عليكم هدياً قاصداً


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده تعالى، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

روى الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه والسياق للمسند من حديث حصين بن عبد الرحمن ومغيرة بن مقسم الضبي عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: زوجني أبي امرأة من قريش ذات حسب، فلما دخلت علي جعلت لا أنحاش لها مما أجد بي من القوة في العبادة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته فسألها، كيف حال عبد الله معك؟ فقالت: عبد الله نعم العبد لربه من رجل لم يفتش لنا كنفاً ولم يعرف لنا فراشا، قال: فأقبل علي أبي فعزمني وعضني بلسانه، وقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، ثم شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (أتصوم النهار؟ قلت: نعم. قال: أتقوم الليل؟ قلت: نعم. قال: ولكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). قال حصين في حديثه: قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة وفترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) . ثم قال له: (كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرأه كل يوم، قال: فاقرأ القرآن في شهر، قال: إني أجد بي من القوة أكثر من ذلك، قال: فاقرأ القرآن في عشرة أيام، قال: إني أجد بي قوة، قال: فاقرأ القرآن في ثلاث، ثم قال له: كيف تصوم، قال: أصوم كل يوم، قال: فصم ثلاثة أيام في الشهر، قال: إني أقدر، قال فلم يزل يرفعني حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً، هذا خير الصيام صيام أخي داود).

قال مجاهد : فكان عبد الله بن عمرو لما كبر يصوم الأيام متتالية، ثم يفطر بعدد تلك الأيام، وكان يقرأ القرآن لا يوفي -يعني في اليوم الواحد- لكنه كان يقرأ ويدع غير أنه كان يوفي في كل سبعة أيام، كان يقرأ القرآن مرة، ويقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه كره أن يدع شيئاً مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفعله.

وجاء في صحيح البخاري قول النبي عليه الصلاة والسلام لـعبد الله بن عمرو بن العاص : (لعله أن تطول بك حياة) .. فندم عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شدد على نفسه في أيام إقباله على العبادة.

أيها الإخوة الكرام! إن أفضل ما يميز ديننا أنه دين سهل يسير، وقد نفى الله عز وجل الحرج في الدين، فقال تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

يقول علماء الأصول: النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وهكذا في هذه الآية، فلفظة (حرج) نكرة، وجاءت في سياق منفي: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فمعنى هذا أنه لا يوجد أدنى حرج يذكر في دين الله تبارك وتعالى، قوله (من) هي التبعيضية، كما لو قلت: أكلت من الرغيف، يعني: أكلت بعض الرغيف، أو شربت من الماء، يعني: شربت بعض الماء، فـ(من) هنا تبعيضية، فهذا الحرج المنفي نفياً كاملاً، مبعّض أيضاً، وهذا كله يؤكد أنه لا حرج ألبتة في دين الله تبارك وتعالى.

ومما يبين أن ديننا يسر: أن الله عز وجل شرع الرخص، والرخصة لا تكون إلا لمزيد من التيسير، والرخصة معناها إسقاط جزء من العزيمة، وهذا كله يبين أن دين الله تبارك وتعالى يسر لكن الرخص لا تناط إلا بالطاعات، يعني لا يجوز أن يستمتع عاص بالرخصة، فإن الرخصة لا يستمتع بها إلا طائع، وإلا فالأصل أن الرجل المنحرف يشدد عليه، لا يرخص له، فلو افترضنا جدلاً أن رجلاً سافر سفر معصية، فلا يحل لهذا الرجل في سفر المعصية أن يقصر الصلاة، ولا يحل له أن يفطر في رمضان.

وبهذا الأصل احتج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الذاهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد شد الرحل إليه، لا يجوز له أن يقصر الصلاة، قال: لأن شد الرحل إلى القبر معصية، إنما المسنون هو أن يشد الرحل إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).

كذلك المرأة التي تحمل من سفاح، لا يحل لها أن تجهض حملها؛ لأنها عاصية، والعاصي لا يستمتع بالرخصة. لكن إذا حملت المرأة من زوجها، وقيل: إن صحتها لا تتحمل، وأن هناك خطورة حقيقية على حياة المرأة، فيكتب الطبيب هذا التقرير ولا يفتي، لأنه لا يجوز للطبيب أن يفتي المرأة بالإجهاض، فالمفتي بناءً على ما يقرأ يقول: نعم، يحل شرعاً للمرأة أن تجهض، فالمرأة التي تحمل من زوجها وعرض لها مثل هذا العارض يجوز لها أن تجهض الحمل، هذه رخصة لها.

فإذا أضفت إلى ذلك أن فضيحة المرأة إذا حملت من سفاح أمر أراده الله ورسوله، تأكد أنه لا يجوز لها أن تجهض الحمل، نحن نعلم أن الأصل الستر على المسلم العاصي، فإذا زنى رجل بامرأة وكانا غير محصنين، فحكمهما كما يقول تبارك وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ... وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، فهذا ضد الستر، لماذا؟ حتى تتم العظة وتتم العبرة، فإذا رأى الرجل فضيحة نظيره الذي ارتكس في هذه الفاحشة، وأن الناس يشهدون عذابه، فإنه يحذر أن يقع في مثل هذه المعصية.

أما إذا كان الزاني محصناً فالحد الذي أجمع أهل العلم عليه: الرجم، وقد كان الرجم ثابتاً في كتاب الله عز وجل، ثم نسخت الآية ورفع لفظها، وهذا اللفظ رواه الحاكم في مستدركه، وكان لفظ الآية: (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ثم رفع لفظ هذه الآية وثبت الحكم بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فالرجل إذا زنى وهو محصن -يعني: متزوج- أو المرأة إذا زنت وهي محصنة -أي: متزوجة- فالحكم هو الرجم، فيحفر لكل واحد حفرة في الأرض ويدفن نصفه الأسفل، ثم يرجم بالحجارة في رأسه إلى أن يموت، قال تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

فهذه الفضيحة جزء أرادها الله عز وجل، وليس فيها ستر على الإطلاق إذا تحقق أمر الزنا، ويتحقق إما بالاعتراف، وإما بظهور الحمل، وإما بأربعة شهداء، فهذه المرأة لا يحل لها أن تجهض حملها؛ لأنه لو جاز لها أن تجهضه فإنها ستمارس الفاحشة أكثر من مرة، لكن إذا علمت أنه لا سبيل إلى الإجهاض على الإطلاق، وأن المسألة فيها فضيحة وفيها قتل .. إلى آخره، فإنها ستمتنع من مقارفة هذا الجرم، فالرخص في دين الله تبارك وتعالى إنما شرعت للطائع ولم تشرع للعاصي، فوجود الرخص في ديننا أمر يدل على التيسير.

نفى الله تبارك وتعالى الغلو والمشقة في دينه تبارك وتعالى، وهذا كله يدل على الرخصة.

قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـابن عباس وهو بجمع مزدلفة، قال: (القط لي مثل حصى الخذف وإياكم والغلو..) حصى الخذف يعني حصيات صغيرة. قال: (إياكم والغلو) يعني: لا تكبر حجم الحصاة.. مرة رأيت رجلاً جاء مندفعاً كالسهم يحمل حجراً كبيرة، ويقول: يا ابن كذا، وشتم شتمتين يؤاخذ عليها الشرع، فرجم بالحجر فوقعت في العمود فإذا بالحجر ترجع له ثانياً، فهذا الرجم غير محسوب له، طالما أنه ضرب الحجر في العمود ورجعت ثانياً، فعليه أن يعيد الرجم مرة أخرى، لأنه لابد أن تقع الحصى في الحوض.

وترى هناك أناساً يضربون العمود بالنعل، فيظن أنه بذلك يضرب الشيطان، فسبحان الله! هذا الرجل الذي عنده غل على هذا الشيطان، نقول له: إن بداخلك شيطاناً يحتاج إلى الرجم كل يوم، الشيطان القابع داخلك والذي يدعوك للفواحش ويجعلك تؤخر الصلاة ولا تقوم بما يجب عليك من دين الله، هو هذا الشيطان الذي يستحق أن يرجم كل يوم.

المشقة غير مقصودة على الإطلاق في دين الله عز وجل، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـعائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك)، فليس معنى هذا الحديث أنه كلما قصدت المشقة أجرت، لا. فمثلاً: أردت أن تحج وعندك إمكانية مادية أن تركب الطائرة، فقلت: سأركب سيارة قديمة كي تتعبني، ولكي أكون متعباً طوال الطريق، فيظل يسافر يومين أو ثلاثة أيام، وهو إنما فعل ذلك لظنه أن الأجر على قدر المشقة، فنقول له: لا. الرسول عليه الصلاة والسلام أنكر على الذين يشقون على أنفسهم تقرباً إلى الله عز وجل.

أبو إسرائيل لما نذر أن يقف في الشمس وهو صائم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه، مروه فليقف في الظل).

ونذرت امرأة أن تحج ماشية، مع أن بإمكانها أن تركب، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله غني عن تعذيب أختك نفسها، مرها فلتركب).

إذاً: كون الشخص يقصد المشقة ليؤجر، فهذا ضيق عقل وقلة فهم، أما قوله صلى الله عليه وسلم: (أجرك على قدر نصبك) فمعناه: أن المشقة إذا كانت ملازمة للعمل لا تنفك عنه ولا حيلة لك فيه، فهذه هي المشقة التي تؤجر عليها، فإذا لم تكن لك القدرة على السفر للحج فوق الطائرة، وإنما أقصى قدرتك أن تركب بعيراً، فركبت البعير لمدة شهر أو عشرين يوماً، فذهبت إلى هناك وجسمك في غاية التعب، فهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أجرك على قدر نصبك) لأن المشقة لا تنفك عن العمل، ولا حيلة لك في دفع هذه المشقة، أما أن يقصد شخص المشقة قصداً فهذا ليس من دين الله تبارك وتعالى، وقد ضمن الله عز وجل لنا أن هذا الدين ليس فيه أدنى حرج قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].

يقول الأصوليون: (الأمر بالشيء نهي عن ضده)، فإذا قلت لك مثلاً: أكرم ضيفك، فأنا نهيتك عن ضده، يعني: لا تهن ضيفك، فالأمر بالشيء نهي -لازم- عن ضده لأن الكلام له ظاهر وباطن، فظاهر الكلام اسمه: المنطوق، وباطن الكلام اسمه: المفهوم.

ونحن نقصد مفهوم المخالفة، فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] فإن منطوق الكلام -أي: المعنى الذي من أجله وضع الكلام- إذا جاءك الفاسق بنبأ فلا تصدقه حتى تتأكد منه، وباطن الكلام: إذا جاءك العدل الصادق بنبأ فلا تتبين.. هذا المنطوق والمفهوم من الآية.

كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، فغير المحرمة تنتقب وتلبس القفازين؛ لأن الحكم إنما علق بالقيد الظاهر وهو الإحرام. فهذا ما يطلق عليه العلماء: مفهوم المخالفة، الذي هو معنى الكلام لا في محل النطق.

لكن العمل بمفهوم المخالفة يشترط له: أن لا يكون الكلام خرج مخرج الغالب، فإذا خرج الكلام مخرج الغالب كان المفهوم ملغى، وبسبب الغفلة عن هذا المعنى، ألف أحدهم كتاباً سماه: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب.

فلما رد عليه الناس وسفهوه وقالوا: إنه جاهل، وعندما نشر الكتاب مرة أخرى توجع وقال: إنهم ما قرءوا الكتاب، ولو قرءوه لوجدوا أنني على حق. فهذا عجيب! لأن العنوان يدل على الحكم، فلو كان العنوان موهماً أو غير واضح، فله أن ينكر على الذين أنكروا عليه لكن الكتاب الذي ألفه لا يحتاج إلى قراءة؛ لأنه وضع الحكم في العنوان: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، فلو ألف أحد كتاباً -مثلاً- وسماه: غاية المنى بتحريم الزواج واستحباب الزنا، فهل نحتاج إلى قراءة الكتاب حتى نحكم على مؤلفه.

وتوجد عناوين موهمة قد تعطيك عكس ما في الكتاب، وبعض الناس يعتبر هذا فناً، لكن هذا خطأ، فمثلاً: الشيخ أبو بكر الجزائري له كتاب اسمه: إلى التصوف يا عباد الله، فأي أحد يقرأ العنوان يقول: هذا يدعو إلى التصوف، لكن الكتاب هجوم على التصوف، فلماذا وضع هذا العنوان؟ قال: لأنني أريد أن يقرأ الكتاب المتصوفة أنفسهم، فالمتصوف عندما يرى عنوان الكتاب: (إلى التصوف يا عباد الله) يقول: هو هذا الذي أريده، فيأخذ الكتاب ويقرأه، فإذا به يفاجأ أن الكتاب يرد عليهم، فلربما تعجبه كلمة أو كلمتان فيرجع عن مذهبه المنحرف، فالكلام هذا فيه نظر؛ لأن العناوين أنساب الكتب، ولابد أن يكون العنوان مطابقاً لما في الكتاب.

والسيوطي له رسالة اسمها: إسبال الكساء على النساء، فعند قراءتك لعنوان الكتاب تظن أنه يتكلم عن الحجاب واللباس والنقاب..، مع أنه يتكلم عن المرأة هل ترى ربها في الآخرة أم لا؟ فما علاقة إسبال الكساء على النساء؟ قال: لأن الذين يقولون إن المرأة لا ترى الله عز وجل يكون عليها إسبال فلا ترى الله. تشتري الكتاب على أساس أنه كتاب في اللباس والزينة، وإذا بك تفاجأ أن الموضوع مختلف تماماً.

قال صاحب كتاب: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، بعد أن انتقده الناس على هذا العنوان قال: إن مفهوم المخالفة لا يعمل به؛ لأننا لو عملنا بمفهوم المخالفة فسنقع في عدد كثير من الإشكالات.

قال: الإشكال الأول: في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فلو أخذنا بمفهوم المخالفة، فإنه يجوز أن نأكل ضعفاً واحداً.

الإشكال الثاني وهو: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، فمفهوم المخالفة: أنه يجوز الرفث والجدال والفسوق في غير الحج ... وبدأ يأخذ آيات وأحاديث على مثل هذه الوثيقة، كل هذا لأجل أن يرد على العلماء الذين احتجوا على النقاب بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس قفازين)..

إذاً: ما هو الرد؟

نقول: إن الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، فالعرب عندما كانوا يضعفون الربا نزل الكلام تنبيهاً على غالب ما يفعلون، وإلا فربنا سبحانه وتعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، (ما) من صيغ العموم تفيد القليل والكثير، لكن نزل هذا الكلام تنبيهاً على ما كان العرب يفعلونه.

فمثلاً: الربيبة .. هل يجوز للرجل إذا دخل بأمها أن يتزوجها؟ مثلاً: امرأة زوجها مات وعندها بنت صغيرة، فأنت تقدمت وتزوجت هذه المرأة، فابنتها تكون ربيبة بالنسبة لك، يقول سبحانه وتعالى في آية المحرمات: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]، فإذا خطبت الأم ولم تدخل بها فإنه يجوز لك أن تطلقها وتتزوج ابنتها، لكن لو عقدت على البنت تحرم عليك الأم إلى يوم القيامة، والبنت لا تحرم عليك إلا إذا دخلت بالأم.

قوله تعالى وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23]، في حجوركم: الحجر يعني أنت الذي تربيها، فأنت عندما تزوجت الأم أتت بابنتها معها، فصارت البنت في حجرك.

فإذا افترضنا أن هذه المرأة التي لها بنت قرر زوجها الأول أن يأخذ البنت ويربيها فإنها بهذا لن تكون في حجرك .. فالسؤال هو: هل يجوز أن تتزوجها؟ لأن الآية تقول: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23] فيكون هذا القيد خرج مخرج الغالب، فمفهومه هدر. قولنا: (خرج مخرج الغالب) فإنه لما كانت العادة أن الأم تكون حاضنة لمثل هذه البنت، فتأخذها إلى بيت زوجها الجديد، بخلاف العكس، فكان هذا هو غالب فعل الناس، فنزل هذا القيد على الغالب من فعلهم، فهذا لا مفهوم له، لأن الكلام خرج مخرج الغالب.

قال الله تبارك وتعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، لا يأتي أحد ويقول: افرض أنهن لم يردن تحصناً فهل يجوز أن نكرههن على البغاء؟ نقول: لا؛ لأنه كان من غالب أمرهم أنهم كانوا يكرهون الفتيات على البغاء، فنزل الكلام منزل الغالب.

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) غير رمضان، قوله: (وزوجها شاهد) فلو سافر زوجها وقال لها: لا يحل لك أن تصومي أي صيام تطوع وأنا غائب، فهل تطيعه أم لا؟ نعم، تطيعه، لكن مفهوم المخالفة أنه يجوز لها أن تصوم وهو غائب؛ لأن كلمة (شاهد) خرجت مخرج الغالب؛ لأن الرجل إنما يحتاج إلى امرأته وهو شاهد، فلعل المرأة تستأنف الصوم -صيام التطوع- وهو يريدها فتكدر عليه، فالرسول عليه الصلاة والسلام راعى المسألة هذه، لأن شهود الرجل فيه حاجة له، لكن غيابه ما فيه أية حاجة له من أمرأته، فيكون هذا القيد خرج مخرج الغالب، وإلا فلو نهاها وهو غائب لا يحل لها أن تصوم.

والعلماء لا يختلفون أن دلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم؛ لأن المنطوق هو الذي وضع لأجله الكلام ابتداءً، فلو تعارض منطوق ومفهوم، فإنه يقدم المنطوق؛ لأنه أقوى في الدلالة، فقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ .. [البقرة:185] هذا منطوق فلو أنه لم يكمل الآية فإننا سنفهم أنه لا يريد بنا العسر بدلالة المفهوم، لكنه أتى بنفي العسر أيضاً بدلالة المنطوق، ليكون أقوى، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] تأكيد، فهذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى لما شرع لنا هذا الدين أراد بنا اليسر.

هناك مسألة خطيرة، وهي مسألة: الأحوط.. الأحوط هذا يلتحق باليسر أو بالعسر؟ يلتحق بالعسر.. مثلاً: أتاك رجل وقال لك: أنا كهربائي وقد طلب مني صاحب مقهى أن أصلح له الكهرباء، وهذا المقهى تشرب فيه الشيشة ويلعبون فيه طاولة .. وكلها معاصٍ في معاصٍ؛ فهل يجوز لي أن أصلح لهم الكهرباء أم لا؟ هو لماذا سأل؛ لأن عمل الكهرباء حلال، واللعب هذا حرام، فحصل له شبهة، فجاء يسأل، فتقول له: الأحوط أنك لا تصلح لهم الكهرباء. فتكون بهذا قد ضيعت عليه صفقة عمل بسبب الأحوط. فالأحوط معناه: الأشد فالأشد.

مثال آخر: ما يحكون عن أبي حنيفة رحمه الله أنه جاء إليه رجل فأخبره أن شاه سرقت منه فذهب أبو حنيفة لرجل قصاب أو إلى -راعي غنم- يعرف أسنان الماشية فسأله: كم سنة تعيش الشاة؟ فقال له: أقصى مدة عشر سنين، فحرم أكل لحوم الشياة على نفسه عشر سنين، لماذا؟ قال: لأن السارق قد يكون باعها لجزار فلعلي أشتري من ذلك الجزار فأكون قد أكلت حراماً، لكن الأحوط لي أن أمتنع عن أكل لحم الشاة عشر سنين فلا شك أنه أخذ بالأحوط، فالأحوط هنا معناه الأشد..

المفتي عندما يستخدم كلمة الأحوط فإنه يضيق على الناس، ويضيع اليسر في دين الله، الذي تكفل الله لنا أن يكون يسيراً، فإذا كان المفتي ممن يأخذون بالأحوط، فإنما هو من الجهلة أصحاب البضاعة القليلة.

يقول سفيان الثوري رحمه لله: إنما الدين الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد. يعني مثلاً: إنسان ليس عنده علم ولا ترجيح، فعندما تسأله يقول لك: يا أخي! الأحوط أنك تترك وتستريح؛ لأنه عاجز عن تحقيق المناط.

في قرن من القرون كانت الحرب على أشدها بين الشافعية والحنفية، فقد كانا أكثر المذاهب تناحراً؛ لأن أكثر سواد المسلمين إما أحناف وإما شافعية، والأحناف أكثر؛ لأن أكثر بلاد العجم أحناف، ثم الشافعية، ثم المالكية، ثم الحنابلة، فكانت الحنفية والشافعية في شجار دائم، فيحكى أن رجلاً شافعياً تصدر للإفتاء -وأنتم تعلمون أن المذهب الشافعي فيه مذهب قديم ومذهب جديد- فكان عندما يسأله أحد يقول: للشافعي فيه قولان -الذي يحكي هذه الحكاية شخص حنفي، وأنا لا أستبعد أن تكون مكذوبة أو موضوعة- فقال أحد الأذكياء له -وهذا الذكي لابد أن يكون حنفياً- فقال له: أفي الله شك؟ فقال ذلك الرجل: للشافعي فيه قولان...

المفتي عليه أن يفتي بالراجح، وله أن يتورع في نفسه إلى أقصى حد، فإذا أراد أن يمتنع عن أكل اللحم فهو حر في نفسه، لكن لا يجوز له أن يحرم على غيره لاحتمال أن يكون اللحم مسروقاً ويبتدئ ينظر له هذا التنظير، وعليه فورع المتقين لا يثبت حكماً.

يبقى الأصل بالنسبة للإفتاء: أن يتحقق الرجل من الدليل، فإذا لم يستطع أن يرجح فعندنا الأدلة القاضية باليسر ورفع الحرج وهي أدلة محكمة غير منسوخة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، هذا أصل عندنا، فإذا لم تستطع تحقيق المناط وعرض عليك أمران، وليس فيهما إثم -هذا شرط- ليس فيهما إثم فعليك بالأيسر، لأن هذا هو المناسب للأدلة العامة بنفي الحرج عن دين الله تبارك وتعالى.

حرّج عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه على نفسه كثيراً، والرسول عليه الصلاة والسلام من دينه ومن سنته أنه كان ييسر دائماً، كان عبد الله بن عمرو بن العاص من العباد، ففي صحيح ابن حبان يقول: جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة، هذا شيء عجيب.. مدهش، قال أحدهم: كان القرآن ما زال ينزل، قلت له: فليكن الذي نزل عشرون جزءاً، يعني أنه كان يقرأ كل ليلة عشرين جزءاً في قيام الليل.

فهذه المعاهدة للنفس من ثمرتها: الأنس بالفعل، كما قال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة، واستمتعت به عشرين سنة، أول سنة هي سنة التعب والمجاهدة، فيظل في صراع دائم مع الشيطان إلى أن يتعود وتصير له ملكة، فيبدأ يشعر بلذة القيام، ويشعر بالراحة والرضا والأنس، فهذا هو الذي حصل لـعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقد كان يشعر بالأنس والرضا والراحة عندما يصلي، فصار قيام الليل سجية بالنسبة له، لاسيما وقيام الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام مرة: (يا عبد الله ! لا تكن كفلان كان يقوم الليل فتركه) فذمه على ترك قيام الليل، والإمام البخاري رحمه الله بوب في صحيحه باب: أن قيام الليل ينجي من النار، وروى تحته قصة لطيفة جداً أو حديثاً ظريفاً لـعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يقول عبد الله بن عمر : كنت شاباً عزباً أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس يرون رؤى فيقصونها على النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت فيها بشارات، فقد جاء عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: بينما أنا نائم رأيت حبلاً معلقاً في السماء وفي آخره حلقة، فأمسكت بتلك الحلقة ثم استيقظت من النوم وأنا ممسك بها، فقال: (عبد الله مستمسك بالعروة الوثقى) فجاءت البشارة من الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه مستمسك بالعروة الوثقى.

وجاء آخر فقال: رأيت في المنام أني في روضة خضراء وفيها خيمة، وأنا قاعد فيها، فقال له: (أنت تموت على الإسلام) فكان عبد الله بن عمر بن الخطاب يتمنى أن يرى رؤيا، وقد تحققت أمنيته ولكنها كانت رؤيا مفزعة قال: رأيت ملكين يجراني إلى النار، فقال: وأنا أقول: أعوذ بالله من النار.. أعوذ بالله من النار، حتى أوقفوني على شفيرها، فإذا هي مطوية كالبئر -البئر يطلق على الحفرة المبني حولها، أما إذا لم يُبنَ حولها شيء فتسمى: قليباً- وإذا فيها أناس معلقون من أرجلهم عرفتهم -أو قال: عرفت بعضهم- قال: وأنا أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، قال: فأخذني منهم ملك، وقال لي: لم ترع، أي لا تخف.. فاستحيا أن يقص هذه الرؤيا على النبي عليه الصلاة والسلام فقصها على أخته حفصة أم المؤمنين، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت البشرى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عبد الله رجل صالح) وفي اللفظ الآخر قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، قال راوي الحديث: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً.

وفي سنن النسائي حديث جميل يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليضحك إلى عبد كان يسير مع أصحابه في رفقة فعرسوا -ضربوا خيامهم واستعدوا للنوم- وكان النوم أحب شيءٍ إليهم، فناموا فقام هو فتوضأ يتملق ربه بركعتين).. يضحك الله لهذا الرجل، لأنه آثر القيام لله عز وجل على النوم الذي هو أحب شيء فقام وتوضأ وصلى ركعتين، وصف قدميه بين يديه يتملق، أي: يتزلف ويتقرب من الله عز وجل.

فكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل ويقرأ ما جمعه من القرآن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فصار عنده ملكة.

وكان أبوه يريد أن يزوجه ولكن عبد الله لم تكن له رغبة في الزواج، ومع ذلك زوجه امرأة ذات حسب من قريش، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : فلما أدخلوها علي. العادة أن الرجل هو الذي يدخل على المرأة لا العكس. أنا اخترت رواية الإمام أحمد وإن كانت رواية البخاري قريبة منها، لأن رواية أحمد فيها فوائد.

يقول: فلما أدخلوها علي جعلت لا أنحاش لها -لا يريد أن يقترب منها ولا يراها- مما أجد بي من القوة في العبادة، لما أدخلوها عليه تركها وقام يصلي، فبدأ يصلي وترك زوجته دون أن يقربها أو يمسها.

علم عمرو بن العاص رضي الله عنه أن ابنه سيفعل هذا الشيء وأنه لن يلمسها، فذهب في الصباح الباكر وسأل كنته -الكنة: زوجة الابن- ما حال عبد الله معك؟ قالت: والله كخير الرجال، نعم العبد لربه، غير أنه لم يعرف لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، انظر إلى المرأة وحيائها، فإنها لم تفضحه وإنما قالت: كخير البعولة؛ لأن العبد إذا كان مقبلاً على الله تبارك وتعالى وبمثل هذا الجد في العبادة فهو خير الناس، قالت: نعم العبد لربه، غيره أنه لم يعرف لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، قال: فأقبل علي أبي فعزمني العزم -هو أشد اللوم- وعضني بلسانه، هل سمعت بلسان يعض؟ المقصود هنا هو: الشتم، وقال له: أنكحتك -يعني هو الذي زوجه غصباً عنه، لأنه ما كان يريد أن يتزوج- أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، أي: شققت عليها، ولم تقم بما يجب عليك نحو أهلك، فلما يئس منه قال: لا يوجد أحد سيحل لي المشكلة هذه غير الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وشكاه، قال: فذهب أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكاني، فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القني به)، يعني: رتب لي معه موعداً، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الروايات الأخرى في الصحيح، قال: فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، وهذه الرواية أبلغ في إظهار الأدب، ورحمة الرسول عليه الصلاة والسلام بأصحابه، فالإنسان لا ينبل إلا إذا فعل ذلك، واليوم عندما نقول لأحد الدعاة المتصدرين للدعوة في سبيل الله عز وجل: لا يضرك أن تذهب إلى الناس وتدعوهم، لا تنتظر حتى يأتيك الناس فإن الزمان تغير، فقال: أنا لا أذل العلم، ويقول: قال مالك : العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه.. نعم يا أخي! هذا كان أيام مالك ، لكن نحن في زمان ضاع فيه العلم، فالمفروض أننا لا ننقل الكلام في زمان مالك إلى زماننا إذا تغير المقتضى.

إن الذين تكلموا على أهل البدع، وقالوا: لا يجوز أن تتكلم مع مبتدع ولا أن تذهب وتتلطف معه، بل اضربه بنعلك، وابصق في وجهه، لماذا؟ قال: لأن الأئمة كانوا يقولون هذا، منهم: أحمد بن حنبل ، وأيوب السختياني ، وعمرو بن دينار ، نعم يا أخي! عندما قال أحمد بن حنبل : إذا قابلت المبتدع فابصق عليه، لأنه كان هناك ألف رجل مثل أحمد بن حنبل ، والسنة ظاهرة، والدين ظاهر، والمبتدع غريب، وكانوا يستعدون السلطان على المبتدع.. شعبة بن الحجاج رأى رجلاً يحدث بأحاديث كاذبة، قال: لو رجعت إلى التحديث بها لاستعديت عليك السلطان، فكان يذهب إلى السلطان ويقول له: هناك رجل يحدث أحاديث منكرة عن النبي عليه الصلاة والسلام فيأخذه السلطان ويسجنه مباشرة. فهؤلاء كانوا الدولة وكانت لهم وكانوا متظاهرين وكثرة كاثرة.

هذه الأيام الدولة لأهل البدع في كثير من الأماكن، فلو أننا تركنا نصيحتهم وتركناهم وما دعوناهم، فمن الذي سيبلغ لهم الكلمة؟ فلا ننقل الكلام الذي قاله مالك في أيام العز وأيام الجاه وأيام القوة ونستخدمه في أيام الضعف والهوان، لا. المقتضى تغير.. وكلام السلف على عيوننا ورءوسنا.

سأل أحدهم شيخ الإسلام ابن تيمية : هل آية السيف نسخت آية الدعوة واللطف؟ فقال: لا. من كان ذا ضعف فليعمل بآية العفو، ومن كان ذا قوة فليعمل بآية السيف إنما الدعوة بالحسنى، فإذا كنت مستضعفاً وفي مكان ضعيف لا تستطيع أن تستخدم السيف استخدم فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109]، وإذا كنت ذا قوة استخدم آية السيف، والخوارج آفتهم كما قال ابن عمر : أتوا بآيات أنزلها الله في الكافرين فجعلوها في المسلمين، وهذا حاصل في هذه الأيام مثلاً: رجل قرأ حديثاً في أحد الكتب فأعجبه فقرر أن ينسخ منه ألف نسخة ويعلقه في المساجد، والحديث ضعيف، وهو ليس له علم بذلك ولا يعلم شيئاً اسمه ضعيف أو موضوع، فعندما قرأ أحدهم هذا الحديث قال: من الذي علق الحديث هذا؟ قالوا: هذا شخص أعجبه هذا الحديث، فطبعه وعلقه في المساجد فقال: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36] فالرجل ليس عنده فكرة عن الموضوع أصلاً، فيقوم يأتي بهذه الآية التي نزلت في الكافرين، وإلا كان المفروض أن يذهب إلى هذا الرجل الذي علق الحديث وينصحه ويخبره أن الحديث موضوع ولا يجوز نشره بين المسلمين. مسألة رعاية المقتضى مسألة مهمة في نقل الكلام.

سفيان الثوري الرجل العابد الزاهد الذي خشي في آخر حياته أن يختم له بالسوء، لما بكى وهو يحتضر سأله يحيى القطان : أتبكي خشية ذنوبك؟ فتناول قشة على الأرض، وقال: (والله لذنوبي أهون علي من هذه.. إنما أخشى سوء الخاتمة) .. فهؤلاء الأئمة الكبار العباد الزهاد، كانت لهم أقوال، فنحن إذا أردنا أن ننقل أقوالهم فيجب أن نراعي المقتضى الذي قيل فيه، فصاحبنا عندما يقول: العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه.. فإنه بهذا سيضيع العلم؛ لأنه لن يأتيك أحد، فينبغي لك أن تذهب إلى هؤلاء وتعلمهم.

ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن عمرو وطرق عليه الباب، لكي ينظر في المسألة؛ لأنه وقع ظلم على امرأة مسلمة.

وفي كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله، في ترجمة الشافعي ، قال يونس بن عبد الأعلى -تلميذ الإمام الشافعي-: تناظرت مع الشافعي في مسألة واختلفنا، قال: فجاءني الشافعي إلى بيتي فطرق بابي، وقال لي: (ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!) أي: ما دام أن الخلاف في المسائل الفرعية وليس في الأصول.

يقول الإمام الذهبي معلقاً على هذا: ما أكمل عقل هذا الإمام ..

رحم الله الشيخ عبد الحميد كشك ، فقد كانت له عادة جعلت كثيراً من الناس يتعلقون به، فقد كان يوم الخميس عنده يوم الفقراء، فكان يذهب إليهم ويجلس معهم في بيوتهم البسيطة، وكان لهذه الزيارات مفعول السحر، فقد كان يصلي وراءه أكثر من خمسين ألف مسلم، ومسجده الذي كان يصلي فيه كانت تغلق أبوابه يوم الجمعة الساعة التاسعة صباحاً لا موضع لقدم، حتى أن أحدهم يقف على الباب يمنع أي داخل.. والمسجد كان حوالى خمسة أدوار، والشوارع على بعد اثنين من الكيلو مترات كانت مليئة، وكان يخطب بتسعة وخمسين مكبر صوت، فتعلق الناس به لأنه كان متواضعاً، فكان يذهب للفقراء كل يوم خميس، وكان يمر على الفقراء ويقعد مع كل واحد ربع ساعة، فهذا شرف كبير لهذا الفقير، فإنه يشعر بالعز عندما يدخل عليه أحد الواعظين المشاهير ويشعر بأن له قيمة.

كان الأعمش رحمه الله يقرب الفقراء من مجلسه، وقال عيسى بن يونس : ما رأيت الأغنياء في مجلس أحقر منهم في مجلس الأعمش مع فقره وحاجته.. كان فقيراً ومحتاجاً، ومع ذلك كان الغني أذل في مجلسه، والفقير كان أقرب، يقوم الفقير وهو يشعر بالعز، ويشعر أن له قيمة في الدنيا.. فأنت عندما تذهب إلى الناس بنفسك فهذا خلق راقٍ جداً من أخلاق الدعاة إلى الله عز وجل، ونصر لدعوتك في نفس الوقت.

إرشاد النبي لعبد الله بن عمرو

قال: فجاءني الرسول عليه الصلاة والسلام في منزلي وقال: (يا عبد الله! بلغني أنك تصوم النهار؟ قال: نعم، وتقوم الليل؟ قال: نعم) فإذا كان كذلك فمتى ينام، ومتى يذهب للعمل، ومتى يأكل؟

الله عز وجل هو الذي يزيل التعب عن البدن وليس كثرة النوم، فبعض الناس ينام الساعات الطويلة ثم يستيقظ من النوم وهو مرهق جداً، وقد كان بعض السلف يدعو فيقول: اللهم اكفنا من النوم باليسير. وكان بعضهم ينام قليلاً لكنه يستيقظ وهو نشيط، فما هو الدواء الذي يجعلك إذا نمت أن تقوم نشيطاً؟

الدواء هذا رواه الشيخان وهو: أن فاطمة رضي الله عنها كانت تدق النوى حتى تورمت يداها.. فجاء أعبد من البحرين، فبلغ ذلك علي بن أبي طالب ، فقال لـفاطمة : اذهبي إلى أبيك فاستخدميه، فجاءت إلى أبيها تطلب خادماً، والبنت الوحيدة تكون عزيزة كثيراً على الأب، وإذا كان هناك أب يحب ابنته أقصى الحب فإنه لن يبلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم لـفاطمة ، ورضا فاطمة من رضا الله عز وجل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها)، ومعروف أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء لله عز وجل، وكان شديد الحب لها، فجاءته تستخدمه، وأرته يديها، فقال لها: (بنيتي! أفلا أدلك على خير من خادم؟) فما هو هذا الشيء الذي هو خير من خادم؟ قال: (إذا أويت إلى فراشك، فسبحي الله ثلاثاً وثلاثين،واحمديه ثلاثاً وثلاثين،وكبريه أربعاً وثلاثين، فذلك خير لك من خادم).

كيف ذلك؟ لأنها عندما تقول هذه الأذكار فإن الله عز وجل يزيل عنها التعب، فتقوم نشيطة، فيكفيها هذا عن الخادم، قوله: (خير من خادم) قيل: لأن الحاجة إلى الناس ذل حتى ولو كان عبدك، كونك تقول له: اعمل كذا. هذا ذل، فالعز في الاستغناء عن الناس.

عبد الله بن عمرو رجل ذاكر وهو في معية الله تبارك وتعالى، فإذا نام وأغفى فإنه كإغفاءة الطائر، فالله عز وجل يذهب التعب عن بدنه ويستأنف العمل.

فالرسول عليه الصلاة والسلام أول ما رآه بهذا الجد، قال له عبارة مهددة، وهذا من الفقه الذي نتعلمه من الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو جاءك شخص وهو خائف من النار ومن عذاب الله فلا تقرأ عليه آيات النار بل آيات الترغيب، لكن إذا جاءك وهو مستهين وليس مهتماً فاتل عليه آيات النار.

مرة جاءني رجل كان في الأردن، غاب في الأردن عشر سنوات، فقال لي: أنا ما تركت ذنباً إلا ارتكبته واستكثرت، فقد شربت الخمر، وزنيت، وقتلت، وكذلك مارس هذه المعصية المرذولة بعد عودته لمدة سبع أو ثماني سنوات فقال لي: لي توبة؟ فسكت قليلاً، فأول ما سكت، قام فاقترب مني، وقال لي: ماذا يعني سكوتك؟ ليس لي توبة؟ فرأيت وجهه قد احمر وعيناه اغرورقتا بالدمع، فلو أني قرأت عليه آية من النار فإنه سيموت، فسكت ولم أتكلم، فرأيته قد توتر وبدأ جسمه يرتعد، لأنه ارتكب ذنوباً كثيرة وأراد أن يتوب، فرأيت علامات التوبة عليه، فعلمت أن هذا الرجل لو قرأت عليه آية من آيات النار سيموت، فقرأت الآية التي في سورة الزمر: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، فبدأ الرجل يستريح شيئاً فشيئاً، وأنا أتكلم أريد كذلك أن أبين له خطورة الأمر الذي عمله لكي لا يستهين، فهذا الرجل لو قلت له: لا توبة لك، وتقول: لأنك سرقت وظلمت يا ظالم يا فاسق، فإنه ربما يموت فيها.

الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن عبد الله بن عمرو يصوم النهار ويقوم الليل، الذي ترك المرأة في ليلة الزفاف ما ينفع معه إلا التهديد، فقال له: (لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، كلام قوي جداً، فمراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو تدل على أنه لا يريد أن يسمع الكلام فقط، وإنما يريد أن يظل على هذا الجد، فقال له: (من رغب عن سنتي فليس مني) فهذا تهديد.

الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى امرأة عثمان بن مظعون عند عائشة ، فرآها رثة الثياب ذابلة، فقال: (يا عائشة ! ما أبذ هيئة خويلة ؟) ما الذي جعل هيئتها بهذه الرثاثة؟ قالت: يا رسول الله! إنها عند رجل يصوم النهار ويقوم الليل، فأهملت نفسها وأضاعتها، فأرسل لـعثمان بن مظعون ، قال: (يا عثمان ! أرغبة عن سنتي؟ قال: يا رسول الله! بل سنتك أطلب، قال: فأنا أنام وأقوم، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) يقول هذا الكلام القوي للصحابي لكي يوقفه؛ لأن عنده شغفاً وإقبالاً شديداً، فالذي عنده إقبال شديد لا يصده شيء هين، إنما يصده شيء قوي، (فمن رغب عن سنتي فليس مني).. ثم قال له: (إن لكل عمل شرة وفترة) .

الشرة: هي شدة الإقبال، والفترة: هي الشعور بالفتور، وفي الفترة قد يتحول الشخص عن طريق السنة إلى طريق البدعة، وفي الفترة يشعر المرء بالخمول والملل، ويريد أن يعتزل ويقفل الباب على نفسه، فلا يريد أن يكلم أحداً ولا أن ينظر إلى أحد.

ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (لكل عمل شرة وفترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك).

دخل الرسول عليه الصلاة والسلام على زينب فوجد حبلاً مربوطاً بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقيل له: هذا حبل زينب ، تقوم الليل إلى أن تعجز قدماها عن حملها فتمسك بالحبل وتقرأ وتواصل الصلاة، نحن نذكر هذه الأحاديث للنساء، لأن العبادة والجد قليل في النساء، قالوا: وذلك بسبب الأولاد والزوج والمطبخ، وهذا الكلام غير صحيح، فالمرأة لابد أن تعمل لربها وأن يعينها زوجها على ذلك، فلابد أن يكون لها فترة تخلو فيها بالله تبارك وتعالى، لكي تواصل الجد والعطاء، فـزينب رضي الله عنها من كثرة التعب تمسك بالحبل لكي تستريح، فقال عليه الصلاة والسلام: (حلوه، عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا) أي: إن الله لا يمل من إعطاء الثواب حتى نمل من العمل.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو بن العاص : كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرأ القرآن كل ليلة؛ فقال له: اقرأ القرآن في شهر؟ قال له: إني أجد بي قوة، فقال: اقرأه في عشرة أيام، قال له: إني أجد بي قوة، قال: اقرأه في ثلاثة أيام، وفي الرواية الأخرى قال له: (فإن من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه). ثم قال له: كيف تصوم؟ قال: أصوم كل يوم. فقال: صم ثلاثة أيام من الشهر، قال له: أقدر، فجعل يرقى به إلى أن قال له: (صم صيام أخي داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فذلك خير الصيام).

كان عبد الله بن عمرو شاباً في تلك الأيام، وكثرة العبادة والقوة فيها إنما تكون في الشباب، كانت حفصة بنت سيرين تقول: (يا معشر الشباب! اعبدوا الله في الشباب فإني رأيت العبادة في الشباب). فالشاب يستطيع أن يتحمل الأشياء الشاقة، لكن من بلغ ثمانين سنة اشتكى من غير علة، فظهره يبدأ ينحني، ولا يستطيع أن يمشي إلا على عكاز، ويقعد على كرسي في صلاة الفرض. بعض الشباب عندما تقول: اعبد الله يقول لك: إن شاء الله لما أتقاعد على المعاش سأعبد ربنا وسأتفرغ للعبادة، لأني لن أذهب إلى دوام ولا إلى شغل ولا غيره، فأول ما يتقاعد على المعاش يقعد على القهوة، فتقول له: أنت كنت تقول: سأقعد أعبد ربنا، فيقول لك: أنا أشعر بملل وزهق، لماذا؟ قال: أنا طول عمري شغال، ما تعودت أقعد القعدة هذه.

عبادة الله مع الوقت تصير عادة وملكة، فالذي تعود على الصلاة من صغره فإن الصلاة تكون عليه سهلة، أما لو كان مفرطاً في حدود الله عز وجل منذ صغره فإذا أراد أن يعبد الله وهو كبير فإنه لا يستطيع .. فالعبادة في الشباب.

فـعبد الله بن عمرو بن العاص لم يعلم أنه عندما يشيخ ويكبر يعجز عن هذا الجد، فكان لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ضعُف، فكيف كان يعمل؟ كان يفطر عشرة أيام من أجل أن يتقوى، وبعد ذلك يصوم عشرة أيام، لأنه لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وإذا كان مثلاً يقرأ القرآن في ثلاث، فإنه كان يقرأ في اليوم عشرة أجزاء مثلاً، ولكن بعد أن كبر لم يعد يستطيع أن يقرأ كما كان يقرأ في شبابه فكان يقرأ المصحف في سبعة أيام، وكان يقسمه بين هذه السبعة الأيام حتى يكمله.

وكان يقول: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لماذا لم يترك العمل ويستريح وعليكم هدياً قاصداً.. كره عبد الله بن عمرو بن العاص أن يقل عمله عما تركه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد ألا يقل عمله حتى لا يلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قل عما تركه عليه، لكن عبد الله بن عمرو بن العاص ندم أنه لم يقبل الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم.

نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.