها وعفويتها، ولو عولجت كثير من هذه المسائل بهذه الطريقة لزال أكثر الخلاف.

الأمر الثاني: أن هذه المسألة، مسألة الدعاء يقصد بها ما كان دعاءً صادقاً لله سبحانه وتعالى، أما إذا تحولت إلى غير ذلك، فهذا قد يكون هو مراد عطاء وغيره، فأحياناً تسمع خطيباً يدعو وقد يكون من دعائه أن يدعو مثلاً للمسلمين لحكامهم وشعوبهم ورعاتهم ورعيتهم وكبارهم وصغارهم وعامتهم وخاصتهم، فلا أحد يتبرم من هذا الدعاء، لكن الناس قد يتبرمون أحياناً من الإفراط في الدعاء الذي قد يتحول من دعاء إلى ثناء، ويصبح فيه نوع من الإطراء.

فمثلاً: إذا دعا الإنسان ثم بدأ يعدد مآثر من يدعو له على ما فعله وعلى وعلى وعلى وعلى وعلى، قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ [الحجرات:16]، هذا معلوم لله سبحانه وتعالى إن كان حصل، لكن بالنسبة للناس قد يرون أن هذا فيه تزيد وإفراط.

فالدعاء يعني: يدعى لكل من في صلاحه صلاح للأمة وللمسلمين، يدعى له بالصلاح، بالهداية، بالتوفيق، بالرحمة، بالمغفرة، بالمعونة والتسديد، وما أشبه ذلك من الأدعية المناسبة، ولو أن الأمور كانت عند هذا القدر لأمكن تلافي الموضوع.

طبعاً الحديث؛ لأنه كما قلت لك: حديث ضعيف فليس ثمة فائدة أو نفع من تتبع ما قد يكون في الحديث من الفوائد الفقهية؛ لأنه كما ذكرت لك.

الحديث رواه البزار في مسنده بسند معروف، وفي سنده خالد بن يوسف بن خالد السمتي وهو وأبوه ضعيفان، فهو ضعيف، وأبوه ضعيف جداً بل هو متهم، وهو وإن كان من الفقهاء إلا أن من أهل العلم من اتهمه، حتى نقل عن يحيى بن معين أنه كان يقول عنه: زنديق، والكثير من الأئمة تكلموا فيه، فقالوا: ليس بثقة ولا مأمون إلى غير ذلك.

ونحن نسوق هذه العبارات، ونود أن نذكر أن هذه العبارات من أئمة وعلماء وفي مقام الجرح والتعديل، ومعرفة الصحيح والضعيف من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس فيها حجة لأن يتعلم الطالب الجرأة على الناس واستخدام مثل هذه الألفاظ والعبارات في غير محلها:

فشتان ما بين اليزيدين في الندى

فلذلك أنبه إلى أهمية التوقي في العبارات، وكون الإنسان يقرأ مثل هذه الألفاظ لا يعني أنه يجرؤ عليها أو يستخف بها.

إضافة إلى مجموعة من الضعفاء والمجاهيل في الإسناد من أبناء وأحفاد سمرة بن جندب .

فالخلاصة: أن الحديث ليس فقط فيه لين كما قال المصنف، بل هو شديد الضعف، وقد رواه الطبراني أيضاً بالإسناد نفسه، وزاد: ( والمسلمين والمسلمات ).

قوله في الحديث: (يستغفر) يعني: يطلب المغفرة لهم، والأقرب أن هذا محمول على أي حال، متى يستغفر لهم؟

في خطبة الجمعة؛ لأنها هي التي يسمع بها دعاء الخطيب، بينما لو استغفر له في صلاته لم يكن هذا معلوماً.

وأيضاً: لأن الخطبة محل إجابة كما سبق معنا إحدى الروايات في ساعة الإجابة أنها من حين يدخل الإمام للخطبة إلى أن تقضى الصلاة.

والاستغفار: مأخوذ من الغفر وهو الستر، ومنه المغفر، وهو الذي يلبسه المقاتل ليستر به بدنه، فالغفر إذاً هو الستر، واستعير لمعنى محو الذنوب وإزالة أثرها عن الإنسان.

في الحديث مسألة فقهية يسيرة، وهي مسألة الدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات في خطبة الجمعة، وما هو حكمها؟

وقد ذكر ذلك كثير من الفقهاء كالشافعية والمالكية والأحناف في كتبهم: أنه يستحب ويسن أن يدعو الخطيب للمؤمنين والمؤمنات في خطبته، فعلى هذا القول الدعاء لهم حكمه أنه سنة أو مستحب.

ومن أدلتهم: حديث الباب، وهو حديث واه لا يحتج بمثله في الأحكام الشرعية.

ومنها: ما رواه أو ذكره ابن شهاب الزهري بلاغاً، قال: ( بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيجلس على المنبر إلى قوله: في الخطبة الثانية استغفر ثم نزل فصلى )، وقوله: (استغفر) يحتمل أن يكون استغفر صلى الله عليه وسلم لنفسه ولغيره كما أمره ربه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وهذا الحديث مرسل كما هو واضح قد رواه أبو داود وغيره، وهو من البلاغات المنقطعة التي أيضاً لا تثبت أسانيدها، وابن القيم رحمه الله وغيره من أهل العلم ذكروا هذا مطلقاً دون أن يسوقوا له دليلاً.

إذاً: هذا هو القول الأول أنها سنة أو مشروع.

والواقع أن هذا القول بالسنية يمكن أن يقال: إنه بالاتفاق يشرع للخطيب أن يدعو، فالخطبة من مقاصدها الدعاء، فلذلك الدعاء أن يدعو الخطيب لنفسه ولغيره فالأصل أنه مشروع، ولهذا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنه من دعا لقوم ثم خص نفسه دونهم فقد خانهم ).

فمن الطبيعي أن الخطيب إذا دعا سوف يدعو لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات، لكن يدعو بجوامع الدعاء، وفرق بين هذا وبين أن يكون هناك تنصيص على صيغة دعاء يقال إنها سنة يستحب أن يحافظ الخطيب عليها، بمعنى: أن يقول مثلاً: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات بمقتضى هذا الحديث، ولذلك بعضهم ذكر الإجماع كما في الإنصاف وغيره، قال: بلا نزاع، يعني: أصل الدعاء ومشروعيته لعامة المسلمين من غير تحديده أو تقييده بلفظ أو نص.

القول الثاني: أن ذلك ركن في الخطبة، وهذا منقول عن الشافعية يرون أن الدعاء ركن.

والقول بالركنية بعيد جداً؛ لأنه السنية الآن لم تثبت بخصوص هذا الدعاء فكيف نقول بالوجوب أو بالركنية التي لو لم يفعلها الإنسان لبطلت خطبته؟ بل الدعاء كله لا يصح أن يكون ركناً، والمقصود الأصلي في الخطبة هو الذكر والوعظ كما في قوله سبحانه، وكما ذكرنا سابقاً: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].

وقد ذكر بعض الشافعية في حجتهم أن هذا هو المنقول أو المأثور عن السلف.

وفي الواقع أنهم لم يذكروا من من السلف يؤثر وينقل عنه القول بالركنية أو التزام هذا الدعاء، وحتى لو أنهم التزموا هذا الدعاء فإنه أبعد ما يكون عن أن يوصف بأنه ركن في الخطبة.

إذاً: القول بالركنية قول بعيد جداً.

والصواب: أنه حتى السنية لا نقول بسنية هذا الدعاء بلفظه، لكن نقول: من سنن الخطبة الدعاء، ومن سنن الدعاء أن يدعو بالجوامع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات .

يلحق بهذا أيضاً مسألة ثانية، وهي قد تكون أهم من الأولى: مسألة الدعاء لولي الأمر في الخطبة، ما هو حكمها؟

وهذه مسألة أيضاً خلافية تكلم فيها الأئمة، وممن تكلم فيها الإمام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة وغيره، والفقهاء في مسألة الدعاء للإمام ولولي الأمر في الخطبة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن ذلك مستحب، وهذا قول المالكية وبعض الحنابلة، ولذلك قال في المغني: إن دعا الإمام لسلطان المسلمين فحسن، ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يقول: لو كان لي دعوة مستجابة لصرفتها إلى السلطان. ولا أدري عن صحة هذا النقل عنه، ولكن ورد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يدعو في الخطبة لـأبي بكر وعمر، وهذا مما ذكره ابن تيمية وغيره، وذكره ابن قدامة في المغني.

وورد أن منهم من أنكر عليه أنه كان يقدم عمر على أبي بكر في دعائه ولم ينكروا عليه أصل الدعاء، فهذا من الأدلة النقلية.

قد يستدل لهم من الناحية العقلية: بأن الدعاء يكون بحسب الأهمية، وصلاح حال ولي الأمر تصلح به حال الأمة كلها، ولذلك كان الدعاء له مهماً لهذا المأخذ.

القول الثاني: أن الدعاء لولي الأمر في خطبة الجمعة جائز، وهذا قول الشافعية واختاره الإمام النووي كما في المجموع، وهو أيضاً المعتمد عند الحنابلة.

وأدلة هؤلاء قالوا: أصل الدعاء لمعين جائز، يعني: لو أنك في صلاة الفريضة مثلاً في السجود ودعوت لفلان أو فلان بأسمائهم لجاز ذلك، ولو دعوت لأحد لا بعينه لكن بوصفه كان جائزاً أيضاً.

ومن دعاء القرآن رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [إبراهيم:41]، فقالوا: إنه كما يجوز أن تدعو لشخص بعينه، أو تدعو لوالدك، يجوز أن تدعو لولي الأمر في الخطبة.

القول الثالث: أن ذلك غير مشروع، بل قد يصرح بعضهم ببدعيته كما ذكر ذلك الإمام الشاطبي من المالكية وغيره، وهو قول عند بعض الشافعية وبعض المالكية: يرون عدم مشروعية الدعاء للسلطان أو ولي الأمر في الصلاة.

ومن أدلتهم: أثر عن عطاء بن أبي رباح فقيه أهل مكة رحمه الله أنه: قيل له، يعني: عن الذي يدعو به الناس في الخطبة -في وقته يعني- وكان الخطيب يدعو لولي الأمر أو شيء من هذا القبيل، ( فقيل له: هل كان هذا مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. إنما هذا محدث، وإنما كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً ووعظاً )، فقالوا: إن عطاء وصف هذا الدعاء بأنه محدث، وأثر عطاء عند ابن أبي شيبة والبيهقي والنووي يقول: إسناده صحيح.

وقد يقال: يعترض على كلام عطاء بأنه ثبت الدعاء عن أبي موسى كما ذكرناه قبل قليل، وأنه دعا لـأبي بكر وعمر، فلا يكون الدعاء بذاته محدثاً، وإن كنت سأوضح بعض هذه النقطة.

إذاً المسألة هذه فيها ثلاثة أقوال:

إما أنه: مستحب.

أو أنه: جائز ومباح.

أو أنه: غير مشروع أو مبتدع.

القول الراجح في هذه المسألة:

أولاً: أقول: إنه ينبغي أن تناقش هذه المسألة بهدوء ولا يكون فيها ما هو خارج البحث العلمي؛ لأن كثيراً من الناس لا يدخلون على المسائل باعتدال وإنصاف فلا يصلون إلى الصواب، فيدخل إنسان مثلاً وهو من شدة محبته وولائه لولي الأمر يريد أن يعزز مقامه بكل وسيلة، فيشتد في ذلك حتى إنه ينكر على من لم يدع، وكأن الدعاء لم يعد سنة أو مباحاً، وإنما تحول إلى واجب ينكر على من لم يفعله، وهذا نوع من الدخول على المسائل العلمية بروح غير علمية وغير محايدة.

وفي الطرف الآخر: من الناس من يكون عنده نوع من الكراهية أو الحنق على الحاكم أو السلطان، بحيث إنه لا يحب أن يذكر إلا بالسوء، فإذا وجد من يدعو له تبرم من ذلك وتضايق، وإذا بحث في المسألة بحثها بحث الذي يريد أن يثبت عدم مشروعية الدعاء.

والذي أراه: أن البحث العلمي كما رأيتموه يقتضي أنها مسألة من مسائل الفروع التي ينظر فيها بالأدلة، وإذا نظرت لم تجد في المسألة أدلة لا في الإثبات ولا في النفي، فبقيت هذه المسألة على أصل الفسحة الشرعية التي إن اقتضت المصلحة الدعاء دعا وإن اقتضت المصلحة عدم الدعاء لم يدع، وإن دعا شخص لم ينكر عليه، وإن ترك آخر لم ينكر عليه.

فنقول: إن تصنيف الخطباء أو استدعاءهم أحياناً حتى؛ لأن فلاناً دعا أو فلاناً لم يدع، أو تجنبهم لهذا السبب ليس بجيد، والأولى والأفضل أن تبقى هذه المسألة على سهولتها وسعتها وعفويتها، ولو عولجت كثير من هذه المسائل بهذه الطريقة لزال أكثر الخلاف.

الأمر الثاني: أن هذه المسألة، مسألة الدعاء يقصد بها ما كان دعاءً صادقاً لله سبحانه وتعالى، أما إذا تحولت إلى غير ذلك، فهذا قد يكون هو مراد عطاء وغيره، فأحياناً تسمع خطيباً يدعو وقد يكون من دعائه أن يدعو مثلاً للمسلمين لحكامهم وشعوبهم ورعاتهم ورعيتهم وكبارهم وصغارهم وعامتهم وخاصتهم، فلا أحد يتبرم من هذا الدعاء، لكن الناس قد يتبرمون أحياناً من الإفراط في الدعاء الذي قد يتحول من دعاء إلى ثناء، ويصبح فيه نوع من الإطراء.

فمثلاً: إذا دعا الإنسان ثم بدأ يعدد مآثر من يدعو له على ما فعله وعلى وعلى وعلى وعلى وعلى، قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ [الحجرات:16]، هذا معلوم لله سبحانه وتعالى إن كان حصل، لكن بالنسبة للناس قد يرون أن هذا فيه تزيد وإفراط.

فالدعاء يعني: يدعى لكل من في صلاحه صلاح للأمة وللمسلمين، يدعى له بالصلاح، بالهداية، بالتوفيق، بالرحمة، بالمغفرة، بالمعونة والتسديد، وما أشبه ذلك من الأدعية المناسبة، ولو أن الأمور كانت عند هذا القدر لأمكن تلافي الموضوع.

طبعاً الحديث؛ لأنه كما قلت لك: حديث ضعيف فليس ثمة فائدة أو نفع من تتبع ما قد يكون في الحديث من الفوائد الفقهية؛ لأنه كما ذكرت لك.

الحديث الذي بعده ورقمه (469): عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس ). يعني: في خطبة الجمعة. ‏

تخريج الحديث

المصنف يقول: رواه أبو داود وأصله في صحيح مسلم.

وقد سبق معنا حديث جابر في صحيح مسلم، فقد رواه مسلم في صحيحه بلفظ: ( كانت خطبته قصداً وصلاته قصداً )، ومر معنا، وفيها في الزيادة هذه الكلمات: ( آيات من القرآن الكريم )، عند أبي داود، كما رواه أبو داود في الصلاة باب الخطبة على قوس أو عصا، ورواه أحمد في مسنده أيضاً وعبد الرزاق وابن المنذر وغيرهم.

هذا الحديث طبعاً سنده جيد كما قلنا؛ لأنه سند مسلم رضي الله عنه، لكن بدون هذه الزيادة، فهل نقول: إن هذه الزيادة صحيحة؛ لأنها بإسناد مسلم ؟

هذا له وجه، وقد يقال: إن مسلماً رحمه الله تجنب إخراجها لسبب عنده.

معاني ألفاظ الحديث

قوله رضي الله عنه: (يذكر الناس) من التذكير والذكرى، وهي ضد النسيان، والمقصود بها هنا الموعظة، ولذلك نقول: إن المقصود من الخطبة هو التذكير كما ذكرناه قبل قليل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها القرآن كما سبق في قراءة سورة: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1].

حكم قراءة شيء من القرآن في خطبة الجمعة

والشاهد طبعاً من الحديث قوله: ( يقرأ آيات من القرآن )، ولذلك نبحث مسألة قراءة شيء من القرآن في خطبة الجمعة، وما هو حكمه: هل هو واجب أم ليس بواجب؟

أما من حيث أصل المشروعية: فسبق أن ذكرنا أنه يشرع قراءة شيء من القرآن الكريم، والنووي رحمه الله يقول: بلا خلاف أنه يشرع، والمشروعية أوسع من أن تكون وجوباً أو استحباباً أن يقرأ شيئاً من القرآن الكريم.

ولكن اختلفوا في قدر المشروعية، فقال قوم: بأن قراءة شيء من القرآن الكريم سنة، وهذا قول الحنفية والمالكية، والشافعية في أحد الوجوه، وهو رواية عن الإمام أحمد .

واستدلوا بمثل قوله سبحانه: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الأعراف:204]، وقد سبق أن ذكرنا ذلك.

وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا [الجمعة:9].

أيضاً: حديث جابر وهو حديث الباب.

إضافة إلى أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في خطبته شيئاً من القرآن كما قرأ سورة: (ق)، وكما قرأ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

القول الثاني: أن قراءة القرآن ركن في الخطبة لا تصح إلا بذلك، وبه قال الشافعي، وهو الوجه المشهور عند الشافعية، وهو أيضاً رواية عند الإمام أحمد .

أدلة هؤلاء القائلين بالركنية: حديث الباب أيضاً استدلوا به، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حافظ على قراءة شيء من القرآن الكريم في الخطبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).

وهذا الاستدلال ليس بقوي؛ لأن الفعل المجرد من النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الوجوب؛ فضلاً عن أن يدل على الركنية.

وكذلك حديث أم هشام وقد سبق معنا: ( أنها حفظت سورة (ق) من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يقرأ بها يوم الجمعة على المنبر )، ونقول أيضاً: هذا دليل على استحباب قراءة شيء من القرآن، لكن لا دليل فيه على الوجوب.

أيضاً: سبق معنا حديث أبي سعيد الخدري في قراءة السجدة، وأنه سجد في الأسبوع الأول وفي الأسبوع الثاني رأى الناس نشزوا للسجود فسجد.

وكل هذه الأدلة إضافة إلى الآثار من الصحابة تدل على استحباب ومشروعية، لكن لا دلالة فيها على وجوب القراءة.

ولذلك نقول: إن القول الراجح أن قراءة شيء من القرآن الكريم في الخطبة سنة وليس بواجب، وقد مر معنا إشارة إلى هذه المسألة، ومر معنا مقدار ما تتحقق به المشروعية هل تتحقق بقراءة سورة، بقراءة آية كاملة، أو بقراءة بعض آية يتم بها المعنى، أو بقراءة بعض آية دون اشتراط آخر.

فوائد الحديث

في هذا الحديث فوائد:

منها: مشروعية قراءة القرآن في خطبة الجمعة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه جابر وغيره، وكما ذكره النووي إجماعاً.

وفيه: أن الخطبة يقصد فيها الوعظ، ولا يعارض هذا أن يدخل فيها غير الوعظ مثل التعليم، قد تجعل الخطبة للتعليم كأن يبين لهم بعض الأحكام والحلال والحرام، فهذا من مقاصد الخطبة.

وأيضاً: قد يقصد بها أحياناً الحث، أو يقصد بها النهي عن فعل شيء، أو بيان الوجه الصحيح في مسألة من المسائل، أو تحصيل مصالح الدين، أو حتى تحصيل مصالح الدنيا، وهذا كله باب واسع كما أشرنا .

المصنف يقول: رواه أبو داود وأصله في صحيح مسلم.

وقد سبق معنا حديث جابر في صحيح مسلم، فقد رواه مسلم في صحيحه بلفظ: ( كانت خطبته قصداً وصلاته قصداً )، ومر معنا، وفيها في الزيادة هذه الكلمات: ( آيات من القرآن الكريم )، عند أبي داود، كما رواه أبو داود في الصلاة باب الخطبة على قوس أو عصا، ورواه أحمد في مسنده أيضاً وعبد الرزاق وابن المنذر وغيرهم.

هذا الحديث طبعاً سنده جيد كما قلنا؛ لأنه سند مسلم رضي الله عنه، لكن بدون هذه الزيادة، فهل نقول: إن هذه الزيادة صحيحة؛ لأنها بإسناد مسلم ؟

هذا له وجه، وقد يقال: إن مسلماً رحمه الله تجنب إخراجها لسبب عنده.