سلسلة كن صحابياً الصحابة والعمل


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فمع الدرس السادس من دروس: كن صحابياً، وقد تكلمنا في الدرسين السابقين عن علامتين مهمتين جداً من علامات طريق الصحابة، وهما علامتان في منتهى الأهمية.

ومما ينبغي التنبيه عليه هو أن طريق الصحابة مرتكز على مثلث مهم جداً له ثلاثة أضلاع:

الأول: الإخلاص، وقد تكلمنا عنه في المحاضرة قبل الماضية: الصحابة والإخلاص.

الثاني: العلم، وقد تكلمنا عنه في المحاضرة الماضية: الصحابة والعلم.

الثالث: الذي سنتكلم عنه اليوم إن شاء الله: الصحابة والعمل.

هناك فرق هائل جداً بين جيل الصحابة وبين من أتى بعدهم، وهذا الفارق هو فارق العمل، فطريقة الصحابة في تلقي الكتاب والسنة كانت مختلفة جداً عن طريقة معظم اللاحقين بعد ذلك، فالصحابة كانوا يتلقون الكتاب والسنة بهدف التطبيق، وكانوا يسمعون بهدف الطاعة، وهذا مبدأ جميل جداً، كانوا مستشعرين قوله تعالى: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].

والصحابة كانوا كمثل المريض الذي يتلقى الدواء من الطبيب، أو كمريض ينصحه الطبيب بإجراء عملية، وهو يقول له: أنا سأعمل لك عملية وأفتح فيها بطنك، وستتعطل من عملك، وستدفع ألفاً أو ألفين أو ثلاثة أو عشرة، والمريض يسمع ويطيع، فيضحي بالألم، ويضحي بالمال, ويضحي بالوقت حتى تنتهي العملية، لماذا؟ لأنه يعرف أن مصلحته في إجراء العملية، ولأنه يثق في هذا الطبيب، ومسألة الثقة هذه مهمة جداً، فقد كان الصحابة مثل الجندي في ميدان المعركة وفي أرض العدو ينتظر أمراً من الأوامر؛ ليوضح له كيف يتحرك؛ لأنه لا يستطيع التحرك بغير هذا الأمر، فيخشى أن يقع في مهلكة، أو يدخل في كارثة، أو تصيبه مصيبة من مصائب الزمان والمكان.

لكن: هل الجندي الذي في ميدان المعركة لا يعرف أين يمشي يميناً أم يساراً، فهو منتظر للأمر من القائد، هل يتلقى الأوامر على التراخي؟

أبداً، فالجندي في هذه الظروف متلهف للأمر الذي يوصله إلى بر الأمان، فهو يثق بقائده، ولذلك يسمع منه دون جدل ولا نقاش، إلا فقط للفهم، لكنه يعرف أن القائد يريد مصلحته ومصلحة الجيش كاملاً.

وكذلك الصحابي وكل مؤمن فطن ذكي يتلهف لأمر الله عز وجل في أي قضية من القضايا، في أي أمر من الأمور؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل يريد به الخير، فهو يريد أن يعلم ماذا يريد الله عز وجل منه في هذه النقطة؟ إن علم أن الله عز وجل راضٍ عن ذلك فعل ما أمره الله به وهو مطمئن، بل سارع في فعله، وإن علم أن الله لا يرضى عن ذلك تركه، بل بالغ في الابتعاد عنه.

إذاً: فالمسألة مسألة ثقة، فيا تُرى هل أنت مطمئن إلى أن ما أمر الله سبحانه وتعالى به أنه هو الخير لك وللأرض كلها، أم عندك شك في ذلك؟ لأجل هذا كان عند الصحابة حساسية مفرطة لكل أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى، وأيضاً كان هذا الأمر من أهم الأمور التي تميز بها الصحابة الكرام، فقد فقهوا الحقيقة القرآنية المهمة التي تقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

فهذا فارق هائل جداً بين جيل الصحابة والأجيال التالية، فالذي خلق لا بد أن يأمر، والذي خلق لا بد أن يحكم، والذي خلق يعرف ما ينفع المخلوق وما يضره؛ لأجل هذا الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36]، وانتبه معي لكل كلمة، فليس لدينا اختيار ما دام أننا قد عرفنا أن هذا أمر ربنا سبحانه وتعالى، أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلا بد من التنفيذ، حتى لو كان عكس رغبتنا، وعكس تفكيرنا، وعكس تفكير الغرب والشرق، وعكس القانون الدولي، وعكس التقاليد، فليس لنا فيه أصلاً أي اختيار.

وفي بعض الأحيان قد يكون الموضوع صعباً على النفس، بل وقد يكون فيه فتنة؛ لأجل هذا بين الله سبحانه وتعالى أنه لن يقدر على تنفيذ هذه الأوامر إلا المؤمن والمؤمنة، فالمؤمن والمؤمنة هما اللذان لديهما ثقة كاملة في الله سبحانه وتعالى، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي سيخالف سيخسر خسارة عظيمة جداً، سيضيع ويشقى في الآخرة: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36].

من المستحيل أن يصلح العلم بغير عمل يصدقه، يقول الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. فلا بد من علم ثابت في القلب، ويكون فيه إخلاص لله عز وجل، بحيث لا يطلع عليه إلا الله عز وجل، وفي الأخير لابد أن يصدقه العمل.

والذي يعلم ولا يعمل واهم في أنه يصل إلى الجنة؛ لأن ذلك ضد النواميس الكونية العادلة التي وضعها رب العزة سبحانه وتعالى، روى الترمذي وحسنه وابن ماجه وأحمد عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكيِّس من دان نفسه)، أي: حاسبها وقهرها، ثم قال: (وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)، يعني: يفعل كل ما يريد فعله ثم يتمنى على الله، ويقول: الله غفور رحيم، وكم نسمع هذه الكلمة كثيراً جداً، يفعل كل المعاصي ثم يقول: الله غفور رحيم، سبحان الله! كيف ذكرت صفات الله سبحانه وتعالى هذه ولم تذكر صفاته الأخرى؟! نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49]، فهو سبحانه وتعالى الغفور الرحيم، لكن ماذا بعد ذلك؟ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:50]، وهناك أناس يقولون: ربنا رب قلوب، أي: ما دام القلب نظيفاً فلا تخف شيئاً!! لكن هل القلب النظيف يعصي الله سبحانه وتعالى؟ هل القلب النظيف يكسل في الطاعة أو لا يبالي بها؟

هل القلب النظيف لا يسمع كلام الخالق؟ هل هذا قلب نظيف؟!!

هذا كلام حق أريد به باطل، نعم فالله سبحانه وتعالى غفور رحيم، وصحيح أن المهم هو القلب، لكن لا يمكن أن ينفع هذا من غير عمل، قال الشاعر حول هذا المعنى:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

والأدهى أن هناك أناساً يقولون بمنتهى الاستهتار: لا تخف، إن شاء الله ربنا سيسهل!

نعم الله سبحانه وتعالى قادر على التسهيل من غير عمل، لكن هذا ضد السنن الجارية في الكون، وأيضاً فالله سبحانه وتعالى لا يخالف سننه، وإن خالفها فذلك في ظروف خاصة جداً جداً لا تقدر على بناء خطتك عليها، بل أنت مأمور شرعاً بالسير على السنن، فمثلاً: لو قمت ببناء سفينة في الصحراء وقلت: لعل ربنا سبحانه وتعالى أن ينزل طوفاناً كما أنزله على قوم نوح عليه السلام. هذا مخالف للسنن، ولا يحدث إلا في ظروف خاصة كما ذكرنا، وكلنا يعرف قصة سيدنا نوح صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا الأمر فكثير منا سيبني سفينة في الصحراء ويقول: ربنا يسهل سيرها، والحياة كلها معاص ويريد أن يدخل الجنة، ويقول: ربنا يسهل. وطالب يلعب سائر العام ويريد أن ينجح، ويقول: الله يسهل.

ومريض لا يأخذ الدواء ويريد أن يتعافى، ويقول: الله يسهل.

فلا يمكن أن يسهل الله تلك الأمور إلا ببذل الأسباب، فلا بد من السير على السنن، وسنة الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8].

فالذي سيعمل مثقال ذرة سيجدها في الدنيا والآخرة، سواء كان خيراً أم شراً، والذي يعمل مقدار قنطار سيجده في الدنيا والآخرة من خير أم من شر.

أما التواكل على الله عز وجل، واعتقاد النجاة بدون عمل؛ فهذا ليس مسلك الصالحين، ولم يكن أبداً مسلك الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وإنما هذا مسلك الضالين من أهل الأرض، هذا المسلك كان سمة مميزة لبني إسرائيل.

ذم الله لبني إسرائيل ومن وافقهم بسبب تركهم العمل بالعلم

قال الله عز وجل في حق بني إسرائيل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:70-71]، فقد كانوا قواميس متحركة، وكانوا يعرفون كل شيء، لكن لا يعملون بما علموا، فماذا كانت النتيجة؟ ضلال وكفر ولعنة، ثم جهنم والعياذ بالله.

واسمع إلى قصة حيي بن أخطب مع أخيه، فقد كان حيي بن أخطب من أكابر اليهود أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب هو وأخوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعرفوا هل هو الرسول الموصوف لديهم أم لا؟ فسأله أخوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أهو هو؟ قال: نعم! قال: وما تفعل معه؟ -واسمع إلى قول حيي بن أخطب وهو يعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: عداوته ما بقيت. أي: أحاربه إلى أن أموت، علم بلا عمل، عجز وحماقة وغباء.

حتى إن تاريخ اليهود يشهد بهذه الصفة الذميمة: علم بلا عمل، روى البخاري ومسلم وغيرهما -واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا: حطة نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة)، يعني: بدلاً من أن يقولوا: حطة، قالوا: حبة في شعرة، وفي رواية: (قالوا: حنطة)، سبحان الله! لا يريدون التطبيق مع أنهم يعرفون، والآيات كلها واضحة بأنهم كانوا علماء، ومن ذلك قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:197]، علماء، لكن أين العمل؟ لا عمل!!

وكقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]، وانظروا كيف ردوا على نبيهم؟! سوء أدب ومجادلة وعناد وحماقة وعدم رغبة في التطبيق أصلاً، فيسمعون ولكن ليس للطاعة، بل للعصيان والتمرد على أوامر الله تعالى.

ويقول الله تبارك وتعالى في ذلك أيضاً: مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النساء:46]، وكل ما سبق ذكره في حق بني إسرائيل يلخصه الله عز وجل في وصفهم الذي وصفهم به في سورة الجمعة، فقال سبحانه وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]، فالله عز وجل قد أمهلهم في المرة الأولى والثانية، ثم طلب منهم في المرة الثالثة أن يقوموا بمهمة حمل التوراة، ولكنهم عصوا وتمردوا، وقبل ذلك اختارهم الله وأرسل لهم الرسل، الواحد تلو الآخر فرفضوا، وأراهم الآيات الواضحة الواحدة تلو الأخرى، ولكن بلا فائدة، بل أصروا على عدم القبول لمهمة الإنسان، وقاموا بمهمة أخرى تماماً، فقبلوا مهمة الحمار، والحمار يحمل الأشياء بغض النظر عن قيمتها ومحتواها، فيحمل الكتب كما يحمل الحشيش، لا فرق عنده في ذلك، لكنه لا يستفيد بشيء مما يحمل، وهذه ليست غلطة من الحمار، فهو خلق لهذا وهو يقوم بما خلق له، والعيب كل العيب في الذي خلقه الله سبحانه وتعالى لوظيفة معينة وهو يعمل في عمل آخر تماماً، ويترك وظيفته الرئيسية، وذلك كبني إسرائيل عندما أعطاهم الله التوراة لأجل أن يدعوا إليه ويعلموا الناس أمر دينهم، ويسمعوا ما فيها من أوامر ونواه، لكنهم قاموا بوظيفة الحمار، ألا وهي: حمل التوراة دون أن يعملوا بمحتواها: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5].

وأيضاً المسلم الذي سيحتفظ بكتاب ربنا سبحانه وتعالى، وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت أو في السيارة.. أو في غيرهما من الأماكن ولا يعمل بهما؛ هو واقع عليه نفس الوصف: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5].

وكذلك الذي يقرأ آيات الربا ثم يتعامل بالربا، والذي يقرأ آيات الرفق واللين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ثم يتعامل بالعنف، والذي يقرأ آيات حفظ اللسان وكأنه لا يقرأ ولا يسمع، والذي يقرأ آيات بر الوالدين وصلة الرحم ولا يلقي لها بالاً، والذي يقرأ آيات الإنفاق والجهاد ثم يبخل بالمال والنفس: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5].

فعجيب جداً أن يكون الإنسان ظاهره الإسلام واسمه مسلماً، ووالداه مسلمين، ثم يخالف أوامر الله تعالى باستمرار، فيأخذ بسبب ذلك اسماً قبيحاً جداً في شريعتنا، هو اسم منافق، هذا شيء خطير جداً.

واسمع ماذا يقول الله تبارك وتعالى في وصف المنافقين في كتابه: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [النساء:81]، فيسمعون الدرس ويقرءون الحديث ويقولون: إن شاء الله سنطيع، لكن في قرارة أنفسهم لا ينوون ذلك، وليس فقط هكذا، بل ربما يأمر الناس بالخير وهو لا يفعله، ولا يريد أن يعمله، بل ربما يلقي دروساً ويخطب الجمعة، ويقوم بدور المصلح في الناس، وهو على النقيض من ذلك تماماً، ويقف بين الناس قائلاً: يا ناس! لا تحقدوا.. لا تكذبوا.. لا تطلقوا أبصاركم في الحرام.. لا تظلموا أحداً من الناس، بل ربما يكون حافظاً لآيات من كتاب الله، وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن بلا عمل، فهؤلاء موقفهم يوم القيامة خطير جداً.

روى البخاري ومسلم -واللفظ للبخاري - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وانتبه! لأننا في كثير من الأحيان نقع في هذا الخطأ-: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار -تخرج أمعاؤه في النار- فيدور كما يدور الحمار برحاه)، فتأمل كيف أنه شبهه بالحمار أيضاً؛ لأنه كان في الدنيا: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]، فهذا الرجل يجاء به يوم القيامة (فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان! ما شأنك؟)، أنت كنت رجلاً خيراً في الدنيا، كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كنت خطيباً، كنت تلقي دروساً وتنصح، ما الذي جرى لك؟ أين كل ما كنت تأمر به من الخير؟ يقولون: (أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، فمصيبة كبرى أن يكثر الإنسان من القول ولا عمل.

إن الأمر خطير ويحتاج منا إلى وقفات، فبعض المسلمين مصاب بما أسميه: التخمة العلمية، عنده معلومات هائلة، ولكن لا تدفع إلى عمل، وهذا ليس سلوك الصحابة، بل وليس سلوك الصالحين بصفة عامة.

قال الله عز وجل في حق بني إسرائيل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:70-71]، فقد كانوا قواميس متحركة، وكانوا يعرفون كل شيء، لكن لا يعملون بما علموا، فماذا كانت النتيجة؟ ضلال وكفر ولعنة، ثم جهنم والعياذ بالله.

واسمع إلى قصة حيي بن أخطب مع أخيه، فقد كان حيي بن أخطب من أكابر اليهود أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب هو وأخوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعرفوا هل هو الرسول الموصوف لديهم أم لا؟ فسأله أخوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أهو هو؟ قال: نعم! قال: وما تفعل معه؟ -واسمع إلى قول حيي بن أخطب وهو يعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: عداوته ما بقيت. أي: أحاربه إلى أن أموت، علم بلا عمل، عجز وحماقة وغباء.

حتى إن تاريخ اليهود يشهد بهذه الصفة الذميمة: علم بلا عمل، روى البخاري ومسلم وغيرهما -واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا: حطة نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة)، يعني: بدلاً من أن يقولوا: حطة، قالوا: حبة في شعرة، وفي رواية: (قالوا: حنطة)، سبحان الله! لا يريدون التطبيق مع أنهم يعرفون، والآيات كلها واضحة بأنهم كانوا علماء، ومن ذلك قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:197]، علماء، لكن أين العمل؟ لا عمل!!

وكقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]، وانظروا كيف ردوا على نبيهم؟! سوء أدب ومجادلة وعناد وحماقة وعدم رغبة في التطبيق أصلاً، فيسمعون ولكن ليس للطاعة، بل للعصيان والتمرد على أوامر الله تعالى.

ويقول الله تبارك وتعالى في ذلك أيضاً: مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النساء:46]، وكل ما سبق ذكره في حق بني إسرائيل يلخصه الله عز وجل في وصفهم الذي وصفهم به في سورة الجمعة، فقال سبحانه وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]، فالله عز وجل قد أمهلهم في المرة الأولى والثانية، ثم طلب منهم في المرة الثالثة أن يقوموا بمهمة حمل التوراة، ولكنهم عصوا وتمردوا، وقبل ذلك اختارهم الله وأرسل لهم الرسل، الواحد تلو الآخر فرفضوا، وأراهم الآيات الواضحة الواحدة تلو الأخرى، ولكن بلا فائدة، بل أصروا على عدم القبول لمهمة الإنسان، وقاموا بمهمة أخرى تماماً، فقبلوا مهمة الحمار، والحمار يحمل الأشياء بغض النظر عن قيمتها ومحتواها، فيحمل الكتب كما يحمل الحشيش، لا فرق عنده في ذلك، لكنه لا يستفيد بشيء مما يحمل، وهذه ليست غلطة من الحمار، فهو خلق لهذا وهو يقوم بما خلق له، والعيب كل العيب في الذي خلقه الله سبحانه وتعالى لوظيفة معينة وهو يعمل في عمل آخر تماماً، ويترك وظيفته الرئيسية، وذلك كبني إسرائيل عندما أعطاهم الله التوراة لأجل أن يدعوا إليه ويعلموا الناس أمر دينهم، ويسمعوا ما فيها من أوامر ونواه، لكنهم قاموا بوظيفة الحمار، ألا وهي: حمل التوراة دون أن يعملوا بمحتواها: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5].

وأيضاً المسلم الذي سيحتفظ بكتاب ربنا سبحانه وتعالى، وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت أو في السيارة.. أو في غيرهما من الأماكن ولا يعمل بهما؛ هو واقع عليه نفس الوصف: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5].

وكذلك الذي يقرأ آيات الربا ثم يتعامل بالربا، والذي يقرأ آيات الرفق واللين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ثم يتعامل بالعنف، والذي يقرأ آيات حفظ اللسان وكأنه لا يقرأ ولا يسمع، والذي يقرأ آيات بر الوالدين وصلة الرحم ولا يلقي لها بالاً، والذي يقرأ آيات الإنفاق والجهاد ثم يبخل بالمال والنفس: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5].

فعجيب جداً أن يكون الإنسان ظاهره الإسلام واسمه مسلماً، ووالداه مسلمين، ثم يخالف أوامر الله تعالى باستمرار، فيأخذ بسبب ذلك اسماً قبيحاً جداً في شريعتنا، هو اسم منافق، هذا شيء خطير جداً.

واسمع ماذا يقول الله تبارك وتعالى في وصف المنافقين في كتابه: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [النساء:81]، فيسمعون الدرس ويقرءون الحديث ويقولون: إن شاء الله سنطيع، لكن في قرارة أنفسهم لا ينوون ذلك، وليس فقط هكذا، بل ربما يأمر الناس بالخير وهو لا يفعله، ولا يريد أن يعمله، بل ربما يلقي دروساً ويخطب الجمعة، ويقوم بدور المصلح في الناس، وهو على النقيض من ذلك تماماً، ويقف بين الناس قائلاً: يا ناس! لا تحقدوا.. لا تكذبوا.. لا تطلقوا أبصاركم في الحرام.. لا تظلموا أحداً من الناس، بل ربما يكون حافظاً لآيات من كتاب الله، وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن بلا عمل، فهؤلاء موقفهم يوم القيامة خطير جداً.

روى البخاري ومسلم -واللفظ للبخاري - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وانتبه! لأننا في كثير من الأحيان نقع في هذا الخطأ-: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار -تخرج أمعاؤه في النار- فيدور كما يدور الحمار برحاه)، فتأمل كيف أنه شبهه بالحمار أيضاً؛ لأنه كان في الدنيا: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]، فهذا الرجل يجاء به يوم القيامة (فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان! ما شأنك؟)، أنت كنت رجلاً خيراً في الدنيا، كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كنت خطيباً، كنت تلقي دروساً وتنصح، ما الذي جرى لك؟ أين كل ما كنت تأمر به من الخير؟ يقولون: (أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، فمصيبة كبرى أن يكثر الإنسان من القول ولا عمل.

إن الأمر خطير ويحتاج منا إلى وقفات، فبعض المسلمين مصاب بما أسميه: التخمة العلمية، عنده معلومات هائلة، ولكن لا تدفع إلى عمل، وهذا ليس سلوك الصحابة، بل وليس سلوك الصالحين بصفة عامة.

نتكلم عن بعض مواقف الصحابة العملية، وكيف كان رد فعل الصحابة عند نزول الآيات وسماع الأوامر من رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فتعالوا لنتعلم مبدأ التلقي والسماع للأوامر للتطبيق، وتعالوا لنرى معنى كلمة: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285].

موقفهم في إنفاق المال

موقفهم من قضية إنفاق المال في سبيل الله، هذا المال الذي غرس حبه في قلب الإنسان: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً [الفجر:20]، ويقول سبحانه وتعالى في حق المال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، أي: أن الإنسان يجب المال حباً شديداً جداً، والله سبحانه هو الذي خلقه على هذه الصورة، لكن مع هذا طلب منه أن يدفع هذا المال في سبيل الله عز وجل، ولو كان حب المال يسيراً على النفوس لم يكن ذلك اختباراً، لكن الله سبحانه زرع في النفس حب المال، حتى لو طلبه منك ودفعته تكون بذلك مؤمناً بالله عز وجل، واسمع إلى هذا الموقف العظيم لأحد الصحابة، وكيف كان بذلهم للمال في سبيل الله عز وجل؟ فيقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (لما نزل قول الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً [البقرة:245]، سمع أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه هذه الآية -وكأنها وقعت في قلبه لا في أذنه-، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح !)، وانظر إلى إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا توجد تفصيلات ولا محاورات ولا جدالات ولا ندوات، ولم يعد يسأل أبو الدحداح بعدها، فهو قد عرف أن الله يريد من عباده قرضاً أو صدقة أو زكاة، ولماذا الله سبحانه وتعالى استخدم لفظ القرض؟ هذا لم يشغل أبا الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، وإنما كان الشاغل له العمل: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، فهو قد شغل بالطاعة رضي الله عنه.

قال أبو الدحداح -في نفس المجلس وهو ما زال قاعداً مع الرسول صلى الله عليه وسلم-: (أرني يدك يا رسول الله! قال - عبد الله بن مسعود راوي الحديث-: فناوله يده، قال أبو الدحداح : فإني أقرضت ربي حائطي)، فقد كانت لديه حديقة كبيرة، فتصدق بها كلها، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: وحائطه فيه ستمائة نخلة. ففي لحظة واحدة سمع آية واحدة من آيات الله عز وجل فدفع ستمائة نخلة، (و أم الدحداح فيه وعيالها)، أي: ما زالت أم الدحداح ساكنة داخل الحائط، وكذلك أبناء أبي الدحداح جالسين داخل الحائط، (فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح ! قالت: لبيك! قال: اخرجي من الحائط؛ فإني أقرضته ربي عز وجل)، وتأمل إلى أي درجة كان عندهم العمل، فلا تسويف، ولا تأجيل، ولا تأويل، وإنما منهج السماع للطاعة، ونتمنى أن نتعلم هذا المنهج من أبي الدحداح ومن غيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: السماع للطاعة: قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285].

وتأمل وانظر على النقيض من ذلك رد فعل اليهود لنفس الآية: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً [البقرة:245]، قالوا: ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير. أعوذ بالله! معنى قولهم: نحن لسنا محتاجين إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن أغنياء وهو فقير إلينا ما دام أنه يطلب منا قرضاً؛ فانظر إلى فقه بني إسرائيل وما فيه من الضلال والكفر والضياع، ثم يكملون ويقولون: وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، يطلب منا أن نرجع إليه ونتوب ونحن لا نأبه لذلك، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- ينهاكم عن الربا ويعطيناه. أي: أن الله سبحانه وتعالى يطلب منكم القرض، وسيرجعه لكم أضعافاً كثيرة، فهذا هو الربا، فانظر إلى أين وصل الفهم لدى اليهود؟!

فهؤلاء هم اليهود، ولذلك عندما ترى شارون أو غيره وترى عمله لا تستغرب، فقد كان أجدادهم يفعلون هذا الفعل في وجود النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك بالأحفاد وفي غير وجود الرسول صلى الله عليه وسلم.

إذاً: هذه قضية من قضايا الحياة التي نعيش فيها كلنا، إنها قضية الإنفاق ودفع المال في سبيل الله عز وجل، وانظر إلى هذا الصحابي كيف تعامل مع الآية الخاصة بالإنفاق.

موقفهم في الجهاد

في قضية الجهاد في سبيل الله هناك موقف نعرفه كلنا، إنه موقف لـحنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه وأرضاه، غسيل الملائكة، أي: الرجل الذي غسلته الملائكة، فقد سمع حنظلة النداء يوم أحد وهو عريس، وكان قد تزوج في الليلة الماضية، وكان جنباً، فسمع داعي الجهاد يطلب الناس للخروج إلى الجهاد في سبيل الله في أُحد، فلم يصبر حنظلة حتى يغتسل، بل خرج مسرعاً إلى الجيش، وانظر إلى هذه الاستجابة الفورية، فهو ليس بمكره، بل مشتاق ومتلهف إلى تنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، فذهب إلى أُحد واستشهد وهو جنب، فغسلته الملائكة، فأصبح حنظلة غسيل الملائكة.

ليس هناك معنى لكلمة (الظروف) عند الصحابة، بل كان عندهم معنى لقول الله تعالى، أو لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فيا تُرى هل خسر حنظلة ؟ لا، فـحنظلة لو كان في بيته كان سيموت في نفس الساعة التي مات فيها، لكن بدلاً من أن يموت على فراشه يموت في ميدان الجهاد شهيداً، وبدلاً من الموت معتذراً متخلفاً يموت مجاهداً مقبلاً غير مدبر، والموت لا يؤجل: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

إذاً: فـحنظلة وإن لم يكن يعرف ميعاد الموت إلا أنه قد اختار طريقة الموت.

فهذا هو الذكاء، وهذه هي الفطنة، وهذا هو المطلوب من المؤمن العملي، فلو أنك تعيش لربنا فستموت له سبحانه وتعالى، ولو أنك تعيش حياة الجهاد ستموت مجاهداً، ولو أنك تعيش حياتك في سبيل الله، ولم يكن في يدك أن تختار وقت موتك، إلا أنه في يدك أن تختار طريقة موتك، وتذكر: (يبعث المرء على ما مات عليه)، فمن مات على صلاة يبعث على صلاة، ومن مات على تلبية وهو في الحج يبعث ملبياً، ومن مات على جهاد يبعث على هيئته وقت الجهاد، اللون لون الدم والريح ريح المسك، ونحن الذين نختار الطريق.

موقفهم في الإنفاق على ذوي القربى مع إساءتهم

تعالوا لنرى رد فعل الصحابة مع بعض آيات القرآن الكريم التي تخاطب قلوبهم، هذا القلب الذي أحواله غريبة وعجيبة جداً، ففي بعض الأحيان قد يكون الإنسان متوجعاً من آخر ولا يقدر أن ينسى ذلك، لكن الصحابة قد ملكوا قلوبهم وأصبحت في أيديهم، فيقدرون على تنظيفه متى شاءوا، ويقدرون على الأخذ منه والوضع فيه متى شاءوا.

ولنسمع إلى هذه القصة اللطيفة، وهي قصة مشهورة والجميع يعلمها، لكن فيها دروساً عميقة جداً:

لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة رضي الله عنه وأرضاه، فإذا بـمسطح يتكلم في عرض أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، لم يتكلم في مسألة يسيرة، ولم يقل عن عائشة : إنها بخيلة أو مخطئة، أو لم يكن الحق معها في رأي أو غيره، لا، بل يطعن في عرض وشرف السيدة عائشة رضي الله عنه، وكان ذلك كرد فعل طبيعي للأب المجروح الذي طعن في شرفه وشرف ابنته الطاهرة الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه وأرضاها، فقال: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد اليوم، وفي رواية: والله لا أنفعه بنافعة أبداً، فالمهم أنه قرر أن يقطع النفقة عليه.

وتأمل هنا فـأبو بكر لم يمنع حقاً من حقوق مسطح ، وإنما كان يتفضل عليه فقط، فيتصدق عليه، والصدقة كما نعلم ليست كالزكاة، وإنما هي اختيارية، يعني: تفعلها أو لا تفعلها لا شيء عليك، لكن مع كل هذا الأمر ينزل قول الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ [النور:22]، يعني: ولا يحلف؛ لأن أبا بكر حلف أنه لن ينفق على مسطح بعد ذلك شيئاً، ثم قال تعالى: أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22]، وهذه المنقبة كانت من أعظم مناقب الصديق ، فالله سبحانه وتعالى يصفه بأنه من أولي الفضل والسعة، ثم قال: أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22]، وهذا الأمر من ربنا سبحانه وتعالى على سبيل الاختيار: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، ففي هذه الآيات ربنا سبحانه وتعالى لا يذكر أن مسطحاً له حقاً عند أبي بكر ، وإنما يطلب من أبي بكر بمنتهى الرفق أن يعفو وأن يصفح، ثم يتودد إليه سبحانه وتعالى فيقول: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فإذا أنت غفرت للناس فالله سبحانه وتعالى سيغفر لك: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22].

قال أبو بكر في رد فعل عجيب واستجابة سريعة جداً دون تردد: بلى والله! إني لأحب أن يغفر الله تعالى لي. سمع قول الله تعالى فانطلق لتنفيذه فوراً، وذلك دون أي تفكير في القضاء على ما في قلبه من حزن أو حقد أو ضيق على مسطح بن أثاثة.. أو غير ذلك، ولم يقل: أعطني وقتاً لأنسى ما حصل، لا، بل قال في لحظة واحدة: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه من ماله، بل وأقسم ألا يقطعها بعد ذلك؛ لأنه عرف ماذا يريد منه المولى تعالى، وليس من الممكن أن الله تبارك وتعالى يطلب منه شيئاً ثم يرفض، فإنه الصديق رضي الله عنه.

إذاً: فـالصديق لم يكن ملزماً بالإنفاق على مسطح ، وموقفه في المنع مفهوم، ولا يلومه عليه أحد، لكن النداء واضح، إن كنت تحب مغفرة الله عز وجل فاغفر للعباد، فوصلت الرسالة إلى قلب الصديق ولم يتأخر عن الالتزام بها.

وهنا نتساءل فنقول: كم من شخص غاضب من جاره أو من صاحبه؟ حتى ربما من أبيه وأمه! فيقاطعهم بسبب ذلك اليوم والاثنين والثلاثة، والشهر والشهرين، ولا يريد أن ينسى سبب ذلك، ونسي قول الله تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، وهذا خلاف المنافقين تماماً، فلو خاصم الإنسان على كل شيء دون صفح أو مسامحة لدخل تحت وصف المنافقين؛ فالمنافقون لا ينقادون لأحكام الدين إلا عند تحقق فوائد دنيوية ملموسة، وإن لم تكن هناك فائدة مباشرة فلا طاعة لكلام الله عز وجل.

واسمع إلى قول الله عز وجل فيهم: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [النور:47]، فهذا كلام باللسان، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]، فهم قالوا كلمة الإيمان وقالوا: أطعنا، لكن بلا عمل.

ثم قال تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ [النور:48]، أي: تعالوا لنحكِّم كتاب الله تعالى بيننا فيما اختلفنا فيه، إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48]، لسان حالهم يقول: نحن لا نقبل بحكم الله بيننا إلا في حالة واحدة فقط: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49]، أي: لو كان الحق معهم لأتوا مسرعين، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [النور:50]، أي: أعندهم مرض في القلب؟ وليس المقصود مرضاً حسياً كعيب في الشريان التاجي.. أو غيره، لا، وإنما عندهم نفاق، ثم قال تعالى: أَمِ ارْتَابُوا [النور:50]، يعني: أيشكون في كلمة وحكمة ومنهج الله عز وجل، ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور:50] يعني: أم أنهم خائفون من أن يظلموا لو سلموا أمرهم لله تعالى أو لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50].

ثم بعد ذلك بين الله تعالى القضية ملخصة فقال سبحانه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، ليس بالكلام فقط، بل بالكلام والفعل، وهذا هو موضوع المحاضرة، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51].

وهذا مثال يوضح ذلك: فلو أن امرأة لا تسمع لكلام زوجها، فإنه سيقول لها: أمر الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن على الزوجة أن تطيع زوجها، فيتوجه مباشرة إلى حكم الدين، أما في مسألة خروج زوجته بغير حجاب فليس عنده أي مانع، نقول لهذا وأمثاله: قبل قليل كنت تحتج بأمر الله سبحانه في طاعة الزوجة فلماذا لا تحتج بأمره في قضية ضرب الحجاب على نسائك؟ إذا قلت له ذلك قال لك: الله غفور رحيم، والمهم أن القلب نظيف! فكيف سمعت كلام الله سبحانه وتعالى عندما كان الحق لك، وعندما كان الحق عليك لم تسمعه؟! إن هذه علامة من علامات النفاق، ونسأل الله عز وجل أن يقينا جميعاً شر النفاق.